كشف السر الأخير

فلم يفهم يوليان مغزى تلك الإشارة، وكان قد جلس وتحول غضبه إلى حزن، ولا يزال أوباس وطارق وألفونس واقفين وقد علتهم البغتة مما شاهدوه، وهم ينتظرون ما يقوله سليمان. فلما سمع يوليان إشارته تنبه، وتفرس في سليمان ليرى هل يقول الجد أو الهزل، فرأى الجد باديًا في كل جارحة من جوارحه، وقبل أن يقول كلمة نهض سليمان والتفت إلى الحاضرين، وأشار إليهم أن يجلسوا ليسمعوا حديثًا يريد أن يقصه عليهم، فجلسوا إلا بدرًا فإنه اغتنم فرصة اشتغالهم وخرج لاستبدال سيفه استعدادًا لمنازلة يوليان ثانية … أما سليمان فجلس وقال: «اسمعوا فأقص عليكم سرًّا حفظته منذ أعوام وفيه موعظة وحكمة» وأخذ يقص قصته بالقوطية ويترجمها إلى العربية. قال وقد وجه خطابه أولًا إلى أوباس:

لا يخفى على مولاي الميتروبوليت ما قاساه اليهود في إسبانيا من ظلم حكامهم القوط من صنوف الاضطهاد والجور حتى أجبروهم أخيرًا على النصرانية أو الرحيل من بلادهم، فكان منهم من رحل ومنهم من تظاهر بالنصرانية وبقي في البلاد يسعى في إفساد أمرها على الحكومة، ولا أخفي عليكم أني واحد من هؤلاء المتنصرين، وقد قضيت مع الكونت يوليان أعوامًا وهو يحسبني نصرانيًّا، والحقيقة أني لا أزال على دين آبائي وأجدادي. وأظن مولاي الميتروبوليت يعلم أن يعقوب (وأشار إليه) حبر من أحبار اليهود ومن كبار أغنيائهم، وقد تظاهر بالنصرانية وأدخل نفسه في خدمة البلاط الملكي من أيام المرحوم غيطشة، وسعى لديه في رفع الضغط عن اليهود، وكاد ينجح لو لم يَحُلْ دون ذلك انتهاء أجَل غيطشة، فلما تولى رودريك عاد الضغط إلى ما كان عليه، ونحن نعقد الجمعيات السرية ونبذل الأموال في مقاومة هذه الحكومة الظالمة وهدم أركانها. ولم نكن ندخر وسعًا في معاكستها ومعاكسة رجالها من الكونتات أو القواد أو غيرهم. ولكننا لم نكن نستطيع ذلك جهارًا فكنا نفعله سرًّا — والآن وصلنا إلى جوهر القصة — وأتيح لي بعد تظاهري بالنصرانية الرحلة إلى الآفاق، فنزلت سبتة منذ بضعة عشر عامًا وتقربت من حضرة الكونت، وبذلت ما في وسعي لاكتساب ثقته، ففزت بذلك، وصرت أتردد إلى منزله كواحد من أهله. وكان له ولدان، أحدهما انثى وهي فلورندا، والثاني ذكَر كان اسمه طوماس. واتفق في أثناء ذلك أن جددت الحكومة اضطهاد اليهود، وأتتنا التعليمات السرية أن ننتقم لهم بأية وسيلة كانت. فتهيأ لي أن أحرم الكونت أعز ولديه وهو الصبي، ولم تسمح نفسي بقتله فاحتلْتُ في سرقته وحمله معي في أثناء أسفاري إلى بعض قبائل البربر، وبعتُه لأحد كهنتهم الوثنيين (ماربوط) بثمن زهيد، ولم أقُلْ له من أين أتيت به، فاشتراه ثم سلمه إلى زياد والد الأمير طارق، فرباه مع أولاده، فشب الغلام لا يعرف والده، ولا أحد يعرفه سواي، وسموه بدرًا لبياضه. وهو هذا الشاب الذي كان بين يديكم. وبما أن الكونت يوليان قد انقلب على حكومة القوط الآن ونصر أعداءهم حتى أصبح من أنصارنا، فلذلك وجب علينا كشف هذا السر له.

وكان سليمان يتكلم وهم يتطاولون بأعناقهم، ولا سيما يوليان، فقد حسب نفسه في حلم، وكان وهو يسمع الحديث يبحث ببصره عن بدر في جوانب الخيمة وقلبه يخفق. وكانت الشمس قد غابت وأظلمت الخيمة، وأحس طارق من تلك الساعة كأن غشاوة أزيحت عن عينيه؛ إذ عرف أصل هذا الغلام والتفت ونادى: «بدر.» فلم يجبه أحد ثم انشق باب الخيمة ودخل بدر وقد استبدل سيفه.

فلما رآه يوليان وثب وهو لا يدري ماذا يقول، ونادى: «طوماس، طوماس» وهرع نحوه. فلما رآه بدر مسرعًا إليه تراجع ويده على قراب سيفه كأنه يهم أن يضربه أو يتلقى ضربة به. فوقف سليمان وقال: «تعالَ يا بدر وقبِّل يد الكونت وهو يقبلك فإنه أبوك.»

فبغت بدر واتخذ الكلام هزءًا حتى تقدم إليه طارق وقال له: «نحمد الله. أنك وجدت أباك وقد كنا منذ عرفناك ونحن نتساءل عنه.»

فنظر بدر إلى طارق وهو يقول: «الكونت يوليان أبي، وفلورندا أختي؟ من أين أتتْ هذه القرابة؟»

وكان يوليان في أثناء ذلك واقفًا أمام بدر، وهو يتفرس فيه على نور الشفق، ثم جاءوا بمصباح تناوله يوليان بيده وجعل يتفرس في بدر، ويتأمل ملامحه ومعاني وجهه، فتذكر بعد قليل أن لتلك الصورة شبهًا في ذهنه، فثار الحنان في قلبه، فأكب على بدر وضمه إلى صدره، وجعل يقبله ويتنشق ريحه ويبكي بكاء الفرح، والناس وقوف، وما فيهم إلا من تحركت عواطفه لذلك المنظر الغريب. ولم يتحقق بدر أنه في يقظة إلا بعد قليل، فقبل يد والده ووقف كأنه أصيب بالجمود.

مضت دقائق قليلة وأهل الخيمة يتبادلون عبارات الاستغراب، ويحمدون الله على نجاة بدر من سيف والده، والفضل في ذلك لسليمان، ثم التفت أوباس وهو لا يزال إلى ذلك الحين مكشوف الرأس محلول الشعر كما جاء، وقال لطارق: «يأمر الأمير طارق — حفظه الله — أن تأتي ابنتنا فلورندا إلى هنا ليتم التعارف.»

فقال طارق: «وأين هي فلورندا يا بدر؟»

قال: «هي في خيمتي» فأمر سليمان أن يأتي بها.

وكانت فلورندا بعد أن جاءت تلك الخيمة قد أصلحت من نفسها وهي تتوقع أن يأخذوها إلى أبيها، فلما أبطئوا طلبت من الحراس ذلك، فلم يفهموا ما تريد، على أنهم أفهموها بالإشارات أنها لن تبرح تلك الخيمة، فمكثت ومعها خالتها إلى العشاء إذ جاءها سليمان، فلما رأته استأنست به وهشت له وقالت: «أين والدي؟ أين ألفونس؟»

فضحك وقال: «إن والدك مشتاق إلى رؤيتك وسترينه قريبًا، وأما ألفونس فلا أرب لك فيه بعد الآن لأن الفارس العربي الذي أنقذك من يدي رودريك لم يقبل إلا أن تكوني له عروسًا.»

فبغتت وقالت: «وهل قبل والدي ذلك؟»

قال: «وماذا يفعل؟»

قالت: «وألفونس ماذا فعل؟ لا أقبل أحدًا غيره إلا. يظهر يا سليمان أنك تمزح؟»

قال: «تعالي وانظري منزلة ذلك الشاب من أبيك.»

فخرجت فلورندا وخالتها بجانبها ومعها سليمان حتى أقبلوا على خيمة طارق، فدخل سليمان وأشار إليهم أن لا يتكلموا، فدخلت فلورندا والبغتة تغلب فرحها بلقاء والدها، فسبقها سليمان إلى بدر، وأخذه بيده، وجاء به إليها، وقال له: «قبل فلورندا يا بدر.»

فأجفلت هي وتراجعت فصاح بها أبوها: «قبليه يا فلورندا» فلما سمعت ذلك وتحققت أن أباها أراده لها زوجًا حولت وجهها عنه وأخذت في البكاء وهي تقول: «لا. لا حاجة لي بذلك.»

فوقف عند ذلك يوليان وضم ابنته بيمينه، فقبلت يده وقبلها، ثم ضم بدرًا بيساره وقبله وقال: «قبليه يا فلورندا إنه أخوك طوماس الذي فقدناه منذ بضعة عشر عامًا.»

وكانت فلورندا تسمع وهي طفلة أنه كان لها أخ وفُقد، وقد قطعوا الأمل في حياته، فلما قال لها أبوها ذلك تفرست في بدر وهي لا تعرف صورته، وما زال الخجل يمنعها من تقبيله حتى نهض أوباس ونادى: «فلورندا» فأجفلت لأنها لم تكن تتوقع أن تسمع صوته هناك، والتفتت، فلما رأته هرولت إليه وأكبَّت على يده فقبلتها، والعبرات تتسابق إلى عينيها، وهي لا تعلم ماذا تقول.

أما هو فباركها وقال: «نحمد الله على سلامتك وعلى وجود أخيك بعد أن قطع الأمل من لقائه، ونحمده على التقائك بألفونس ونجاتك من الشراك.»

فتصدى ألفونس وقال: «إن نجاتها يا عماه يرجع الفضل فيها إليك وحدك فإنك بركتنا ونعمة من الله لنا.» واختنق صوته.

فتنهد أوباس وقال: «ليتني استطعت تحقيق ما أتمناه، ولكنني لو استطعته ما التقى بدر بأبيه وأخته، ولا التقيت أنت بخطيبتك. المرء يسعى في سبيل والله يدبر من سبل أخرى. هذه إرادة الله فما علينا إلا أن نشكر الله على ما حدث.»

وكانت الخالة العجوز واقفة، فلما قيل لها إنهم وجدوا طوماس ودلوها عليه، ضمته إلى صدرها وقبلته وتنشقت رائحته حتى تضايق هو، وسلمت على يوليان وألفونس، ثم تناولت يد أوباس فقبلتها وقالت له: «بقي علينا أمر لا يتم سرورنا إلا به. ولا يقدر عليه سواك.»

قال: «أظنك تعنين زفاف فلورندا إلى ألفونس، وهذا واجب علي لأني واضع عربون الخطبة، فأمهليني إلى مساء الغد» فلم تستطع الاعتراض.

ثم وقف طارق وقال: «يسرني أن يتم لكم هذا الاجتماع في يوم نَصَرَنا الله فيه، وأنتم منذ الآن في ذمتي فتقيمون حيثما تشاءون آمنين مطمئنين مكرمين، أنتم ومن يلوذ بكم» وقضوا برهة يتحادثون في شئون مختلفة، وعينا فلورندا لم تنتقلا عن عينيي ألفونس، ناهيك بما دار بين العيون من الحديث الخفي. حتى إذا انقضى هزيع من الليل، قال يوليان: «هلم بنا ننصرف إلى مضاجعنا فإننا نحتاج إلى الراحة بعد ما قاسيناه من العناء في أثناء النهار» قال ذلك وخرج فتبعه أوباس وألفونس وفلورندا وبدر، ودل يوليان كلًّا على مكان ينام فيه. وتذكر ألفونس يعقوب فبحث عنه فلم يره بينهم، فظنه ذهب لينام في إحدى الخيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤