المنتحرون … أو تشغيل الموتى
شباب ينتحر حرقًا أو شنقًا أو رميًا من علٍ … والبقية تأتي. إنه يستعمل موته الخاص باعتباره شكل الاحتجاج الأخير على حياة لا تحفل بوجوده. بالطبع إن المتهم هنا ليس «الحياة» كما كان الشأن في كل عمليات الانتحار «الفرداني» أو «الوجودي» المعاصر تحت وطأة آلة الحداثة التي «تشييء» الكائن البشري وتحوله إلى مجرد «موضوع» ليبرالي للاستهلاك. ليس لهؤلاء الشباب أي اعتراض أساسي ضد واقعة الحياة بما هي كذلك. بل الأمر بالعكس. إنهم من فرط حرصهم على الحياة هم ينتحرون. ومن فرط كرههم للموت هم يقدمون عليه. وليس ذلك طلبًا للشهادة بالمعنى الديني. لنقُل دونما مواربة: هم أول جيل لا «يستشهد» بل «ينتحر». ومَن شاء المعاندة في التسمية نقول له: إنهم أول «شهداء» ولكن شهداء «ما بعد-دينيين» بل و«ما بعد-قوميين». انتهى مفهوم الشهيد بالمعنى الديني. وبدأ مفهوم «المنتحر» ما بعد الديني. وانتهى مفهوم «شهيد الوطن»، وظهر مفهوم «المنتحر» ما بعد القومي.
لأول مرَّة يؤكد هؤلاء الشباب المنتحرون أن الدين أو الوطن هي معارك قديمة، وأن الأفق الأخلاقي للموت قد تغير: إن الأمر صار يتعلَّق «منذ انتحارهم» بشيء آخَر تمامًا. إنه الإقدام على الموت الخاص واستعماله دونما ارتكاز على أي آخرة أو وطن، بل فقط على مجرد «الحياة». ربما معهم فقط نحن ندخل في براديغم جديد: إنه الصراع على شكل الحياة، وليس على أي مضمون هووي لها، أكان دينًا أو وطنًا. مع مَن؟ مع الدول.
أجل، إن شكل أنفسنا الحديثة هو الدولة. وهي الاختراع الفذ لعصر العلمنة المطردة لمساحة المعنى بعد انحسار الرؤى الدينية التوحيدية وتحولها إلى «تراث» هووي للدولة-الأمة تستقي منه مادة «الهوية» الوطنية للفرد المعاصر. وهي الهدية الميتافيزيقية التي وهبتها السلط الاستعمارية للشعوب بعد العجز عن الاستمرار في احتلالها. نحن إذَن بالتصنيف الصحيح شعوب ما بعد كولونيالية «استقلت» عن المستعمر لكنها فشلت في أن تكون ما «تريد». وهكذا يتبين بشكل مؤلم أن الحصول على «الحرية» لا يكفي كي نشكل «هويتنا» التي نريدها. وأكبر مثال مزعج على هذا: أن الشعوب التي «ثارت» على العصر الدكتاتوري في أنحاء العالم العربي قد اصطدمت إلى حد الآن بصخرة «الدولة» التي لا تستطيع أن تغير «منطق» الحكم. «ثورات» تحولت إلى دروس فظيعة في «الندم» الديمقراطي.
ثمة مشكل جديد ينبثق من تحت غبار الثورات: أن «الثائر» ليس هو بالضرورة (التاريخية) «من» يحق له أن «يقود» الدولة. لقد تم لأول مرة الفصل بين الثورة والدولة بشكل كلبي، وعلى يد جيل من السياسيين «الهوويين»، أي الذين يواصلون حمل توقيعات دعوية وإيديولوجية تنتمي إلى العصر الدكتاتوري، أي إلى معجم نزاعات الدولة-الأمة. هذا الثائر الممنوع من الدولة هو الشباب الذي ينتحر.
لا تكمن الصعوبة في عدم توفر «نخبة» سياسية لدينا، بل في كونها نخبة تتكلم لغة سياسية متخلفة عن معجم الثورات التي حصلت، وهي حصلت بلغات «أخرى» لا يتكلمها الجيل «ما بعد» الدكتاتوري إلا تملقًا فحسب. إن القطيعة الأخلاقية العميقة بين جيل الكهول (الذي عاش وصاغ عقله العميق في كنف الدولة-الأمة الهووية والتي تحولت من دولة «الاستقلال الوطني» إلى دولة الحاكم الهووي والزعيم الدكتاتوري) وبين جيل الشباب (الذي تؤرقه مسائل الحياة أكثر من معارك الأمة مهما كان شكلها) هي قطيعة تاريخية تمت إساءة تقديرها إلى حد الآن بشكل مرعب. لا يتعلق الأمر بمجرد نزاع بين فئات عمرية أو بين سلطة بطركية ومراهقة متمردة، كما دأبنا على القول في يوم ما، بل بصدام بين حقبتين ميتافيزيقيتين: حقب الحداثة (نموذج الدولة-الأمة) وحقبة ما بعد الحداثة (عولمة ما بعد قومية). وعلينا ألا ننزعج من استعمال هذه المصطلحات وعلينا أن نستفيد من طاقتها التفسيرية فقط.
ربما من المؤسف أن نقول إن الدولة «الحديثة» لم يعُد لديها ما تقدمه لهذا الجيل «ما بعد الحديث»: إن مفاهيم الحداثة (الدولة-الأمة، السيادة، كونية حقوق الإنسان، الديمقراطية التمثيلية، المواطنة …) قد تبين أنها في شطر واسع منها مجرد «أصنام» سياسية للعصر العلماني. ليس المشكل في كون الدولة الحديثة دولة «خاطئة» أو «سيئة التنظيم» بل كون تاريخ العالم قد تغير. وصار نموذج «الدولة الوطنية» الذي أنجز مشروع الحداثة في كل مكان بمثابة عبء أخلاقي على الشعوب. وهو عبء لأنه يوهمها بقدرته «التاريخية» على إنجاز المهمتين الكبريين لوجوده أي التنمية والديمقراطية، أي الحياة والمعنى، والحال أنه قد «تقدم به العمر عن انتصاراته» كما يحلو لنيتشه أن يقول ذات مرة. إن فشل الدولة-الأمة ليس في مفهومها، بل في توقيتها العالمي.
إن ما ثار عليه الشباب، ما بعد القومي أو «المعولم» و«المعولِم» لقضاياه، هو الاستعمال الهووي للدولة في ظل الحكم الدكتاتوري، وليس مفهوم الدولة بعامة. إنهم ليسوا «فوضويين» إلا في أعين الديناصورات السياسية لحقبة العصر الدكتاتوري. ولا ضر إن كانت هذه الديناصورات (الميتة تاريخيًّا) ممن تقلد سابقًا وظائف في الدولة الوطنية أو ممن كان يعارضها على نمط حكمها. الفوضوي هو الذي يريد تدمير منطق الدولة الحديثة بعامة باعتبارها كارثة أخلاقية على مستطاع البشر. لكن الشباب الذي ينتحر ليس فوضويًّا ولا عدميًّا. بل هو من أحرص الجيل ما بعد الحديث على الدفاع عن حرمة الحياة.
طبعًا، كل مَن يحاول إنجاز أهداف «الثورة» بناءً على نموذج الدولة الهووية (الأمة الدينية، الأمة الوطنية …) هو يؤبد الحاجة إلى الحاكم الدكتاتوري. ومن المؤكد أن المكسب الأكبر للثورات منذ ٢٠١١م هو إعادة تشغيل الموتى سياسيًّا وتحويلهم إلى منقذين روحانيين. وربما ينبغي أن نسأل بصوت عالٍ في هذا الصدى الفارغ من الشعوب: هل علينا أن نختار بين المنتحرين وبين تشغيل الموتى؟
لكن ما يطالب به الشباب المنتحر هو الحياة، وليس أي برنامج أخلاقي هووي. هو لا يريد الآخرة ولا هو يريد أقنمة الوطن من أجل تشريع القمع الهووي للمعارضين. ما يريده هو تأمين الحق في الحياة.
ربما كان الانتحار ليس وسيلة أخلاقية مناسبة. وربما يجب علينا ألا ننصح أحدًا بأن يقتل نفسه من أجل قضيته مهما كانت سامية. ولا سيما حين يكون شابًّا. طبعًا، ليس هناك شيوخ من المنتحرين. والشيخ يعرف جيدًا أن مساحة الحياة هي الهدية الأخيرة من الآلهة، وأنه لا تفاوض عليها مع أي شكل مريح من الموت. لكن النصيحة الأخلاقية أو المرضية ليست الحل المناسب.
إن سبب الانتحار لديهم ليس شخصيًّا في شيء. إنه أول نمط غير شخصي من الانتحار. انتحار من أجل الحياة وليس تبخيسًا لها. بل ما وقع هو «تدنيس» الموت، وتحويله إلى أداة مريعة للتعبير. ومن أجل أنه انتحار غير شخصي فهو ليس كفرًا بأي إله توحيدي. إنه استعمال علماني للشهادة الدينية. وهذا يعني أنه انتحار بلا ثواب ولا فوائد. إنه تمرين للنفوس الحرة على النضال ما بعد القومي وعلى الجهاد ما بعد الديني من أجل الحق في الحياة. ومن الممكن أن نربط بين ظاهرة انتحار شباب الثورات وبين نكوص الدولة ما بعد الدكتاتورية على أعقابها الهووية: فعلى الرغم من العولمة فإن الدولة الهووية في صحة سياسية جيدة: انكفاء أمني على ذاتها وإعادة تثبيت الطموحات التسلطية والعمل على تقديم نفسها باعتبارها ضرورة استراتيجية للشعوب لا غنى عنها.
إلا أن ما قتل هؤلاء الشباب المنتحرين ليس عودة الدولة الأمنية إلى سالف عهدها الدكتاتوري على أيدي الديناصورات السياسية لفترة الدولة-الأمة «بعد أوانها»، فقط، بل سياسة السكوت الاستراتيجي حول «الحدث» الميتافيزيقي الذي أنجزوه: حدث الثورة. إنهم انتحروا صمتًا أو من ثقل السكوت الأخلاقي المطبق حول معاناتهم ولكن خاصة حول روعة ما قاموا به، وجلالة الهدية ما بعد التاريخية التي قدموها لشعوبنا، ولكن أيضًا لسياسيينا ومثقفينا: هدية الحرية من الحاكم الهووي الذي سرق عمر الشعوب ولكن أيضًا عقول المثقفين والمعارضين وحولهم إلى ظل تاريخي حزين لوجوده.