مغامرة ثلاثة رجال يحملون اللقب جاريديب

كان من الممكن أن تكون هذه القصة كوميدية، أو تراجيدية؛ فقد كَلَّفَت رجلًا عقلَه، وكلَّفَتني بعض الدماء، وكلفت آخرَ عِقابَ القانون. وعلى الرغم من ذلك، يُوجد فيها بلا شكٍّ عنصرٌ كوميدي. حسنًا، ستحكمون أنتم بأنفسكم.

أَذكُر التاريخ جيدًا؛ لأنه كان في الشهر نفسه الذي رفض فيه هولمز الحصول على لقَب فارسٍ لقاءَ خِدماته، وهو ما قد يُذكَر تفصيلًا في يومٍ من الأيام. أنا فقط أُشير إلى المسألة بشكلٍ عابر؛ لأن وضعي بصفتي شريكًا مقرَّبًا لهولمز وكاتمَ سرِّه، يُحَتِّم عليَّ أن أكون حذِرًا كي أتجنب ارتكاب أيِّ حماقة. ولكنني أكرر، مع ذلك، أن هذا يُمكِّنني من تحديد التاريخ الذي كان في نهاية يونيو عام ١٩٠٢، بعد فترةٍ قصيرة من نهاية حرب جنوب أفريقيا. قضى هولمز عدة أيامٍ في الفِراش، كما كانت عادته بين وقتٍ وآخر، إلا أنه خرج ذلك الصباحَ وهو يحمل في يده ورقة فلوسكاب طويلةً، وعيناه الرَّماديتان القاسيتان تلمَعان بحماس.

قال: «تُوجد فرصةٌ لك لكسب بعض المال يا صديقي واطسون، هل سبق لك أن سَمِعتَ باسم جاريديب؟»

أَجبتُ نفيًا.

«حسنًا، إذا استطعتَ الإمساك بواحدٍ يُدعى جاريديب، فستكسب المال.»

«لماذا؟»

«أوه، هذه قصةٌ طويلة، بل غريبةٌ أيضًا. لا أظن أننا خلال كل استكشافاتنا لتعقيدات النفس البشرية قد صادَفْنا أيَّ شيء بمثل هذا التفرُّد على الإطلاق. سيأتي الرجل عما قريبٍ للاستجواب؛ لذا لن أتحدث في الأمر حتى يأتي، ولكن حتى ذلك حين، فهذا هو الاسم الذي نُريده.»

كان دليل الهاتف موضوعًا على الطاوِلة الموجودة بجانبي، بحثتُ في صفحاته في مسعًى يائسٍ لإيجاد الاسم، ولكن لِدهشتي وجدتُ هذا الاسم الغريب في مكانه الصحيح. أطلقتُ صرخة انتصار.

«ها نحن ذا يا هولمز! لقد وجدتُه!»

أخذ هولمز دليل الهاتف من يدي.

قرأ قائلًا: ««جاريديب، إن، ١٣٦ شارع ليتل رايدر، دابليو.» آسفٌ لإحباطك يا عزيزي واطسون، ولكنه هو الرجل نفسه. هذا هو العنوان الوارد على رسالته، نُريد شخصًا آخر يُطابِق هذا الاسم.»

دخلت السيدة هدسون حاملةً صينيةً موضوعةً عليها بطاقة، أخذتُها وألقيتُ عليها نظرةً خاطفة.

صِحتُ في دهشة: «عجبًا! ها هو! هذا الاسم الأول مختلفًا: جون جاريديب، مستشارٌ قانوني، مورفيل، كانساس، الولايات المتحدة الأمريكية.»

ابتسم هولمز وهو ينظر إلى البِطاقة، وقال: «أخشى أنك ما زلتَ تحتاج إلى بذل المزيد من الجهد يا واطسون؛ فهذا الرجل جزءٌ من المؤامرة بالفعل، على الرغم من أنني لم أكن أتوقع رؤيته هذا الصباح. ومع ذلك، فهو في موقفٍ سيتحتَّم عليه فيه أن يُخبرنا الكثير مما أرغب في معرفته.»

بعد لحظة كان السيد جون جاريديب، المستشار القانوني، داخل الغرفة كان رجلًا قصيرًا وقويًّا ذا وجهٍ مستدير حليق الذقن، وهي السمات الشكلية التي تُميِّز العديد من أصحاب الأعمال الأمريكيِّين. كان يبدو بشكلٍ عامٍّ طفوليَّ المظهر وسمينًا، وهو ما أعطى انطباعًا بحداثةِ سنِّه بتلك الابتسامة العريضة التي ارتَسمَت على وجهه، إلا أن عينَيه كانتا لافتتَين للنظر. نادرًا ما رأيتُ أي رأسٍ بشري تبوح عيناه بمكنونٍ عميقٍ حادٍّ بهذا الوضوح والإشراق؛ فقد كانت عيناه يقظتَين وسريعتَي الاستجابة لكل تغيُّرٍ داخلي في أفكاره. كانت لهجته أمريكية، ولكن لم يكن هناك أي غرابةٍ في طريقة كلامه.

سأل وهو ينقل عينَيه بين هولمز وصورته: «السيد هولمز؟ أوه، أجل! لا تختلف عما تبدو في الصور يا سيدي، يمكنني قول ذلك. أعتقد أنك قد تَلقَّيتَ رسالة من السيد ناثان جاريديب الذي يحمل نفس اسمي، أليس كذلك؟»

أجاب شيرلوك هولمز قائلًا: «تفضل بالجلوس. أعتقد أننا سيكون لدينا الكثير لِنناقشه.» ثم تناول الورقة الفلوسكاب وأردف: «أنت، بالطبع، السيد جون جاريديب المذكور هنا في هذه الوثيقة، ولكن من المُؤكَّد أنك كنت في إنجلترا لبعض الوقت، صحيح؟»

«لماذا تقول ذلك يا سيد هولمز؟» قرأتُ شكوكًا مفاجئة ترتسم في هاتَين العينَين المُعبِّرتَين.

«زِيُّك كله إنجليزيٌّ.»

ضحك ضحكةً مُتكلَّفة وقال: «لقد قرأتُ عن حِيَلك يا سيد هولمز، ولكنني لم أَظُنَّ قَط أنني سأتعرض لواحدةٍ منها. ما الذي وجدتَه في ملابسي يدل على ذلك؟»

«قَصة كَتِف مِعطَفك، شكل مُقدِّمة حذائك، هل يمكن أن يتشكَّك أي شخص في ذلك؟»

«حسنًا، حسنًا، لم يكن لديَّ أدنى فكرةٍ أنني أبدو بريطانيًّا هكذا، ولكن قد دفعني العمل للقدوم إلى هنا منذ بعض الوقت؛ ومن ثَمَّ كما تقول، فزيِّي كله تقريبًا ذو طابعٍ لَندَني ومع ذلك أعتقد أنَّ وقتك ثمين، وأننا لم نلتقِ لنتحدث عن قصة جواربي، فماذا لو تحدثنا عن الورقة التي تحملها في يدك؟»

كان هولمز قد أزعج زائرنا بشكلٍ أو بآخر؛ إذ صار التعبير المُرتسِم على وجهه السمين أقلَّ ودًّا بكثير عما كان من قبلُ.

قال صديقي بصوتٍ هادئ: «صبرًا، صبرًا يا سيد جاريديب! سيخبرك السيد واطسون بأن هذه الاستطرادات الجانبية الصغيرة التي أقوم بها يتضح أن لها علاقةً بالأمر، ولكن لماذا لم يأتِ السيد ناثان جاريديب معك؟»

«لماذا أقحَمَكَ في الأمر من الأساس؟» هكذا سأل زائرُنا بدَفقة غضبٍ مفاجِئة، وأضاف: «ما هي علاقتك بالأمر بحقِّ الرب؟ كانت تُوجد القليل من الأعمال الرسمية بين رجلَين، ثم يستدعي أحدهما مُحققًا! لقد رأيته هذا الصباح، وقد أخبرني عن هذه الحيلة الغبية التي لعبها عليَّ، ولهذا أنا هنا الآن. ولكنني أشعر بالسوء حيال ذلك.»

«لم يكن هناك أيُّ تعمُّد للإساءة يا سيد جاريديب، كان الأمر مجرد حماسة من ناحيته لأن يحصل على نفس غايتك، وهي غاية تتساوى أهميتها لدى كلٍّ منكما، حسب ما أفهم؛ فقد كان يعرف أن لديَّ وسائلَ للحصول على معلومات؛ وبالتالي، كان من الطبيعي جدًّا أن يلجأ إليَّ.»

راق وجهُ زائرنا الغاضب شيئًا فشيئًا.

وقال: «حسنًا، هذا يجعل الوضع مختلفًا. عندما ذهبتُ لرؤيته هذا الصباح وأخبرني بأنه قد أرسل إلى مُحقِّق، طلبتُ عنوانك فحسبُ وأتيتُ على الفور. لا أريد أن تتدخل الشرطة في مسألةٍ خاصة، ولكن إذا كنتَ تُوافق فقط على مساعدتنا في إيجاد الرجل، فلن يكون هناك ضررٌ في ذلك.»

رد هولمز: «حسنًا، وهو كذلك فعلًا. والآن يا سيدي، بما أنك هنا، فمن الأفضل أن نسمع الأمر منك أنت شخصيًّا؛ فصديقي هنا لا يعلم أيَّ شيء عن التفاصيل.»

تَفحَّصني السيد جاريديب بنظرةٍ غيرِ ودودة.

سأل قائلًا: «هل هو بحاجة لأن يعرف؟»

«عادةً ما نعمل معًا.»

«حسنًا، لا يُوجد سبب ليظل الأمر سرًّا؛ سأُخبرك بالحقائق بأكبر قدر ممكن من الاختصار. إذا كنتَ من ولاية كنساس، فما كنت لأحتاج أن أشرح لك من هو ألكسندر هاميلتون جاريديب. لقد كوَّن ثروته من مجال العقارات، ثم بعد ذلك في سُوق بَيع وتبادُل القمح بشيكاجو، ولكنه أنفقها في شراء الكثير من الأراضي الواقعة على طول نهر أركنساس، غرب فورت دودج، التي قد يساوي حجمها واحدةً من مُقاطعاتِكم هنا في إنجلترا. أراضٍ رَعَويَّة، وثانيةٌ غنيةٌ بالأخشاب، وثالثةٌ صالحةٌ للزراعة، وأخرى غنيةٌ بالمعادن؛ كل الأنواع المختلفة من الأراضي التي تُدِرُّ المالَ على من يمتلكها.

لم يكن لديه لا أقارب ولا أصدقاء، وإن كان لديه، فأنا لم أسمع بهم من قبلُ، ولكنه كان فخورًا بشكل ما بغرابة اسمه، وهذا هو ما جَمعَنا. كنتُ أدرس القانون في توبيكا، وفي يوم من الأيام زارني رجلٌ عجوز وكان مُستمتِعًا للغاية بمقابلة رجلٍ آخرَ يحمل نفس اسمه. كان ذلك هو هَوسَه المُفضَّل، وكان عازمًا على معرفة ما إذا كان هناك أكثر من شخصٍ يحمل اسم جاريديب في العالم. قال: «جِد لي واحدًا آخر يحمل نفس الاسم.» فأخبرته أنني رجلٌ مشغول، وأنني لا يمكنني أن أقضي حياتي في السفر حول العالم لإيجاد آخرِين يُدعَون جاريديب، ولكنه قال: «هذا ما ستفعله فعلًا إذا سارت الأمور كما خططتُ لها.» ظننتُ أنه يمزح، ولكن كانت كلماتُه تحمل الكثير من المعاني القويَّة، وهذا ما اكتشفته بعد ذلك بوقتٍ قصير.

فقد مات بعد سنةٍ من كلامه هذا، وتَركَ وصية، وكانت أغرب وصيةٍ قُدِّمَت في ولاية كنساس على الإطلاق. قُسِّمَت ممتلكاته إلى ثلاثةِ أجزاء، وكان من حقي جزءٌ منها، ولكن بشرطٍ واحد، وهو أن أجد شخصَين آخرَين يُدعيان جاريديب كي يقتسما الجزأَين الباقيَين من ممتلكاته. كانت الثروة تُقدَّر بخمسة ملايين دولار لكل واحدٍ منا لو كانت أموالًا سائلة، ولكنَّنا لا نستطيع أن نلمس سنتًا واحدًا منها حتى يكون ثلاثتُنا حاضرِين.

كانت فرصةً كبيرةً بحيث إنني وضعتُ ممارستي لمهنة القانون جانبًا، وشَرعتُ في البحث عن باقي مَن يُدعون جاريديب. لا يُوجد أيُّ أشخاصٍ يحملون هذا الاسم في الولايات المتحدة، لقد بحثت بحثًا دقيقًا يا سيدي، ووسط كومة من القش لم أجد جاريديب واحدًا! ثم جرَّبتُ حظي هنا في هذا البلد القديم، ووجدتُ الاسم في دليل هاتف لندن، بحثتُ عنه منذ يومَين وشرحتُ له الأمر برُمَّته، ولكنه رجلٌ وحيدٌ مثلي، علاقاته النسائية محدودة، وعلاقاتُه بالرجال معدومة. تَنُص الوصية على أن يحمل ثلاثة رجال بالغِين الاسم نفسه، وكما ترى، لا يزالُ ينقصنا شخصٌ واحد، وإن كان بإمكانك مساعدتُنا لإيجاده، فسنكون على أتم استعدادٍ لدفع أجرك.»

قال هولمز بابتسامة: «حسنًا يا واطسون، قلتُ لك إن الأمر غريب، أليس كذلك؟ كان عليَّ أن ألاحظ يا سيدي أن الطريقة البديهية التي استخدمتَها هي وضع إعلانٍ في أعمدة الشكاوى بالجرائد.»

«فعلتُ هذا بالفعل يا سيد هولمز، ولكنني لم أحصل على أيِّ ردود.»

«يا إلهي! حسنًا، إنها مشكلةٌ صغيرةٌ غريبة بكل تأكيد. سأُلقي نظرة على الأمر في وقت فراغي. بالمناسبة، من الغريب أنك قد أتيتَ من توبيكا. كنتُ أتراسل مع د. ليزاندر ستار العجوز، لكنه ميت الآن، وقد كان عمدة البلدة في عام ١٨٩٠.»

ردَّ زائرنا قائلًا: «د. ستار الطيب العجوز! لا يزال اسمه موضعَ تقدير. حسنًا يا سيد هولمز، أفترض أن كل ما يمكننا فعله هو إبلاغك بتقدُّمنا. أعتقد أنك ستسمع منَّا أخبارًا خلال يوم أو اثنين.» بهذا التأكيد انحنى الأمريكي مُحييًا وغادر.

أشعل هولمز غليونَه وجلس لبعض الوقت وعلى وجهه ابتسامةٌ غريبة.

سألتُه أخيرًا: «حسنًا؟»

«أنا أتساءل يا واطسون، فقط أتساءل!»

«عن ماذا؟»

أخذ هولمز الغليون من بين شفتَيه.

«كنت أتساءل يا واطسون عن السبب الذي يدفع هذا الرجل بأن يُخبرنا بمثل تلك الأكاذيب المحضة. لقد كنتُ على وشك سؤاله عن ذلك صراحة؛ ففي بعض الأحيان يكون الهجوم المباشر هو أفضل سياسة، ولكنني رأيتُ أنه من الأفضل أن أجعله يعتقد بأنه نجَح في خداعنا؛ فها هو رجل يرتدي مِعطفًا إنجليزيًّا مهترئًا عند المرفق وبنطلونًا ظل يرتديه عامًا كاملًا حتى إنَّ قماشه أصبح منتفخًا عند الركبة، وعلى الرغم من ذلك، وطبقًا لهذه الوثيقة ولقصته، فهو قرويٌّ أمريكي لم يَزُر لندن إلَّا حديثًا. لم تكن هناك أي إعلانات في أعمدة الشكاوى، أنا لا أُفوِّت شيئًا فيها كما تعلم؛ فهي سلاحي السري في صيد الطيور، ولم أكن لأُغفل طائرَ تَدْرُج مزهوًّا بنفسه كهذا. كما أنني لا أعرف أي د. ليزاندر ستار من توبيكا. كل شيء في هذا الرجل مُزيَّف. أعتقد أنه أمريكيٌّ فعلًا، ولكن لهجته صارت أسلس بعد سنواتٍ قضاها في لندن. فما هي لعبته إذن؟ وما هي دوافعه وراء هذا البحث اللامنطقي عن رجالٍ آخرِين يحملون اسم جاريديب؟ الأمر يستحق انتباهنا؛ فعلى الرغم من أنه محتال، ولكنه مُحتالٌ ذو شخصيةٍ مركبةٍ وبارعة. لا بد أن نعرف الآن ما إذا كان مُراسلنا الآخر محتالًا كذلك أم لا. اتصلْ به وحَسبُ يا واطسون.»

اتصلتُ به، وأتاني من الطرف الآخر صوتٌ رفيعٌ ومرتعشٌ.

«أجل، أجل أنا السيد ناثان جاريديب، هل أنت السيد هولمز؟ أودُّ التحدث مع السيد هولمز.»

أخذ صديقي الهاتف، وسمعته وهو يتحدث بنفس نغمته المعتادة.

«أجل، لقد كان هنا. أنت لا تعرفه كما أفهم … منذ متى؟ يومان فحسب! … أجل، أجل، بالطبع، إنه احتمالٌ جذَّاب بلا شك. هل ستكون بالمنزل هذا المساء؟ أعتقد أن شبيهك في الاسم لن يكون موجودًا، أليس كذلك؟ … رائع، سنأتي إذن، إنني أرغب في الحديث معك وهو غير موجود … سيصحبني الدكتور واطسون … أنت لا تخرج كثيرًا كما فهمت من ملاحظتك … حسنًا، سنأتي في حدود الساعة السادسة. لا داعي لإخبار المحامي الأمريكي عن هذه الزيارة … جيد جدًّا، وداعًا!»

كان وقت الغروب في هذا المساء الربيعي الجميل، وحتى شارع ليتل رايدر، وهو أحد الشوارع الصغيرة المتفرعة من طريق إدجوير، الذي يمتدُّ عبر القالب الحجري لمقصلة تايبيرن القديمة التي ترتبط بذكرياتٍ سيئة، كان يبدو ذهبيًّا ورائعًا في أشعة الغروب المائلة. كان المنزل الذي نقصده مبنًى قديمًا كبيرًا على الطراز الجورجي المبكر، بواجهة من الطوب المُستوي لا يقطعها سوى نافذتَين كبيرتَين بارزتَين بالطابق الأرضي. كان عميلنا يعيش في هذا الطابق الأرضي، وكانت النافذتان المُنخفِضتان بلا شك هما واجهة الغرفة الضخمة التي كان يمضي فيها ساعات نهاره. عندما مَرَرنا باللوحة النُّحاسية الصغيرة التي تحمل اسم ساكنها الغريب، أشار هولمز إليها قائلًا:

«إنها قديمة يا واطسون.» هكذا أشار هولمز إلى سطح اللوحة الذي تغيَّر لونه بمرور الزمن. «إنه اسمه الحقيقي على أية حال، وهو ما يجب أخذه في الاعتبار.»

كان سُلَّم المبني رديئًا، وكانت تُوجد العديد من الأسماء المطلية في الممر، يشير بعضها إلى مكاتب والآخر إلى غرفٍ خاصة. لم تكن مجموعة من الشقق السكنية، بل مساكن عُزاب بوهيميِّين. فتح عميلنا لنا الباب بنفسه، واعتذر قائلًا: إن المرأة المسئولة عن المنزل قد غادَرَت في الرابعة. كان السيد ناثان جاريديب فارع الطول، سَلِس الحركة، مُقوَّس الظهر، هزيلًا وأَصلعَ، في الستين من عمره تقريبًا. كان وجهه شاحبًا، وبشرته باهتة وكأنه لم يتحرك أو يتريض من قبلُ. كان يرتدي نظارةً مستديرةً كبيرة، وكانت له لحيةٌ صغيرةٌ بارزة تشبه لحية الماعز، وقد منحه كل ذلك، علاوة على شكله الأحدب، مظهرَ الشخص الفضولي. غير أنه بدا وَدُودًا بشكلٍ عام، على الرغم من كونه غريبَ الأطوار.

كانت الغرفة على قَدْر غرابة قاطنِها نفسه؛ فقد بدَت كمُتحفٍ صغير. كانت واسعةً وقاتمة، تمتلئ بالدواليب والخِزَانات التي تَعُجُّ بالعيِّنات الجيولوجية والتشريحية. أحاطت صناديقُ تمتلئ بالفراشات والعثَّات كلَّ جانب من جوانب المدخل. بينما كانت تُوجد طاولةٌ كبيرة في منتصف الغرفة مغطاة بأشكالٍ مختلفة من الحُطام، بينما انتصب عليها الأُنبوب النُّحاسي الطويل لمِجهرٍ ضخم. كلما كنتُ أنظر حولي، كان يُدهشني مدى تنوُّع اهتمامات هذا الرجل؛ فها هو صندوق من العملات القديمة، وخزانة تمتلئ بالأدوات الحجرية، وخلف طاولته الأساسية، كانت تُوجد خزانةٌ ضخمة تمتلئ بالعظام الأحفورية، وبالأعلى كان يُوجد صفٌّ من الجماجم المصنوعة من الجَص، والتي لُصِقَ على أسفلها تلك الأسماء: «نياندرتال»، «هايدلبرج»، و«كرومانيون» (الإنسان الأول). كان واضحًا أنه يدرس العديد من الموضوعات. وبينما كان يقف أمامنا الآن، كان يحمل في يده اليُمنى قطعة من جلد الشامواه التي كان يُلَمِّعُ بها إحدى العملات المعدنية.

«إنها تعود لأفضل فترةٍ في مدينة سرقوسة.» هكذا شرح وهو يُمسِك بها لأعلى، «لقد تدهور حالها كثيرًا قرب النهاية. أجد أنها الأرقى، ولكن يُفضِّل البعض المدرسة السكندرية. ستجد هنا مقعدًا يا سيد هولمز، اسمح لي أن أُزيح عنه هذه العظام. وأنت يا سيدي — أوه، أجل، الدكتور واطسون — أستأذنك أن تضع المَزهَرية اليابانية جانبًا. ما تراه حولي هي اهتماماتي المتواضعة في الحياة. دائمًا ما يحاضرني طبيبي عن أهمية الخروج من المنزل، ولكن لماذا يجب عليَّ الخروج وأنا لديَّ هنا الكثير ليشغلني؟ يمكنني أن أُؤكِّد لك أن عملية الفهرسة الصحيحة لواحدةٍ من تلك الخزانات قد تَستَغرق من وقتي ثلاثة أشهر.»

نظر هولمز حوله بفضول.

وسأل قائلًا: «ولكن هل تعني أنك لا تخرج أبدًا؟»

«أذهب بالسيارة إلى دار مزادات سوذبيز أو كريتستيز بين وقتٍ وآخر، ولكنني نادرًا ما أُغادر غرفتي لغير ذلك. أنا لستُ قويَّ البنية، وأبحاثي تستهلك الكثير من طاقتي. ولكن يمكنك التخيُّل يا سيد هولمز كم كانت صدمةً مرعبة، جميلةً ولكن مرعبة، بالنسبة لي عندما سمِعتُ عن هذه الثروة التي ليس لها نظير. لا ينقص سوى شخصٍ آخر يحمل اسم جاريديب لإتمام الأمر، وبالتأكيد يُمكننا العثور عليه. كان لي أخٌ، ولكنه مات، والأقارب من النساء لا يستوفين الشرط، ولكن من المُؤكَّد أنه يُوجد آخرون في هذا العالم. لقد سمعتُ أنك توليتَ قضايا غريبة؛ ولذا أرسلتُ إليك. بالطبع هذا السيد الأمريكي مُحِق تمامًا، وكان يتعين عليَّ أن آخذ بنصيحته أولًا، ولكنني تصرفتُ لما فيه مصلحة الجميع.»

قال هولمز: «أعتقد أنك تصرَّفتَ بحكمةٍ بالغة بكل تأكيد، ولكن هل أنت حريصٌ حقًّا على امتلاك عقارات في أمريكا؟»

«بالطبع لا يا سيدي، لن يُغريني أي شيء لترك مجموعتي، ولكن هذا السيد قد أكَّد لي أنه سيشتري حصتي بمجرد إتمامنا ما يُمَكِّنُنا من المطالبة بحِصصِنا، والحصة المحددة لكل واحدٍ منَّا هي خمسة ملايين دولار. يُوجد في السوق الآن عشرات العيِّنات التي ستسُد النقص في مجموعتي، ولا يمكنني شراؤها لأنني لا أملك بضع مئات من الجنيهات. تخيل ما يمكنني فعله بخمسة ملايين دولار! يا إلهي! لديَّ نواةٌ لتكوين مجموعةٍ قومية، سأصبح هانز سلون عصري.»

لَمعَت عيناه وراء نظَّارته الضَّخمة. كان من الواضح أن السيد ناثان جاريديب لن يَدَّخر جهدًا في العثور على شخصٍ يحمِل الاسم نفسه.

قال هولمز: «لقد اتصلتُ لأتعرَّف عليك فحسبُ. ليس لديَّ أي سبب لأشغلك عن أبحاثك. أُفضِّل تكوين علاقةٍ شخصية مع مَن أعمل معهم، وأرغب في سؤالك بعض الأسئلة؛ إذ إنني مُلمٌّ بقصتك بكل وضوح، وقد أكملتُ ما كان ينقصها عندما اتصل بي هذا الرجل الأمريكي. كما أفهم، أنت لم تكن على علمٍ بوجوده حتى هذا الأسبوع، صحيح؟»

«أجل، لقد اتصل بي الثلاثاء الماضي.»

«هل أخبرك بمقابلتنا اليوم؟»

«أجل، لقد اتَّصل بي مباشرة وكان يَستشيط غضبًا.»

«ولماذا كان غاضبًا؟»

«كان يعتقد بأن الأمر شكلٌ من أشكال الإساءة لسُمعته، ولكنه عندما عاد من مُقابلتك كان في مِزاجٍ جيِّد كما كان في البداية.»

«هل اقترحَ أي خطة عمل؟»

«لا يا سيدي، لم يفعل.»

«هل سبق أن أخذ أو طلب منك أيَّ مال؟»

«كلا البتة يا سيدي!»

«هل ترى أيَّ هدفٍ محتملٍ لديه؟»

«لا شيء باستثناء ما يقوله.»

«هل أخبرته عن موعدنا الذي حدَّدناه عبرَ الهاتف؟»

«أجل يا سيدي، أخبرته.»

سرح هولمز في أفكاره، كنت أستطيع رؤية الحيرة في عينَيه.

«هل لديك أي مقالاتٍ قَيِّمَة ضمن مجموعتك؟»

«لا يا سيدي، فأنا لست رجلًا غنيًّا؛ إنها مجموعةٌ جيدة، ولكنها ليست قَيِّمَة.»

«ألا تخشى اللُّصوص؟»

«لا، إطلاقًا.»

«منذ متى تعيشُ في هذا المكان؟»

«ما يقرُب من خمس سنوات.»

قاطع استجواب هولمز صوت طرقٍ مستمرٍّ على الباب. وبمجرد أن فتح عميلنا الباب، اندفع المحامي الأمريكي داخل الغرفة مُفعمًا بالحماسة.

صاح قائلًا وهو يُلوِّح بورقة فوق رأسه: «ها أنت ذا! فكرتُ في أنني يجب أن آتي في الوقت المحدَّد لأضمن وجودك. تهانيَّ يا سيد ناثان جاريديب، لقد صرتَ رجلًا غنيًّا يا سيدي! لقد تم الأمر بنجاح وكل شيءٍ على ما يُرام. أمَّا بالنسبة لك يا سيد هولمز، فلا يسعنا سوى الاعتذار منك إذا كنا قد تسبَّبنا لك في أيِّ متاعبَ بلا طائل.»

سَلَّمَ الورقة إلى عميلنا، الذي وقف يُحدِّق في إعلانٍ موضوعٍ عليه علامة. مِلتُ أنا وهولمز إلى الأمام وقرأنا ما كُتِب في الإعلان من فوق كتفه:

هوارد جاريديب
مهندس آلاتٍ زراعية

آلات حزم وحصد وبخار، ومحاريث يدوية، وآلات حفر، وجرافات، وعربات مزارعِين، وعربات بأربع عجلات يجرها الخيول، وكل المستلزمات الأخرى.
حساب نسب الآبار الارتوازية.
راسلنا على مباني جروسفينور، أستون.

شهق مُضيفنا قائلًا: «رائع! لقد وجدنا ثالثنا!»

قال الأمريكي: «لقد أجريتُ تحقيقاتٍ في برمنجهام، وقد أرسل لي وكيلي هناك هذا الإعلان من صحيفةٍ محلية. لا بد أن نتحرك على الفور لنتمم الأمر بنجاح، لقد أرسلت جوابًا لهذا الرجل وأخبرتُه أنك ستقابله في مكتبه بعد ظهر الغد في الرابعة عصرًا.»

«هل تريدني «أنا» أن أقابله؟»

«ما رأيك يا سيد هولمز؟ ألا تجد أن هذا أكثر حكمة؟ فأنا لن أكون سوى أمريكيٍّ مُرتحِل يقص حكايةً مدهشة، فلِمَ سيُصدق ما أقوله؟ ولكن أنت بريطانيٌّ ذو أصول عريقة، وهو ما سيجعله ينتبه لما تقول. يُمكنني أن آتي معك إذا أردتَ، ولكن يومي غدًا سيكون مشغولًا، ويمكنني أن أَلحَق بك في أي وقت في حال واجهتَ أيَّ مشكلة.»

«حسنًا، لم أقُمْ برحلةٍ كهذه منذ سنوات.»

«الأمر بسيط يا سيد جاريديب، لقد وجدتُ مَن نحتاجُه بالفِعل. ستغادر في الثانية عشرة ظهرًا وستصل هناك بعد الثانية بقليل، ثم يُمكنك أن تعودَ في الليلة. كل ما عليك القيام به هو رؤية هذا الرجل وشرح الأمر له، والحصول على إقرار يُثبت وجوده على قيد الحياة. يا إلهي!» هكذا أضاف بحَنق، «أعتقد أن سفرك مائة ميل لإتمام هذا الأمر لا يُعتبر أيَّ شيء مقارنة بما فعلتُه، أنا من أتيتُ من وسط أمريكا.»

قال هولمز: «هذا صحيح، أعتقد أن ما يقوله هذا الرجل صحيح تمامًا.»

هز السيد ناثان جاريديب كتفَيه بكآبة، وقال: «حسنًا إذا كنت تُصِرُّ على أن أذهب، فبلا شك يصعب عليَّ أن أرفُض لك أيَّ طلب مقارنة بالأمل العظيم الذي جلبتَه لحياتي.»

قال هولمز: «إذن فقد اتفقنا، وبلا شك ستُبلِغني بما حدَث في أقرب وقتٍ ممكن.»

رد الأمريكي: «سأحرص على ذلك.» ثم أردف وهو ينظر إلى ساعته قائلًا: «لا بد أن أذهب، سأتصل بك غدًا يا سيد ناثان؛ لأصطحبك إلى برمنجهام. هل أنت ذاهبٌ يا سيد هولمز؟ حسنًا، إذن إلى اللقاء وأتمنى أن يكون لدينا أخبارٌ جيدةٌ لك غدًا.»

لاحظتُ أن وجه صديقي قد صفا عندما غادر الأمريكي الغرفة، واختفت نظرة الحَيرة العميقة.

قال للسيد جاريديب: «أتمنى لو كنتُ أستطيع رعاية مجموعتك يا سيد جاريديب؛ ففي مهنتي، تفيد كل أنواع المعرفة الغريبة، وغرفتك هذه مستودعٌ لتلك المعارف.»

أشرق وجه عميلنا سعادةً ولَمعَت عيناه من وراء نظارته الكبيرة.

ردَّ قائلًا: «لقد سمِعتُ دومًا يا سيدي أنك رجلٌ شديدُ الذكاء، يمكنني أن آخذك في جولةٍ الآن إن كان لديكَ وقت.»

«لا للأسف، ليس لديَّ وقت. ولكن هذه العيِّنات مُعنونةٌ ومصنَّفة بعناية بحيث إنها لا تتطلب منك أن تُقدِّم لي شرحًا. لا أعتقد أنك ستعترض لو زُرتك زيارةً سريعةً غدًا لأُلقي عليها نظرة، اتفقنا؟»

«بالطبع، مجيئُك على الرُّحب والسَّعة. سيكون المكان مُغلقًا بالطبع، ولكن السيدة سوندرز تكون في القَبو حتى الرابعة، وستُدخلك بمفتاحها.»

«حسنًا، لن أكون مشغولًا غدًا بعد الظُّهر؛ لذا سأكون شاكرًا لو أبلَغتَ السيدة سوندرز بقدومي. بالمناسبة، مَن هو سمسار تأجير العقار؟»

اندهش عميلُنا من السؤال المفاجئ.

«هولواي وستييل، في طريق إدجوير، ولكن لِمَ تَسأل؟»

قال هولمز وهو يضحك: «أنا عالم آثارٍ عندما يتعلَّق الأمر بالمنازل، كنت أتساءل ما إن كان المنزل على الطراز الجورجي أم الملكة آن.»

«الطراز الجورجي، بلا أدنى شك.»

«حقًّا؟ كنت أظنه أقدم قليلًا، ومع ذلك، فقد تأكد الأمر بيُسر. حسنًا، إلى اللقاء يا سيد جاريديب، أتمنى لك النجاح في رِحلتِك إلى برمنجهام.»

كان مقر شركة سمسار تأجير العقار قريبًا، ولكننا وجدناه مُغلقًا، فعدنا باتجاه شارع بيكر. لم يُشِر هولمز إلى الموضوع إلا بعد العشاء.

قال: «تقترب مشكلتنا الصغيرة من الحل، لا أشكُّ في أن لديك تصوُّرًا عن الحل في ذهنك.»

«أنا في حَيرة من أمري؛ لا يمكنني تبيُّن رأسِ الأمر من ذَيله.»

«رأسُه واضح بما يكفي. أما بالنسبة لذَيله، فسنعرفه غدًا. أوَلم تلاحظ أي شيءٍ غريبٍ في الإعلان؟»

«وجدتُ أن كلمة «محراث» مكتوبةٌ إملائيًّا بشكلٍ خاطئ.»

«أوه، هل لاحظت ذلك؟ بِربِّك يا واطسون، إنك تتطور طُوالَ الوقت. أجل، لقد كانت لغةً إنجليزيةً سيئة، ولكنها أمريكيةٌ سليمة. لقد طُبِعَ طِبقًا لما استلموه مكتوبًا. ثم إن كلمة buckboards (عربات بأربع عجلاتٍ يَجرُّها حِصان) أمريكيةٌ أيضًا. كما أن عبارة «الآبار الارتوازية» يشيع استخدامُها هناك عنها هنا. لقد كان إعلانًا أمريكيًّا مثاليًّا، ولكنه يَزعم أنه من شركةٍ إنجليزية؛ فما الذي تستَنجُه من ذلك؟»

«يمكنني الافتراض فقط بأن هذا المحامي الأمريكي هو من نشَر الإعلان، غيرَ أنني لا أفهم هدفه من ذلك.»

«حسنًا، تُوجد تفسيراتٌ بديلة. على أية حال، كان يرغب في أن يُرسل هذه الحفرية القديمة إلى برمنجهام، هذا أمرٌ واضح. كان يمكنني أن أُخبِره بأنه ذاهب لمطاردةٍ برِّية، ولكن بعد إعادة تفكير، بدا لي أنه من الأفضل أن أُفسِح له المجال بالذَّهاب إلى هناك. غدًا يا واطسون؛ حسنًا، غدًا سيُفصِح عن خباياه.»

استيقظ هولمز وخرج باكرًا، وعندما عاد في وقتِ الغَداء، لاحظتُ أن وجهه كان شديد التجهُّم.

«إنها مسألةٌ أكثر خُطورةً مما توقعتُ يا واطسون. من الإنصاف أن أُخبرك بذلك، على الرغم من أنني أعلم أن ما سأقوله لن يكون سوى سببٍ إضافي لِتُقحِم نفسك في المخاطر؛ فأنا أعرفك تمام المعرفة الآن. ولكن تُوجد مخاطر، ويجب أن تعلَمها.»

«حسنًا، إنها ليست المرَّة الأولى التي نعمل فيها معًا يا هولمز، وأَتمنَّى ألَّا تكون الأخيرة. ما هو الخطر هذه المرة؟»

«إننا نُواجه قضيةً صعبةً للغاية، لقد اكتَشفتُ أن السيد جون جاريديب المستشار القانوني، هو نفسه «إيفانز القاتل» المعروف بِشرِّه ودمويته.»

«ما زلتُ لا أفهم شيئًا.»

«أوه، حِفظُ نسخةٍ من سجلَّات سجن نيوجيت في ذاكرتك لا يُعتبر جزءًا من مِهنتك. لقد ذهبتُ لرؤية صديقي لستريد في شرطة سكوتلانديارد؛ فعلى الرغم من أنهم يُعانون هناك من نقص الخيال أحيانًا، فإنهم يأتون في صدارة العالم لدقتهم ومنهجيتهم. لقد واتتني فكرة وهي أننا قد نقتفي آثار صديقنا الأمريكي في سجلاتهم، وكما هو متوقع، وجدتُ وجهَه السمين يبتسم لي في مَعرض صور المُجرمِين. أسفل صورته كُتب الآتي: «جيمس وينتر»، معروف باسم موركروفت، واسمه المستعار هو «إيفانز القاتل». سحب هولمز ظرفًا من جَيبه وأردَف: «لقد دوَّنتُ بعضَ المعلومات من ملفه؛ سِنه أربعة وأربعون عامًا، من مواليد شيكاجو، معروف بأنه قد أطلق النار على ثلاثة رجال في الولايات المتحدة، هرَب من السجن عن طريق النفوذ السياسي. أتى إلى لندن في عام ١٨٩٣، أطلق النار على أحد الرجال بسبب خلاف على أوراق اللعب في نادٍ ليلي بطريق ووترلو في يناير عام ١٨٩٥، لقي الرجل حتفه، ولكن تبين أنه كان هو المعتدي في هذا الشجار. تَمَّ التعرُّف على القتيل، وهو روجر بريسكوت المشهور بأنه مُزوِّر ومُزيف عملات في شيكاغو. تم إطلاق سراح «إيفانز القاتل» في ١٩٠١، وهو قيد مراقبة الشرطة منذ ذلك الحين، ولكنه معروفٌ بأنه يعيش حياةً صالحةً حتى الآن. رجلٌ شديد الخطورة، عادةً ما يَحمِل الأسلحة ويكون مستعدًّا لاستخدامها.» هذا هو طائرُنا يا واطسون — وهو طائرٌ مُسلٍّ، لا بدَّ أن تعترف بذلك.»

«ولكن ما هي خُطَّتُه؟»

«حسنًا، لقد بَدأَت خطته في الكشف عن نفسها. لقد ذهبتُ إلى سمسار تأجير العقار. كما أخبرنا عميلُنا، فإنه يعيش هناك منذ خمس سنوات، وقبل ذلك ظلَّت الشقةُ سنة كاملة دون أن تؤجر. كان المستأجر السابق رجلًا محترمًا بشكل عام واسمه والدرون؛ لقد تذكروا مظهرَه جيدًا في المكتب. لقد اختفى فجأةً ولم يُسمَع عنه أيُّ شيء بعد ذلك. كان طويلًا ذا لحيةٍ وملامحَ داكنة. حسنًا، بريسكوت الرجل الذي قتله «إيفانز القاتل» كان، طبقًا لسكوتلانديارد، رجلًا طويلًا داكنَ البشرةِ وذا لحيةٍ. كافتراضٍ عملي، أعتقِدُ أننا يمكن أن نَعتبر أن المجرم الأمريكي بريسكوت كان يعيش في نفس الغرفة التي يُخصِّصها صديقُنا البريء الآن لِمُتحفه. أخيرًا حصَلنا على حلقة وَصلٍ كما ترى.»

«وماذا عن حلقة الوصل التالية؟»

«حسنًا، يجب أن نذهب الآن بحثًا عنها.»

أخرج مسدسًا من الدُّرج وأعطاه لي.

«معي مسدسي القديم المفضَّل، إذا حاول صديقنا راعي البقر أن يعود لممارساته القديمة، فلا بد أن نكون مُستعِدَّين له. سأُعطيك ساعةً للقَيلولة يا واطسون، وأعتَقد أن بعدها سيَحين الوقتُ لمُغامرتنا في شارع رايدر.»

كانت الساعة لم تَتعدَّ الرابعة حينما وصَلنا شقة ناثان جاريديب العجيبة. كانت السيدة سوندرز حارسة المنزل على وشك المغادرة، ولكنها لم تتردَّد في إدخالنا. أُغلِقَ الباب بقفلٍ زنبركي، ووعدها هولمز بأنه سيتأكَّد من أن كل شيءٍ آمنٌ قبل مغادرتنا. بعد ذلك بفترةٍ وجيزة أُغلِقَ الباب الخارجي، ورأينا قبعتَها تمرُّ عبر النافذة البارزة، فعرفنا أننا صِرنا وحدنا في الطابق السفلي من المنزل. فحص هولمز المبنى فَحصًا سريعًا. كانت تُوجد خزانة في ركنٍ مظلم تَبعُد قليلًا عن الحائط. جثَمنا وراءَها أخيرًا، بينما أفصح هولمز عن نوايا القاتل قائلًا: «لقد أراد أن يُخْرِج صديقَنا اللطيف من غرفته؛ هذا في غاية الوضوح، وبما أنه لم يَخرُج منها قَط، فقد احتاج الأمر إلى بعضِ التخطيط؛ كل قصة اسم جاريديب المزيفة هذه لم يكن لها أي هدفٍ آخرَ كما يبدو. يجبُ أن أقول يا واطسون إنَّ هذه الخطة تتَّسم بشيء من البراعة الشيطانية؛ حتى ولو كان اسم المستأجر الغريب هو ما أوحى له بفكرةٍ لم يكن ليتوقعها قَطُّ؛ فقد حاكَ مؤامرته ببراعةٍ استثنائية.»

«ولكن ما الذي يريده؟»

«حسنًا، هذا هو ما نحن هنا لأجله. بقَدْر ما أستطيع قراءة الوضع حتى الآن، فالأمر لا يتعلق من قريب أو من بعيد بعميلنا، بل بالرجل الذي قتله وربما كان شريكه في الجريمة. تُخبِّئ هذه الغرفة سر إدانةٍ بين جدرانها، هكذا رأيتُ الأمر. في البداية، كنت أظن أن صديقنا قد يكون لديه شيءٌ في مجموعته أعظمَ قيمة مما يعلم؛ شيء يستحق لفت انتباه مجرمٍ عاتٍ. ولكن تشير حقيقة أن روجز بريسكوت ذا السمعة السيئة كان يسكن في هذه الغرفة إلى سببٍ أعمق. حسنًا يا واطسون، يجب أن نتحلى بالصبر ونرى ما قد تحمله لنا الساعة القادمة.»

لم تمر الساعة علينا ببطء؛ فقد جثم كلٌّ منا قريبًا من الآخر في الظلام، ونحن نسمع صوت الباب الخارجي يُفتح ثم يُغلق. ثم سمعنا صوت طقطقةٍ معدنيةٍ حادةٍ لأحد المفاتيح، وصار الأمريكي داخل الغرفة. أغلق الباب بهدوءٍ خلفه، وألقى نظرةً ثاقبةً سريعة حوله ليتأكد من أن كلَّ شيء كان آمنًا، ثم ألقى بمِعطفه وسار تجاه الطاوِلة الرئيسية بحماسِ مَن يعلم ما يَتحتَّم عليه فعله بالضبط. دفع الطاوِلة إلى أحد الجوانب ومزَّق جزءًا من البساط الذي كانت الطاولة موضوعةً فوقه، ثم طَواه بالكامل وسحب عتَلةً صغيرةً من جيبه الداخلي، وركع وبدأ يعمل بسرعةٍ في شيءٍ ما على الأرض. سمعنا صوت ألواحٍ مُنزلِقة، وبعد ثوانٍ معدودة، فُتِحَ مربَّع في الألواح الخشبية. أخرج «إيفانز القاتل» ثِقابًا وأضاء عُقب شمعة واختفى عن أنظارنا.

حان وقت تدخُّلنا كما هو واضح. لمس هولمز مِعصَمي كإشارة لنتحرك، وسرنا معًا بهدوء نحو الباب السري المفتوح. وعلى الرغم من أننا كنا نتحرك بخفَّة، لا بد أن الأرضية القديمة قد أصدَرَت صوت طقطقةٍ أسفل قدمَينا؛ إذ إن رأس صديقنا الأمريكي استدار بقلَق، ونظر حوله بحثًا عن مصدر الصوت وظهر رأسه فجأةً من الباب المفتوح. تحوَّل وجهه نحونا ونظر إلينا بمزيج من الغضب والحَيرة اللذَين تحوَّلا تدريجيًّا إلى ابتسامة خِزيٍ عندما أدرك وجود مسدسَين موجهَين نحو رأسه.

«حسنًا، حسنًا!» هكذا قال ببرود وهو يصعَد بسرعة خروجًا إلى السَّطح، «أعتقد أنني لم أكن ندًّا لك يا سيد هولمز. لقد كشفتَ لُعبتي، كما أفترض، واعتبرتَني مغفَّلًا منذ البداية. حسنًا يا سيدي، أعترف بتفوُّقك؛ لقد غلَبتَني و …»

في طرفة عين كان قد أخرج مسدسًا من جيبه وأطلق طلقتَين. شعرتُ بحُرقةٍ مفاجئة كما لو أن قطعة من الحديد الملتهب قد ضُغِطَت على فخذي. ضرب هولمز بكعب مسدسه رأس الأمريكي فسُمِعَ صوتُ ارتطام، ورأيتُه وهو يقع مُمدَّدًا على الأرض والدماء تسيل على وجهه بينما كان يُفتِّشه هولمز بحثًا عن أي أسلحة. ثم وجدت ذراعَي صديقي النحيلتَين القويتَين تُحيطان بي وهو يقودني إلى أحد المقاعد.

«أنت لم تُصَب يا واطسون، أليس كذلك؟ بحق الرب أخبرني بأنك لم تُصَب!»

كان الأمر يستحق جُرحًا، بل الكثير من الجروح، لأعلم مدى الولاء والحب الذي يُخفيه هولمز خلف هذا القِناع البارد. خَفتَ بريق عينَيه الواضحتَين القاسيتَين لوهلة، واهتزت شفتاه الحازمتان. شهِدتُ للمرة الأولى والوحيدة لمحةً تُبيِّن كم أن قلبه جميل وعقله عظيم. بَلغَت كل سنوات عملي المتواضعة والمتفانية أَوجَها في تلك اللحظة الكاشفة.

«ليس بالأمر الكبير يا هولمز، إنه مجرد خَدش.»

مزَّق سروالي بسِكين جيبه.

صاح وهو يتنفس الصُّعَداء ارتياحًا: «أنت مُحق، إنه جرحٌ سطحيٌّ إلى حدٍّ ما.» كان وجهه جامدًا كالحجر وهو ينظر بسَخَط إلى سجيننا الذي كان يَجلِس ووجهه مذهولٌ، ثم قال: «بحق الرب! هذا من حُسن حظك؛ فلو كنتَ قتلتَ واطسون، ما كنت ستخرج من هذه الغرفة حيًّا. والآن يا سيدي، ماذا لديك لتقوله دفاعًا عن نفسك؟»

لم يكن لديه ما يقوله، فقط كان يجلس عابسًا. مِلتُ على ذراع هولمز، ونظرنا معًا إلى أسفلَ داخل القَبو الصغير الذي ظهر بعد أن انفتح الباب الأرضي السري. كان لا يزال مُضاءً بنور الشمعة التي أخذها إيفانز معه إلى الأسفل. وَقعَت أعيُننا على كتلة من الآلات الصدِئة، ولفائفَ ضخمةٍ من الورق ومجموعةٍ من الزجاجات المُبعثَرة، وعددٍ من الحِزَم الصغيرة الأنيقة التي وُضِعَت بعنايةٍ على طاولةٍ صغيرة.

قال هولمز: «آلة طباعة؛ المُعدَّات التي يستخدمها المُزَوِّر.»

«أجل يا سيدي.» هكذا قال سجيننا وهو يترنَّح ببطءٍ ليقف على قدمَيه ثم انهار جلوسًا على المقعد وأردف قائلًا: «إنَّه أعظمُ مُزَوِّرٍ شَهِدَته لندن على الإطلاق. هذه آلة بريسكوت، وتلك الحِزم على الطاولة هي ألفا جنيهٍ من نقود بريسكوت من فئة المائة جنيه ويُمكِن التعامل بها وقَبولها في أيِّ مكان. تفضَّلوا يا سادة، لنُسمِّها صفقةً ودعوني أمضي إلى حال سبيلي.»

ضحك هولمز.

«ليست هذه الطريقة التي نعملُ بها يا سيد إيفانز؛ لا يُوجد مكانٌ آمن لتهرُب إليه في هذا البلد. لقد أرديتَ السيد بريسكوت قتيلًا، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، ونِلتُ حكمًا بخمس سنوات لِقاءَ ذلك، على الرغم من أنه هو من أشهر سلاحه في وجهي أولًا. سُجِنتُ خمس سنوات، في حين أنني كان يجب أن أَحصُل على ميداليةٍ بحجم صَحْن الحَساء. لا يُمكن لأيِّ إنسان على الأرض أن يُميِّز ما بين نقود بريسكوت المُزوَّرة ونقود بنك إنجلترا، ولو لم أَقتلْه لكان قد غمر لندن بها. كنتُ أنا الشخص الوحيد في العالم الذي يعلم أين كان يصنع تلك النقود. هل يُمكِنك أن تُثبِت بأنني كنت أريد الحصول على هذه الغرفة؟ وهل يمكنك أن تُثبِت بأنني عندما وَجدتُ هذا المجنون المعتوه صائد الحشرات الذي لا يَبرَح غرفته أبدًا هو واسمه الغريب مُعلَّقًا على الباب، كان لا بد أن أفعل كل ما بِوُسعي لِأُخرجه منها؟ ربما كان من الحصافة أن أقتله. كان الأمر سيكون سهلًا بما يكفي، ولكنني رجلٌ طيب القلب لا يُبادر بإطلاق النار إلا إذا كان من أمامه يحمل مُسدسًا. ولكن على أية حال، أخبِرْني يا سيد هولمز ما هو الخطأ الذي ارتكبتُه؟ أنا لم أستخدم هذا المسدَّس، ولم أُلحِق الأذى بهذا الرجل العجوز، فما الذي تُدينُني به؟»

قال هولمز: «على حسب ما أرى حتى الآن، فقط تهمة الشروع في القتل. ولكن هذا ليس عملنا، سيأتي هذا الأمر لاحقًا. ما كنا نرغب فيه حاليًّا هو الإمساك بك فحسب. اتَّصِلْ بشرطة سكوتلانديارد يا واطسون أرجوك، لن يكون الأمر مفاجئًا بالنسبة لهم.»

كانت هذه إذن هي الحقائق الخاصة بالقاتل إيفانز وقصته البارعة التي تتعلق بالرجال الثلاثة الذين يَحمِلون اللقب جاريديب. سمعنا لاحقًا أن صديقنا العجوز المسكين لم يتجاوَزْ صدمةَ أحلامه التي ضاعت هباءً أبدًا. وعندما انهارت قِلاع الأحلام التي رسمَها في خياله، دُفِن هو أسفل حُطامها. وكان آخر ما سُمع عنه أنه دخل دارًا لرعاية المسنِّين في بريكستوت. أمَّا بالنسبة لشرطة سكوتلانديارد، فقد سَعِدوا باكتشاف مُعدَّات بريسكوت؛ فعلى الرَّغم من معرفتهم بوجودها، فلم يتمكَّنوا قَط بعد مَوته من معرفة مكانها. أسدى إيفانز بالطبع خدمةً عظيمةً، وتسبَّب في أن ينام العديد من رجال قسم التحقيق الجنائي المُهمِّين نومًا هنيئًا؛ إذ كان هذا المُزَوِّر مَوضوعًا في تصنيفٍ قائمٍ بذاته كتهديدٍ للأمنِ العام. كان من الممكن أن يُوافِقوا على اقتراح هذا المجرم بمنحِه ميداليةً بحَجم صحن الحَساء، غير أنَّ القاضي غير المُتعاطِف كانت له وجهةُ نظرٍ أخرى. وها قد عاد القاتل إيفانز مرةً أخرى إلى ظُلمات السجن التي كان قد خرج منها لتوِّه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤