اكتشاف نبيل فرنسي للخوف
سمعت القصة التي سأُدونها الآن من توربين مرتَين، الأولى قبل أن يفهم أغلب أحداثها، والثانية بعدما فهم بعضًا من أحداثها، ولكني أشكُّ في أنه سيتمكن من استيعاب ما حدث له بشكلٍ كامل حتى يوم مماته.
لم تسنح لي الفرصة لتعريفكم بتوربين كما ينبغي، ولستُ واثقًا من أن أوان فعل ذلك قد فات على أية حال. كنتُ معجبًا بهذا الرجل الفرنسي كثيرًا، ولكني أعتقد أنه لا يوجَد عِرق على الأرض أصعب في فهمه على البريطاني العادي من هذا العِرق. فيما يخصُّني، يُمكنني فهم الجندي الألماني السابق بسهولة. كنت أعلم أنه شجاع مثل المُقاتلين الوحشيين، ومتهور للغاية، ولكنه يمتلك تلك الحكمة الداخلية التي ورثها عن أسلافه اللاتينيين والتي تجعل تهوُّره أقل خطورة من الإنجليز على المدى الطويل. كان سريع الانفعال، وحادَّ المزاج، ومبدعًا، ويجدُر بي القول بشكلٍ عام إنه سريع التأثر بالمؤثرات مثل تلك التي يستخدمها مِدينا. ولكني حذَّرتُه مسبقًا. وأخبرته ماري بالخطوط العريضة للمهمة، وكان يؤدي الدور الذي حدَّدَتْه له ماري بطاعةٍ تامة كأنه طفل مهذب. ولكني أخطأت في تقدير قدرته على التحكُّم في انفعالاته. لقد رأى الفتاة التي يُحب تعيش حياةً مُهينة، ولا شك في أنه كان يُعذبه ألا يفعل شيئًا لإنقاذها. ولكنه لم يُحاول أن يُعيد لها ذاكرتها، بل انتظر أوامر ماري في طاعة، وأدَّى دور الراقص المُدعي الأبله ببراعةٍ تُقارب الكمال.
عندما بدأ العراك مع آرتشي، وبدأ الجميع يركضون من حوله، شعر أنه يجدُر به ألا يشارك. ثم سمع آرتشي يذكر اسمه الحقيقي، وأدرك ما سيُسببه ذلك من خطر، فلم يكن ثمة أحد يعرفه سوى ماري، فكان معروفًا باسم السيد كلود سيمون من بوينس أيرس. عندما رأى صديقه يواجِه الملاكم، انطلق دون أن يشعر لمساعدته، ولكنه توقف في الوقت المناسب واستدار ليعدو نحو الباب. كان الرجل ذو اللحية السوداء يُحدق فيه، ولكنه لم يقل شيئًا.
بدا أن ثمة الكثير من الهرج والمرج عند قاعدة الدرج. أمسكَت واحدة من الفتيات بذراعه. وهمست له: «هذه الطريق غير مناسبة. ثمة معركة تدور هناك. ثمة طريق أخرى إلى الخارج. لا تُريد أن يتصدَّر اسمك عناوين الصحف غدًا.»
تبعها إلى ممرٍّ جانبي صغير كان خاليًا تقريبًا ومُظلمًا تمامًا، وهناك تَرَكَته. كان على وشك البدء في البحث عنها عندما رأى رجلًا لاتينيًّا ضئيل الحجم كان يعرف أنه أحد السُّقاة. قال الرجل: «اصعد الدَّرَج يا سيدي. ثم انحرف في الممر الأول ناحية اليسار، ثم اهبط الدرج. وستخرج في فناء مرآب أبوللو. أسرع أيها السيد قبل أن تصِل الشرطة.»
أسرع توربين صاعدًا الدَّرَج الخشبيَّ الشديد الانحدار، ووجد نفسه في ممرٍّ آخر مضاء جيدًا يوجَد باب عند كِلا طرفَيه. اختار الباب ناحية اليسار وحاول فتحه مُتسائلًا كيف سيستعيد قبعته ومعطفه، وماذا حدث لماري. انفتح الباب بسهولة، وبسرعة خطا خطوتَين للأمام. أُغلِق البابُ من خَلفِه، ووجَد نَفسَه في ظلامٍ دامس، فاستدار إلى الخلف ليفتَحه مجددًا ليحصل على بعض الإضاءة. ولكنه لم ينفتح. وبانغلاق هذا الباب، أصبح معزولًا عن العالم.
في البداية شعر بالغضب، ولكن بعد قليل، بعدما أدرك موقفه، أصبح قلقًا قليلًا. بدا المكان صغيرًا، ومُظلمًا تمامًا، ومكتومًا كأنه داخل خزانة. كانت الفكرة الرئيسية التي تدور في ذهنه في تلك اللحظة هي أن موضوع إلقاء القبض عليه وسط مشاجرةٍ في مرقص لن يكون مفيدًا لسمعته، فقد ذكر آرتشي بغبائه اسمَه الحقيقي، وربما كان الضرر الناتج عن ذلك شديدًا. ولكنه سرعان ما أدرك أنه خرج من خطرٍ ليتورَّط فيما كان على الأرجح خطرًا أسوأ. كان محبوسًا في خزانةٍ لعينة في منزلٍ يعلم جيدًا أن يخصُّ مجموعة من عتاة الإجرام.
بدأ يتحسَّس مُحيطه، ووجد أن المكان أكبر مما كان يظن. كانت الجدران عارية، وبدا أن الأرضية غير مفروشة، ولم يكن ثمة أي أثاث من حوله، ولم تكن ثمة نوافذ، وفقًا لما تمكَّن من رؤيته. لم يتمكن من العثور على الباب الذي دخل عبره، والذي لا بد أنه رُكِّبَ ليكون بنفس مستوى الجدران تمامًا من الداخل. بعد هنيهة أدرك أنه يتنفَّس بصعوبة، الأمر الذي سبب له الذعر، فدائمًا ما كان يرى أن الخوف من الاختناق هو الرعب الوحيد الذي لا يمكن لأي إنسانٍ أن يتخلَّص منه مهما بلغت شجاعته. كان يتنفس بصعوبة وكأنه دفن وجهه بقوة في وسادة. ثم تمالك نفسه بصعوبة، فقد أدرك أنه إذا ما ترك نفسه للهستيريا، فسيختنِق بسرعة أكبر.
ثم يقول إنه شعر بيدٍ تضغط على فمه. لا بد أنها تهيؤات، فقد أقر بأن المكان كان خاليًا، ولكن اليد عادت لتضغط على فمه المرة تلوَ الأخرى، يد كبيرة ناعمة تحمل رائحة الورود. بدأت أعصابه تفور، ولم تعد ساقاه قادرتَين على حملِه. هبطت عليه سحابة من الورود، وبدا أن تلك اليد المريعة المترهلة، التي بدت في ضخامة تل، كانت تخنقه. حاول أن يتحرك، أن يبتعِد عنها، وقبل أن يُدرك ما حدث، وجد نفسه راكعًا على ركبتَيه. حاول جاهدًا أن ينهض واقفًا على قدمَيه، ولكن كانت اليدان تضغطان عليه وتُثبِّتانه أرضًا، واكتنفته تلك الرائحة الحلوة المُثيرة للغثيان التي لا تُحتمَل، بين طياتها الكريهة. ثم فقد وعيَه.
لا يعرف كم بقي فاقدًا للوعي، ولكنه يظنُّ أنه ظلَّ كذلك ساعات عدة. وعندما استعاد وعيَه، لم يعُد داخل الخزانة. كان راقدًا على أريكة في غرفةٍ شعر برحابتها، فقد تمكن من التنفُّس جيدًا، ولكن كان الظلام لا يزال دامسًا وكأنه في قاع بئر. كان يشعر بصداعٍ قوي، ويشعر بأنه يريد التقيؤ وبأنه أبلَهُ مثل بُومة. لم يتمكن من تذكُّر كيفية وصوله إلى هنا، ولكن عندما سقطت يدُه على صدر قميصه، وكان لا يزال يرتدي ملابس السهرة، تذكر صياح آرتشي. كان هذا آخِر ما يتذكَّره بوضوح، وأفاقته هذه الفكرة، فقد ذكرته بالخطر الكبير المُحدق به. أخبرَني أنه في البداية كاد يختنق من الذعر، فقد كان يشعر بضعفٍ مُثير للاشمئزاز؛ ولكنه كان لا يزال يمتلك تعقلًا كافيًا جعله يسيطر على أعصابه. ظل يردِّد لنفسه: «يجب أن تكون رجلًا بحق. حتى إذا تعثرتَ وسقطتَ في الجحيم، يجب أن تكون رجلًا بحق.»
ثم سمع صوتًا يتحدَّث وسط الظلام، وبسماعه لهذا الصوت، اختفى أغلب ما كان يشعر به من ذُعر. لم يكن صوت شخص يعرفه، ولكنه كان صوتًا جميلًا، وكان يتحدث إليه بالفرنسية. لم تكن فرنسيةً عادية، بل اللكنة الفرنسية التي يتحدثها أهله في الوادي في جنوب البلاد، تلك اللهجة المليئة بالإدغامات السلسة الخاصة بمنطقة نشأته. بدا أن الصوت يُخفف عنه الصداع والدوار، ويُهدئ جميع أعصابه المتوترة، ولكنه كان يزيد من ضعفه. كان واثقًا من ذلك. كان هذا الصوت الودود يُعيده طفلًا من جديد.
لم يتذكَّر بوضوح ما قاله هذا الصوت. يظن أن الصوت ذكَّره بحياته خلال طفولته، القلعة القديمة التي تقع في منطقةٍ منعزلة فوق تلال الحجر الجيري، وأشجار الكستناء المكسوة بالريش في قاع الوادي، والبرك ذات المياه الصافية حيث تعيش أسماك السلمون الضخمة، وفصول الشتاء المكسوة بالثلوج عندما تخرج الذئاب من الغابة وتصل إلى أبواب المزارع، وفصول الصيف الحارة عندما يكون لون الطرق أبيض مُبهرًا للأعيُن، ويتحول العشب النامي على سفوح التلال إلى اللون الأصفر مثل الذرة. كانت تلك الذكريات مُختلطة، وأيًّا كان ما يقوله الصوت، كان تأثيره أقرب إلى عذوبة الموسيقى من الكلمات المنطوقة. كان للصوت تأثير مُهدئ خفَّف من اضطراب نفسه، لكنه سلبَه رجولته. كان يتحوَّل تدريجيًّا إلى عاجزٍ ذليل، وبليد مثل طفل ضعيف.
توقف الصوت عن الحديث، وشعر برغبة عارمة في النوم. وفجأة، بينما كان بين النوم واليقظة، رأى ضوءًا، نجمًا يلمع أمامه وسط الظلام. زاد لمعان النجم ثم خبا، ولم يتمكَّن من إبعاد عينَيه عنه. كان يُدرك في ثنايا عقله أن ثمة أمر شيطاني يحدُث، أمر يجب أن يُقاومه، ولكنه لم يتمكن من تذكر سبب شعوره هذا.
اتسع الضوء حتى أصبح شبيهًا بتلك الدائرة التي يصنعها جهاز عرض الصور على الشاشة. وبدأت رائحة غريبة تعبق الهواء من حوله، ليست رائحة الورد المَقيتة تلك، بل رائحة حريفة نفاذة حيَّرَتْه كونها مألوفة. أين شمَّها من قبل؟ ببطء بدأ يتشكل منها عالَم كامل من الذكريات.
كان توربين قد خدم قبل الحرب لبضع سنواتٍ في أفريقيا ضمن الجيش الاستعماري برُتبة ملازم في وحدة الصبايحية، وخرج ضمن العديد من البعثات الهندسية والعسكرية إلى الصحراء جنوب الحدود الجزائرية. لطالما كان يتفاخر أمامي بتلك الأيام الغابرة المجيدة، ذلك الشاب الذي لم يعُد من هناك. كانت هذه الرائحة هي رائحة الصحراء، الصحراء التي لا يمكن نسيانها أو ترويضها، والتي تمتدُّ من البحر المتوسط حتى غابات وسط أفريقيا، المكان الذي هام فيه يوليسيس على غير هدًى، عندما كان بحرًا، المكان حيث لا يزال سحر سيرسي وكاليبسو مُقيمًا، بقدْر ما يعلم العالم.
ووسط هالة الضوء، ظهر وجه، وجهٌ يسقط عليه الضوء بتركيز شديد لدرجة أن جميع خطوطه الظاهرة والخفية أصبحت أكثر وضوحًا. كان وجهًا يحمل ملامح شرقية، وجهًا عربيًّا نحيلًا بارز الوجنتَين ذا عينَين مسحوبتَين بصورة غريبة. لم يكن قد رآه من قبل، ولكنه الْتقى شيئًا مشابهًا عندما كان منخرطًا في السحر البدائي الصحراوي، والقُدور التي تفور ونيران الأعشاب الخضراء. كان في البداية وجهًا فقط، يختفي نصفُه، ثم بدا وكأنه يتحرك حتى ظهرت العينان، كما لو أن أنوارًا أُضيئت فجأة ليلًا بينما ينظر المرء إلى منزلٍ غارق في الظلام من الخارج.
شعر في أعماق كيانه بشعور كاد ينساه، بسحر ورعب الصحراء. كان وجهًا قاسيًا غير بشري، يعلم الربُّ وحدَه ما يُخفيه من أهوال وآثام عتيقة، ولكنه كان حكيمًا كأبي الهول وسرمديًّا كالصخور. بينما كان يُحدق في الوجه، بدا وكأنه يسيطر عليه ويُغلفه، وعلى حدِّ وصفه، يمتصُّ روحه من جسده.
لم يُخبره أحد عن خاراما. كان هذا هو الخطأ الوحيد الذي ارتكبَته ماري، وكان من الطبيعي أن يحدث، فلم يكن من المُرجَّح أن يلتقي بالرجل الهندي. ومن ثم، لم يكن عقله المسكين المشوش يملك أي شيءٍ لمساعدته في مقاومة هذا الكيان المُسيطر. ولم يحاول أن يفعل. قال إنه شعر أنه يسقط في سُباتٍ لذيذ، مثل غيبوبة تزحف على عقل إنسان يتجمَّد حتى الموت.
لم أتمكن من حمل توربين على تذكُّر إلا القليل مما حدث تاليًا. تحدث الوجه إليه، ولكنه لا يعلم إن كان قد تحدث إليه باللغة الفرنسية أم بلُغة أفريقية ما — كان يعتقد أنها الفرنسية — ولكنه واثق من أنها لم تكن الإنجليزية. فهمتُ مما قال أن العينَين والملامح كانت مهيبة لأقصى درجة، بينما كان الصوت ودودًا غالبًا. أخبرتُه أنه كان في خطر مُحدق، وأن الأمل الوحيد في النجاة يكمن في الاستسلام التام. إن حاول أن يتصرف بإرادته الحرة، سيهلك، وستوقظه مؤشرات كافية، عما يَعنيه هذا الهلاك، من سُباته وتُدخله في نوباتٍ من الفزع الطفولي. قال الصوت: «جسدك ضعيف ولا يقوى على الحركة، فقد وضع الله يدَه عليه.» وأدرك توربين فعليًّا أنه لا يملك قوة هُريرة حتى. «لقد سلمت إرادتك إلى الله حتى يعيدها هو إليك.» كان هذا أيضًا حقيقيًّا، فلم يكن توربين قادرًا على استحضار طاقة تُمكنه من تمسيد شعره، إلا إذا أُمر أن يفعل. قال الصوت: «ستكون في أمانٍ طالما ظللتَ نائمًا. ستظلُّ نائمًا حتى آمُرك بأن تستيقظ.»
ربما نام بالفعل، فقد كانت ثمة فجوة كبيرة في إدراكه. ما تذكَّره تاليًا هو أنه كان يرتجُّ فوق شيء له عجلات، ثم تدحرج فجأة على جانبه عندما انحرفت المركبة في منعطفٍ حاد. لم يستغرق استيقاظه هذه المرة وقتًا طويلًا. وجد نفسه في سيارة كبيرة مُرتديًا معطف المطر، وقُبعته ملقاة على المقعد المجاور له. كان جسده مُسجًّى بطوله الكامل تقريبًا، وكان مسنودًا في وضعية مريحة بوسائد. أدرك كل هذا سريعًا، ولكنه استغرق وقتًا أطول حتى تمكن من تذكُّر الماضي، ثم أصبح كل شيء مشوشًا وغامضًا. كان أكثر ما يتذكَّره بوضوح هو ذلك التحذير الذي يُخبره بأنه في خطرٍ جسيم، وأنه لن يكون في أمانٍ إلا إذا لم يفعل شيئًا. كان هذا التحذير مُنطبِعًا في ذهنه، وأدرك أنه حقيقي بسبب عجز أطرافه التام عن الحركة. تمكن بشِق الأنفس من أن يقلِبَ جسده من الرقود على جانبه إلى الرقود على ظهره، وكان يُدرك أنه إذا حاول الوقوف على قدمَيه، فسيسقط مكومًا على الأرض. أغمض عينَيه وحاول أن يفكر.
بدأ يستجمع أحداث الماضي تدريجيًّا. فتذكر صياح آرتشي، والأحداث التي سبقت ذلك، وماري، والفتاة ذات الثوب الأخضر. وسرعان ما هبطت عليه الحقيقة كالصاعقة. لقد اختُطف مثل بقية الرهائن، ومُورست عليه الحيل نفسها التي مُورست عليهم. ولكنها لم تؤثر إلا على جسده. عندما أدرك هذه الحقيقة المذهلة، شعر توربين بالفخر. لقد سلبه شيطانٌ ما قوته الجسدية، ولكنه لا يزال يملك روحه، وذاكرته، وإرادته. كان لا يزال يشعر بلمحة مما مرَّ به من خوف، كان الأمر أشبه بفترة النقاهة التالية للإصابة بالأنفلونزا، ولكن لم يُورثه هذا إلا شعورًا بالغضب. من المؤكد أنه لن يسمح بأن يُهزم. لقد أخطأ الخنازير في حساباتهم هذه المرة؛ ربما يرون أنهم جعلوه عاجزًا، ولكنه عاجز يقِظ، وواعٍ، وقوي الإرادة، وسيغتنم أول فرصة تسنح له ليردَّ لهم الصاع صاعَين. رفع غضبه من معنوياته. كان طوال حياته رجلًا مُتفانيًا عندما يُحب، وعنيفًا عندما يكره. كان يكره الألمان، والماسونيين الأحرار، والشيوعيين، ونواب بلده، ومنذ اختفاء أديلا، وجَّه غضبه العارم نحو أشخاصٍ لا يعرفهم؛ والآن أصبح يركز كراهيته كاملة على الأشخاص المسئولين عما حدث الليلة. الحمقى! ظنوا أنهم حصلوا على حمل وديع، بينما كانوا يتعاملون طوال الوقت مع نمر كسيح.
كانت ستائر السيارة مُسدلة، ولكن عبر بعض الحركات الصغيرة المؤلمة، تمكن من رؤية رجل يجلس في المقعد الأمامي المجاور للسائق. وتمكن بالتدريج من أن يرفع طرف الستارة عند يدِه اليُمنى، ورأى أن الليل قد خيم، وأن السيارة تمضي في شوارع عريضة شبيهة بشوارع الضواحي. من صوت هدير المحرك، خمن أن السيارة من نوع رولز رويس، ولكنها ليست من الطرازات الأحدث. بعد قليل لم تعُد سرعة السيارة ثابتة، وأدرك أن السيارة تركت شوارع الضواحي ودخلت طرقًا ريفية. علَّمته جولاته الكثيرة بسيارته الدولاج الكثير عن الطرق المؤدية إلى خارج لندن، ولكن رغم محاولاته، لم يتمكن من تحديد أيٍّ من المعالم المألوفة له. كان القمر قد اختفى خلف الأفق، فافترض أن الوقت قد اقترب من منتصف الليل؛ كانت ليلة معتدلة وصافية، ولم تكن حالكة الظلمة، وتمكن من رؤية حانة وكنيسة، ولكن لم يبدُ أن السيارة كانت تمر بأي قرية. ربما كان السائق يتعمد أن يسلك طرقًا لا يستخدمها الناس عادةً، وتأكدت فكرته هذه بواسطة المنعطفات الحادة والأجزاء ذات الأسطح المختلفة من الطرق.
سرعان ما اكتشف أن جهوده لاستطلاع الطريق مؤلمة للغاية، فتخلى عنها، وشغل نفسه بوضع خطة. لا شك في أنه يجِب أن يؤدي دور الحمَل الوديع. لم تكن هذه المهمة تبدو صعبة بالنسبة له، فلطالما تخيَّل نفسه مُمثلًا. كانت المشكلة تكمُن في حالته البدنية. لم يعتقد أن بنية جسمانية قوية مثل بنيتِه قد تتعرض لضرر دائم من أحداث الليلة. الليلة! لا بد أنه غاب عن الوعي لأكثر من ليلة واحدة، فالشجار الذي تورط فيه آرتشي حدث في وقتٍ قريب للغاية من منتصف الليل. لا بد أنه أصبح في منتصف الليلة التالية. تساءل عما يفكر فيه السيد فيكتور، وماري، وهاناي. أصبح يتعيَّن الآن على هاناي المسكين أن يبحث عن أربعة مفقودين بدلًا من ثلاثة! لقد حصل هؤلاء الشياطين على سجين سيُذيقهم الأمَرَّين. لا بد أن جسده سيستعيد عافيته قريبًا، إلا إذا أقدموا على خطوات لإبقاء حالته هكذا. جزَّ توربين على أسنانه عندما خطرت له هذه الفكرة. ربما كان من الصعب الاستمرار في تأدية دور الحمل الوديع لفترة طويلة.
ما تذكَّره تاليًا هو أن السيارة انعطفت لتدخل عبر بوابة، ثم تسير في طريق تحفُّه الأشجار على جانبَيه. وبعد دقيقة أخرى، توقفت السيارة أمام باب منزل، وحمله السائق والرجل الآخر الجالس في المقعد الأمامي خارج السيارة، وأدخلاه إلى ردهة. ولكنهما، قبل ذلك، وضعا عصابةً داكنة على عينَيه، وظل مستسلمًا لهما لأنه لم يكن قادرًا على تحريك ذراعَيه أو ساقَيه. شعر بأنه يُحمل صعودًا على درج سُلَّم قصير، ثم عبَرَ ممرًا طويلًا إلى داخل غرفة نوم مُضاءة بمصباح. شعر بأيدٍ تخلع ملابسه عن جسده — بينما ظلَّت عيناه معصوبتَين — وألبسته منامة لم تكن تخصُّه، فقد كانت واسعة وقصيرة للغاية في الوقت نفسه. ثم أُحضر طعامٌ، وقال صوتٌ بلغة إنجليزية إنه من الأفضل أن يتناول طعام العشاء قبل أن يخلد إلى النوم. نُزعت العصابة عن عينَيه، ورأى ظهرَي رجُلَين يختفيان عبر الباب.
لم يكن قد شعر حتى هذه اللحظة بجوع أو عطش، ولكن رؤية الطعام جعلته يُدرك بأنه أصبح مُجوفًا مثل الطبلة. أدار رأسه ورأى أن الطعام موضوع على طاولة بجوار فراشه، وبدَت وجبة شهية مكونة من اللحم البارد والجالانتين، والبيض المخفوق، والسلطة، والجبن، وزجاجة نبيذ أحمر صغيرة. كانت روحه تتُوق إلى الطعام، ولكن ماذا عن أطرافه الواهنة؟ هل هذا نوع تعذيب جديد على شاكلة تعذيب تنتالوس؟
زادت شهيتُه للطعام، ووجد نفسه يتحرك نحوَه كما لو كان آليًّا. كان يشعر بخدَر في سائر جسده، كما لو أن ثمة إبرًا ودبابيس في كل مكان، ولكن من المؤكد أنه أصبح أقل ضعفًا مما كان في السيارة. فقد تمكن من مدِّ ذراعِه اليُمنى في البداية، وعندما طوى كوعَه ومعصمه، شعر وكأن الحياة بدأت تزحف عائدة إلى جسده. ثم كرَّر الأمر نفسه مع ساقه اليُمنى، وبعد قليلٍ أدرك أنه أصبح قادرًا على الزحف بضعَ بوصاتٍ نحو حافة الفراش. سرعان ما تقطعت أنفاسُه، ولكن لم يكن ثمة شكٌّ في أنه يزداد قوة. مكَّنه شعور مفاجئ بالعطش من أن يُمسك بزجاجة النبيذ، وبعد بضع محاولات فاشلة مع السدادة، تمكَّن من رفع الزجاجة إلى فمه. وتمكن من ملء فمه بالشراب، رغم انسكاب الكثير منه. غمغم قائلًا: «رائع، خمر جيدة مُعتقة. كان سيُصبح من الأفضل لو كانت الزجاجة تحتوي على كونياك.»
ولكن بدا وكأن النبيذ قد بثَّ فيه روحًا جديدة. فقد وجد أنه أصبح قادرًا على استخدام كلتا ذراعَيه، وبدأ يأكل البيض المخفوق بنهَمٍ مبعثرًا الكثير من الطعام على الطاولة. كان يشعر في تلك اللحظة أنه قد استعاد عافيتَه، وبدأ يأكل اللحم البارد، حتى أجبرَه تقلُّص في كتفِه اليسرى على الرقود على ظهره فوق الوسادة. سرعان ما اختفى التقلُّص، وأصبح قادرًا على إنهاء وجبته بسلاسةٍ حتى آخِر ورقة خسٍّ في طبق السلطة، وآخر قطرةٍ في زجاجة النبيذ الأحمر. كان توربين الذي عاد ليرقد على ذلك الفراش هو نفسه ذلك الشاب المفعم بالحيوية الذي قاده القدَر الليلة الماضية إلى ذلك الباب اللعين وسط الظلام. ولكن عقله كان مشوشًا للغاية.
كان يتوق إلى التدخين، ولكن سجائره كانت في جيب ملابس السهرة التي خُلِعَت عنه. فبدأ يفعل مع ساقَيه ما حقَّقه بالفعل مع ذراعَيه، وحقق النتائج المُبهجة نفسها. فكَّر في أنه من الأفضل أن يكتشف إذا ما كان قادرًا على الوقوف أم لا بما أنه بمُفرده. فبدأ يحاول، وتدحرج من على الفراش على الأرض، وصدم رأسه بالطاولة الصغيرة وأسقط الطِّباق على الأرض بِدَويٍّ عالٍ.
ولكنه نجح بعد بضع عثرات في أن يقف على قدمَيه وتمكن من السير ببطء في الغرفة. كان من الجليِّ أنَّ الوهن يُغادر جسده، فبغض النظر عن التيبس الطبيعي في مفاصله، فقد شعر أن عافيتَه عادت إليه. ولكنه لم يكن يعرف ما يعنيه أيٌّ من ذلك. كان يَميل إلى الاعتقاد أنه بطريقةٍ ما وازن الكفة مع أعدائه، وأنه أصعب مِراسًا مما توقعوا. من المؤكد أنهم لم يُسببوا ضررًا لعقله بسحرهم، ويبدو أنهم فشلوا أيضًا في إيذاء جسده. زادت تلك الفكرة من جرأته. كان المنزل هادئًا؛ لِمَ لا يخرج ليستكشفه قليلًا؟
حاول فتح الباب في حذر، ودُهِشَ عندما وجده مفتوحًا. كان الممرُّ مضاءً بمصباح زيتٍ مُعلق، ومفروشًا بسجادة عتيقة الطراز، وزُيِّنَت جدرانه بمجموعة من لوحات الزهور. فَكَّر توربين في أنه لم يرَ في حياته منزلًا يبدو أكثر براءةً وعائليةً من هذا المنزل. كان يعتبر نفسه سريعًا في رصد أقلِّ دلالات الخطر في أي موقف، ولم يكن ثمة خطر في هذا المكان. خطا خطوة أو خطوتَين في الممر، ثم توقف، فقد ظن أنه سمع صوتًا. نعم، لا شك في ذلك. كان صوت ماءٍ يندفع من صنبور. هناك من يستعدُّ للاستحمام في المنزل.
ثم تسلل عائدًا إلى غرفته في الوقت المناسب. فقد كان ذلك الذي يستعدُّ للاستحمام يقترب بخطواتٍ سريعة ويَصدُر عنه صوت حفيف أقمشة. أغلق باب غرفته عندما مرت الخطوات أمامه، ثم فتحه وأخرج رأسه من فُرجته. رأى رداء نومٍ ورديًّا، ومِن فوقه تبرُز عنق رقيقة وشعر أسود كثيف. كان هو، بالذات، يعرف هذه الهيئة.
بدا أن مكانه هو السرير، فدسَّ نفسه بين الأغطية مجددًا وحاول أن يفكر. كانت أديلا فيكتور في المنزل؛ هذا يعني أنه وقع في أيدي من اختطفوها، وأصبح أسيرًا رابعًا لديهم. ولكن ما الذي دفع هؤلاء المُجرمين اليقظين لأن يضعوهما معًا في السجن نفسه؟ هل هم آمنون للغاية، وواثقون من قوتهم تمامًا، لدرجة أن يُقدِموا على هذه المخاطرة الجنونية؟ أجَّجت غطرستهم الغضب في صدره. وأقسم بكلِّ القديسين أنه سيجعلهم يندمون. سيُحرر المرأة بنفسه حتى وإن كان ذلك يعني أن يُحوِّل المنزل رمادًا وأن ينحر أعناق جميع قاطنيه. ثم تذكر مدى حساسية المهمة، والحاجة إلى فعل ذلك في توقيتٍ مُعين حتى لا يخسروا الرهينتَين الأُخريَين إلى الأبد، وجعلته تلك الفكرة يئنُّ من فرط غضبه.
سمع طرْقًا على باب الغرفة، وعبره رجل ليأخذ طاولة الطعام. كان يبدو خادمًا إنجليزيًّا عاديًّا، بياقتِه المُنشَّاة ومعطفه الأسود الأنيق ووجهه النظيف الخالي من أي تعبير.
قال الخادم: «معذرة يا سيدي، متى تودُّ أن أحضر لك ماءً لحلاقة لحيتك؟ لقد أصبحنا في ساعةٍ متأخرة من الليل، فاسمح لي أن أقترح العاشرة صباحًا.»
وافق توربين، ولم يكد الخادم ينصرف حتى ظهر زائرٌ آخر. كان الزائر رجلًا نحيلًا شاحبًا لم يعتقد أنه رآه من قبل، رجل ذو شعر رمادي ورأس كئيب مُدلًّى. وقف عند طرف الفراش يُحدق في توربين الراقد على الفراش بنظراتٍ ودودة. ثم تحدَّث إليه بالفرنسية بلهجة سكسونية سليمة.
قال: «هل أنت مرتاح يا سيدي؟ مُمتاز. لا تقلق. نحن أصدقاؤك. ليلة سعيدة.»