التوبيخ

فلما فرغ الجند من الحرب وتراجعوا إلى خيامهم، أمر طارق بحمل الغنائم والسبايا والأسرى إلى ما بين يديه على جاري العادة بعد كل قتال. فحملوا كل ما غنموه من العدة والسلاح والآنية والذخيرة والجواهر والتحف، وأكثرها من الصلبان والخواتم، وفيها الفضة والذهب بين مرصع وغير مرصع، وجاءوا بالأسرى وفيهم المقيد والموثق والسليم والجريح. فتجمع من ذلك كله شيء كثير، حتى أصبحت الأسلاب ركامًا أمام الفسطاط، والأسرى جماعات مشدود بعضهم إلى بعض بأعناقهم أو أيديهم أو أرجلهم، والرجال لا يزالون يأتون بهم زرافات ووحدانًا.

واجتمع قواد الجند أمام فسطاط طارق على بساط كبير افترشوه هناك، وهو من جملة الغنائم، فجلس طارق في صدر المكان وإلى يمينه الكونت يوليان وإلى يساره الأمير ألفونس، وبين يديه كبار القواد وفي جملتهم بدر. وكان ألفونس قد لقي يوليان ساعة انضمامه إلى جند العرب وتحادثا مليًّا في شأن المملكة وما كان من أمر أوباس، وذكرا فلورندا وأنها مقيمة في المستودع حتى يرسلوا في طلبها، وصمما على أن يستقدماها في صباح الغد بعد الفراغ من توزيع الغنائم والأسلاب. وكان ألفونس منذ انقضاء المعركة يتفرس في الأسرى لعله يرى أوباس بينهم، وهو لا يتوقع أن يراه أسيرًا؛ لعلمه أنه يفضل الموت على الأسر.

فلما تكامل اجتماع القواد، وأسند طارق إلى كبير منهم أن يخمس الغنائم حسب العادة، فيختص بيت المال بخمسها، ويقسم الباقي بين القبائل على حسب تعدادها، وكان يقول ذلك وأمارات الاعتزاز والفخار بادية على وجهه، وألفونس ويوليان يتساءلان عن أمر أوباس هل قتل أو فر أو أسر، وكلاهما يستبعد وقوعه في الأسر، وإذا هم بجماعة من جند العرب يسوقون رجلًا طويلًا، شعره مسترسل على ظهره وكتفيه، ولما دنوا من الفسطاط تقدم أحدهم وهو يقول لطارق: «وجدنا هذا الأسير مغلولًا في مضارب القوط فحللنا وثاقه وجئنا به.»

فقال: «إليَّ به.»

فأقبل أوباس وهو لا يزال كما كان في أثناء القتال محلول الشعر وعلى صدره صليب وبيده صليب. فلما وقع نظر ألفونس عليه نهض حتى وصل إليه، فجثا أمامه وأكب على يده وجعل يقبلهما ودموعه تتساقط بلا بكاء، وكذلك فعل يوليان، وقد امتزجت في وجهه أمارات السرور بالنصر بأمارات الخجل من الخيانة. وتغلب على ذلك كله انقباض النفس من السويداء. فانحنى على يد أوباس فقبلها وأمسك به، ودعاه للجلوس في صدر المكان. وكان طارق وبدر وسائر القواد قد تحولت أنظارهم إلى ذلك القادم، وقد زاد هيبةً وجلالًا باسترسال ذلك الشعر.

أما أوباس فإنه كان ينظر إلى الذين حوله بلا اكتراث. ولما دعاه يوليان للجلوس أمسك عن مجاراته، وظل واقفًا في مكانه يتفرس في وجوه الناس. ولو استطاع ألفونس التفرس في عيني أوباس لرآهما تتلألآن، ولم يخطر بباله أنهما تتلألآن بالدمع لاعتقاده أن الطبيعة لا تستطيع قهره. وهي لا تستطيع قهر العاقل إذا استذل عواطفه، وأخضعها لعقله، فإنه لا يرى في أحداث الحياة ما يدعو إلى الحزن أو إلى الفرح، والحياة بجملتها نسمة من نسمات الوجود فما بالك بأعراضها، ولكن المرء لا يخلو من العواطف، فهو عرضة للحزن والفرح … فلا تلومن أوباس على البكاء وقد رأى ذهاب دولة القوط من إسبانيا، بسوء تدبير رجل واحد رغم ما كان يؤمله هو من تفادي ذلك، حتى إذا كاد يدرك ما يريد ذهبت مساعيه أدراج الرياح وجوزي جزاء سنمار. على أن أسفه ما لبث أن تحول إلى انفعال، فلما دعاه يوليان للجلوس توقف هنيهة، ثم قال بصوت جهوري فيه خشونة من شدة التأثر: «تدعوني يا يوليان للجلوس في مكان تحسبه بيتك وأنت قد خسرت هذا البيت في هذا اليوم؟ بعته يا يوليان بأرخص الأثمان وأنت تزعم أنك فعلت ذلك انتقامًا من رجل ساقه ضعفه إلى مس كرامتك، فسُقْتَ نفسك وأهلك وسائر رجال القوط والإسبان — إلى ضياع أنفسهم وأموالهم وأعراضهم — حتى ابنتك التي ارتكبت هذه الخيانة غيرة على عرضها، فقد ذهبت أسيرة في يد رجل لا هو من دينك ولا من أمتك ولا من لغتك.»

وكان أوباس يتكلم والحضور مطرقون حتى العرب مع أنهم لم يكونوا يفهمون ما يقول، ولكنهم تهيبوا صوته ومنظره. أما يوليان فإنه كاد يذوب خجلًا، فلما سمع ما يقوله عن فلورندا وأسرها انتبه وأجفل، وكذلك ألفونس، وقالا بصوت واحد: «أين هي؟» ولم يستغربا اطلاعه على ذلك، ولا استخفا بقوله لأنه لا يقول عبثًا، فلما سألاه عنها وجه خطابه إلى ألفونس قائلًا: «ضاعت خطيبتك منك وما أنت لها، وقد ارتكبتَ ما لم يرتكبه رودريك لأنك خنت بلدك وأهلك وأضعتهم جميعًا. فإذا كنت فعلت ذلك عقابًا لرجل أراد أن يمس عرضك فما هو مقدار العقاب الذي تستحقه أنت وقد جعلت أعراض القوط وأموالهم وأرواحهم معرضة للسلب والقتل؟ احكم على نفسك!»

فلم يكن جواب ألفونس غير البكاء. وأما يوليان فإنه أحس بتبكيت الضمير ولا سيما حين سمع بضياع ابنته وأراد أن يسأل عنها فتهيب وظل مطرقًا.

وكان طارق وبدر يسمعان كلام أوباس ويعجبان به، وهما لا يفهمان ما يقوله، فالتفت طارق إلى الذين كانوا حوله، يبحث عمن يترجم له أقواله، فرأى سليمان التاجر، فأدرك سليمان غرض طارق قبل أن يسأله، فتقدم وفسر له كلام أوباس وهو يتوقع أن يستاء منه، فإذا هو قد زاد إعجابًا به، وخاطب أوباس عن طريق سليمان قائلًا: «بورك فيك من رجل عاقل وشهم كامل. إني لأعجب من فشل جند القوط وفيهم رجل حكيم مثلك، مع كثرتهم واستعدادهم.»

فقال أوباس: «لا تعجب يا ولدي. إن للدول آجالًا كما للناس، فإذا جاء أجلها أخفقت الحيل في استبقائها. على أني كنت أحسب أجل هذه الدولة أطول من ذلك، فعجَّله ضَعْفُ رأيِ الملك وفسادُ نِيَّات أهل شُوراه. وهكذا أراد الله.»

قال طارق: «فإذا كانت هذه إرادة المولى فلا يسوءك خروج هذه الدولة من أيدي القوط، فإن دخولها في حوزة المسلمين من أسباب سعادتها؛ لأن أهلها يعيشون في ظلنا، ندفع عنهم الأعداء، ونضمن لهم الأمن، ولا نكلفهم عن ذلك إلا جعلًا قليلًا هو الجزية، فإذا أدَّوْها بات كل منهم آمنًا على عرضه وروحه وماله.»

قال ذلك وأمسك بيد أوباس ومشى به وهو يقول: «هلم بنا إلى الفسطاط ريثما يفرغ القواد من تقسيم الغنائم.»

فمشى أوباس ويوليان وألفونس وبدر، ومعهم سليمان ويعقوب، حتى دخلوا الخيمة، وكانت كبيرة، فجلس طارق في صدرها، وجلس أوباس إلى يمينه ويوليان وألفونس إلى يساره، وجلس بدر في جانب من جوانب الخيمة، وهو لا يزال يرتدي الثوب الذي حارب به وعليه السيف والدرع. ولم يكد يوليان يستقر في مكانه، حتى ذهب تهيبه من أوباس، فعاد إلى السؤال عن فلورندا قائلًا: «سمعتك يا مولاي تقول إن فلورندا ذهبت أسيرة، فهل تعني ذلك حقيقة؟»

قال: «ومتى كان أوباس يتكلم جزافًا؟»

فزاد اهتمام يوليان واستغرابه، وأراد الإيضاح، فسبقه ألفونس قائلًا: «وكيف ذلك؟ ومن أسرها؟»

فقال أوباس: «لا أعرف اسم الرجل ولكنني رأيتها وأنا مسجون في الخيمة. رأيتها من شق في تلك الخيمة وهي محلولة الشعر تستنجد طيور السماء ودواب الأرض لتنقذها من رودريك وكان قد بعث يستقدمها إليه، فجاءها فارس عربي لكنه غير بربري، عليه عمامة بيضاء فأنقذها وتعقب رودريك لا أدري إلى أين، ولكنه أمر رجاله أن يحملوها فحملوها إلى هذا المعسكر، ولا ريب في أنها أسيرة، وهي مِلْك للذي أسرها.»

فقال يوليان: «هل تعرف ذلك الرجل إذا رأيته؟ يظهر أنه أخذها إليه وأخفاها عن الأمير طارق لأني لم أَرَها بين الأسرى.»

فقال أوباس: «أظنني أعرفه. إنه يمتاز عن كل هذا الجند ببياض لونه وشقرة شعره.»

فلما سمع يوليان ذلك اتجه فكره إلى بدر، فالتفت إليه وكان جالسًا على بعد عدة خطوات من يوليان يسمع كلامه ولا يفهمه لأنه لا يعرف القوطية. على أنه لو فهم أن أسيرته ابنة يوليان لم يبالِ؛ لأنه ظل حاقدًا عليه منذ أن حرمه بنت الشيخ صاحب الكَرْم ليلة نزولهم سهل شريش. وكان يوليان خشن المعاشرة بسبب ما تسلط عليه من السويداء منذ بضعة عشر عامًا لمصيبة ألمت به، فأذهبت صبره على مرارة الحياة، وأصبح ضيق الخُلُق سريع الانفعال، فكان رفقاؤه لا يُسَرُّون بمعاشرته، ولا سيما بدر؛ لما بينهما من الفارق في السن. فلما نظر يوليان إليه كان هو يتشاغل ببند سيفه يلاعبه بين أنامله وفكره في فلورندا؛ لأنه كان قد افتتن بجمالها. فلما رآه يوليان منشغلًا عنه، التفت إلى طارق وأفهمه خلاصة حديثه مع أوباس وأنه يظن بدرًا هو الذي أسرها، وطلب إليه أن يطلبها منه، فالتفت طارق إلى بدر وناداه: «بدر.»

وكان بدر قد سمع كلام يوليان لطارق وفهم قصده، فلما سمع طارق يناديه أجابه وهو لا يزال جالسًا: «نعم.»

وكان طارق شديد التعلق ببدر، يحبه ويدلـله، ويعامله معاملة الأب لابنه أو الأخ الأكبر لأخيه الأصغر. فلما رأى أنه أجابه بغير اكتراث ابتسم له وقال: «أراك لا تزال جالسًا، أظنك لم تسمع ندائي؟»

فقال، وهو يلاعب بند سيفه: «سمعتك وأجبتك.»

فقال طارق: «قم إليَّ لأسألك سؤالًا.»

فوقف وقال: «وما سؤالك؟ اسأل كل ما تريده واطلب ما شئته إلا أسيرتي، فإنها لي ولا حاجة إلى كثرة الكلام.» قال ذلك وهو يصلح عمامته كأنه يستعد للنزال.

فضحك طارق حتى بانت نواجذه وقال: «لا أدري ما سبب غضبك ونحن لم نخاطبك في شيء بعد. ألا سمعت قولنا ثم قلت ما تقوله؟»

قال بدر: «قل فإني سامع.»

فقال طارق: «احكِ لنا كيف عثرت على هذه الأسيرة؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤