السفر

قضت فلورندا في ذلك الدير بقية فصل الشتاء وكل فصل الربيع وهي تتنسم الأخبار بواسطة أجيلا وشانتيلا والرئيس، فلم تسمع إلا بانتصارات العرب ووالدها معهم، وقد دخلوا إسبانيا وأوغلوا في مقاطعة بوتيكة. وكان رودريك قد أعد جنده وتأهَّب للخروج معهم، فسمعت أنه برح طُلَيْطلة بنفسه ومعه العدة والرجال، واضطربت إسبانيا كلها وفيها الخائف والشامت والآسف والناقم لاختلاف الأحزاب وتضارب الأغراض كما علمت.

أما أهل دير الجبل فقد كانوا يسمعون الأخبار وهم يرون الخطر بعيدًا عنهم لبعدهم عن ساحة القتال، وفلورندا قد تراكمت عليها الهواجس والمخاوف على أبيها وخطيبها، وهي لا تدري هل تسير إلى أحدهما أو كليهما، أو تبقى في الدير. وكانت ترجِّح بقاءها هناك راجية أن يبعث والدها فيستقدمها كما قال. فلما أقبل الصيف أصبح دير الجبل عليل النسيم، عذب الماء، نشيط الهواء وقد اكتست أوديته حُلَّة خضراء.

ففي يوم من أيام يوليو أفاقت فلورندا باكرًا وهمَّت بالخروج من الدير للتَّجول في بساتينه على جاري العادة، وقبل أن تخرج جاءها أجيلا يدعوها إلى الرئيس، وقد مضت مدة لم يدعُها إليه، فاختلج قلبها وأسرعت حتى أقبلت على غرفته فرأت عنده كهلًا لا تدل سحنته على أنه من القوط أو من الرومان، ورأت عليه ملابس تذكَّرت أنها كانت ترى مثلها وهي عند والدها في سبتة، ولما دنت من الرجل رأت آثار السفر على وجهه بما غطَّى لحيته وشاربه من الغبار حتى حاجبيه وأهدابه فإن الغبار غلب على لونها جميعًا، فتوسمت فلورندا من ذلك القادم خبرًا جديدًا، فدخلت وحيَّت فرحَّب بها الرئيس وقال: «هذا رسول من أبيك.»

فلما سمعت ذلك خفق قلبها وتورَّدت وجنتاها بغتة والتفتت إلى الرجل وقالت: «ما وراءك؟»

قال: «إني من أصدقاء أبيك ومُحبِّيه والمطلعين على أسراره، وقد علمت بكتابك إليه وما ترتب على ذلك كله من الانقلاب الذي سيعود على رأس … ألا تعرفينني يا فلورندا؟»

فلما سمعت فلورندا صوته وتأملت ملامحه تذكرت أنها شاهدته غير مرة في صباها، وأنه كان كثير التردد على بيت والدها في سبتة، فاستبطأها الرجل وقال: «ألا تعرفين سليمان التاجر؟»

فانتبهت للحال وقالت: «أنت سليمان؟ نعم أعرفك جيدًا، وكنت تتردد وتحمل إلينا الهدايا والأحمال وتبتاع لنا الآنية والثياب. هل أنت آتٍ من عند والدي؟ وأين هو الآن؟»

قال: «هو مع جند العرب على مقربة من وادي ليتة.»

قال ذلك واستأذنها بعينيه هل يقول كل شيء في حضرة الرئيس، فأجابته بالإشارة أن يفعل، فقال: «وقد أوغلوا في بوتيكة ولم يلقوا معارضة إلا قليلًا، وقد عدَّهم أهل البلاد رحمة، ولا يلبثون أن يتملكوا البلاد كلها.»

فبغت الرئيس وقال: «وماذا جرى لجند الإسبان؟»

قال: «لم يلتقِ العرب برودريك بعد، ولكننا سمعنا بخروجه من طُلَيْطلة بجند كثير، وسيعود خاسرًا فأبشرا.»

فظهرت البغتة على وجه الرئيس وقال: «هل تعتقد ذلك؟ وكيف تكون حالنا إذا صح قولك؟»

قال: «تكون على أي حالٍ أحسن مما أنتم فيه الآن؛ لأن العرب إذا فتحوا بلدًا قلما يتعرضون لأهلها في شيء غير ما يفرضونه عليهم من الجزية أو الخراج، وأما الرهبان وجماعة الأكليروس فإنهم معفون من كل ضريبة، يقيمون في ديارهم سالمين آمنين. ذلك ما شاهدناه بأعيننا في البلاد التي فتحوها في مصر والشام.»

فأطرق الرئيس وسكت، فقالت فلورندا: «وما الذي جئت من أجله الآن؟»

قال: «كلَّفني مولاي الكونت والدك أن آتي كي أزورك، وإذا أردت الذهاب إليه سرت في خدمتك.»

فانبسطت نفس فلورندا لذلك وقالت: «ألا تخاف علينا بأسًا في أثناء الطريق؟»

قال: «لا بأس علينا من أهل إسبانيا ونحن منهم، ولا من الملك وهو في شغل من نفسه وجنده.»

فالتفتت فلورندا إلى الرئيس كأنها تستطلع رأيه فقال: «إذا لم يكن بدٌّ من ذهابك فهذه فرصة لا تضيِّعيها، ونحن ندعو لك بالوصول إلى والدك سالمة.»

فعادت فلورندا إلى خالتها واستشارتها فأشارت عليها بالذهاب، وتأهبوا في الغد وسافروا ودليلهم سليمان ومعه أجيلا وشانتيلا، وأما فلورندا فطلبت إلى سليمان أن يجعل طريقهم بأستجة.

فساروا أيامًا لا يمنع مسيرهم نَوْء ولا مطر، والأرض كلها مكسوة بالأشجار والأعشاب، والطقس جميل، حتى أطلُّوا على أستجة فخفق قلب فلورندا عند مشاهدة تلك المدينة، وكانوا قد أشرفوا عليها من مرتفع، فرأت كنيستها فتبرَّكت بها عن بُعْد وجعلت تناجي نفسها عن مقر ألفونس فلم تجد بُدًّا من سؤال سليمان، فقالت له: «إذا أنفذ رودريك جندًا إلى مدينة مثل أستجة فأين يقيم؟»

فقال لها: «أظنك تبحثين عن مقام الأمير ألفونس؟»

فبغتت فلورندا وقالت: «نعم، وكيف عرفت ذلك؟»

قال: «عرفته منذ بضعة أشهر؛ إذ جئت إلى هذه المدينة وبلغني قدوم الأمير وجنده، وكانوا يقيمون في هذه القلعة قرب الجسر. هل أبحث عنه هناك؟»

فاستأنست به فلورندا وقالت: «افعل يرحمك الله، وَأْتِنا بالخبر.»

فتركهم وتحوَّل بأسرع من لمح البصر، وترجَّلت فلورندا وخالتها ولبثوا جميعًا ينتظرون الخبر وفلورندا تهنئ نفسها بلقاء ألفونس، وكلما تصورت أنها لقيته يختلج فؤادها، وهي لا تزال تذكره كما شاهدته المرة الأخيرة في حديقة القصر في طُلَيْطلة وعليه ملابس الشتاء والفرو والمنطقة، وقد خرج من الحديقة مسرعًا مبغوتًا عند سماعه الصفير، تلك آخر صورة ارتسمت له في ذهنها. ولم يَطُلْ زمن اضطرابها وهواجسها لأن سليمان عاد سريعًا، فلما رأته مقبلًا شخصت إليه ببصرها، وقد منعها الحياء من مبادرته بالسؤال قبل وصوله، فلما وصل ابتدرها قائلًا: «لم أجد أحدًا في القلعة.»

قالت: «أتظنهم لم ينزلوا فيها؟»

قال: «لا ريب عندي أنهم كانوا فيها، وقد سألت أحد حراس القلعة فأخبرني أن رودريك بعث إلى مولاي الأمير ألفونس أن يوافيه إلى وادي ليتة بمن معه من الجند لملاقاة العرب.»

فبغتت فلورندا، وأطرقت وهي تتجلد وتمسك عواطفها أمام ذلك الرجل، ولكنها أصبحت قلقة البال على ألفونس؛ لأنه ذهب إلى ساحة الحرب وهو في جانبٍ وأبوها في الجانب الآخر، فإذا فاز الواحد غُلب الآخر، وكلاهما عزيزان. وربما لم يَفُتْ سليمانَ ما مرَّ بخاطرها من هذا القبيل فقال لها: «أظننا نلاقي الأمير ألفونس في الطريق إذا أسرعنا، وإلا فإننا نلاقيه في وادي ليتة، فإذا وصلنا إلى هناك بحثت عنه وأتيتك بما تريدينه.»

فاطمأنَّت فلورندا بذلك الوعد، وأشارت إلى الركب بالمسير، فركبوا وساروا حتى توارَوْا عن أستجة وقطعوا نهرها، وما زالوا سائرين جنوبًا وهم يمرون بالكروم والبساتين، وكلما اقتربوا من وادي ليتة قلَّ الناس العاملون في الحقول.

وأقبلوا في صباح اليوم التالي على طريق، رأَوْا فيها جماعة من أهل القرى يهرعون كأنهم يفرون من عدو يتعقَّبهم، فقالت فلورندا في نفسها: «يظهر أننا على مقربة من معسكر العرب أو أن العرب قادمون.» ثم التفتت إلى سليمان فإذا هو ينظر إلى الأفق ويتفرَّس كأنه يرى شيئًا غريبًا، فنظرت، فرأت غبارًا يتصاعد، فرجح لديها قدوم العرب، فخفق قلبها، وقالت لسليمان: «يظهر أن العرب قريبون منا، أليس أبي معهم؟»

فقال: «لا أظن أن القادمين عرب؛ لأنهم سائرون من الشمال إلى الجنوب.» ثم التفت إلى أحد المارَّة من الفلاحين، وسأله عن سبب فرارهم، فقال الرجل: «ألا ترى جند الملك قادمين؟ إنهم لم يتركوا أذًى إلا ألحقوه بالفقراء أمثالنا، ولا يتركون ثمرًا إلا قطعوه، ولا زرعًا إلا داسوه، ولو اكتفوا بذلك لهان علينا الأمر، ولكنهم يلحقون الأذى بالناس.» قال ذلك وسار مسرعًا في طريقه لئلا يكون مخاطبه من حزب الملك فيقبض عليه.

وكانت فلورندا تسمع كلام الرجل، وتأسف على تلك الحال، وأرادت أن تعلم إذا كان الملك نفسه مع ذلك الجند، فقالت لسليمان: «وهل تظن أن رودريك مع هذا الجند؟»

قال: «أظنه معهم.»

فلما سمعت ذلك تصورت قرب الخطر منها، وسليمان يستشف عواطفها وملامحها، فلما رأى اضطرابها قال لها: «لا تخافي يا مولاتي فإنك في أمان، تعالَيْ نختبئ في مكان ريثما يمر هذا الجند.»

قال ذلك ومشى، فتبعه الجميع حتى دنوا في مكان خَرِب مهجور فوق تلٍّ بعيدٍ عن الطريق، فدخلوه فقالت فلورندا: «أرى أن أتنكر بثوب رجل.» فأعطوها ثوبًا من أثوابهم، وأعطوا مثله للخالة العجوز؛ حتى لا يشك من يراهم عن بُعد أنهم رجال، ثم اختبئُوا في ذلك المكان، وفلورندا شديدة الميل إلى مشاهدة تلك الحملة، فاهتدت إلى شَقٍّ نظرت منه إلى جهة الغبار، فإذا هي بالبنود قد ظهرت، والفرسان بينها عليهم الملابس الملونة والدروع. ورأت في وسط الحملة بنودًا كثيرة قد تجمعت، تحملها فرسان بملابس مرصعة، وفي وسطهم موكب يتلألأ كالشمس، فعلمت أنه موكب رودريك فأصابها الاضطراب، ولم يقترب الموكب من مكانها حتى اصطكت ركبتاها وارتعدت فرائصها، فرسمت إشارة الصليب، فتشجعت وثبَّتت قدميها، ثم شغلها ما سمعته من قرع الطبول وخفق البنود وصهيل الخيل وقرقعة العجلات وعليها المئونة والذخيرة، وضوضاء الناس وهم يمرون بين يديها. ثم أقبل الموكب ورودريك فيه على سرير بين دابتين بما يشبه الهودج، وفوق رأسه مظلة من الديباج المزركش مرصعة بالدُّرِّ والجوهر، في مقدمتها صليب مغروس في أحد أعمدتها، ورودريك جالس وعلى رأسه التاج يتلألأ بالحجارة الكريمة، وقد ارتدى وشاحًا مزركشًا وردي اللون، وتصدَّر تصدُّر الملوك على عروشهم، ويده في لحيته وهو يجيل نظره ذات اليمين وذات الشمال، ينظر إلى جنوده وكثرة ما معه من العدة والرجال. وقد جلس معه في ذلك السرير الأب مرتين وهو يخاطبه ويشير بيده ورودريك ينظر إلى الأعلام المحيطة بموكبه ودلائل الإعجاب بادية على وجهه.

فلا تسل عن حال فلورندا لما وقع نظرها على وجه رودريك، وكان سليمان واقفًا بجانبها، فلما مرَّ الموكب التفت، فرأى لونها قد أصبح مثل لون التراب، فأراد أن يشغلها عن الخوف فقال: «ما ظنك في عدد هذا الجند يا مولاتي؟»

قالت: «لا أدري ولكنني أراه كثيرًا، هل تظن أن جند العرب أكثر منه؟»

قال: «إن العرب لا يزيد عددهم على خُمس هؤلاء، وناهيكِ بما سينضم إلى جند رودريك من الرجال قبل أن يلتقي بالعرب، ولا سيما جند مولاي الأمير ألفونس فإنه سينضم إليه.»

فقالت: «إذن فالعرب في خطرٍ وضعف؟»

قال: «لو كانوا ضعفاء ما استطاعوا دخول هذه البلاد، فإن القوة ليست في الكثرة وإنما هي في الشجاعة. إن العرب يا مولاتي لا يزيد عددهم في هذه الجزيرة على ١٢ ألفًا، ومع ذلك فلم يقف في سبيلهم أحد.»

فقطعت كلامه قائلة: «ولكنهم لم يلاقوا مثل هذا الجند بعد.»

فقال سليمان: «هذا صحيح، ولكنني رأيت من شجاعتهم واتحادهم وصبرهم ما لا أخشى معه عليهم شيئًا، ومع ذلك فإن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء.» وفي أثناء هذا الحديث مرَّت بقية الحملة، فمكثوا هناك إلى آخر ذلك اليوم. وخرج سليمان وحده للبحث عن المكان الذي نزل فيه العرب، ثم عاد فأخبر فلورندا بأن العرب قد نزلوا في وادي ليتة قرب مدينة شريش، فقالت له: «وهل عرفت مكان معسكر ألفونس؟»

قال: «هو على مقربة من ذلك المكان.»

فقالت: «وما العمل الآن؟»

قال: «إذا شئت الذهاب توًّا إلى مولاي الكونت والدك أوصلتك إليه حالًا.»

فأصبحت فلورندا في حيرة؛ كيف تسير إلى معسكر العرب قبل أن ترى ألفونس وتدبِّر طريقة للاجتماع به أو رؤيته، فلبثت صامتة، فأدرك سليمان سبب صمتها، فقال لها: «يظهر أنك تريدين البحث عن الأمير ألفونس قبل كل شيء؟»

قالت: «نعم.»

فقال: «أعرف كَرْمًا من كروم شريش لعائلة من أهل هذه البلاد، وفي الكَرْم بناء مرتفع يطل على سهول شريش كلها، فتقيمين هناك مع خالتك والخادمين، وأمضي أنا للبحث عن ألفونس وآتيك بالخبر اليقين أو أستشير والدك.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤