الفصل الثاني

المذاهب

المذاهب الأخلاقية الثلاثة الأساسية هي كالآتي:
  • (١)

    الافتطاري: يرى به أن الأفعال تكون حقًّا إذا هي طابقتْ قواعد مفروضًا أنها واجبة حتمًا وبصرف النظر عن عقبى هذه الأفعال، وتكون باطلة إذا لم توافق هذه القواعد.

  • (٢)
    اللذيُّ أو الهدونيُّ: يرى به أن الفعل يكون حقًّا إذا هو أدى إلى اللذة وباطلًا إذا لم يؤدِّ إليها، ويشمل:
    • (أ)

      اللذي الذاتي: وغرضه لذة الفرد أي لذة الذات.

    • (ب)

      اللذي العام أو الغيري أو النفعي.

  • (٣)

    النشوئي أو الكمالي: وبه يرى أَنَّ الفضيلةَ الأدبية كلها سياق تدريجي من النشوء، يرمي إلى البلوغ إلى الذات المثلية العُليا، وسنلم بكل من هذه المذاهب فيما يلي بإيجاز.

(١) الافتطاري Intuitionism

يذهب أهلُ هذا الرأي إلى أن كل الأفعال ضرورية في ذاتها بلا نظر إلى عواقبها أو الغاية المراد الوصول إليها أو تحقيقها.

فقولُ الصدق يعد واجبًا لا؛ لأنه ضروريٌّ للحياة أو لأي سببٍ آخر؛ بل لأنه حق في ذاته.

وكل مذهب أخلاقي ينظر إلى الأفعال من هذه الوجهة يُقال له مذهب «مستقل» أو «افتطاري» وسمي افتطاريًّا؛ لأن الذاهبين إليه يرون أَنَّ الإنسان قادر أن يميز بضميره صواب الأمر وصلاحيته مباشرة بلا ملاحظة ولا خبرة ولا تعليم، بل بالفطرة، ويعتقدون أن هناك قواعد للسلوك ظاهرة الصدق والصواب ظهورًا مباشرًا، وأن من العمل على هذه القواعد الكلية يتكون دستورُ أخلاقنا؛ أي دستور الفضيلة الأدبية.

ولكن الافتطاريين لا يزالون إلى يومنا هذا مختلفين في ماهية هذا المدرك بالافتطار أهو صواب الفعل؟ أم هو صواب المبدأ الخلقي؟ يقول بعضهم بالأول وبعضهم يقول بالثاني وفريق يقول: إن القانون الأدبي هو عبارة عن الخير الأسمى، فكأنه يقال إن هناك مبدأ أساسيًّا واحدًا تتفرع منه سائر المبادئ وبه يمكننا فحصها.

والفريق الأول يرى أن في مقدرة الإنسان معرفة كون الفعل حقًّا أو باطلًا بالضمير مباشرة، كما يُمكننا أن نعرف — لأول نظرة — كون لون أي منظور أحمر أو أصفر (اللهم إلا إذا كان بالباصرة ذلك المرض الذي لا تفرق معه بين الألوان).

والفريق الثاني يرى أن الذي ندركه بالبداهة هو صدق المبادئ الأدبية الكلية، وأننا إذا نظرنا إلى فعلٍ بعينه من الأفعال للحكم عليه فإنما يكون بتطبيق تلك القواعد العامة.

وعلى ذلك فإذا حكمنا أَنَّ طفلًا في مدرسةٍ غاشٌّ أو سارق؛ فإننا إنما ننظر إلى الفعل في كلتا الحالتين ونحكم عليه بمبدأ: أن الخيانة باطلة.

وعلى ذلك فالحكم الأدبي هو المقارنة العقلية، مقارنة فعل بعينه بأمر مفتطر أدبي، أعني: تطبيق مبدأ كلي شائع.

فالافتطاريون على هذا الاعتبار يعتمدون في إثبات صحة مذهبهم على وحي الضمير، ويدفعون بأن هذه الأمور المفتطرة؛ أي المبادئ الكلية معروفة مدرَكة لأول وهلة لدى الجنس البشري جميعه على اختلاف العصور وتبايُن المراتب بين أحط المتبربرين وأرقى المتحضرين، وأن الضمير أو الشعور الأدبي (كما يسميه بعضهم) هو غريزي في الإنسان كما هو شأن الحواس الطبيعية كالبصر والسمع وغيرهما وكما أنه قد لا تكون هذه الحواس في الإنسان تامة النمو فقد يكون الشعور الأدبي غير مستكمل النمو أيضًا.

أما أشد ما يعترض به على الافتطارية فذاك أن الناس مختلفون في الحق والأمر الأدبي اختلافا كبيرًا، لا فرق أن يكونوا في زمننا هذا أو غيره، ولا أن يكونوا من المتحضرين أو سواهم ولكن الافتطاريين يدفعون هذا الاعتراض بأن اختلاف الرأي لم ينشأْ إلا عن الاختلاف في تطبيق القواعد الكلية على أحوال خاصة، وأن الضمير وإن لم يكن يدلنا على كل ما يدخل في نطاق الفضيلة الأدبية يدلنا على المبادئ الثابتة التي تتأسس عليها هذه الفضيلة، وأننا نوسع مشمول هذه المبادئ الثابتة بقدر ملاحظاتنا وتربيتنا وخبرتنا.

وقد حصر الدكتور كالدروود مبادئ الافتطارية فيما يلي:
  • (١)

    مفتطرات الحياة الفردية الخاصة بأنفسنا: الكد، الطهر، تنشئة النفس، كبح جماح النفس.

  • (٢)

    مفتطرات الحياة الاجتماعية الخاصة بالغير: الإحسان، الإخلاص، العدالة، الصدق.

  • (٣)

    مفتطرات الحياة العُليا الخاصة بالله تعالى: المحبة، الطاعة، التقديس.

ولهذه المبادئ الخصائص الآتية:
  • (١)

    أنها عامة؛ أي أنها صحيحةٌ مهما اختلفت الظروف والأزمنة والأمكنة.

  • (٢)

    أنها ضروريةٌ؛ أي أنها تصدر بحكم الضرورة من طبيعة الإنسان ذاته؛ إذ بغيرها لا يُمكننا أن ندرك أي نتيجة أدبية مطلقا.

  • (٣)

    أنها ظاهرةٌ من تلقاء نفسها؛ أي لا تحتاج إلى البرهان على صحتها؛ لأنها مقبولةٌ بمجرد فهمها، ولاختصار القول نقول إنها بديهية.

  • (٤)

    أنها غيرُ قابلة للشك فيها؛ أي يستحيل معها تصوُّر الإنسان صدق عكسها.

وقد أورد الأستاذ توماس ريد (١٧١٠–١٧٩٦) المبادئ الافتطارية في قائمة أطول من سابقتها، وأطلق عليها اسم مبادئ الآداب الأولى، وإنا نقتطف من هذه القائمة ما يلي:
  • (١)
    قال فيما يختص بالفضيلة على وجه عام:
    • (أ)

      إن في سُلُوك الإنسان أمورًا جديرة بالثناء والرضاء وأخرى حقيقة باللوم والعقاب. وإن اختلاف الدرجات في الرضاء أو اللوم راجعٌ إلى تبايُن الأفعال.

    • (ب)

      كل فعل لا اختيار لفاعليه فيه لا يستحق رضاء أدبيًا ولا لومًا.

    • (جـ)

      كل ما كان فعله طوعًا للضرورة التي لا مناص منها فإما أن يكون حسنًا أو غير حسن، نافعًا أو ضارًّا، ولكنه لا يُمكن أن يكون موضوعَ اللوم أو الرضا الأدبي.

    • (د)

      قد يجرم المرء أكبر الإجرام بإهماله ما كان ينبغي له أن يفعله كما يجرم بفعله ما لا يصح أن يفعل.

    • (هـ)
      أنه يجب علينا أن لا ندخر وسعًا في الحُصُول على ما به نعرفُ الواجب.١

      وإنه يجب أن يكون أقصى ما نُعنى به أن نؤدي ما علينا من الواجب بقدر ما نعرف منه وأن نحمي قلوبنا من غوايةٍ تحدونا على مخالفته.

  • (٢)
    ما يختص ببعض فروع الفضيلة:
    • (أ)

      يجب علينا أن نؤثر أرجح الخيرين — وإن بعد — على الأقل وإن دنا، وأصغر الضر على أكبره.

    • (ب)

      يجب علينا أن نعمل وفاق ما أرادته الطبيعة بقدر ظهوره في تركيب الإنسان، وأن يكون عملنا ملائمًا لذلك.

    • (جـ)

      لم يولد المرءُ لنفسه وحدها.

    • (د)

      يجب علينا — في كل حال — أن نعمل للناس ما نوجبُهُ عليهم إذا نحن اكتنفتنا ظروفُهُم واكتنفتْهم ظروفنا.

    • (هـ)

      يجب على كل مَن يعتقد بوجود الله وكماله وعنايته أن يقدسه ويطيعه.

  • (٣)
    فيما يختص بالقيمة النسبية لأنواع مختلفة من السلوك:
    • (أ)

      الشكر للمحسن مفضلٌ على الكرم الذي يوضَع في غير محله ويفضلهما حب العدل.

    • (ب)

      يَفْضُلُ الإحسان إلى ذوي البؤْس خلة الإحسان إلى ذوي الرغد، ونفضل أفعال الرحمة الدفينة على أعمال التقى الظاهرة.

على أن من ارتضى من الفلاسفة بمثل ما تقدم بيانًا للمبادئ الأولى قليل بل عمد أكثرهم إلى نقص عدد هذه المبادئ إلى حدها الأدنى المستطاع وحاول أن يجد من بينها مبدأً أو اثنين يتفرع منها الباقي، فقال لوتز Lotz إن هناك مبدأ واحدًا مفتطرًا هو الإحسان الذي هو في الحقيقة أساس مذهب النفعية.
ويرى كانت Kant الفيلسوف الألماني أن أساس الفضيلة بأسرها هو «الرشد» وأنه يجب علينا أن نفعل ما نُحب أن يفعله كل إنسان. قال لا حاجة بك أن تستخلص قاعدة لسلوكك من ملاحظاتك وتجاريبك ولا من غيرك أثناء تلقِّيك عنهم، فإنَّ حجاك يبصرك ويهديك إلى ما يجدر بك فعله. وقد جمع «كانت» مبادئه جميعها في قاعدة واحدة هي «ليكن فعلك على المبدأ الذي تستطيع أن تريد صيرورته قانونًا عامًّا.»
وقد بناها لوق Locke الفيلسوف الإنجليزي على فكرتين لاهوتيتين أُولاهما أن هناك كائنًا أعلى، لا حد لقُدرته ولا لخبرته ولا حكمته، إلهًا نحن صُنعه وعليه نعتمد وثانيهما أَنَّ الناس كائناتٌ عاقلةٌ مفكرةٌ، فهو لذلك يرى أن الفضيلة الأدبية مبنيةٌ على حقيقة الله والعلاقة التي بين الناس وبينه تعالى لا على أساس الاقتضاء.

(٢) الهدوني أو اللذي Hedonism

قد ينظر إلى الأفعال من حيث إنها ضرورية مؤدية أو تابعةٌ لغرض إليه نرمي، أو هو نُصب أعيُننا.

وكل مذهب أخلاقي ينظر إلى الأفعال من هذه الوجهة يُقال له طريقة «غير مستقلة»؛ لأنها مؤسسة على الغرض الخاص الذي نرمي إليه.

كل مذهب يرى أن اللذة هي الخيرُ الأسمى أو الغرض الأقصى من الحياة يُقال له لذِّي (وقد يسمى هدونيًّا نسبة إلى كلمة «هدون» اليونانية ومعناها اللذة أيضًا).

يرى أهل هذا المذهب أن خيرية أي فعل من الأفعال هي فيما يجلبُهُ هذا الفعل من اللذة:
  • (١)

    للفاعل أو الفرد ذاته: ويقال له اللذي الذاتي أو الفردي.

  • (٢)

    أو للغير: ويُقال له اللذي العام أو الغيري أو النفعي.

وهنا يجب أن نذكر أن المقصود باللذة أقصاها لا اللذة مطلقا وإلا لم نجدْ دستورًا نَقيس عليه ونَحكم. فقد يوجد سرورٌ مستمد من العمل على طرائقَ هي أبلغ ما تكون في التناقُض.

كان لوق «لذِّيًّا» في الحقيقة؛ لأنه كان يرى أن السر في السلوك الأدبي ليس في دستوره بالذات، بل هو في الألم الذي ينشأ من عدم الخضوع لهذا الدستور، ومن اللذة التي تترتب على الإذعان له.

وهنا يُمكننا أن نقول إن المتدينين بدينٍ سماويٍّ هم لذيون؛ لأنهم يعتقدون أن أسمى غايات الناس أو الخير الأعظم هو في التماس الجنة وما فيها من نعيم.

اللذي الذاتي أو الفردي Egoism

يرى أهل هذا المذهب أنه يجبُ على الإنسان أن يسعى لخير نفسه الأعظم، وأن يفعل ما في وسعه لتحصيله، وعلى ذلك فكل فعل يكون حقًّا إذا هو أدى إلى ذلك وكل ما لم يؤدِّ إليه يكون باطلًا. وعليه فالمصدرُ الأصليُّ الوحيد والمنبع الأساسي الذي ينبعث منه الفعل هو حب الذات.

والسيرينيون Cyrenaics (٣٧٠ق.م) أول من رأى هذا الرأي فهم يقولون إن اللذة القصوى هي في إرضاء الشهوة، وإمتاع النفس وفي أنه يجب على الإنسان أن ينتهز سرور اللحظة الحاضرة في مرورها.

والأبيقوريون (٢٧٠ق.م) ذهبوا إلى أرقى من ذلك درجة، وقالوا إن السعي وراء السعادة هو الفضيلةُ بعينها على أنهم أدخلوا التمتع الأعلى الاجتماعي والعقلي في ذلك ورأوا أن كل إنسان يجب أن يبحث عن سعادة حياته بأسرها وهو متمتع بسرور اللحظة الحاضرة.

وحاول هوبز (١٥٨٠–١٦٧٨) وأتباعُهُ أن يفسروا كل الإحساسات الأدبية ودواعي الإحسان بأنها أشكالٌ من رغبة الذات في اللذة. وقد قال إنه يجب أن ينظر إلى الأفعال ويحكم عليها من وجهة ما يُمكن أن يستمدَّ منها من المسرة، وإليك قوله:

كل ما كان محل الشوق من إنسان يسميه خيرًا وكل ما كان محل الكُرْه والمقت يسميه شرًّا، أو سيئًا.

وعلى هذا القول، فكل ما يجب أن نعنَى به هو البحثُ عن مصلحتنا الذاتية وخيرنا الخاص. ولكن مبادئ الأديان العالية تلك المبادئ التي تُشرب النفوس خلة الإحسان وإنكار الذات جاءتْ بأرقى من ذلك مثلًا وأشرف غاية، حتى أصبح هذا المذهب هملًا لا اعتبار به؛ إذ لا شك أن جلال الحياة والأخلاق لا يتفق مع الأثرة ولا يجاريها.

ولا بأس أن نورد لك هنا ما يعترض به على مذهب اللذِّيَّة الذاتية:
  • (١)

    إذا كانت كل الأفعال تصدر عن الأنانية فإن من الصعب — بل من المحال — أن نعرف الداعي لفعل أي نوع من الأفعال التي لا مصلحة للذات فيها، كالإحسان إذ الإحسان هو نقيض الأثرة.

  • (٢)

    لا يمكن أن يستقيم للفضيلة ظِلٌّ حتى يكون الفرد منظورًا إليه من وجهة علاقته بالغير؛ أي من حيث إنه عضو من المجتمع، له من أجل ذلك حقوق وعليه واجبات.

  • (٣)

    يترتب على اللذِّيَّة الذاتية تخطئة أولئك الذين ينزلون عن لذائذهم أو يجودون بحياتهم أحيانًا لمصلحة غيرهم، ورضاها عن أولئك الذين يُضَحُّون بسعادة غيرهم وحياتهم تحقيقًا لمآربهم الذاتية.

اللذِّي النفعي، أو الغيري العام Utilitarianism

أهل هذا المذهب يرون أن الفعل لا يكون حقًّا أو صالحًا حتى يكون المقصود منه إعطاء أقصى ما يمكن البلوغ إليه من اللذة، أو السعادة لأكبر عدد من بني الإنسان، والعكس بالعكس.

وقد سمي بالنفعيِّ؛ لأنه كان يرى أن الطبيعة الأدبية لأي فعل إنما تُدرك بمنفعةِ هذا الفعل وفائدته في تحصيل اللذة أو السعادة، وقد كانت النفعيةُ تُعتبر مؤسسة على اللذِّيَّة الذاتية؛ لأنهم قالوا إنه لما كان كل فرد يبحث عن لذته أو سعادته فسعادةُ الكل تصبح غرضًا مشتركا بين الجميع ولكن لا يستلزم سعي الفرد للذته تحصيل لذة غيره. فقد يسعى أحدهم لتحصيل سعادة نفسه وليس له رغبةٌ في سعادة غيره مطلقًا.

وقد رأى بعضُ النفعيين في زماننا هذا فساد مبدئهم فعمدوا إلى القول بِأَنَّ لذة الفرد ليست بالأمر الجوهري الذي يبحث عنه أو يرغب فيه، ولكن أصل مذهبهم وجوب السعي لتحصيل سعادة الناس جميعًا؛ لأن العقلَ يأمر بذلك. ولكنهم لا يقولون لنا لماذا كانت أوامر العقل واجبةَ الاتباع، وعلى ذلك لا نزال نرى أن المبدأ العام الأساسي لكل من اللذِّي الفردي واللذِّي الغيري هو أن كل ما أحدث لذة حق.

وعلى هذا القول اعتراضات فقد قيل إنه إن صح هذا المبدأ:
  • (١)

    صح أنه لا يترك مجالًا لأي فعل لا أثر فيه للمصلحة الذاتية ولا للغرائز الأصلية.

  • (٢)

    وصح أن الأفعال الصادرة بدواعي المصلحة الذاتية أحق من الأفعال اللامصلحية، إذ ما دمنا نستمد لذة من الثناء والجزاء فخير لنا أن نفعل ما نفعل حبًّا في الثناء وفي الجزاء لا رغبة في أن نفعل ما نراه حقًّا؛ لأننا في الحالة الأُولى نحصل لذة الجزاء وهذه اللذة إضافية.

  • (٣)

    وصح أن دستور الحق والباطل لا يكون ثابتًا؛ لأنه يختلف بالضرورة إذ ذاك باختلاف الأشخاص تبعًا لنوع الأفعال متى يرون فيها أكثر اللذة لأنفسهم.

تلك هي جُلُّ الاعتراضات التي يقيمونها على المذهبين السابقين، ولكن أربابهما يدفعونها بقولهم:
  • (١)

    إذا ما عرف الإنسان أن يؤلف بين نتيجة طاعة غرائزه الأصلية وبين الغرائز ذاتها؛ فإنه لا مندوحةَ له من قصد هذه النتيجة إذا هو بعد ذلك أطاع هذه الغرائز.

  • (٢)

    والأمر كذلك في الأفعال اللامصلحية؛ فإننا نتعلم أن ندرك جمال مثل هذه الأفعال، وإن في التفكير في هذا الجمال لَلَذَّة. كما أننا في الوقت ذاته نعطف، وللعطف من إحداث سرور للغير لذة لازبة.

  • (٣)

    إذا تعارض الحق واللذة، آثرْنا الحق على اللذة بما أن الحق جزءٌ من اللذة بل هو الجزء الأبقى.

هذا المذهب يرى أَنَّ السعادة يُمكن أن تُقاس بمقدار اللذائذ والآلام. ولكن جد الصعوبة هي في معرفةِ المدى والحد الذي إليه يُمكنُ أن تقدَّر أو تُقاس هذه السعادة؛ أي هي في اختيار وحدةٍ ثابتةٍ للقياس.

يرى بنتام «١٧٤٨–١٨٣٢» أن كل اللذائذ في صفتها سواء، ولكنها تختلف في شدتها، ومدة بقائها، وأمد اقترابها ومقدار التأكد من حُدُوثها ولكن ستيوارت ميل يخالفه في ذلك، ويرى أن اللذائذ تختلف في صفتها كما تختلف في شدتها ومقدارها، وهذا هو الرأي السائد.

ولكنا إذا اتخذنا من صفة اللذة وشدتها ومدى بقائها وغير ذلك مقياسًا؛ فلا يزال يستحيل علينا معرفة حقيقة مقدار أي سعادة؛ وذلك أنه لما كان الناس — لاختلافهم — يجدون السعادة في أمور مختلفة فكُلٌّ منهم لا يمكن أن يحكم إلا بما يُصيب من اللذة لا بما يؤدي إلى سعادة الغير.

زِدْ على ذلك أنه لا يمكن أن يعبر عن أي لذة بمقدار ثابت؛ لأننا إذا عمدنا إلى تحصيل شيء بعينه من اللذة لم يكن في تحصيله من اللذة ما يُداني لذةً تتأتى من مجيئه عفوًا غير متعمل له. على أن القليل من اللذة قد يكون أدعى إلى التلذذ من كثيرِها، وذلك لحصول التنوُّع فيه فضلًا عن أن الأمر مرتبطٌ بالظروف التي قد تحيط بنا وبحالتنا الجسمانية أي الصحية فما يخفى أن اللذة التي نشعر بها في أقصاها ونحن أصحاء تفقد بعض مقدارها إن لم تفقدها كلها إذا جاءتنا ونحن مرضى.

قد ينكر النفعيون المبدأ القائل بأن لذة الفرد الذاتية هي الغرض الأقصى مِنْ أفعالهم، دفعًا بأن في رغبة المرء في الفضيلة والتماسها تطوُّعًا كبيرًا وسعيًا عظيمًا إلى تحقيق سعادة الغير وإن لم يترتب على تلك الرغبة والسعي سعادةٌ للمرء ذاته، وبأنَّ أخص صفات الأفعال اللا مصلحية أنها تفعل كلها للذة الغير وحده وسعادته.

على أنه مهما أُقيم من الاعتراضات على النفعية فإنه لا إنكار أَنَّ انتشار تعاليمها كان ذا أثر قويٍّ فَعَّال ثابت في تقرير الخير في العالم.

قال توماس جرين (١٨٣٦–١٨٨٢) في سياق الكلام عن النفعية: «إنها لم تُشرب الناس شعورًا أكبر بالواجب نحو الغير مِنْ سواها، على أنه ليس في المذاهب الأُخرى ما يستطيع ذلك. وإنما هي تدعو أولئك الذين تَنَبَّهَتْ قلوبهم إلى هذا الشعور أن يكونوا أكثر نزاهةً في تقرير مَنْ هُمُ «الغير» وأن يعتبروا بني آدم أجمعين هم هذا «الغير». على أن النفعية تدعو فوق ذلك إلى تقرير التساوِي السياسي بين الناس وترقية مُستواهم الاجتماعي، على مبدأ أَنَّ لكل فرد من الناس حقًّا في التماس نصيب من السعادة يُعادل نصيب غيره.»

فمما تقدَّم يرى أن مذهب النفعية أثبت مذاهب الأخلاق حدودًا وأقربها إلى العمل.

(٣) الكمالي، أو مذهب النشوئيين Perfectionism or the Evolutionary theory

وهناك فريقٌ يرى أن الغرض الأسمى الذي ترمي إليه الفضيلة الأدبية هو الكمال؛ أي الصعود بالنفس إلى أعلى مراتب الإنسانية، وعلى ذلك يكون القانون الأدبي والفضيلة الأدبية هما في نظرهم نسقٌ من النماء مطرد.

قال الأُستاذ لويد مورجان شرحًا لمبدأ الكمال: «إن غرضنا الذي نرمي إليه هو تحصيلُ المثل الأعلى من أنفُسنا بترويضها وضبطها وهديها. والاستعاضة عن ضعيفة النفوس التي لنا بأخرى أصلح وأتم وأغنى وأصدق.» وقال الأستاذ جرين «الإنسان نهايةٌ في ذاته.» فإذا أراد أن يبلغ درجةَ الرضا والارتياح فعليه أن يُكمل نفسه.

١  القانون الإنجليزي (وسواه) لا يُبيح قبولَ ادعاء الجهل بالقانون في الدفاع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤