غرفة الرئيس

فلما أصبح بعث إلى فلورندا، وكانت قد باتت تلك الليلة في راحة على أثر ما قاسته من تعب في البدن واضطراب في العواطف، وبخاصة بعد ما آنست من الرئيس سرجيوس ما آنسته من مشاركة لشعورها وعزم على مساعدتها. وأفاقت في الصباح على صوت الناقوس، فنهضت وأخذت تهتم بالذهاب إلى الكنيسة، وبينما هي في ذلك سمعت وَقْع أقدام بجانب غرفتها تخالف ما تعلمه من وقع خطوات شانتيلا، ثم سمعت قرعًا على الباب، فنهضت خالتها وفتحته، فرأت راهبًا لم تعرفه فسألته عن غرضه فقال: «إن حضرة الرئيس يدعوكما إليه.»

فمضتا والراهب يسير أمامهما وفلورندا تقول في نفسها: «لم تنقضِ أيام شقائي بعد، يبدو أن الرئيس قد غيَّر عزمه على مساعدتي.»

وتقدَّمهما الراهب في تلك الباحة حتى دار من وراء الكنيسة إلى درجات سلم صعدوا عليها إلى حجرةٍ طرق الراهب بابها ودخل قبل أن يؤذن له بالدخول، ثم عاد ودعا فلورندا وخالتها فدخلتا، فإذا هما في غرفة بسيطة الأثاث حسنة الترتيب، على جدرانها أنواع من صور القديسين مختلفة الأشكال والأحجام، وفيها صور كبيرة الحجم من صنع مصوري رومية تمثِّل أهم حوادث الإنجيل، مثل ولادة المسيح في بيت لحم، وعماده في النهر، وصَلْبه وصعوده إلى السماء. فلما أجالت فلورندا بصرها في الغرفة انشرح صدرها لتلك المناظر، وتأثرت لها تأثُّرًا عظيمًا لِمَا فُطِرت عليه من التقوى، وقد زادتها المصائب تمسُّكًا بحبل الدين فتخشَّعت عند دخولها تلك الغرفة مثل تخشُّعها عند دخول الكنيسة، فخف الرئيس لاستقبالها ودعاها للجلوس، فلم تنسَ قبل الجلوس أن تقبِّل أيقونة للمسيح المصلوب كانت قريبة منها، ثم جلست فابتدرها الرئيس قائلًا: «لم يبقَ بيننا حجاب وقد اطَّلع كلٌّ منا على أسرار الآخر، فلنبسط الكلام صريحًا. وعدتُك يا فلورندا أن أستطلع حال أوباس، وكنت على عزم أن أتولى ذلك بنفسي، ثم خطر لي أن ذهابي إلى طُلَيْطلة اليوم بعد أن تخلَّفت عن حفلة العيد يدعو إلى الشك، وربما أدى إلى عرقلة مساعينا، فرأيت أن أؤجل ذهابي إلى رأس السنة وهو قريب، فما قولك؟»

فخفق قلب فلورندا، وعدَّت ذلك التأجيل فاتحة للعراقيل، وبدا أثر ذلك في وجهها، ولم يخفَ اضطرابها على الرئيس، فاستأنف الكلام قائلًا: «ولكنني سأرسل أحد الرهبان اليوم ليتفقد الحالة من حاشية رودريك، فإذا اطَّلعنا عليها ساعدنا ذلك على تدبير الوسائل قبل ذهابي إلى طُلَيْطلة.»

فاطمأنَّ بال فلورندا واكتفت بانتداب الراهب وأرادت أن تبيِّن له ما تود الاطلاع عليه من أمر ألفونس فضلًا عن أوباس، ثم هي تريد أن تعرف رأي رودريك في فرارها، وهل يتفانى في البحث عنها، ولكن الحياء منعها من الكلام في هذا الشأن صراحة فقالت: «إذا كان الراهب الذي ستنتدبه ذكيًّا وجاءنا بالخبر اليقين كان ذلك خيرًا من ذهاب حضرتك قبل الاطلاع على شيء.»

فقال الرئيس: «فلنبحث فيما يُطلَب الاطلاع عليه.»

فقالت العجوز: «لا أُخفي عن مولاي — الرئيس المحترم — أن أهم النقط التي يُطلب البحث عنها إنما هي أوباس وحاله، ثم يهمنا الاطلاع على رأي رودريك في فرارنا لأننا هربنا من قصره رغم أنفه، ثم نحب الاطلاع على المكان الذي بعث إليه الأمير ألفونس.»

قال: «فهمت المطلوب وسأوصي الرسول به ونظنه يعود إلينا بالخبر اليقين.»

فنهضت فلورندا وقبَّلت يد الرئيس وكذلك فعلت العجوز، واستأذنتا في الذهاب رغبةً في تفرُّغ سرجيوس لقضاء تلك المهمة، فأذن لهما فانصرفتا.

أما هو فإنه صفَّق فجاءه الراهب الذي يتولى خدمته فأمره أن يستدعي راهبًا سمَّاه، فجاءه ذلك الراهب وكان له به ثقة كبرى، وكثيرًا ما كان يكاشفه برأيه في رودريك، فأوصاه بما يُطلب الاطلاع عليه، واستحثَّه على أن يُسرع في العودة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤