نبذة تاريخية

طالما أشاد الناس بذكر «بار ثلوميو دياز» يوم أن طاف برأس العواصف كما هلَّل الكثيرون لمرور السفن من قناة السويس بعد فتحها، لكن فاتَهم أن ذلك لم يكن بالشيء الجديد المستحدث، فلقد حاول فرعون مصر «نكو» قبل ميلاد المسيح بنحو ستمائة سنة فتح قناة النيل والبحر الأحمر، والقناة التي تصل بحر أرتريا فتحها سيتي قبل ذلك بسبعمائة عام، وكانت تقطعها السفن في أربعة أيام وكان اتساعها يكفي لمرور سفينتين متجاورتين بمجاذيفهما، وقد مات في حفرها في عهد «نكو» اثنا عشر ألفًا، وقد خلَّف «نكو» عمله هذا غير تام حتى أتمه دارا الفارسي ولحاجته لإرسال أسطوله الحربي تحت قيادة بعض الإغريق ليصل البحرين، بعث نفرًا من الفينيقيين بسفنه وأمرهم ألَّا يرجعوا إلا عن طريق أعمدة هرقل Pillars of Hercules وهو جبل طارق عائدين لمصر أعني بعد الطواف حول أفريقية كلها، وفي السنة الثالثة من بدء رحلتهم أتموا ذلك وقصُّوا على الفرعون عجبًا، أنهم وهم يطوفون بليبيا رأوا الشمس ظهرًا ناحية يدهم اليمنى، أي أنها تميل عنهم شمالًا بعد أن كانت وهم في نصف الكرة الشمالي لا تميل إلا إلى الجنوب بالنسبة لهم، ويرجح الكثيرون أن المصريين جميعًا هاجروا من أواسط أفريقية في عصور قبل التاريخ وحلوا مصر، ويؤيدون ذلك بقرب الشبه بين سِحَن المصريين الأصفياء وبين بعض قبائل كنيا اليوم — نخص منهم المساي والتوركانا — وقد يكون لآثار زمبابوي في رودسيا علاقة بالمصريين، ولا شك أن لنهر النيل العظيم أثرًا كبيرًا في توزيع الإنسان قديمًا؛ لأن سير الإنسان كان قيد الأنهار الكبيرة، ولقد سجَّل الإغريق علاقتهم بشرق أفريقية إلى زنجبار منذ القرن الثاني قبل الميلاد، ولعلهم أتباع الفينيقيين والعرب من قبلهم، ولما أعقبهم الروم وأُغرِموا بالذهب والأحجار الكريمة لا يبعد أن يكونوا قد فتحوا طرقًا تجارية إلى هنالك، ولدينا وثيقة كتبها إغريقي هو Periplus قبل الميلاد يصف بعض المِيَن التجارية من ممباسا شمالًا ويقصُّ عن زوارق القوم من الشجر المنقور أو الألواح الموثوقة بالحبال وشباك الصيد وتجارة العاج الهائلة وقشور السلاحف وقُوَّاد السفن من العرب والقرصان، وبعض السلع كالقمح والنبيذ والزجاج والأسلحة المعدنية، وبعد ذلك بقرن كان بطليموس يحاضر ويكتب عن جغرافية أفريقية ومنابع النيل مستندًا إلى المعلومات التي استقاها من رحَّالة الإغريق ومن مؤرخي الهنود الذين اعتلَوْا هضابَ كنيا وافدين من السواحل الشرقية.
على أن هناك أسرارًا يَحارُ فيها العلماء من بينها كشفُ أراضي الذهب بين اللمبوبو والزمبيزي في رودسيا الجنوبية، وكذلك بعض الأعمال الهندسية للري حول الزمبيزي وفوق الجميع آثار زمبابوي (وزمبابوي معناها مصانع الذهب أو مطاحنه) ولا ندري متى بدأ الإنسان استغلال تلك المناجم وصياغة الذهب، ويظن البعض أن زمبابوي من عمل البانتو في القرون الوسطى، ويرى البعض أنها من عمل الهنود الدرافيديين، والراجح أنها من عمل عرب سبأ عهد سليمان، وعلى ذلك فرودسيا تعد موطن مناجم الملك سليمان، وكان ثغر سوفالا الذي أرسل منه الذهب والعاج والفضة والقردة والطاووس إلى أوفير Ophir من بلاد اليمن أو سبأ حيث نشأت الملكة شيبا Sheba وسلكت طريق القوافل الموصلة إلى بيت المقدس، وهي التي بعث إليها سليمان وهرون يجلبان منها الذهب والأحجار الكريمة والعقاقير والبخور والعصيَّ الحلوة «قصب السكر».
ويغلب على الظن أن عرب سبأ لم يستعمروا رودسيا بل استغلوا مناجمها وبنَوْا معبدَ زمبابوي وغيرَه واستخدموا في العمل الهنود والشعوب السوداء، يؤيد ذلك الأثرُ القديم الذي يُرى شاخصًا للهنود والعرب في أهل سواحل أفريقية الشرقية، ولا يُعلَم مبدؤه باليقين، فالمسعودي يخبرنا عن ممتلكات العرب وتوابعهم من الهنود في القرن العاشر، وفي لغة أهل السواحل والجزائر وبعض عاداتهم ما يؤيد صلتَهم بالعرب منذ القدم وفي الأقاصيص أن سام Shem أبَ آسيا الصفراء ما هو إلا سبأ وحام أبَ أفريقية السوداء هو كوش Cush ذاك الاسم الذي نطلقه على بلاد النوبة وهؤلاء ما هم إلا سبأ أيضًا.

انقطع حبل التاريخ فترة طويلة إلى ٦٠٠ بعد الميلاد وفي ٧٤٠ حمل العرب دعوةَ الإسلام إلى هنالك، وقد أجمع المؤرخون على أن العصر الذهبي لشرق أفريقية هو العصر العربي حين ازدهرت التجارة وقامتِ المِيَن وفُتحتِ الطرق في داخل القارة، وكان سكان أفريقية هم الخدم والأتباع؛ لأن العرب أقاموا نفوذهم على الرقيق وتسخيره في الزراعة على طول السواحل الخصبة، تلك التي أضحت أهراء بلاد العرب، وقد ربتِ المحصولات لدرجة بررت اعتبار أفريقية بالنسبة لآسيا في القرن الثامن كموقف أمريكا من أوروبا اليوم، وغالب مدنهم الساحلية بين كلوا ومجديشو لا تزال قائمة إلى اليوم، وبعد انتشار الإسلام قام زيدٌ حفيدُ عليٍّ — كرَّم اللهُ وجهَه — على رأس طائفة من الملحدين وحلوا سواحل شرق أفريقية إلى خط الاستواء وامتزجوا بالأهلين، وبعدهم بقليل وفد كثير من المسلمين وطاردوا أشياع زيدٍ وتقدموا إلى سوفالا حيث وجدوا الذهب فاستقروا هناك، وقص المسعودي — الذي زار أفريقية — في كتابه «مروج الذهب» عن العرب والفرس الذين سلكوا طريق الرياح الموسمية من مدغشقر وشرق أفريقية إلى ساحل ملابار وسيلان، والسفن التي كانت تسير بين البحر الأحمر والخليج الفارسي وسوفالا وعن أقزام البشمن الذين أسماهم «واق الواق» وعن زنوج البانتو الذين كانوا يجتاحون البلاد جنوبًا ويتبادلون الذهب والعاج وجلود الفهود وقشور السلاحف مع العرب لنقلها لأسواق الهند والصين.

وفي القرن الحادي عشر قام طائفة من الشيعة الفرس وحلو ثغر كلوة وكانوا خصومَ مسلمي العرب هناك وغالبوهم وأشرفوا على سوفالا وملندة وممباسا وبمبا وزنجبار ومافيا وموزمبيق، وكان لهم مَحَاطُّ عندَ الزبيزي وفي مدغشقر والجزائر المجاورة، وقد جاء ابن بطوطة يقص علينا نبأ نفوذ العرب التجاري فقال بأنهم كانوا يقيمون المدن على الجزائر التي يسهل حمايتها، واستبدلوا ببيوت الطين والخشب القديمة بيوتًا من الحجر بسقوف مسطحة وأفاريز تطل على أزقة ضيقة متلوية، وقد قامت سراي السلطان تواجه البحر، وكانت مآذن المساجد تبدو مشرفة وسط المساكن، وحول تلك البيوت البيضاء نسقت الحدائق وبواسق النخيل، وكانت طبقة الأرستقراطيين والأغنياء من العرب تسير بأرديتها الفضفاضة في شيء من الوقار والأبهة وسط الطرق، وقد مُيِّز المسلمون عن كافة الألوان بلبس العمامة وحمل السيف حتى ولو لم يكن بعضهم يرتدي من الملابس شيئًا، وكان السيف هامًّا لديهم لكثرة الخصوم وتعدد المنازعات بين مسلمي العرب والفرس وبين أرفاض «زيد» وبين السنيين العرب والشيعة من الفرس وبين الكَفَرة من السود لا بل وبين كل أولئك. على أنه رغم كل ذلك فقد امتزج العرب بالبانتو وكان المولَّدون من أولئك واسطة جلب المتاجر من الداخل، ولم يتوطن العرب في الداخل بعيدًا عن السواحل، بل كانوا يستفيدون من الضرائب على طريقة قرطاجنة وكانوا ينقلون متاجرهم في سفنهم المسماة dhows التي لُقبتْ بطيور السماء العظيمة تلك التي غالبت الرياح الموسمية إلى قاليقوت وكان يديرها المولدون، وكان الوسطاء في قاليقوت من الأروام وأهل الشرق الأقصى الذين وفدوا بالبهار من جزائر الملوك وبالأخشاب العطرة والحرير من الصين واليابان.

ثم أقبل عهد «ماركوبولو» في القرن الثالث عشر فوصف الإقليم قائلًا إن أهل زنجبار عبدة أصنام جسومهم ضخمة يأكل الواحد من الغِذَاء ما يكفي خمسة أشخاص، وهم سود يسيرون عرايا وأشكالهم كأنها العفاريت طعامهم اللحم واللبن والأرز والبلح، وقال بأن الفيل والزراف يوجدان هناك بكثرة وأن أهلها شجعان بواسل في القتال يحاربون على ظهور الفِيَلة والإبل، على أن البعض يشك في صدق تلك الرواية؛ لأن «بولو» لم يَزُرِ الجزيرة بنفسه.

وقد وصف أحد مؤرخي القرن الرابع عشر أهلَ مجدشو بأنهم نَهِمون في الأكل دباغون يلتهم الواحد غِذَاء جمهورٍ كبير وحدَه، وأن ممباسا مدينة كبيرة تغص بالموز والليمون وأن أهلها ديِّنون شرفاء، وأن «كلوا» بيوتها من خشب وقد ظل مُلْك السلاطين فيها خمسمائة سنة، ويظهر أن غالب الناس والحكام هناك كانوا من المنفيين من بلاد فارس.

البرتغال: على أثر تقرير قُدِّم لملك البرتغال سنة ١٤٨٥ يحبذ زيارة أملاك العرب الشاسعة في شرق إفريقية، أرسل فاسكو دجاما مع أربع سفن بحارتها من المجرمين الذين وعدوا بإطلاق صراحهم في الشرق، لكن استقبال البرتغال هناك كان قاسيًا إذ دخلوا في نزاع مع العرب دام قرنًا كاملًا، وأخذ نفوذ البرتغال وإمبراطوريتهم يمتد وساعدها انقسام العرب وضعفهم في البحر عن أعدائهم، وكان غرض البرتغال في البدء تجاريًّا، وقد حنقت عليها البندقية سيدة تجار البحر الأبيض إذ ذاك، ومصر التي خشِيَتْ ضياعَ ٢٩٠ ألف جنيه كانت تَرِدُها في العام مكوسًا تجارية، فتعاون كل أولئك على البرتغال، لكن شاءت المقادير أن ينتصر «المايدا» على المصريين والعرب في واقعة «ديو» وبذلك أصبح المحيط الهندي بحرًا برتغاليًّا لمدة قرن. على أن البرتغال لم يتوغلوا في داخل أفريقية لوحشية الأهالي ولكثرة الأوبئة لذلك لم يحس نفوذهم في الداخل خصوصًا وأنهم لم يستخدموا العرب وسطاء لهم خوفًا منهم وحنقًا عليهم، ولقد بدءوا أعمال التبشير لكنه لم يجد فتيلًا رغم اختلاط جنودهم بالسود والهنود ومصاهرتهم مما أضعف نفوذهم حربيًّا، ولقد تدهوروا مدنيًّا؛ لأن سياستهم كانت تقوم على الابتزاز والأسلاب ليس غير، وأتم انحلالَ نفوذهم ضمُّ فيليب بلاد البرتغال لإسبانيا فأصبح أعداء إسبانيا الكثيرون أعداءً للبرتغال، وبدأت مزاحمة هولندا وإنجلترا وفرنسا لهم.

تقدمت أساطيل هولندا إلى جنوب أفريقية وأقامت شركات تجارية والهولندي بحكم طبيعة بلاده وسيط تجاري على أن عيبهم كان عدم التضامن فهم اعتادوا القيام جماعات صغيرة لا يهمهم جيرانهم من بني جنسهم مما دعا شركاتهم إلى التنافس الذي أضعفهم، وزادت هجرة الأوروبيين إلى الكاب هولنديين وألمانًا وفرنسيين خصوصًا طوائف الهوجنوت الذين فروا من فرنسا إلى هولندا فشجعتْهم هذه على السفر لجنوب أفريقية وتصاهر الجميع مع السود والهنود فكان منهم شعوب البوير (المزارعين)، وقد ساعدتْهم نزعتهم إلى الرعاية على الارتحال بعيدًا في داخل القارة وافدين من الجنوب؛ ولذلك نقلوا عناصر مدنيتهم إلى قلب أفريقية.

بدأت مزاحمة الإنجليز بعد أن أخذوا الغلبة في البحار وتحول المركز المالي العالمي من أمستردام إلى بنك إنجلترا في لندن، وقام أهل اسكتلنده المعروفون بالمثابرة إلى جانب الإنجليز المعروفين بالمغالبة والمخاطرة في شيء من الحرص وساعدهم على الفوز افتقار الشركة الهولندية إلى الحكمة حتى فسد موظفوها وابتزوا منها الأموال الطائلة مما أضعف ماليتها، أضف إلى ذلك خسائر الحرب وكره الأهالي لها أولئك الذين بدءوا يطالبون بالاشتراك في حكومة البلاد وألحوا في دستور مسطور خصوصًا بعد أن نجحت ثورة أمريكا ضد الاستعمار.

وصلت سفن الإنجليز وأمَّنتِ السكان على متاعهم ومنحتهم حرية الاتجار وأُبقِيَ الموظفون في أماكنهم إلا الوظائف الرئيسية التي أخذها الإنجليز لأنفسهم، ومال الإنجليز إلى كَلْنَزَة البلاد لكن اللغة الهولندية كانت لغة الكنيسة، أما لغة الكلام فكانت الإنجليزية إلى جانب الهولندية، وطالب الناس بجعل أفريقية للأفريقيين، وأخيرًا تأسست جمهوريتان الترنسفال، وأورنج الحرة، ثم توحدتا في جمهورية واحدة، ثم أوجد نظام جمركي بين كل ولايات جنوب أفريقية شبيه «الزلفرين» ودخلتْه رودسيا الجنوبية، لكن مُحيت الجمهورية وضمت لاتحاد جنوب أفريقية تحت إشراف بريطانيا، ولا يزال يحن كثير إلى العصر الجمهوري وبعضهم يرغب في حكومة الدومنيون، وقد خرجت رودسيا من الاتحاد؛ لأنها أقل خبرة وعلمًا وأندر سكانًا، وقد حاول الجنرال «سمطس» ضمها مؤيدًا رأيه بأنها استعمرت من الجنوب وبأن قانونها مقتبس من قوانين الاتحاد، كما أنها كانت عضوًا في الاتحاد الجمركي، وهي لا تستطيع وحدها الوقوف ماليًّا بدون مساعدة الاتحاد، إلى ذلك إتمام الصلة الحديدية بينها وبين الكاب.

figure
تبيِّن الخريطة خطة السير وأهم البلدان التي حللناها والشعوب التي لاقيناها. وقد ناهزتِ المسافة التي قطعناها عشرة آلاف ميل وخمسمائة بين بحر وبر.

أما في شرق أفريقية فقد عاد للعرب بعض نفوذهم القديم خصوصًا حول زنجبار وفي عهد أظهرهم نفوذًا «السلطان سيد سعيد» ثار عليه زعيم شعوب «مزروي» وطلب حماية الإنجليز لممباسا لسوء معاملة السلطان لهم، فأعلنت الحماية ورفع العلم البريطاني لأول مرة هناك وتحالف السلطان سيد سعيد مع الإنجليز ونقل مركزه الرئيسي من عُمان إلى زنجبار وتضامن مع الإنجليز في منع الرقيق وأقام قصوره في الجزيرة. ولما مات تنازع خلفاؤه الحكم فتدخلت إنجلترا وزادت مصالحها في شرق أفريقية فرفعت الحماية على زنجبار نفسها، وكان كبار الكاشفين الإنجليز قد أوغلوا في أفريقية، وفي سنة ١٨٨٦ اتفقت الدول العظمى على تحديد ملك سلطان زنجبار كخطوة لاقتسام شرق أفريقية، وأخذ الألمان يزاحمون الإنجليز هناك وأرغموا سلطان زنجبار أن يتنازل لهم عن جزء من ساحل أفريقية بسطوا عليه حمايتهم، لكن الشركة الإنجليزية التجارية قاومت ذلك ومدت سكة الحديد من ممباسا إلى فكتوريا ولما كسدت تجارتها تنازلت عن أملاكها لسلطان زنجبار مقابل مبلغ من المال، ولا يزال علم زنجبار الأحمر يرفرف على حصن ممباسا وتدفع حكومة كنيا ستة عشر ألف جنيه سنويًّا مقابل احتلالها للسواحل، ومنذ سنة ١٩٢٠ أضحت كنيا مستعمرة للتاج ما خلا شريطًا ساحليًّا ضيقًا فهو حماية؛ لأنه من أملاك زنجبار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤