غاوية القرية

عند منعطف دَربٍ في التلال، إذ تقفُ شجرتا حورٍ كهَرَمين — بحيث جعلتا قريةَ بوترز بوند الصغيرة تبدو متقزِّمة، تلك القرية التي لا تضم إلا مجموعةً من البيوت المكدَّسة بعضها بجوارِ بعض — مشى رجلٌ ذات مرة مكتسيًا بثيابٍ ذات هيئةٍ ولونٍ لافتَيْن للانتباه بشدة؛ إذ كان يرتدي معطفًا أرجوانيًّا فاقعًا، ويعتمر قبَّعةً بيضاء مائلة على تجاعيدِ شعره السَّوداء العَطِرة، التي تنتهي بسالفتَيْن مزدهرتين على غِرار سالفتَي اللورد بايرون.

لم يكن لغزُ ارتدائه ثيابًا استثنائية لافتة من طراز العصور القديمة هكذا، وإن كان قد ارتداها بانطباعٍ يُوحي بأنَّها على أحدَث طرازٍ بل وسارَ بها مُختالًا، سوى واحدٍ من الألغاز العديدة التي حُلَّت في نهاية المطاف مع حلِّ لغز وفاته. المهم هنا أنَّه حين تجاوز شجرتَي الحور، بدا أنَّه اختفى كأنَّه تلاشى في الفجر الشاحِب المتوسِّع، أو كأنَّ رياح الصباح قد ذَرَتْه بعيدًا.

لم يُرَ مرَّة أخرى إلَّا بعد أسبوعٍ، حين وُجِدَت جثَّتُه على بعد ربع ميلٍ مُنسحقةً على الصخورِ الوعرة لحديقةٍ متدرجة تؤدِّي إلى بيتٍ ريفي مُكئِبٍ منعزلٍ يُدعى «ذا جرانج». وقُبيل اختفائه مباشرةً، سُمِع مُصادفةً وهو يتشاجر على ما يبدو مع بعضِ المارَّة، لا سيما حين أهانَ قريتهم واصفًا إيَّاها بأنَّها «نجع تافه بائس» (مستخدمًا كلمة Hamlet، أو هاملت التي تعني بالعربية: قرية صغيرة)، واعتُقِد أنَّه أثار الحَميَّة الوطنية المتعصِّبة لدى بعض سكان القرية، فراح ضحيَّتَها في النهاية؛ فقد شَهِد الطبيب المحلي، على الأقل، بأنَّ الجمجمة تعرَّضت لضربةٍ ساحقةٍ ربما أسفرتْ عن الوفاة، مع أنَّ المُرجَّح أنَّها ضُرِبَت بهراوة أو عصًا غليظة ليس إلَّا. وهذا مُتماشٍ تمامًا مع افتراض تعرُّضه لهجومٍ من قبل أشخاص ريفيِّين همجيِّين، ولكن لم يَعثرْ أحدٌ على أيِّ أثرٍ يقود إلى أيِّ شخصٍ ريفيٍّ محليٍّ مُحدَّد، وانتهى التحقيقُ إلى تقييدِ الجريمةِ ضدَّ مجهول.

بعد ذلك بعامٍ أو اثنين، أُعيد فتح القضية على نحوٍ غريب؛ إذ قادت سلسلةٌ من الأحداث شخصًا يُدعى الطبيبَ مالبورو — ويناديه أصدقاؤه المُقرَّبون ﺑ «مالبيري» (أي شجرة التوت) في إشارةٍ مُناسبة إلى طابعٍ خصبٍ ومثمر شبيه بالفواكه في هيئته الدائرية القاتمة ووجهه الأُرجواني بعض الشيء — إلى السفر بالقطار إلى قرية بوترز بوند برفقة صديقٍ كثيرًا ما كان يستشيره بشأنِ مثل هذه المشكلات. وبالرغم من مظهر الطبيب الخارجي الذي يُشبه زجاجة نبيذٍ برتغالي ويوحي بأنَّه أخرَقُ بسبب بَدَانته، فقد كانت له عينان مُتبصِّرتان وكان في الحقيقة رجلًا ذا حِسٍّ سليم مُدهِش جدًّا، وقد رأى أنَّه أظهَر حسَّه السليم هذا باستشارة قسٍّ ضئيل الحجم يُدعى براون تعرَّف إليه في قضيةِ تسمُّم منذ فترةٍ طويلة. كان القس الضئيل يقعد قُبالته في القطار بانطباعِ طفلٍ سقيم يتلقَّن تعليماتِ طبيبه، فيما كان الطبيبُ يشرح له الأسباب الحقيقية وراء هذه الرحلةِ بإسهاب.

قال الطبيب: «لا أتفقُ مع الرجل ذي المعطف الأرجواني في أنَّ قرية بوترز بوند مجرَّد نجعٍ تافه بائس، لكنَّها قريةٌ نائية ومنعزلة جدًّا بكلِّ تأكيد، لدرجة أنَّها تبدو بعيدةً تمامًا عن الحضارة، كأنَّها قادمة من قرنٍ مضى؛ فالعوانس يَغزلن الصوف كما يُوصَفْن؛ سحقًا، يكاد المرء يتخيَّل أنَّه يَراهُنَّ الآن يغزِلْن الصوف. والسيِّدات لَسن مُجرَّد سيدات، بل سيِّدات راقيات نبيلات، وصيدلي القرية ليسَ صيدلانيًّا بل عطارٌ، وتُنطَق مهنتُه نُطقًا عَفَا عليه الزمن. وأهالي القرية لا يعترفون بوجود طبيبٍ عاديٍّ مثلي إلَّا لكي يُساعد العطار، لكنِّي أُعَدُّ بالنسبة إليهم ابتداعًا حديثًا بعضَ الشيء؛ لأنني أبلغ من العمر سبعةً وخمسين عامًا فقط، وأعيش في المقاطعة منذ ثمانيةٍ وعشرين عامًا فقط. في حين يبدو المحامي كأنَّه يعرفُ القرية منذ ثمانيةٍ وعشرين ألف عام. ويعيش فيها أيضًا الأدميرال العجوز، الذي يُشبه إحدى شخصياتِ روايات ديكنز تمامًا؛ إذ يمتلئ بيتُه بسيوف مقوَّسة وأخطبوطات وبه تلسكوب.»

قال الأب براون: «أظنُّ أنَّ الأمواج دائمًا ما تجرف بعض الأدميرالات إلى السواحل، لكنِّي لم أفهم قَط لماذا يَنجرفون إلى الداخل هكذا بعيدًا عن الساحل.»

قال الطبيب: «بالتأكيد لا مكانَ عديمَ الروح في عُقرِ البلاد سيكون مكتملًا بدون أحَد هذه المخلوقات الصغيرة. وتضم القرية بالطبع قَسًّا مناسبًا لها؛ إذ يتبنَّى أيديولوجيةً مُحافِظة ويعتنق معتقدات الكنيسة العُليا وَفقَ نهجٍ عتيقٍ جدًّا يعود تاريخُه إلى حقبة القسِّ ويليام لود كبير أساقفة كانتبري، وهو أشبه بامرأةٍ عجوز من أيِّ امرأةٍ عجوز. هذا فضلًا عن أنَّه قارئ دءُوب أبيض الشعر، وأسهل تعرُّضًا للانْشِداهِ من العَوانس. وفي الواقع، فالنساءُ الراقيات، وإن كُنَّ يعتَنِقْن مبادئَ بيوريتانية متشدِّدة، فأحيانًا ما يكُنَّ صريحاتٍ جدًّا في كلامهن، كما كان البيوريتانيون الحقيقيون. وذات مرَّة أو مرَّتين، رأيتُ الآنسة العجوز كارستيرز-كارو تستخدم تعبيراتٍ مفعمةً بالروح كأيِّ كلماتٍ واردة في الإنجيل. صحيحٌ أنَّ القسَّ المُسِن دءُوبٌ في قراءة الكتاب المقدس، لكنِّي أكاد أتصوَّرُ أنَّه يتعمَّد تجاهُلَ هذه النوعية من الكلمات حين يراها. حسنًا، تعرفُ أنني لستُ عَصريًّا للدرجة. فلا أستمتعُ بموسيقى الجاز وقيادة السيارات المسروقة بجنونٍ، وما إلى ذلك من ممارسات «الشبان المشرقين».»

قال الأب براون: ««الشبان المشرقون» أنفسهم لا يَستمتعون بها. هذه هي المأساةُ الحقيقية.»

أضاف الطبيب: «لكنِّي بالطبع أكثر اتصالًا بالعالم الخارجي من أهالي هذه القريةِ العالقة في عصر ما قبل التاريخ. وقد وصلتُ إلى مرحلةٍ كِدتُ فيها أن أحتَفيَ بالفضيحةِ الكُبرى التي شهدَتْها القرية.»

قال القسُّ مبتسمًا: «لا تقُل إنَّ الشبان المشرقين قد وجدوا قرية بوترز بوند في النهاية.»

قال الطبيب: «آه، حتى فضيحةُ قريتنا قائمة على أُسسٍ ميلودرامية قديمة. هل عليَّ القولُ إنَّ ابنَ القس هو أساس مشكلتنا على الأرجح؟ سيكون الأمر غيرَ مألوف لو أن ابن القس ملتزمٌ تمامًا بالآداب العامة. وعلى حدِّ علمي، فعدم التزامه محدودٌ للغاية، وبدرجةٍ تكاد تكون طفيفة؛ فقد شوهِدَ لأوَّلِ مرَّةٍ يتجرَّع الجعة خارج حانة بلو ليون. يبدو أن ما يعيبُه فقط هو أنه شاعر، والشعراء في مثل هذه المناطق أقربُ إلى الصيَّادين غير الشرعيين.»

قال الأب براون: «بالتأكيد لا يُمكن أن تكون هذه هي الفضيحةَ الكبرى، حتى ولو في بوترز بوند.»

أجاب الطبيب بجدِّية: «كلَّا. لقد بدأَت الفضيحة الكُبرى هكذا. في البيت المدعو ذا جرانج، الواقع في أقصى أطراف الغابة الصغيرة، حيث تعيش سيدة؛ سيدةٌ وحيدة، وتُطلِق على نفسِها السيدة مالترافيرس (هكذا نَنطقها)، وقد وفدت إلى القرية منذ عامٍ أو اثنين فقط، ولا أحدَ يعرف عنها شيئًا. وقد قالت عنها الآنسةُ كارستيرز-كارو: «لا أفهم لماذا ترغبُ في العيش هنا ونحن لا نزورُها».»

قال الأب براون: «ربما لذلك تريدُ العيش هناك.»

واصل الطبيب كلامه قائلًا: «حسنًا، يرى الأهالي عُزلتَها مريبةً، وينزعجون من مظهرها الجميل، بل ومن سلوكها الذي يوصَف بأنَّه لطيف. وكلُّ الشبان يُحذَّرون من أنَّها امرأةٌ لَعوب تُغوي الرجال.»

قال الأب براون: «مَن يفقدون كلَّ إحسانهم عادةً ما يفقدون كلَّ حِسِّهم المنطقي. من السُّخف أن يتذمَّروا من انزوائها على نفسِها، ثم يتهمُوها بإغواء كلِّ الذُّكور.»

قال الطبيب: «هذا صحيح. ومع ذلك، فهي شخصيةٌ مُحيِّرة حقًّا بعض الشيء. لقد رأيتها، ووجدتها مثيرةً للاهتمام؛ فهي إحدى تلك النساءِ السمراوات، طويلة وأنيقة وقبيحة قُبحًا جميلًا، أظُنَّك تفهم قصدي. إنَّها خفيفة الظلِّ نوعًا ما، ومع أنَّها شابة يافعة، وَصلني انطباعٌ أكيد بأنَّ لدَيها ما يُسمُّونَه … حسنًا، ما يُسمُّونَه الخبرة. وما تُسمِّيه السيدات العجائز ماضيًا مشينًا.»

قال الأب براون: «وكأنَّ السيدات العجائز كلَّهنَّ قد وُلِدن في التَّو. أظنُّ أنَّ بوسعي تصوُّرَ أنَّ الأهالي يعتقدون أنَّها أغوَت ابنَ القس.»

قال الطبيب: «نعم، ويبدو أنَّ هذه مشكلةٌ فظيعة جدًّا للقس العجوز المسكين. فمن المفترض أنَّها أرملة.»

هنا اكتسى وجهُ الأب براون بلمعانٍ خاطف وتشنُّج ناجمَيْن عن انفعال نادرًا ما يَعتريه. وقال: «من المفترض أنَّها أرملة، كما أنَّ ابن القس من المفترض أن يكون ابنَ القس، كما أنه من المفترض أنَّ المحامي محامٍ ومن المفترض أنَّك طبيب. لماذا لا يصدِّقون أنَّها أرملة حقًّا بحقِّ السماء؟ هل لدَيْهم أي دليلٍ ظاهر يدفعهم إلى الشكِّ فيما تقوله عن نفسِها؟»

أعاد الطبيب مالبورو كتفَيْه العريضتَيْن إلى الوراء فجأة، وجلس منتصبًا. وقال: «إنَّك مُحِقٌّ مرَّة أخرى بالطبع، لكننا لم نصِلْ إلى الفضيحة بعدُ. حسنًا، الفضيحة أنَّها أرملة.»

قال الأب براون: «آه.» وتغيَّرت قَسَماتُ وجهه وقال كلمةً خافتة خَفيضة، ربما كانت «يا ربِّي!»

قال الطبيب: «بادئَ ذي بَدْء، لقد اكتشفوا شيئًا عن السيدة مالترافيرس. إنَّها ممثِّلة.»

قال الأب براون: «لقد تصوَّرتُ ذلك. والسبب غير مهم أبدًا. ولديَّ تصوُّرٌ آخر عنها سيبدو أبعدَ صلةً بالموضوع.»

قال الطبيب: «حسنًا، كان اكتشاف أنَّها ممثِّلة يُشكِّل فضيحةً كافيةً آنذاك؛ فالقسُّ المُسِن العزيز مفطورُ القلب بالطَّبع حين يفكِّر أنَّه سيموت بحَسرته قبل الأوان بأيدي ممثلةٍ لعوب مُستهترة. وصرخَتِ العوانس صرخةً جماعية في وقتٍ واحد. لقد اعترف الأدميرال بأنَّه أحيانًا ما يذهب إلى مسرحٍ في البلدة، لكنَّه يعترض على وجود مثل هذه الأمورِ «وسطنا»، على حدِّ قوله. حسنًا، أمَّا أنا، فالطبع ليس لديَّ أيُّ اعتراضاتٍ خاصَّة من هذا النوع. فهذه الممثلة امرأة بكلِّ تأكيد، حتى وإن كانت «امرأة داكنة»، على غرار تلك التي وُصِفَت في السونيتات، والشابُّ مُغرمٌ بها للغاية، وأنا بلا شكٍّ مغفَّلٌ عجوز مرهف الحس ليُخالجني تعاطفٌ تسلَّلَ خفية إلى طياتِ نفسي مع الشاب المضلِّل الذي يتسلَّل خفيةً حول المنزل الريفي المُحاط بخندقٍ مائي، وكنتُ مستغرقًا في حالةٍ مزاجيَّة رومانسية تمامًا تجاه هذه القصة الريفية الشاعرية حين وقعت الصاعقةُ فجأة. وقد أُرسلْتُ، أنا الشخص الوحيد الذي حَمل تعاطفًا تجاه هذَيْن الاثنين، لأكون رسولَ الموت.»

قال الأب براون: «حسنًا، ولماذا أُرسِلْت؟»

أجاب الطبيب بنوعٍ من التأوُّه:

«السيدة مالترافيرس ليست مجرَّد أرملة، بل أرملةُ السيد مالترافيرس.»

أقرَّ القسُّ قائلًا بنبرةٍ جادة: «تبدو معلومةً صادمة، بناءً على الطريقة التي تقولُها بها.»

واصل صديقُه الطبيب قائلًا: «والسيد مالترافيرس هو الرجل الذي قُتِل حسبما يبدو في هذه القرية نفسها قبل عامٍ أو اثنين؛ إذ يُعتَقد أنَّ أحد أهالي القرية البُسطاء ضرَبه على رأسه ضربةً قاتلة.»

قال الأب براون: «أتذكر أنَّك حدَّثْتَني عن ذلك. لقد قال الطبيب، أو بالأحرى شِبه الطبيب، إنَّه مات على الأرجح بسبب ضربةٍ بهراوة على رأسه.»

سكت الطبيب مالبورو بُرهةً بقسَماتٍ عابسة من الحرج، ثم قال باقتضاب:

«الكلب لا يأكل كلبًا، والأطباء لا يعضُّون أطباء، حتى وإن كانوا أطباء مجانين. لست حريصًا على إبداء أيِّ رأي بخصوص سَلَفي المرموق في قرية بوترز بوند، إذا كان بوسعي تجنُّب ذلك، لكنِّي أعرف أنَّك تُؤتمن على الأسرار حقًّا. وليكُن هذا سرًّا بيننا؛ لقد كان سَلَفي المرموق في بوترز بوند أبلهَ لعينًا؛ إذ كان محتالًا مُسِنًّا ثملًا، وغير كفءٍ على الإطلاق. وقد طلب منِّي رئيس شرطة المقاطعة في البداية (لأنني أعيش في المقاطعة منذ فترةٍ طويلة، وإن كنت لم أُقِم في القرية إلَّا مؤخرًا) أن أدقِّق في القضية برمَّتها، بما في ذلك أقوال الشهود وتقارير التحقيق وما إلى ذلك. وببساطةٍ لا يوجد أيُّ شكٍّ في ذلك. صحيحٌ أنَّ مالترافيرس ربما ضُرِب على رأسه؛ إذ كان ممثلًا متسكِّعًا يتجوَّل في أرجاء القرية، ومن المرجَّح أنَّ أهالي بوترز بوند يظنُّون أنَّ ضرْبَ مثل هؤلاء الأشخاص على رءوسهم متسقٌ تمامًا مع النظام الطبيعي، لكنَّ أيًّا كان مَن ضَرَبه على رأسِه لم يقتُلْه؛ فمن المُستحيل ببساطة أن تُسفِر الإصابة، كما وُصِفت في التقارير، عن أكثر من فُقدان وَعْيِه بضعَ ساعات، لكنِّي توصَّلت مؤخَّرًا إلى حقائق أخرى متعلقة بالقضيَّة، ويبدو أنَّ نتيجة ذلك شديدةُ القتامة.»

استرخى الطبيب في جِلْسته محدِّقًا بعُبوس إلى المنظر الطبيعي، وهو ينزلقُ بسلاسةٍ على النافذة مع حركةِ القطار، ثم قال باقتضابٍ أشَد: «ها أنا ذاهبٌ إلى هناك، وأطلب مساعدتك؛ لأنَّنا سنستخرجُ الجثة. ثمة شكٌّ قويٌّ في أنَّ القتيل سُمِّم.»

قال الأب براون بابتهاج: «وها قد وصلنا إلى المحطة. أظنُّك تتصوَّرُ أنَّ مصدر تسمُّم الرجل المسكين يكمُن بطبيعةِ الحال في واجباتِ زوجته المنزلية.»

أجاب مالبورو بينما كانا يترجَّلان من القِطار، قائلًا: «حسنًا، لا يبدو أبدًا أنَّ أيَّ شخصٍ سواها هنا كان على علاقةٍ به. يُوجد على الأقل رجلٌ وحيد غريبُ الأطوار كان صديقًا قديمًا له، وهو ممثلٌ عاطلٌ يتسكَّع في القرية بلا عمل، ولكن يبدو أنَّ رجال الشرطة والمحامي المحلي مقتنعون بأنَّه شخصٌ تطفُّلي مضطرب، ولديه تشبُّث بفكرة شجارٍ وقَع مع ممثلٍ كان عدوَّه، لكنَّه لم يكن مالترافيرس بالتأكيد. وينبغي لي القول إنَّ ذلك كان حادثًا عابرًا، ولا صلةَ له بمسألة التسمم بكلِّ تأكيد.»

سمع الأب براون القصة، لكنَّه كان يعلمُ أنَّه لا يعرف أيَّ قصةٍ على حقيقتها أبدًا إلَّا حين يعرف شخصياتها؛ لذا أمضى اليومَيْن التاليَيْن أو الثلاثة في التنقُّل في أرجاء القرية، ببعض الحجج المهذَّبة، لزيارة أبطال القصَّة الرئيسيين. كانت مقابلتُه الأولى مع الأرملة الغامضة قصيرةً لكنَّها أنارتْ له الطريق؛ إذ خرج منها بحقيقتَين على الأقل؛ أولاهما: أنَّ السيدة مالترافيرس أحيانًا ما كانت تتحدث بأسلوبٍ قد تصفُه القرية العالقة في العصر الفيكتوري بأنَّه ساخر؛ وثانيتهما: أنَّه تصادَف أنَّها تنتمي إلى طائفتِه الدينيَّة نفسها، مثل عددٍ غير قليل من الممثِّلات.

لكنَّه لم يكن يفتقر إلى المنطق (ولا إلى الرأي القويم)؛ لدرجة أن يستنتج من ذلك وحده أنَّها بريئةٌ من الجريمة المزعُومة. بل كان يُدرك جيِّدًا أنَّ العديد من السُّجناء البارزين ينتمون إلى طائفته الدينية القديمة. غير أنَّه لم يجد صعوبةً في فهم علاقة انتماء الممثِّلة إلى هذه الطائفة، في قضية كهذه، بحرِّيةٍ فكرية معينة يصفُها هؤلاء المتشددون بأنَّها انحلال، وتبدو بالتأكيد لهذه الرقعة الضيِّقة الأُفق العالقة في عصرٍ إنجليزي أقدم أنَّها حريةٌ ذات طابعٍ عالميٍّ لا تنتمي إلى حُدودهم المحليَّة الضيقة. على أيِّ حال، كان متيقنًا من أنَّها يمكن أن يكون لها تأثير، إمَّا بالخير وإما بالشر. كانت عيناها البنِّيتان شجاعتَين إلى حدِّ الصِّدام، وأشار فمُها الغامض، الذي كان رطبًا وكبيرًا بعضَ الشَّيء، إلى أنَّ مآربها من الشَّاعر ابن القسِّ، أيًّا كانت ماهيتها، كامنةٌ في أعماقها.

أمَّا الشاعر ابن القسِّ نفسه، الذي حاوره الأب براون على دكَّةٍ خارج حانة «ذا بلو ليون» وسط ثرثرةٍ هائلة من أهالي القرية عن فضيحتِه، فأعطى انطباعًا بالتجهُّم الخالص. كان هاريل هورنر، ابن القسِّ صامويل هورنر، شابًّا مُربَّع البِنية ذا حُلَّةٍ رمادية باهتة ورابطة عنق خضراء باهتة به لمسةٌ فنية بعض الشيء، ولم يكن في مظهره شيءٌ ملحوظ عمومًا بخلافِ ذلك سوى شعره الكستنائي الطويل الكثيف وتجهُّمه الدائم، لكنَّ الأب براون كان ذا قدرةٍ خاصَّة على استدراج المُعرِضين عن الكلام إلى توضيحِ سبب تكتُّمهم بإسهابٍ طويل؛ إذ بدأ الشاب يتفوَّه بألفاظٍ نابية علانيةً عن النَّميمة والإِفك المنتشرَيْن عمومًا في القرية، بل خاض هو نفسه في الحديث قليلًا عن بعضِ الفضائح. فتحدَّث بمرارةٍ عن مغازلاتٍ مزعومة في الماضي بين الآنسةِ المتشددة كارستيرز-كارو والسيد كارفر المحامي. بل اتَّهم رجل القانون بأنَّه حاول فرْضَ نفسِه على دائرة معارف السيدة مالترافيرس، ولكن حين تطرَّق إلى الحديثِ عن أبيه، اكتفى ببضعِ كلماتٍ مقتَضبة، ربما بدافع من تأدُّب مرير أو بر بأبيه، أو لأنَّ غضبه كان أعمقَ من أن يوصَف بالكلمات.

قال: «حسنًا، إليك القصة. إنَّه يتهمها ليلًا ونهارًا بأنَّها امرأةٌ لعوب متبرِّجة، أشبه بنادلةِ حانة ذات شعر مُذهَب. قُلتُ له إنَّها ليست كذلك؛ وها أنت قد التقيتَ بها بنفسك، وتعرفُ أنَّها ليست كذلك، لكنَّه لن يلتقيَ بها حتى. بل لن يراها حتى في الشارع أو ينظر إليها عبرَ نافذة. إنه يرى أنَّ ممثِّلةً مثلها ستُدنِّس بيتَه، بل وحضرته المُقدَّسة. وإذا وُصِف بأنَّه متشدد، قالَ إنَّه فخورٌ بأنَّه متشدِّد.»

قال الأب براون: «من حقِّ أبيك عليك أن تحترم آراءَه، أيًّا كانت، وإن كانت آراءً لا أفهمها جيِّدًا، لكنِّي أتفق في أنَّه لا يحقُّ له أن يُصدر حكمًا مسبقًا على سيدةٍ لم تسبق له رؤيتها، ثم يرفض حتى النظرَ إليها، ليتيقَّن من مدى صحة حُكمِه. هذا غير منطقي.»

أجاب الشاب: «هذه أكثر مواقفه تعنُّتًا. إنه يرفض حتى أن يلتقي بها لقاءً خاطفًا. وبالطبع يلعنُ مُيولي المسرحية الأخرى أيضًا.»

وسرعان ما استغلَّ الأب براون هذا الاستهلال الجديد، وعرف كثيرًا ممَّا كان يريد معرفته. كان الشِّعرُ المزعوم، الذي كان وصمةً في شخص الشاب، كُلُّه تقريبًا شعرًا مسرحيًّا. فكَتَب تراجيديَّاتٍ منظومةً في قصائد نالتْ إعجاب نُقَّاد ذوي حسٍّ فني جيِّد. لم يكن مجرَّد أحمق مهووس بالمسرح، بل لم يكن أحمقَ على الإطلاق. لقد كان يحمل أفكارًا مُبدعة بشأن تمثيل مسرحيات شكسبير؛ لذا كان من السهل فهمُ انبهارِه وسعادته بالعثور على السيِّدة الرائعة في منزل «ذا جرانج». وحتى التعاطف الفكري الذي أبداه القسُّ تجاه الشاب المتمرد ليَّن عريكتَه كثيرًا لدرجة أنَّه ابتسم بالفعل عند افتراقِهما.

كانت تلك الابتسامة هي التي كشفتْ للأب براون فجأةً أنَّ الشابَّ بائسٌ حقًّا. فلو أنَّه ظلَّ عابسًا فقَط، لَبَدا أنَّه قد يكون مُصابًا بمحضِ نوبة اكتئاب، ولكن حين ابتسم، كشفت ابتسامته بطريقةٍ ما كشفًا أصدقَ عن حُزنه العميق.

ظلَّ هاجسٌ ما يلاحق القسَّ بشأنِ ذلك اللقاء الذي جمَعَه بالشاعر، فقد أكَّد له شعورٌ داخليٌّ أنَّ ذلك الشاب القوي البنية يتآكَلُ من الداخل بسبب حزنٍ أشدَّ من الألم الناجم عن مثل هذه القصص التقليدية التي يقفُ فيها الآباء التقليديون عقباتٍ في طريق حُبٍّ حَقيقي. ومما عزَّزَ ذلك عدم وجود أيِّ أسبابٍ أخرى بديلة واضحة تُفسِّره. فالشاب قد أحرز من النجاحِ الأدبي والمسرحي قدرًا لا بأسَ به، ويمكن القول إنَّ كتبَه تحقق ضجةً مدوية. هذا بالإضافة إلى أنَّه لم يكنْ يشرب المُسكِرات ولم يُبدِّد ثروته التي نالها بجدارة. حتى عربداته السيئة السُّمعة في حانة «ذا بلو ليون» تضاءلت حتى صارتْ مقتصرةً على كأسٍ واحدة من الجعة الخفيفة، وكان يبدو مُقتصدًا بعضَ الشيء في إنفاق أمواله؛ ومن ثَمَّ فكَّر الأب براون في مشكلةٍ أخرى محتملة متعلِّقة بثروة هاريل الطائلة وإنفاقه المُقتصِد، فاكفهرَّ جبينُه.

كان الأب براون متيقنًا من أنَّ الآنسة كارستيرز-كارو، التي زارها تاليًا، ستُركِّز في حوارها معه على وصفِ ابن القسِّ بأبشع الصفات، ولكن لأنَّها خصَّصت حديثَها لاتهامه بكلِّ الرذائل الخاصة التي كان الأب براون متيقنًا تمامًا من أنَّ الشاب لم يأتِ بها؛ فقد أرجَعَ كلامها إلى مزيجٍ شائع من التشدُّد والنميمة. ومع ذلك، كانت الآنسة، بالرغم من غَطرستها، سخيَّةً للغاية وقدَّمت إلى الزائر كأسًا صغيرة من النبيذ البرتغالي وشريحةً من كعك البُذور، على غِرار أخوات الأجداد المُسِنَّات لدينا جميعًا، قبل أن ينجحَ في الإفلات من خطبةٍ عن انحلال الأخلاقِ والآداب العام.

كانت محطتُه التالية على النقيض تمامًا من تلك؛ لأنَّه توارى في زقاقٍ مُعتم قذِر، حيث كانت الآنسة كارستيرز-كارو سترفض السير وراءه، حتى ولو في الخيال، ثم دَلَف إلى بنايةٍ سكنية جماعية ضيقة كانت أصخبَ ضجيجًا بسبب صوتٍ عالٍ وانفعالي في إحدى حجيرات سطحها … ثم ظهر مجددًا حين خرجَ من تلك البناية، بقسماتٍ مذهولة بعضَ الشيء، ولحقه إلى الرصيف رجلٌ منفعل جدًّا ذو ذقنٍ مُكتسٍ بلونٍ أزرق وسترةٍ طويلة سوداء بَهَت لونها إلى الأخضر الداكن كان يصيحُ بنبرةٍ جدالية، قائلًا: «لم يختفِ! مالترافيرس لم يختفِ قَط! بل ظهر، لقد ظَهَر ميتًا وأنا ظهرتُ حيًّا. ولكن أين بقية أفرادِ الفِرقة؟ أين ذلك الرجل، ذلك الوحش، الذي تعمَّد سَرقة دوري المسرحي، وإفساد أفضل مشاهدي التمثيلية، وتدمير مسيرتي المهنية؟ لقد كُنت أفضل مَن جَسَّد شخصية «توبال» على خشبةِ المسرح على الإطلاق. أمَّا هو، فمَثَّل دور «شايلوك».لم يحتَجْ إلى أن يُمثِّل كثيرًا كي يُتقن أداء هذه الشخصية! وكذلك كان الحال حين واتَتْني أعظم فرصةٍ في مسيرتي المهنية كلها. يُمكنني أن أريك قصاصات جرائد تتحدَّث عن أدائي شخصية «فورتنبراس».»

قال القسُّ القصير لاهثًا: «أنا متيقنٌ تمامًا من أنَّ أدوارك كانت رائعة ومُستحقة تمامًا. لقد عرفتُ أنَّ بقية أفراد الفِرقة غادروا القريةَ قبل وفاة مالترافيرس، لكنَّ كل شيء على ما يرام. كل شيء على أحسن ما يرام.» وبدأ يقطعُ الشارع مُسرِعًا مرَّة أخرى.

أردفَ الخطيب الجامح الذي ظلَّ يسير وراءَه: «كان سيُؤدي شخصية بولونيوس.» فتوقَّف الأب براون تمامًا فجأة.

وقال ببطءٍ شديد: «آه، كان سيُؤدِّي شخصية بولونيوس.»

صاح الممثل: «هذا الوغد هانكين! عليك بتعقُّب أثره. عليك بتعقُّبه إلى أقاصي الأرض! لقد غادَر القرية بالطبع؛ ثِق أنَّه فعلَ ذلك. فلتتعقبه وتعثر عليه، ولعلَّ اللعنات …» لكنَّ القس عاود الإسراع في مشيته.

أعقب هذا المشهد الميلودرامي لقاءان عاديَّان للغاية وربما أكثر عَمَلية بكثير؛ إذ ذهب القس أولًا إلى البنك، حيث ظلَّ عشر دقائق في اجتماعٍ خاصٍّ مع المدير، ثم أجرى زيارةً واجبة إلى القسِّ العجوز الودود. وهنا أيضًا، بدا كلُّ شيءٍ مُشابهًا كثيرًا لما وُصِف له، لم يتغير وغير قابل للتغيُّر على ما يبدو، لم يزد عليه سوى لمسةٍ إيمانية أو اثنتين مُسْتَوحاتَين من تقاليد أكثر تزمُّتًا، تمثَّلت في الصليب النحيل المُعلَّق على الحائط، والإنجيل الكبير الموضوع على المَقرأ، واستهلال القسِّ العجوز حديثه بالتحسُّر على التجاهل المتزايد لأيام الأحَد، لكنَّ كلَّ ذلك كان مُكتسيًا بطابعٍ من الدَّماثة التي لم تخلُ من لفَتاتها المُهذَّبة البسيطة وتَرَفِها الخافت.

قدَّم القسُّ أيضًا لضَيفه كأسًا من النبيذ، لكنَّها كانت مصحوبةً هذه المرَّة ببسكويت بريطانيٍّ قديم بدلًا من كعك البذور. وانتاب الأب براون مرَّة أخرى ذلك الشعورُ الغريب بأنَّ كل شيءٍ أكثر مثاليةً من اللازم، وأنَّ مضيفه يعيش في زمانٍ أقدم من زمانه بقرنٍ كامل، ولكن عند إحدى مراحل اللِّقاء، رفض القسُّ المُسِن الودود أن يَلين إلى أيِّ قدرٍ آخر من الودِّ؛ إذ أكَّد بنبرةٍ لطيفة، لكنَّها حازمة، أنَّ ضميره لن يسمح له بلقاء ممثلة مسرحية. ومع ذلك، وضع الأب براون كأس النبيذ مُبدِيًا تقديره وشكره لمضيفه، وانصرف للقاءِ صديقه الطبيب حسب اتفاقهما عند ناصيةِ الشارع، ومن هناك ذهبا معًا إلى مكتب السيد كارفر المحامي.

استهلَّ الطبيب الحديث قائلًا: «أظنُّك خُضتَ الجولةَ الكئيبة، ووجدتَها قريةً مُملة جدًّا.»

كان ردُّ الأب براون حادًّا وبنبرة شبه صارخة: «لا تصف قريتَك بالمملة. أؤكِّدُ لك أنَّها قرية استثنائية بالفعل.»

قال الطبيب مالبورو: «أظن أنني كنت أتعامل مع الشيء الاستثنائي الوحيد الذي حدث هنا. وحتى ذلك الشيء حَدَث لشخصٍ من خارج القرية. ينبغي أن أُخبرك بأنَّ السُّلُطات نجحت في استخراج الجثة سرًّا الليلة الماضية، وقد شرَّحتُها صباح اليوم. وبعبارةٍ واضحة، لقد استخرجنا جثَّة محشوَّةً بالسم بكلِّ وضوح.»

كرَّر الأب براون كلام الطبيب بشيءٍ من الشُّرود، قائلًا: «جثَّة محشوة بالسم. صدِّقني، قريتك فيها شيءٌ أكثر استثنائيةً من ذلك بكثير.»

ثم خيَّم صمتٌ لحظيٌّ فجأة، تَبعه الشدُّ المفاجئ أيضًا للجرَس العتيق الذي يعمل بالشدِّ في رواق بيت المحامي، وسرعان ما اقتِيدا إلى حضرة ذلك المحامي الراقي، الذي عرَّفهما بدوره إلى سيِّد ذي شعرٍ أبيض ووجهٍ أصفر يحمل ندبةً، بدا أنَّه الأدميرال.

بحلول ذلك الوقت، كانت الأجواء العامة للقَرية قد غاصَتْ تقريبًا في لاوعيِ القسِّ القصير، لكنَّه كان واعيًا بأنَّ المحامي كان بالفِعل من نوعية المحامين الذين يصلُحون لأن يكونوا مستشارين لأشخاصٍ مثل الآنسة كارستيرز-كارو، ولكن مع أنَّه كان شخصًا عجوزًا من غابر الأزمان، فقد بدا أكثرَ من مجرَّد عجوز عفا عليه الزمن. ربما كانت وحدة الخلفية في كلِّ مكانٍ ذهب إليه الأب براون في هذه القرية هو الذي دفَعَه إلى اعتقاد ذلك، لكنَّه أحسَّ مرةً أخرى بالشعور الغريب نفسه بأنَّه قد أُعيد إلى أوائل القرن التاسع عشر، لا أنَّ المحامي قد عاش حتى أوائل القرن العشرين؛ فكانت ياقتُه ورابطة عنقه مُصمَّمتين عمدًا لتبدوا أشبه بعمودٍ طويل وهو يغرس ذقنه الطويل فيهما، لكنَّهما كانَتا نظيفتَيْن ومستويتي الحواف، بل كان به شيء يوحي بأنَّه عجوز مُتأنِّق شديد الجمود والجفاء. باختصار، كان ما يصفُه البعض بأنَّه محتفظٌ بحالة جيِّدة على مرِّ الزمان، حتى وإن كان ذلك قد تحقَّق جزئيًّا بتحجُّره كالحفريات.

أبدى المحامي والأدميرال، وحتى الطبيب، بعضَ الذهول حين اكتشفوا أنَّ الأب براون كان ميَّالًا للدفاع عن ابن القسِّ ضد تحسُّرات أهل القرية على خيبةِ أملهم فيه نيابةً عن القس.

قال الأب براون: «ظننتُ شخصيًّا أنَّ صديقنا الشاب جذَّابٌ بعض الشيء. إنَّه مُتحدِّث بارع، وأظنُّه شاعرًا بارعًا أيضًا، والسيدة مالترافيرس، التي كانت جادَّةً بشأن ذلك على الأقل، تقول إنَّه ممثل بارع جدًّا.»

قال المحامي: «في الحقيقة، إن أهالي بوترز بوند، بعيدًا عن السيدة مالترافيرس، أكثر ميلًا للتساؤل عما إذا كان ابنًا بارًّا.»

قال الأب براون: «إنَّه ابنٌ بارٌّ. هذا هو الشيء الاستثنائي.»

قال الأدميرال: «سُحقًا، هل تقصد أنَّه يحبُّ أباه حقًّا؟»

تردَّد القس، ثم قال: «لستُ متيقِّنًا تمامًا من ذلك. وهذا هو الشيء الاستثنائي الآخر.»

سأله الأدميرال بلهجةٍ نابية سائدة بين البحَّارة: «ماذا تقصد بحقِّ الجحيم؟»

قال الأب براون: «أقصدُ أنَّ الابن ما زال يتحدَّث بلهجةٍ قاسية خالية من التسامح عن أبيه، ولكن يبدو أنَّه برغم كل شيء أدَّى واجبَه تجاهه بأكثر ممَّا ينبغي. لقد تحدثت إلى مدير البنك، وبينما كُنَّا نُحقِّق سرًّا في جريمةٍ خطيرة، بإذنٍ من الشرطة، أخبرني بالحقائق. لقد تقاعد القسُّ العجوز عن عمله الرعوي، بل إنَّ هذه القرية لم تكن أبرشيته قَط. ومثل هؤلاء الأهالي، الوثنيين إلى حدٍّ كبير، حين يذهبون إلى الكنيسة، إن ذهبوا إليها أصلًا، يذهبون إلى كنيسة دوتون-أبوت، التي تبعُد عن هنا أقل من ميلٍ واحد. أي إنَّ الرجل العجوز لا يملك موارد مالية خاصة، لكنَّ ابنه يجني مالًا وفيرًا، والعجوز يحظى برعايةٍ مالية جيَّدة. لقد قدَّم لي نبيذًا مُعتَّقًا من أجود الأنواع، ورأيت عنده صُفوفًا من زجاجاتٍ قديمة متربة من ذلك النبيذ، وقد تركته جالسًا أمام غداءٍ أنيق باهظ الثمن. ولا بد أنَّ ذلك تَوفَّر بأموال الشاب.»

قال كارفر بشيءٍ من السخرية: «ابنٌ مثاليٌّ جدًّا.»

أومأ الأب براون بعبوسٍ كأنَّه يُقلِّب في رأسه أحجيةً تُحيِّره، ثم قال: «ابنٌ نموذجي. لكنَّه نموذجيٌّ كإنسانٍ آلي.»

في تلك اللحظة أحضَر أحد الموظفين إلى المحامي رسالةً غير ممهورةٍ بأي ختم، مزَّقها المحامي بنفاد صبرٍ بعد نظرةٍ واحدة خاطفة إليها. وعندما سقطت قصاصاتها على الأرض، لمح القسُّ كتابةً يدويةً متشابكة فوضوية، وتوقيعًا باسم «فينيكس فيتزجيرالد»، وخمَّن ما أكَّده المحامي لاحقًا باقتضاب.

إذ قال المحامي: «إنَّه ذلك الممثل الميلودرامي الذي يُزعجنا دائمًا. إنه يُكِنُّ عداءً راسخًا تجاه أحد زملائه الممثِّلين الذي مات منذ فترةٍ طويلة، لكنَّه عداءٌ لا يُمكن أن يكون مرتبطًا بالقضية إطلاقًا. ونحن نرفضُ جميعًا رؤيته، ما عدا الطبيب، الذي رآه. والطبيب يقول إنَّه مخبول.»

قال الأب براون وهو يزمُّ شفتيه متأملًا: «نعم. ينبغي أن أقولَ إنه مخبول، ولكن لا شكَّ في أنَّه مُحِقٌّ بكل تأكيد.»

صاح كارفر بحدة: «مُحِق؟ مُحِقٌّ في ماذا؟»

قال الأب براون: «في ارتباط هذه القضية بالفِرقة المسرحية القديمة. أتعرفون أوَّل ما أثارَ حيرتي في هذه القصة؟ إنَّه ذلك التصوُّرُ أنَّ أهل القرية قتلوا مالترافيرس؛ لأنَّه أهان قريتهم. يا له من شيء استثنائيٍّ ذلك الذي يستطيع المحقِّقون في أسباب الوفاة أن يجعلوا المُحلَّفين يُصدِّقونه، والصحفيون بالطبع لديهم استعدادٌ لتصديق كلِّ شيء بسرعةٍ هائلة لا تُصدَّق. فهُم لا يعرفون الكثير عن القرويين الإنجليز. أنا شخصيًّا قروي إنجليزي، وقد ترعرعتُ على الأقل، مع سُذَّج مغيبين آخرين، في إسكس. هل يُمكن أن تتخيلوا فلَّاحًا إنجليزيًّا يرى قريتَه مثالية ويُؤَنسنُها‎ كمواطنِ دولةٍ مدينة يونانية قديمة، أو يستلُّ سيفه دفاعًا عن رايتها المقدسة كرجُلٍ في جمهورية بلدةٍ إيطالية صغيرة في العصور الوسطى؟ هل يُمكن أن تسمعوا قرويًّا طاعنًا في السن يقول: «لن تُمحى ولو لطخة واحدة من فوق شعارِ نبالة بوترز بوند إلَّا بالدَّم وحده.» أقسمُ بالقدِّيس جورج والتنِّين أنني كنت أتمنَّى أن يكونوا هكذا! ولكن، في الواقع، لديَّ حجَّةٌ أكثر عَمَليةً تدعم التصوُّر الآخر.»

ثم سَكَت برهة، كأنَّه يُلملم أفكاره، قبل أن يُردف قائلًا: «لقد أساءوا فهم تلك الكلمات الأخيرة القليلة التي سُمِع مالترافيرس المسكين يتفوَّه بها. فلم يكن يقول لأهالي القرية إنَّ قريتهم محضُ نجعٍ تافه. بل كان يتحدث إلى ممثلٍ آخر؛ لأنَّهم كانوا سيُقدِّمون عَرْضًا سيُجسِّد فيه فيتزجيرالد شخصية فورتنبراس، ويُمثِّل هانكين المجهول دور بولونيوس، فيما كان مالترافيرس سيؤدي دور أمير الدنمارك بالتأكيد. ربما أراد شخصٌ آخرُ أداء الدور، أو أبدى آراء حول طريقة أداء الدور، فقال له مالترافيرس بغضَب: «ستكون هاملت (التي تعني أيضًا نجعًا صغيرًا) تافهًا بائسًا.» هذا كلُّ ما في الأمر.»

كان الطبيب مالبورو مُحدِّقًا، وبدا أنَّه يستوعبُ افتراض الأب براون ببُطء، ولكن من دون صعوبة. ثم قال أخيرًا قبل أن ينبس الآخران ببنتِ شفة: «وماذا تقترحُ علينا أن نفعل الآن؟»

قام الأب براون فجأةً بعض الشيء، لكنَّه تحدَّث بأدبٍ كافٍ وقال: «إذا أذِنَ لنا هذان السيدان المُهذَّبان ببضع لحظات، أقترحُ أن نذهب أنا وأنت، أيها الطبيب، في الحال إلى منزل آل هورنر. أعرفُ أنَّ القس وابنَه كليهما سيكونان هناك الآن. وإليك ما أريد فعله أيُّها الطبيب. أظنُّ أن لا أحدَ في القرية قد عرف حتى الآن بشأن تشريح الجثة ونتائجه. أريدك ببساطة أنَّ تُخبِر القسَّ وابنه كليهما، بينما هما معًا، بحقيقة القضيةِ بالضبط؛ أنَّ مالترافيرس مات بالسُّم وليس بضربةٍ قاتلة.»

كان لدى الطبيب مالبورو سببٌ يجعله يعيد النظر في تشكيكه في كلام الأب براون حين قال إنَّها قرية استثنائية. أمَّا المشهد الذي أعقبَ ذلك، والذي نفَّذ فيه طلب الأب براون بحذافيره، فكان بلا شكٍّ من نوعية المشاهد التي لا يكاد المرء فيها يُصدِّق عينيه، على حد قول المَثَل.

كان القسُّ صامويل هورنر واقفًا في عباءته السوداء، التي أبرَزَت ابيضاضَ شعر رأسه الوقور، وكان مستندًا بيده آنذاك على المِقْرَأ، الذي كثيرًا ما كان يقفُ أمامه لدراسة الإنجيل، وربما كان واقفًا أمامه حينئذٍ بمحض الصُّدفة، لكنَّه أضفى عليه مزيدًا من السلطة والهيبة. وفي الجهة المُقابلة، كان ابنه المتمرِّد جالسًا على أحد الكراسي باسطًا ذراعيه وقدمَيه، يُدخِّن سيجارة رخيصة بوجهٍ مُكتسٍ بعبوسٍ شديد على نحو استثنائي، في صورة حيَّة لعُقوق الشبان وعدم تقواهم.

أشار القسُّ العجوز إلى الأب براون بلُطفٍ ليتَّخذ مقعدًا له، فأخذه وجلس عليه في صمت، مُحدِّقًا إلى السقف بشرودٍ خالٍ من أيِّ تعبيرات، لكنَّ شيئًا ما جعل مالبورو يشعر بأنَّ النبأ المهمَّ الذي لديه سيكون أشدَّ إبهارًا إذا قاله واقفًا.

قال الطبيب: «أشعر بأنَّك يجب أن تعرف، بصفتك الأب الروحي لهذا المجتمع من منظورٍ ما، أنَّ إحدى المآسي الفظيعة المحفوظة في سجلَّاته قد اكتسبت بُعدًا جديدًا، ربما أكثر فظاعةً. لعلَّك تتذكَّر تلك القضية المُحزنة الخاصَّة بوفاة مالترافيرس، الذي تَقرَّر أنَّه قُتِل بضربة عصًا بأيدي أحد خصومِه الريفيِّين على الأرجح.»

أومأ القس إيماءةً بيدٍ متذبذبة وقال: «مَعَاذَ الربِّ أنَّ أقول إن أيَّ شيء قد يُهوِّن من فظاعة العنف القاتل تحت أيِّ ظرف، ولكن حين يجلب ممثِّلٌ شرَّه إلى هذه القرية البريئة، فإنَّه يتحدَّى حُكم الرب.»

قال الطبيب بجدية: «ربما، ولكن على أيِّ حال، لم يكن الحُكم النهائي في القضية صحيحًا. لقد كُلِّفتُ للتو بفحص رفات القتيل، وبإمكاني أنَّ أؤكِّد لك؛ أولًا: أنَّ الضربة التي تلقَّاها على رأسه لم يكن من الممكن إطلاقًا أن تُسبِّب الوفاة؛ وثانيًا: أنَّ الجثة كانت مليئةً بالسم، الذي سبَّب الوفاة بلا شك.»

وهنا رمى الشاب هاريل هورنر سيجارته في الهواء، وانتفض من كرسيِّه بخفَّة القطط ورشاقَتها، ليهبط على بُعد ياردة واحدة من مِنضدة القراءة.

وقال لاهثًا: «هل أنت متيقِّنٌ من ذلك؟ هل أنت متيقنٌ تمامًا من أنَّ تلك الضربة لا يُمكن أن تسبب الوفاة؟»

قال الطبيب: «متيقنٌ تمامًا.»

قال هاريل: «حسنًا، أكاد أتمنَّى أن تفي هذه الضربةُ بذلك.»

وفي لمح البصر، قبل أن يتمكَّن أيُّ أحد من تحريك إصبعٍ واحد، لَكَم هاريل القسَّ لكمةً صاعقةً في فمِه، دافعًا إيَّاه إلى الوراء كدُميةٍ سوداء مُفككة ليرتطم بالباب.

صاح مالبورو مرتعشًا من شعر رأسِه إلى أخمص قدمه، من شدَّة الصدمة وصوت الضربة وحده: «ماذا تفعل؟ ماذا يفعل هذا المجنون، أيُّها الأب براون؟»

لكنَّ الأب براون لم يُحرِّك ساكنًا، بل ظلَّ يُحدِّق بهدوء إلى السقف.

ثم قال بهدوء: «كنت أنتظرُ منه أن يفعلَ ذلك. بل أتعجب من أنَّه لم يفعلْ ذلك من قبل.»

فصاح الطبيب: «يا إلهي! أعرف أننا ظننَّاه قد تعرَّض لبعض الظُّلم، ولكن أن يضرب أباه، أن يضربَ قسًّا ورجلًا مُسالِمًا …»

قال الأب براون: «لم يضرب أباه، ولم يضرب قسًّا. بل ضَرَب مُمثِّلًا وغدًا مُبتزًّا مُتنكرًا في ثوب رجل دين، عاش عالةً عليه طوال سنوات. والآن، صار يعرف أنَّه تحرَّر من الابتزاز، ففرَّغ كَبْته في وجه مُبتزِّه، ولا يُمكنني القول إنني ألومه كثيرًا على ذلك. لا سيما أنَّ لديَّ شكوكًا قوية في أنَّ المُبتز هو نفسه مَن دَسَّ السم. أرى يا مالبورو أنَّ من الأفضل أن تتصل بالشرطة.»

ثم خرَجَا من الغرفة دون أن يعترضهما أيٌّ من الرجلين الآخرين، اللذين كان أحدهما مترنِّحًا مصابًا بالدوار، والآخر كان لا يزال هائجًا يُزمجر ويلهث بمزيجٍ من مشاعر الارتياح والغضب، ولكن في أثناء خروجهما، التفت الأب براون فجأةً إلى الشاب، وكان الشاب واحدًا من الأناس القلائل جدًّا الذين رأوا ذلك الوجهَ حاقدًا لا يعرف التسامح.

قال الأب براون: «كان مُحِقًّا في ذلك. حين يجلب مُمثِّلٌ شرَّه إلى هذه القرية البريئة، فإنَّه يتحدَّى حُكم الرب.»

حين جلس الأب براون والطبيب مرَّة أخرى في عربة قطارٍ متوقف في محطة بوترز بوند، قال: «حسنًا. كما قُلتَ، إنَّها قصة غريبة، لكنِّي أظن أنَّها لم تعُدْ قصة غامضة. على أيِّ حال، تبدو لي تفاصيل القصة هكذا تقريبًا. أتى مالترافيرس إلى هنا، مع جزءٍ من فرقته الفنية المتجولة، وذهب بعضهم مباشرةً إلى كنيسة دوتون-أبوت، حيث كانوا جميعًا يُقدِّمون عرضًا مسرحيًّا ميلودراميًّا عن حقبة أوائل القرن التاسع عشر، فيما تصادف أن كان مالترافيرس نفسه يتسكَّع في أرجاء القرية مرتديًا ثيابه المسرحية، التي كانت ثيابًا مميزةً جدًّا لرجل متأنق من تلك الحقبة. كانت إحدى الشخصيات الأخرى في ذلك العرض المسرحي قسًّا عتيقَ الطراز ذا ثيابٍ داكنة أقلَّ تميُّزًا، وربما كانت تُعَدُّ مجرَّد ثياب قديمة الطراز. وقد أدَّى هذه الشخصيةَ رجلٌ كان غالبًا ما يُمثِّل أدوارَ رجال عُجُز؛ إذ أدَّى دور شايلوك، وكان سيُؤدي دور بولونيوس بعد ذلك.

أمَّا الشخصيةُ الثالثة في ذلك العرض المسرحي، فهي شاعرنا المسرحي، الذي كان ممثلًا مسرحيًّا أيضًا، وتنازع مع مالترافيرس على كيفية تأدية دور «هاملت»، لكنَّ نزاعهما كان متعلقًا أكثر بمسائل شخصية أيضًا. أظنُّ أنَّه ربما كان يحب السيدة مالترافيرس حتى في ذلك الوقت؛ لا أعتقد أنَّهما ارتكبا أيَّ خطأ، وآمل أن يكون موقفُهما قد صار على أحسن ما يُرام الآن، لكنَّ المُرجَّح أنَّه كان مغتاظًا من مالترافيرس بسبب ذلك الزواج؛ لأنَّ مالترافيرس كان عدوانيًّا ومفتعلًا للمُشاجرات. وفي واحدةٍ من تلك المشاجرات، تقاتلا بالعِصي، وضَرَب الشاعر مالترافيرس بقوةٍ شديدة على رأسه، وفي ضوء ما توصَّل إليه التحقيق، كان منطقيًّا تمامًا أن يظنَّ أنَّه قتله.

كان ثمة شخصٌ ثالث حاضرًا تلك الواقعة أو علم بأمرِها، وهو الرجل الذي مثَّل دور القس العجوز، وقَد شَرَع في ابتزاز القاتل المزعوم، مُجبِرًا إيَّاه على تحمُّل تكاليف إعاشته بقدرٍ من الترف والرفاهية بصفتِه قسًّا متقاعدًا. كان التنكُّر البديهي لرجلٍ كهذا في مكانٍ كهذا أن يواصل ببساطةٍ ارتداءَ ثيابه المسرحية التي تُظهره في هيئة قَسٍّ، لكنَّه كان لديه سببٌ خاص يدفعه إلى التظاهر بأنَّه قسٌّ متقاعد بالأخص؛ وذلك لأنَّ قصة موت مالترافيرس الحقيقية كانت أنَّه تدحرج إلى داخل تشابكاتٍ عميقة من أشجار السرخس، ثم تعافى تدريجيًّا، وحاول السير إلى أحد البيوت، قبل أن يهلكَ في نهاية المطاف، ليس بالضربة، بل بالسمِّ الذي دسَّه له القس الخيِّر قبل ذلك بساعةٍ في كأسٍ من النبيذِ على الأرجح. لقد بدأت هذه الفكرة تخطُر ببالي، حين شربت كأسًا من نبيذ القس، وذلك جعلني متوترًا قليلًا. تُحقِّق الشرطة الآن في مدى صحة هذه النظرية، لكنِّي لا أعرف هل سيستطيعون إثبات ذلك الجزء من القصة أم لا. سيتعيَّن عليهم تحديد الدافع الدَّقيق، ولكن من الواضح أنَّ هذه الفرقة المسرحية كانت تضج بالشِّجارات، وأنَّ مالترافيرس كان مكروهًا للغاية.»

قال الطبيب مالبورو: «قد تُثبِت الشرطة شيئًا ما؛ إذ صار لديهم الآن الشُّبهة المحتملة، لكنَّ ما لا أفهمه هو السبب الذي دفعَك إلى الشكِّ من الأساس. ما الذي جعلك تشكُّ في هذا السيد النبيل البريء ذي العباءة السوداء بحقِّ السماء؟»

ابتسم القس ابتسامة خافتة وقال: «أظنُّ، من منظورٍ ما، أنَّها مسألةُ معرفةٍ خاصة، أو تكاد تكون مسألة مهنية، ولكن من منظورٍ غريب. تعرفُ أنَّ مُجادلينا كثيرًا ما يشتكون من وجود جهلٍ شديد بماهيَّة ديننا الحقيقية، لكنَّ الأمر أغرب من ذلك في الواقع. صحيحٌ، وليس غريبًا على الإطلاق، أنَّ إنجلترا لا تعرف الكثير عن كنيسة روما، لكنَّ إنجلترا لا تعرف الكثير عن كنيسة إنجلترا نفسِها، ولا حتى بقدر ما أعرف. ولسوف تُدهَش من قِلة فهم عموم الناس للمجادلات الأنجليكانية؛ فالكثيرون منهم في الواقع لا يعرفون المقصودَ بقسٍّ أنجليكاني مُنتمٍ إلى الكنيسة العُليا أو قسٍّ أنجليكاني مُنتمٍ إلى الكنيسة السُّفلى، حتى في مسائل الممارسة الخاصة، فضلًا عن نظريتي التاريخ والفلسفة اللتَيْن انبثقتْ منهما هذه المسائل. يُمكنك أن ترى هذا الجهل في أيِّ صحيفة، أو في أيِّ رواية أو مسرحية شعبية.

والآن، كان أول انطباعٍ وصَلَني عن هذا القس المبجَّل أنَّه كان خليطًا فوضويًّا للغاية من كلِّ شيء؛ فلا يوجد قَسٌّ أنجليكاني يُمكن أن يكون مُخطئًا هكذا بشأن كلِّ مسألة أنجليكانية. كان من المفترض أنه قسٌّ أنجليكانيٌّ مُسِنٌّ مُحافِظٌ مُنتمٍ إلى الكنيسة العُليا، ثم تفاخر بأنَّه بيوريتاني. صحيحٌ أنَّ رجلًا كهذا ربما يكون متزمِّتًا بعض الشيء في شخصه، لكن ما كان ليصف ذلك أبدًا بأنَّه بيوريتانية. لقد تظاهَر بالاشمئزاز من المسرح؛ إذ لم يكن يعرفُ أنَّ قساوسة الكنيسة العُليا عادةً ما لا يُكِنُّون مثل هذا الاشمئزاز الشديد تجاه المسرح، وإن كان قساوسة الكنيسة السفلى يفعلون ذلك. وكان يتحدَّث كبيوريتاني عن أيام الأحد، في حين أنَّه كان يُعلِّق صليبًا في حجرته؛ لذا كان واضحًا أنَّه لم يكن يعرف أيَّ شيء عمَّا يجب أن يكون عليه القس الشديد التديُّن، باستثناء أنَّه يجبُ أن يبدو شديد الرصانة والوقار والاستنكار تجاه ملذَّات الدنيا.

وطوال هذا الوقت، كانت ثمة فكرة تدور في عقلي الباطن؛ شيءٌ لم أستطع ترسيخه في ذاكرتي، ثُمَّ خَطَر ببالي فجأة أنَّ هذا الرجل قسٌّ مسرحي. فذلك بالضبط هو الأحمق العجوز المُبجل الغامض الذي يُمثِّل أقربَ تصوُّرٍ لدى أيِّ كاتب أو ممثل مسرحي من المدرسة القديمة عن أيِّ شيءٍ شديد الغرابة مثل رجلٍ متدين.»

قال مالبورو مازحًا: «بالإضافة إلى طبيبٍ من المدرسة القديمة ليس مؤهَّلًا لمعرفة الكثير عن ماهية رجل متدين.»

تابع الأب براون: «في الواقع، كان يوجد سببٌ أوضح وأكثر جلاءً للاشتباه في ذلك الرجل. إنَّه متعلقٌ بالسيدة السَّمراء التي تعيش في منزل «ذا جرانج»، والتي كان من المفترض أنَّها غاويةُ القرية.

لقد كوَّنتُ انطباعًا مبكرًا للغاية بأنَّ هذه البقعة السوداء هي النقطة المُضيئة في القرية. لقد اعتبرها أهالي القرية لُغزًا غامضًا، ولكن لم يكن ثمة أيُّ غموض بشأنها في الحقيقة. لقد وفدت إلى هنا مؤخرًا بعلانيةٍ تامة أمام الجميع، وباسمها الحقيقي، لمساعدة السُّلطات في التحقيقات الجديدة المزمع إجراؤها بشأن زَوجها. صحيحٌ أنَّ زوجها لم يكن يعاملها بالحُسنى، لكنَّها كانت ذات مبادئ، ما يوحي بأنَّها كانت مدينة بشيءٍ ما لاسمِ زوجها الذي تحمله وللعدالة العامة. وللسبب نفسه، ذهبت لتعيشَ في المنزل الذي عُثِر أمامه على جثةِ زوجها. أمَّا الذمة الأخرى التي كانت مستقيمة وبريئة من ادِّعاءات أهالي القرية، إلى جانب ذمَّة غاوية القرية، فكانت ذمَّة ضحية فضيحة القرية، أي الابن الفاسق للقس. فهو أيضًا لم يُخفِ مهنته الحقيقة ولا صلتَه الماضية بعالم التمثيل؛ لذا لم أشك فيه كما شككتُ في القس، لكنَّك كنت ستُخمِّن سببًا حقيقيًّا وذا صلة بالقضية للشكِّ في القس بالفعل.»

قال الطبيب: «نعم، أظنني أفهمُ أن ذلك ما يجعلك تورد اسم الممثلة في حوارك معه.»

قال الأب براون: «نعم، أقصد إصرارَه المتعصِّب على عدم رؤية الممثلة، لكنَّه في الواقع لم يكنْ يُمانع أن يراها، بل كان يُمانع أن تراهُ هي.»

صَدَّق الطبيب على كلامه قائلًا: «نعم، أفهم ذلك.»

«لو رأت القس المُبجَّل صامويل هورنر، لعرفت على الفور أنَّه الممثل هانكين غير المُبجل على الإطلاق متنكرًا في هيئة قسٍّ زائف يُخفي وراءها شخصية خبيثة جدًّا. حسنًا، هذه في اعتقادي هي كلُّ تفاصيل هذه الملحمة القروية البسيطة، ولكن يَنبغي أن تعترف بأنني وَفيت بوعدي؛ إذ أريتُكَ شيئًا أكثر إثارةً في القرية من جثَّة، حتى وإن كانت جثةً محشوَّة بالسم؛ فعباءة القسِّ السوداء المحشوة برجل مُبتزٍّ أجدر بالاهتمام على الأقل، والرجل الحيُّ الذي اكتشفتُه أشد فتكًا من الرجل الميِّت الذي اكتشفتَه أنت.»

قال الطبيب مُرخيًا ظهره وسط مساند مقعده: «نعم. لو خُيِّرتُ لاصطحاب صُحبةٍ مريحة في رحلةٍ بالقطار، لَحبَّذْتُ الجثَّة.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤