طلب الاستقلال

وبعد رفع الراية أخذ حزب الدوبرز بمساعدة القائد برتوريوس يقاوِم الإنكليز ويختلق الأكاذيبَ عليهم، وينسب إليهم الظلمَ وأشاع بأن هذا الانضمام ضد رغبة البوير عمومًا، وكلَّ ما حدث من الزولس دسيسةٌ إنكليزية بإغراء السير شيبستون؛ فإنه هو الذي جرَّأهم على مهاجمتنا وقتالنا ليهدِّد بهم الجمهورية، ويُرغِمها على قبول الانضمام. فبلغت هذه الإشاعات مسامع السير لانيون، فأرسل مكتوبًا إلى برتوريوس يقول له فيه: «قد اختلقتَ الأكاذيب وأثَرتَ الإشاعات، وقلتَ بأن إنكلترا هي التي هيَّجت قبائلَ الزولس عليكم، وأنها هدَّدت مجلس التنفيذ ليضطر إلى قبول الانضمام، فأؤكد لكم بأنكم لو اطَّلعتم على كتابات أعضاء اللجنة التي تشكَّلت للمفاوضة في مسألة سيتواو لَتأكَّدتم براءتهم مما تختلقونه، وأنهم قابلون الانضمام برغبتهم لصيانة بلادهم. وقد أظهَرَ السيرُ شيبستون بإفادته المرسلة لنظارة المستعمرات بتاريخ ١٢ أبريل بأنكم لم تكونوا ممَّن حضر في المجلس، فكيف علمتم بأن إنكلترا هدَّدت أعضاءَه حتى اضطروا لقبول الانضمام، وكيف تأكَّدتم بأننا أغرينا الزولس على قتالكم، وإنني لَآسف من صدورِ مثل ذلك منكم؛ لأنه سيكون سببًا لتهيُّج الشعب وإيقاد نار الثورة التي تكون عاقبتها وبالًا عليكم، فأنصحكم أن تُقلِعوا عن هذا الأمر المنكر.»

وفي أول أكتوبر اجتمَعَ كروجر وجوبير١ وبريتوريوس، واتفقوا على تشكيل لجنة وإرسالها إلى لندرا لطلب الاستقلال، فأقرَّ رأيهم على انتخاب المستر كروجر وجرسون وبوك من غير أن يستشيروا الرئيسَ برجر؛ لأنهم كانوا غير راضين عن سياسته، وكانوا ينتظرون انتهاءَ مدة رئاسته ليولُّوا كروجر بدلًا منه، وهذا الأمر كان يقوِّي كروجر وينشِّطه على طلب إعادة الاستقلال، ولما وصلوا إلى لندرا تقابلوا مع اللورد كرنارفون ناظر المستعمرات، فعرضوا عليه أمرهم وشَكَوْا إليه بأنهم غير راضين عن تصرُّف حكَّام الإنكليز في بلادهم، فعرَّفهم بأن انضمامهم قد صار أمرًا نهائيًّا، ومن العسير إلغاؤه إلا إذا سنحت الفرص، ولكنه ينظر في أمرهم ويزيل أسبابَ أتعابهم، فتظاهروا بقبول كلامه ووعدوه بأنهم سيبذلون جهدهم في إرضاء إخوانهم المشتركين معهم في طلب الاستقلال بالخضوع للحكومة الجديدة ونظامها، وهمُّوا بالرجوع إلى بلادهم.
figure
الجنرال جوبير.

وفي ١٨ يوليو سنة ١٨٧٨ تعيَّن السير شيبستون مندوبًا سياسيًّا في الترنسفال والسير لانيون وكيلًا له، وفي نوفمبر من هذه السنة كانت مدة انتخاب المستر كروجر في عضوية مجلس التنفيذ قد انتهت، ولم يتجدد انتخابه، فاتحدَّ ثانيًا مع جرسون وبريتوريوس وصاروا يستميلون إخوانهم المتحدين مع الإنكليز إلى الانضمام معهم، وتوجَّه كروجر وجوبير وبوك مرةً ثانية إلى لندرا، وتقابلوا مع السير مخائيل هكس بيتش، وطلبوا منه التوسُّط في طلب الاستقلال، فأبى أن يتداخل في هذا الأمر، وعرَّفهم بأن من المستحيل سحْبَ السلطة الإنكليزية من بلادهم. فعادوا إلى بلادهم وأوقدوا نارَ الثورة، فانضمَّ إليهم ثلاثة آلاف من إخوانهم وعقدوا اجتماعًا في موضع يبعد ثلاثين ميلًا عن بريتوريا، وأرسلوا رسلًا إلى رؤساء القبائل يدعونهم للانضمام معهم لمقاومة الإنكليز وطرْدِهم من بلادهم، فرفضت رؤساءُ القبائل قبولَ هذا الطلب.

وفي أثناء ذلك تعيَّن المستر غلادستون ناظرًا للمستعمرات، وكان مشهورًا بمحبته للبوير والإعجاب بشجاعتهم، وكان يسمِّيهم رجال القوة، ولما تولَّى هذا المنصب ظنَّ البوير أنهم ينالون الاستقلالَ بمساعدته، فعمدوا إلى السكينة ولم يتظاهروا بمقاوَمة الإنكليز، فقط صاروا يهاجمون من وقتٍ إلى آخر قبائلَ الزولس، فحملوا عليهم هؤلاء حملةً منكرة وهزموهم، وما زالوا يطاردونهم حتى أدخلوهم بريتوريا وحاصروهم فيها مدة مديدة، وقف في أثنائها دولاب التجارة والصناعة، وما زالوا كذلك حتى أتتهم النجدات الإنكليزية، ورفعت الحصار عن بريتوريا وردَّتِ الزولس إلى بلادهم.

ولما انتهوا من مقاتَلة الزولس لم تَطُلْ مدةُ سكوتهم، بل عادوا إلى طلب الاستقلال، وصاروا يُهِينون الإنكليز ويتعصَّبون عليهم، فأنفذت إنكلترا السير بارتل فرير، الذي حالَ وصولِه أخذ يُلقِي الخُطبَ الودية بينهم، ويحثُّهم على الاتحاد والاتفاق، ويَعِدُهم بأنه سيسعى في منحهم طلبهم، وأظهَرَ لهم بأن إنكلترا تمنحهم الاستقلالَ متى تأكَّدت أن عندهم قوةً كافية لصيانته، فتظاهروا بأنهم أذعنوا لنصائحه، وأخمدوا نارَ الثورة، ولكن بعد مغادرة المذكورِ بلادَهم عادت البوير إلى معاصيها، فعيَّنت إنكلترا في هذه المرة السيرَ جارنت ولسلي ليعضد السير شيبستون، وبوصوله عدَّلَ القوانين وأصدَرَ أوامرَ ومنشورات جديدة، ورتَّب المجالس ونظم في عضويتها رجالًا أكفاء. فلم يكترث البوير بذلك، بل عادوا يقرعون باب البرلمان الإنكليزي بالعرائض، متظلِّمين طالبين الاستقلالَ وسحْبَ الجنود الأُجَراء من بلادهم، وكان الزعيم المهيج هو بريتوريوس، فقبضت الحكومة عليه وأحالته إلى التحقيق، فثبت أنه ثوريٌّ ومسبِّب للقلاقل، وكان المنتظر معاقبته عقابًا شديدًا، ولكن بعد انتهاء التحقيق تحوَّلَ السير ولسلي من العنف إلى اللِّين، وعفا عنه وعيَّنه عضوًا في مجلس الفولكسراد، فأظهر أنه ارتضى بذلك. وقد ذكَّرهم السير ولسلي في خطبة ألقاها في بريتوريا كما قال لهم أولًا بأن «المتعصبين ضدنا يُلِحُّون بطلب الاستقلال، وما معنى هذا الاستقلال الذي تطلبونه؟ هل تناسيتم الخطرَ الذي كان محدقًا بكم وببلادكم، ولولا جنودنا لَكانت بلادكم في خبر كان، ولو انجلَتِ الآن رجالنا عن بلادكم لَسقطت ولم تَقُم لها قائمة، وأظنكم لم تنسوا حالتكم التعيسة قبلًا حينما كانت الضرائب لا يتحصَّل منها شيء، وخزينة المالية خاوية من الأموال، وقد بات الأمر الآن بالعكس، فلماذا لا ترضون بما فعلناه معكم، وتتحدون معنا على صيانة حقوقكم وتحسين أحوال بلادكم التي لم نزل مُجِدِّين ومجتهدين في سبيل ارتقائها، حتى يمكننا بعد ذلك ننجلي عنها مطمئنين عليها من هجمات الأعداء؟ وآخر شيء أقوله لكم: إن الاتحاد خيرٌ من العناد.» فحصل بعد هذه الخطبة هدوء تام، وهاجر كثير من الإنكليز إلى بلاد الترنسفال واستوطنوا بها، وصارت الضرائب تتحصَّل بالعدل، وتتقدَّم بالرضاء من الأهالي، وفي يوليو سنة ١٨٧٩ أرسل السير ولسلي إلى حكومته يقول: إنه لم يبقَ أثر للثورة، وقد ارتضت جميع الأهالي بالحالة الحاضرة، ووعدوه بأنهم لا يعودون إلى الهياج والعصيان.

أمَّا إيرادات الحكومة فقد تحسَّنت تحسُّنًا عظيمًا بعد الانضمام، فبلغ في الستة شهور الأولى من ١٨٧٩ «٦٩٠٠٠ جنيه إنكليزي»، وفي الستة شهور الثانية بلغ «١٦٠٠٠٠ جنيه إنكليزي»، وفضلًا عن تحسين المالية، فإن التجارة أيضًا تقدَّمت بعد انحطاطها، وارتفعتْ أثمانُ الأطيان، وكثرت المنازل وارتفعت أجورها، وفي أواخر سنة ١٨٨٠ عاد البوير إلى الفتن والعصيان بعد السكوت الذي كان مقدمةً للهياج العظيم الآتي ذِكْره.

١  هو بطرس جاكوبيس جوبير، وُلد سنة ١٨٢٥ في مستعمرة الكاب، وكان والده فرنساوي الأصل من الفرنساويين الذين أتَوْا جنوبَ أفريقيا تخلُّصًا من الاضطهاد والضِّيق الذي شمل البروتستانت كما سبق ذكره، وكان جوبير في بدء صِباه يشتغل في التجارة، ولما جمع قليلًا من المال رحل إلى بلاد الترنسفال واشتغل بالزراعة في جهة واكرستروم، ثم انتخبته أهالي مقاطعة واكرستروم نائبًا عنهم في مجلس الفولسكراد، وكان له الدورُ المهم في حوادث الترنسفال الأخيرة، وطالما رافَقَه النصرُ في وقائعه الحربية، وكان له نظر حاد وقريحة وقَّادة، ولم تزل هذه الصفات أليفته حتى بلغ الشيخوخة، وكانت البوير تلقِّبه ببطرس المكَّار، وكان مع اشتغاله في منصب القيادة العامة لجيوش بلاده نائبًا لرئيس الجمهورية، وكانت وفاته سنة ١٩٠٠ وله من العمر ٧٥ سنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤