بدء الرحلة
غادرنا المدينة فأنعشنا نسيم البحر قليلًا، وقد كان جو البحر الأحمر هذا العام جميلًا في الجملة، ولم نحس ذاك السكون الخانق الذي كابدناه عامنا الفائت في طريقنا إلى الهند والصين واليابان، ويظهر أنه لا يكون إلا في أواخر مايو، على أن الحرارة أخذت تتزايد من يوم لآخر، وفي يومين دخلنا:
وممباسا كانت منذ القرن الثامن حصنًا للعرب منيعًا تحت أئمة عُمان ومسقط، وكانت أكبر أسواق للرقيق إذ ذاك، ولما كشف البرتغال طريق الرأس وجدوا في مرافئ شرق أفريقية أماكن آمَن من البحر وغوائله تلك التي قاسَوْها في جنوب أفريقية، وفي سنة ١٥٠٩ حاز «المايدا» قائدهم النصر في إحدى معارك التاريخ الحاسمة هي «واقعة ديو» حين دمَّر أساطيلَ العرب والمصريين مجتمعة وضمن للبرتغال احتكار المحيط الهندي لمدة قرن من الزمان كامل، ولا يزال يطلق القوم على الجزيرة «كسيواتشا مفيتا» أيْ جزيرة الحروب.
ومدينة الأهالي هنا أشبه بقرية صغيرة تقام بيوتها وكأنها الأخصاص من شباك العصي والأعواد تملأ فضاءاتها بالطين وسقوفها متحدرة تكسى بالقش أو صفائح المعدن، والبيت في مجموعه مربع الشكل والطرق أزقة متلوية في غير نظام، وكنا نرى جمهرة من تلك الدور بين فجوات الغابات الفطيرة والسكان أخلاط من بينهم ٧٥٥٦ من الهنود، ٧٥٢٣ من العرب، ١١١٩ من الأوروبيين، ٢١٣٥٢ من السود، ومجموع السكان حوالي ٤٥ ألفًا يتكلمون لغات مختلفة أخصها: السواحلية: وهي خليط من لهجات البانتو مع العربية، وكنت أتلمس في كل جملة كلمة أو اثنتين أفهم بها سياق الحديث، وتكتب بحروف عربية وهي اللغة الرسمية في شرق أفريقية فكنت أراها تكتب إلى جانب الإنجليزية حتى في الإعلانات، فمثلًا عند منحنيات الطرق كنت أجد كلمة «أصبر» بمعنى خفف السير، وعند بائع الماء ترى كلمة «ماج» ومن الكلمات الشائعة: «زماني» بمعنى من زمان مضى و«بريدي» بمعنى البرد، و«كرتاس» بمعنى الورق و«سفري» بمعنى الرحلات «وَمَبارَك» للتحية، و«دَوَى» للدواء، واللغة السواحلية سائدة في شعوب السواحل جنوبًا إلى الناتال ومن ممباسا إلى فكتوريا نيانزا في داخل أفريقية.
والشعب السواحلي وليد اختلاط العرب بالزنوج فهو من أب عربي وأم زنجية، وهم يعيشون اليوم عيشة خمول في السهول الساحلية ذات النبت والشجر الوفير، وقد كانوا تجار عاج ورقيق من قبل، ولما حرم الاتجار بالرقيق أهمل العرب مزارعهم؛ لأنها كانت تتوقف في فلحها على أيدي الرقيق، وكان هؤلاء يحبون سادتهم من العرب ويختلطون بعائلاتهم؛ لأنهم كانوا يعاملون معاملة حسنة، وكانوا لذلك أصحاء الجسوم لكنهم بعد إلغاء الرقيق فقدوا سادتهم ولم يستطيعوا العمل وحدهم فأضحوا وكأنهم الغنم فقدوا راعيهم كذلك العرب فإنهم اعتادوا من قبل حياة السادة يشرفون على عبيدهم فحسب، فلما فقدوا عُمَّالهم لم يستطيعوا مباشرة العمل وحدهم، فكان من نتائج هذا التحرير أن انحطَّ النوعان السيد والمسود، وتدهورت حالة الإنتاج في الأراضي الخصيبة الساحلية، والعرب هناك لا يزالون يفاخرون بحسبهم القديم ويتمسكون بأهداب من العزة واهية في فلول قصورهم المتوارثة في مدن السواحل، ولا يزالون يحتقرون العمل اليدوي ويظهرون شيئًا من كبريائهم القديم كنا نلمحه على وجوههم، وهم آخذون في التدهور السريع لا بل والانقراض أمام المزاحمين من الأجانب أسيويين وأوروبيين، ويقال عن السواحليين أنهم مبذرون كسالى على أنهم قوم مرحون قانعون بما يلقون يشتغلون بجد أسبوعًا من كل شهر، وبما يكسبون يسدون حاجاتهم بقية الشهر وكفاهم فخرًا أنهم نشروا لغتهم التي أصبحت لغة التعارف بين كثير من وسط أفريقية وشرقها.
وفي ممباسا طائفة من أصفياء العرب تحكي لهجتهم لهجة أعراب البادية في مصر على أنهم قذرون ومتأخرون ويشبهون في السِّحَن مسلمي الهنود الذين يكثرون هناك، وللمدينة مظهر إسلامي في تعدد مساجدها وهم يتمسكون بشعائرهم لا يحيدون عنها، أما سِحَن الزنوج فمُنفِّرة للغاية بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المفرطحة والنساء أشد قبحًا، يلبس غالبهم الطربوش تتدلى خصلته الغليظة الملونة (فيما يحكي «زر» العمامة) على جباههم وكأنهم البُلَهاء.
وممباسا تقع إلى جنوب خط الاستواء بأربع درجات وكان الجو مدة إقامتي بها جميلًا أميَل إلى البرودة إلا أنه رطب فالسماء قلما كانت تخلو من الغيوم، ولم أشعر وأنا بها أنني أقارب خط الاستواء بحرِّه القائظ على أنه إذا بزغت الشمس فإنك تلاحظ فرقًا عظيمًا في الحرارة؛ إذ ترسل الشمس أشعتها الرأسية فتكاد تخرق الجلد فإذا ما حجبتْها سحابة — وكثير ما هي — انتقلنا من وهج المنطقة الحارة إلى نسيم الجو الأوروبي البليل والموسم البارد هناك بين إبريل وسبتمبر، ويلفت النظر أشجار عتيقة هي بقايا أشجار «الباوباب» التي نمت إبان سيادة العرب والبرتغال وقد اعوجَّتْ أعوادُها بمضي السنين وكثرت تجاعيدها وفروعها بحيث كانت تبدو الشجرة وكأنها أربع شجرات أو ست ضمت إلى بعضها وتشعبت كل في أعلاها تشعبًا مستقلًّا عن جارتها.
وغالب الأعمال التجارية يقوم بها الهنود، أما باقي الأهلين فأُجَرَاء وقد قيل لي: إنه بسبب الكساد العالمي الحالي اضطر نحو نصف الجنس الأبيض وبخاصة أصحاب الأعمال الكبرى من الإنجليز أن يبرحوا البلاد، وقد لاحظنا الكثير منهم يعودون لإنجلترا لكساد أعمالهم هنا، وها هي باخرتنا غصت بهم يوم برحت ممباسا.
قامت باخرتنا «لانجبي كاسل» تشق ما بين جزيرة ممباسا إلى اليسار وإفريقية إلى اليمين وكانت الشواطئ وفيرة النبت وبخاصة شجر المانجو إلى اليسار والنرجيل إلى اليمين والساحل مشرف رأسي ومن صخور الجير الذي اصفرَّ بمضيِّ السنين وفي خمس ساعات أقبلنا على بلاد تنجانيقا:
أدَّى بنا التسيار خلال تلك الغابات إلى مغاور بها من الصاعدات والداليات والفجوات ما يُشعِر بمرور نهر تحت الأرض ثقب الصخر هكذا، والمنطقة حولها جِدُّ موحشة لولا ما نرى من جموع الفراش رائع النقوش، ومن أسراب الطيور الغريدة في ألوانها الساحرة، وبعد أن سرنا طويلًا فاجأنا نُهَيْر يكاد يغطيه كثيف النبت وخليعه، ومن الشجر الذي استرعى أنظارنا «الباوباب» الشامخ، وكان له ثمر كأنه أكواز الشمام الكبير يغطي قشورَه وبرٌ أملس ناعم إلى ذلك شجر متعدد الثمرات من بينها ثمرة حمراء هادئة كأنها التفاح قلبها ناصع البياض تتوسطه نواة ضخمة كنواة المانجو ويسميها القوم بالسواحلية «توفاه» بمعنى تفاح، والجوافة والمانجو التي أثقلها الثمر دون أن تجد صاحبًا يستغلها. هنا حط رهطنا الرحال وأخذنا نأكل من ذلك الثمر الشهي حتى امتلأنا بطونًا وجيوبًا، ويتخلل كلَّ أولئك شجرُ النرجيل الذي لا يغيب عن العين. طال بنا التجوال والركوب زهاء ساعتين بين وِهَاد ونِجَاد فهمنا خلالها معنى الغابات الكثيفة حقًّا في رهبتها ووحشتها وجمالها الرائع.
ومن الشجر الغريب هناك شجرة فاكهة الخبز ذات ورق في حجم ورق الموز، لكنه مخرم مسنن في وسطه وأطرافه وثمرتها في حجم الشمام الكبير إلا أنها أكثر تفرطحًا وأضيق في وسطها وظاهرها خشن محبب وباطنها مادة نشوية يتخذ منها الدقيق، وقيل إن ست شجرات منها تمون عائلة كاملة بما تحتاج إليه من الخبز طوال العام، إلى ذلك نبات «الكسافا أو الماهوجا أو التابيوكا» ويبدو كالكروم على بُعْد فإن دانيتَه بدا أعوادًا معقَّدة في طول قامة الرجل إذا اقتلعتَ العود من الأرض خرجتْ معه مجموعة من جذور درنية في حجم طويل ومادتها نشوية لبنية لمسًا وطعمًا ويأكلها القوم طازجة ومطبوخة، وما زاد من محصولها جُفِّف فأضحى خفيف الوزن هشًّا إذا سُحق بِيع دقيقًا، وهو من أهم المواد الغذائية في شرق أفريقية وحيث يكثر يزيد السكان، ويقال إنه أرخص المواد لاستخراج الكحول منه.
سرنا طويلًا خلال تلك المزارع الكثيفة النبت والشجر، وبين آونة وأخرى كانت تنكشف وِهادٌ تغص بالبيوت الريفية تقام من أعواد الغاب المتقاطعة تُطلى بالطين وتغطى بجدائل من خوص النرجيل، وكلهم مسلمون ولغتهم سواحلية، على أن النساء سافرات يلبسن دثارًا فضفاضًا خفيفًا ألوانه زاهية ويعلقن في آذانهن أقراطًا من ورق ملون مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ وبعضُها في حجم نصف الريال، وسِحَنُهن أجملُ من سائر السود اللاتي رأيتُهن إلى آخر أفريقية جنوبًا ولون القوم أخفُّ سوادًا مما يُشعِر بتأثير الدم العربي فيهم جميعًا، وأعجب ما نرى حفلات الرقص القومي يتمايلون خلاله بشكل مضحك تصحبهم قرعات الطبول الإفريقية الضخمة وكأنها البراميل المستطيلة تدق من جانبيها.
وقد زرنا في تلك الضواحي القصر القديم للسلطان «سيد برغش» وهو أطلال وسط حدائق تزينها برك البشنين والبردي، ولا تزال كثير من أعمدته الضخمة قائمة وكذلك جانب من حماماته التركية بمداخلها الكثيرة، ويقص القوم أن هذا السلطان كانت له زوجات يناهز عددهن المائة جارية من مختلف الأجناس في هذا القصر، وهذا سر تسميته «بقصر الحريم»، وهناك قصر آخر يطل على البحر ولا بأس بحفظه كان مقرَّه الريفي ولا يزال السلطان الحالي يقضي فيه يوم السبت من كل أسبوع، عدنا من جانب الجزيرة الآخر مخترقين الحي الآهل بالسكان في بيوتهم ضخمة البنيان ذات الأبواب الحديدية المصمتة الثقيلة، ومن بينها دار البريد والحربية وأسواق الخضر والسمك، ثم زرنا الكنيسة الإنجليزية التي أقيمت في مكان سوق الرقيق القديم، وقد بُني المذبح في المكان الذي كان معدًّا للجَلْد والتعذيب، وقد صُنع الصليب الذي يعلو المحراب من خشب الشجرة التي يدفن تحتها قلب الرحَّالة لفنجستون على بحيرة على بحيرة بنجويلو في منابع الكنغو.
هنا أقبل البوليس الزنجي يلبس الطربوش الأصفر — وكان في ممباسا، وزنجبار أحمر اللون — تتدلى منه خصلة ثقيلة سوداء وبذلته صفراء ويلف على الساق شريط أزرق «الشين» أما الأقدام فبدت سوداء براقة بلونها الطبيعي؛ ذلك لأن رجال البوليس في شرق أفريقية جميعها يسيرون حفاة الأقدام. جُبتُ أرجاء المدينة بمبانيها ذات الهندسة الألمانية المتشابهة طرقها فسيحة مرصوفة وفي استقامة تسترعي النظر تَحُفُّها الأشجار الوارقة، والحي الأوروبي منها كثير الحدائق فاخر المباني لدرجة تفوق الوصف، والناس أشباه سكان زنجبار وممباسا غالبهم مسلمون، وكنا نسمع المؤذن ينادي للصلاة من أبواب المساجد أو من فوق سقوفها بلهجته العربية المحرفة، والهنود هنا كثيرون، وبيدهم غالب المتاجر شأنهم في سائر بلاد شرق أفريقية ووسطها، وقد علمتُ أن نحو نصف الأراضي والمباني في دار السلام وتانجا وزنجبار مِلْك لأغنياء الهنود، وهم ينبثون بين الأهلين ويخالطونهم ويعيشون معهم على قدم المساواة، ولذلك فهم محبوبون إلا من الأوروبيين الحانقين عليهم؛ لأنهم في زعمهم موضع خطر اقتصادي كبير بسبب مزاحمتهم للأوروبيين مزاحمة قاتلة في التجارة؛ ذلك لأن معيشتهم بسيطة جدًّا لا يكادون ينفقون شيئًا، وهذا ما جعلهم يكدسون الأموال ويزاحمون الغير بأجرهم الرخيص ونشاطهم الزائد، وكم كان دهشي عظيمًا لهذا النشاط الهندي الذي كان يبدو مجسمًا في جميع شرق أفريقية وقلبها إلى ألبرت نيانزا في الداخل، فلم أكد أدخل ديوانًا أو متجرًا إلا وهم قادته وذلك عكس ما رأيتُه منهم في بلادهم عامِي الفائت، وذلك يظهر بوضوح مبلغ أثر الضغط وفساد البيئة في بلادهم ذاك الذي يَقعُد بهِمَمِهِم إلى هذا الحدِّ الشائن، أما في خارج بلادهم حيث تحرروا من قيودهم السياسية والدينية والاجتماعية فقد ظهرت مواهبهم الكامنة وكفاءاتهم الخامدة.
ولهم هناك مدارسهم ومساجدهم وقد زرتُ في ضواحي دار السلام مدرسة لصغار الفتيات من الهنود حَوَتْ نحو مائة وخمسين يجلسن على الحصر في مكان نظيف، وكان الدرس ألعابًا رياضية يقف البنات في دوائر متداخلة ويَدُرْنَ وبأيديهن عصيٌّ قصيرة من الأبنوس كأنها الصوالج وفي وسط الدائرة فتاة تعزف على شبه بيان صغير وهن يرقصن وراء النغمة ويغمزن بأرجلهن ويغنين وتلطم كل فتاة عَصَوَيْها، ثم تعود بهما فتصدم عَصَوَيْ جارتها وهكذا.
برحنا دار السلام الثانية مساءً بعد أن اضطرت الباخرة أن تنتظر علو ماء المد ثلاث ساعات وأخذت تتمايل حتى أتت على مخارج الميناء وسط المناظر الساحرة، وفي صباح اليوم التالي كان الجو جميلًا مشمسًا إلا في سحب خفيفة منثورة، لكنه ما لبث أن فاجأنا باضطراب إعصاري شديد أعقبه وابل من المطر، ولم يكن ذلك غريبًا فإنا نعلم أن مضيق موزمبيق أحد مفاوز الأعاصير، وكان السحاب يرسل القطرات فتتصل بماء المحيط في شكل قاتم مخيف وفي ساعتين انكشف الجو وعاد البحر هادئًا، أما مهابُّ الرياح غالب الأيام فالجنوب والجنوب الشرقي وتلك هي الرياح التجارية تندفع وراء الشمس إلى القارات الشمالية حيث يخف الضغط ويتخلخل الهواء.
لبثتْ باخرتنا في بورت أميليا يومًا كاملًا هاجمَنَا خلاله جماهيرُ الباعة من السود كلٌّ يحمل أقفاصًا من الغاب بها مجاميع من طيور ذوات ألوان ساحرة، وكان القفص يعرض بعشرة قروش والبَبْغاءُ الكبير بخمسة قروش والنسناس بعشرة، وذلك يؤيد كثافة الغابات موطن تلك المخلوقات.
ونهر زمبيزي يقسم رودسيا قسمين الشمالية الأقرب للفطرة والهمجية والجنوبية الأكثر عمرانًا، ولعل رودسيا أقدم بلاد لها تاريخ مدون في أفريقية بعد مصر، فأهلها الأصليون كانوا من البشمن الذين تركوا آثارهم في رسومهم داخل بعض المغارات هناك ولسوء حظهم كانت بلادهم مفرطة في الغنى المعدني خصوصًا الذهب، حتى غزا البلاد في عهد سليمان الحكيم شعب من الأعراب يسمَّوْن عرب سبأ أو شيبا، وهم فرع من الفينيقيين تملكوا مناجم الذهب واستخرجوه وأغرقوا به العالم حتى لم يصبح للفضة في عهد سليمان من قيمة تُذكر بجانب الذهب، وهؤلاء تركوا من آثارهم هناك ما هو جدير بالذكر بين معابد ومناجم وقلاع، ولعل أفخرها البيوت الصخرية في زمبابوي في مقاطعة فكتوريا من جنوب رودسيا قبالة ثغر بيرا مباشرة، وهي بقايا مدنية عريقة حقًّا كان أهلها يتعبدون في الهيكل الأهليلجي الذي كان يحوطه سور من الجرانيت علوه ثلاثون قدمًا وبه برج مخروطي شامخ، ويظهر أن السبئيين سادوا أغلب بلاد رودسيا على سعتها بين ٢٠٠٠ق.م، ١٠٠٠ بعد الميلاد حتى غلبهم جماعة البانتو من الشمال، ولما أغار البرتغال من الشاطئ سنة ١٤٨٥ دخلوا البلاد عن طريق الزمبيزي، لكنهم لم يتمكنوا من البقاء وهزموا سنة ١٧٦٠ وساد الهمج هناك فوق قرن من الزمان حتى كان عصر المستكشفين أمثال لفنجستون وسسل رودس.
والبلاد غنية بالمعادن جدًّا، فلقد أنتجت على أيدي البيض مائة مليون جنيه من المعادن ثلاثة أرباعها ذهبًا — فهي ثالثة جهات الإمبراطورية البريطانية في إنتاجه، والنحاس بها كثير وبعض مناجم رودسيا الشمالية تنتج سبعة آلاف طن يوميًّا ومجموعة ما في أرضها ٥٠٠ مليون طن من النحاس، وقد كانت باخرتنا تحمل وسقًا منه في كتل فطيرة طوال إقامتنا في بيرا، ولعل أفخر مناظر رودسيا «شلال فكتوريا» على الزمبيزي وعنده تعبر سكة الحديد النهر في أعلى قنطرة في الدنيا، وليس في طوق إنسان أن يصور روعته، تصوَّر بحرًا زاخرًا من الماء في عرض ميل يهوي كله هوة غورها ٤٥٠ قدمًا وفي قرارها يختنق كل هذا إلى مائة ياردة ويعلو رذاذ الماء ٧٠٠ قدم في الجو ويسمع دوي الماء على بعد عشرة أميال، ويزيد المنظر سحرًا كثرة أقواس السماء التي تنعكس بألوانها المتحركة في ضوء الشمس نهارًا والقمر ليلًا، وفي اليوم المطير الهادئ يصعد البخار في خمسة أعمدة رأسية تسمى بالأصابع الخمسة أو «بالدخان الراعد» وهذه يراها المقبل على بعد ٢٥ ميلًا وأطلق العرب على الشلال — آخر الدنيا — ويخال البعض أن الشلال حديث العهد جدًّا، وأنه منذ ثلاثة قرون فقط كان الزمبيزي يجري إلى كالاهاري ويغذي أخوارها ومناقعها التي يُرى ماؤها اليوم آسنًا مالحًا فلما تحول النهر هكذا جفف إقليم كالاهاري وزاد مناخه تطرفًا.
وللأستاذ شفارتز مشروع هائل به يعيد صلة الزمبيزي بتلك المجاري القديمة فيملؤها ماء هي وسائر بحيرات كالاهاري فيعود للمكان خصبه، وبذلك يمكن ري عشرة ملايين من الأفدنة. وأهل رودسيا يعيشون على فطرتهم، وهم قبائل عدة وتتعدد لهجاتهم ويعبدون الجن، ولعل أعجب قبائلهم قبيلة «أواتوا» الذين يعيشون فوق مناقع لوكانجا وتقوم أخصاصهم من الغاب والطين وسط الماء ويتنقلون في زوارق نحيلة، أقدامهم مكفوفة كأقدام الوز وهي في الحقيقة رخوة لدرجة تجعلهم لا يكادون يطيقون الوقوف على اليابسة؛ لذلك حق عليهم التسمية بالإنسان المائي، وهناك قبيلة شبيهة بهم حول مناقع بنجويلو وتسمى قبائل «وونجا» شعارهم التمساح وقبائلهم لا تزال تتعقب أنسابها عن طريق الأم.
وبعض النحاس الغفل الذي كان يوسق في السفن ونحن وقوف في بيرا يفد من «كاتانجا» في جنوب الكنغو البلجيكية، وتلك مقاطعة أثبت البحث الحديث أنها غنية جدًّا بالمعادن وبخاصة النحاس والراديوم، ففي سنة ١٩٢٢ كشف الراديوم مختلطًا بمعدن اليورانيوم ويصدر الخام إلى بلجيكا ونسبة الراديوم كبيرة جدًّا، ففي أمريكا أغنى بلاد الدنيا إلى سنة ١٩٢٢ كان يستخلص من طن الخام ٢٫٥٧ ملِّيجرام من الراديوم، لكن الطن في كاتانجا ينتج ٢٢٫٧ ملِّيجرام، ويقدر ثمن الجرام بنحو ١٢٠٠٠ جنيه، ولذلك يقدر ثمن الطن من الخام بنحو ٣٠٠٠ جنيه، والبوليس يحرس المناجم في كاتانجا اليوم وكأنها مناجم الماس، وقد كانت أمريكا تنتج أربعة أخماس محصول الدنيا لكن ستزاحمها كاتانجا تمامًا، ومجموع إنتاج الراديوم الآن ثلاثون جرامًا، وثروة هذا الإقليم أخذت تجتذب سكة حديد الكاب، والقاهرة إليها، فبعد أن كانت تنتحي ناحية شرقية انعرج الخط إلى الكنغو، وأرض كاتانجا مرتفعة تلائم سكنى الجنس الأبيض، وقد فكر البلجيكيون إبان الحرب الكبرى لما أن كادت ألمانيا تمحو بلادهم من أوروبا أن يتخذوا أمثال تلك المقاطعة من الكنغو وطنهم الثاني، وأن ينتقلوا إليها تحت أمير وطني بلجيكي.
قمنا عصر الجمعة إلى الجنوب، وبعد ساعتين بدتْ على بُعد إلى يميننا قرية سوفالا التاريخية القديمة التي كانت آخرَ محاطِّ العرب قديمًا، ويزعم البعض أنها الفاصل بين الشرق والغرب؛ إذ النفوذ الغربي سائد بعد ذلك إلى أقصى أفريقية جنوبًا، أما في كل ما سبق من سواحل أفريقية فالأثر العربي لا يزال سائدًا رغم خروج تلك البلاد من أيدي العرب، وفي الصباح بدت:
نزلنا المدينة فهالنا ما رأيناه من مبالغة في التنسيق والنظافة، جميع الطرق رحبة تتوسطها المماشي ذات الأشجار، وبجانبها إطاران عريضان أحدهما يرصف بالأسمنت، وبين آونة وأخرى كنا نمر بمتنزه صغير أنيق تزينه الجواسق الخشبية سامقة السقوف، وهذه يتخذها القوم مقاهي ومشارب للشاي تحوطها أرصفة من الودع الملون، وجزء من المدينة مقام على منخفضات الشواطئ، أما غالب الأحياء الممتازة فتُبنَى فوق الرُّبَى من خلفها، وتمتد الشوارع بين هذا وذاك فتصعد بانحدار قاسٍ، وأنت تكشف من طرفها المرتفع المدينة كلها والخليج الرائع من دونك، والبيوت كلها «فلات» من طابق واحد هي آية في النظافة والجمال، ويتوسط المدينة سوقها في بناء فخم يحوطه متنزه جميل تقوم على أركانه الأربعة الجواسق الأنيقة، ولعل تلك الجواسق أظهر ما يميز المدينة، دخلنا السوق في باكورة الصباح فكان القوم من السود نساءً ورجالًا يفترشون سلعهم وبخاصة مواد الغذاء والفاكهة على مناضد من حجر وتسمع جلبتهم وهم يساومون الباعة وبخاصة النساء بصدورهن البارزة وأعجازهن المنتفخة وعلى ظهورهن يربطن أطفالهن وكأنهم صغار القردة، وكانت تسترعي نظري رءوسهم بشعرها الفلفلي وناصيتها المدببة وجبهتها المشطورة المتحدرة، ومن أفخر مباني المدينة محطة سكة الحديد التي تعد من أجمل محاطِّ أفريقية، كذلك حديقة النبات التي تغص بفصائل المناطق الحارة، وهي تقام على مدرجات بعضها فوق بعض، وفي جانب صغير منها حديقة للحيوان وفي طرفها الآخر متحف جميل حوى مجموعة من الحيوان المحنَّط المحشو بكامل حجمه تحوطه نماذج من بيئته، ويغلب أن ترى الحيوان ممسكًا بفريسته.
ومن أعجب ما رأيتُ أفعى تُمسك بقرد صغير، وأخرى تمسك بغزال التفَّتْ حول جسمه وهي تمتص الدم من رأسه، إلى ذلك مجموعة من الأسماك المحنطة وبعض الحشرات ومن بينها ذبابة تسي تسي في حجم يزيد قليلًا على الذبابة العادية وأجنحتها مجزعة كأوراق الشجر، وهي إذا لدغت إنسانًا بدت عليه عوارض الجنون، ثم يستلقي وبعد شهور قليلة يصبح جسمه عظامًا بالية، وفي الطابق العلوي بعض المخلفات الحربية لهمج أفريقية يوم فتحها البرتغال، والدخول للمتحف بغير أجر، وهناك سجِلٌّ دوَّنَّا فيه أسماءنا.
وفي ناحية متطرفة من المدينة نُسِّق شاطئ البحر في مدرجات وطرق ملتوية وجواسق وحمامات هي آية في الإبداع، وتسمى ناحية بولانا، وكم يعجبك منظر الشاطئ الوطيء ومن خلفه تقوم شرفة عالية من الرمل الأحمر تتخلله منابت العشب البري، وحقًّا لقد أكْبَرَتْ تلك المدينةُ في نظري من شأنِ جماعة البرتغال وأيَّدتْ حُسْنَ ذَوْقهم، أما في المساء فالمدينة مظلمة هادئة إلا في مصابيح الكهرباء وإشارات المرور، وهذه على أحدث نظم فالمصباح معلق وسط مفارق الطرق ويتعاقب اللون من الأحمر (لإيقاف المرور) إلى الأصفر (للاستعداد للسير) إلى الأخضر (لفتح الطرق) في فترات منتظمة، كل ذلك يتحرك بنفسه بدون جندي يُباشِره «أوتوماتيكي».
وسكان المدينة ٣٧ ألفًا ربعهم من البيض والمسلمون هناك قليلون جدًّا، وليس بالمدينة مساجد قط، ويظهر أن جمعيات التبشير هناك ناشطة؛ لأني كنت أرى جماهير السود يمسكون بأناجيلهم تلف في مناديل من حرير وهم يسيرون زرافات إلى الكنائس يوم الأحد، والمدينة عاصمة شرق أفريقية البرتغالية، أما بيرا فعاصمة أملاك الشركة التجارية البرتغالية، وكل منهما له حكومته فهذه تديرها حكومة البرتغال رأسًا، أما منطقة بيرا فتديرها الشركة ولكلٍّ نقودها الورقية وطوابع للبريد تغاير ما للأخرى حتى إنني لم أجد هنا مَن يقبل نقود بيرا، وكذلك لم أستطع وضع طوابع شريتها من بيرا على خطاباتي هنا، وقيل إن الشركة ستسلم بلادها للحكومة بعد ست سنوات، ولهجات السود هنا متعددة؛ فأهل بيرا لا يفهمون أهل بورنزوماركوز على أنها من لهجات البانتو.
وأغنياء الزعماء يتزوجون أكثر من سيدة والزوجة الأولى تسمى زوجة اليد اليمنى والثانية زوجة اليد اليسرى، وهناك الزوجة العظمى وابنها وارث الملك، وهذه الزوجة تأتي متأخرة في العادة؛ ولذلك غلب أن يتولى الوارثُ المُلْكَ طفلًا تحتَ وصاية عمِّه أو أحد أقربائه، وقد كان هذا من أسباب كثرة المنازعات خصوصًا عندما يبلغ الصبي الرشد ويتسلم مهام الملك، أما أولاد الزوجتين اليمنى واليسرى فيعطَوْنَ رجالًا وقطعانًا ليؤلِّفوا عشائرَ جديدة تنضم للقبيلة، ولذلك صعب على الأوروبيين هناك أن يقفوا على مقر السلطة وصاحب النفوذ الحقيقي منهم فقد يمضون معاهدة مع رئيس ويظهر لهم أن الباقين ليسوا مرتبطين بها لا هم ولا ورثته بعد موته، وكان يوقِف استبدادَ الزعيم برعاياه سهولةُ نظام التبنِّي والتحول من عشيرة لأخرى فإن استبدَّ هجروه وانحازوا إلى رئيس غيره والرؤساء في الغالب عادلون، ولهم محاكم وقضاة ويسمحون للمتهم بالدفاع والاستئناف وكل عقوباتهم تنفذ «بالكي» بالحديد الذي يسخن لدرجة الاحمرار، وعند بعضهم يحول على الطبيب الساحر ليشتَمَّ فيه رائحة الإجرام ويلصق به التهمة، على أن أغلب العقوبات تنحصر في شيئين الإعدام أو الغرامة التي تُدفع ماشية، أما السجن فغير معروف بين قوم يقطنون بيوتًا واهنة.
وكان من وظيفة طبيب السحر أن يشتَمَّ هؤلاء، وأغلب الشبهات كانت تحوم حول المُفرِطين في الغِنَى، وقانون القبيلة كان يحفظ في ذاكرة الساسة المحنكين «أندونا» أما الكتابة فلم تكن في لغتهم، وكلما كان الرئيس لَسِنًا فصيحًا قدَّره الجميع وحاولوا النقل عنه، وتكثر بينهم المناظرات، التي هي في أوروبا أساس البرلمانات، وللنساء هناك — عكس أوروبا — قدرة مدهشة على استماع تلك المناظرات، ولذلك كان من نصيب المرأة عند البانتو أن تزيد في ثروة اللغة من ناحية التعابير الموسيقية الجذابة، ولكي يجتنب النساء ذِكْرَ أسماء الذكور من أقرباء أزواجهن كان لزامًا عليهن أن يخترعن كلمات جديدة، واليوم نرى بين نساء الزولو — أشد قبائل أفريقية رجعية — لغة خاصة بهن مجموع كلماتها نحو خمسة آلاف كلمة.
ولهجات البانتو ٢٧٤ تمتاز كلها بكثرة التعابير وبأن أواخر كلماتها متحرك في الغالب، وبأن أوائل الكلمات متحدة الحروف مما يجعلها كلها متشابة متوافقة النغم، على أن بعض لهجاتها لا تخلو من التهتهة وضروب اللكنة التي سَرَتْ إليهم من لغة الهوتنتوت.
والبانتو من الناحية الاقتصادية رعاة ماشية، يمارسون الزراعة كعمل ثانوي، وإعداد الأطعمة والشراب المسكر وزرع الحبوب وفلح الأرض وتعهد الحدائق من نصيب المرأة، أما رعاية الماشية فعمل الرجال، والماشية ذات القرون ثروة القبيلة ومفخرتها، ولذلك قدسوا الماشية وأقاموا بيت الماشية في الوسط ومن حولها بيوتهم، وإذا أرادوا الاتصال بالموتى سلخوا ثورًا حيًّا وسط بيت الماشية يمثل القبيلة وآخر يمثل العدو والذي يظل حيًّا مدة أطول يدلهم على مبلغ نجاحهم أو فشلهم في الحرب المقبلة، كذلك كانت تدفع الغرامات والتعويضات ماشية، وشعر ذنب نوع من الماشية خير علاج للأمراض لديهم.
ولقد درَّتْ تلك المناجم على العمال خيرًا كثيرًا فقد دفعت المناجم للبِيض من العمال في العشرين سنة الأخيرة ١٦٣ مليون جنيه وللسود ١٢٠ مليونًا، ولا يقل عدد البيض عن عشرين ألفًا والسود مائتا ألف، ورأس المال الموظف في الراند ٦٣ مليون جنيه، وتعد المناجم أبدع مناجم الدنيا وأتقنها نظامًا تحتكرها ٤٧ شركة يمثلها أعضاء في غرفة تعدين الترنسفال، ويقولون إن نحو ٨٥٪ من سبائك الذهب التي صدرت من الترنسفال عادت إلى البلاد نقودًا، وتلك الثروة الخيالية هي التي قامت من أجلها مدينة جوهانسبرج في الراند، وقد بلغ أهلوها في أمد وجيز نصف المليون نصفهم من السود والنصف من البيض ولا تزال تتضخم بسكانها، وقد أقيمت على نتوء جنوب نهر فال (ومنه أخذ اسم ترنسفال؛ أيْ: عبر نهر فال) وقد بدأ عدد العمال من السود قليلًا فاضطروا إلى جلب الصينيين الذين هددت كثرتهم البلاد فرُحِّلوا ثانية بعد أن أحرقوا جثث موتاهم وأخذوا رمادها ليدفن في بلادهم، أما اليوم فإن العمال السود كثيرون جدًّا وقد أحبوا العمل في المناجم حتى إن أبناءهم لا يُعدُّون رجالًا إلا بعد أن يبدءوا التوظف في المناجم، وتراهم يقيمون حفلاتهم يرقصون على أنغام طبولهم وموسيقاهم الخشبية (شرائح خشبية كالبيان تُضرب وتعطي أنغامًا مختلفة) كلما حلَّ موعد تسلمهم لمرتباتهم، وكانوا يتبارَوْن في ذلك لدرجة كانت تخرج بهم إلى النزاع والحرب أحيانًا، خصوصًا إذا ما لعبت الخمر بلبهم.
ومن معادن الترنسفال الهامة: البلاتين والماس، فالبلاتين ينتظر أن يزاحم أكبر البلاد إنتاجًا له وهي روسيا في إقليم أرال، ومحصولها السنوي ربع مليون أوقية، ثم كولومبيا في أمريكا الجنوبية وتنتج ٥٥ ألفًا، وثمن الأوقية ١٥ جنيهًا، والعالم يستهلك في السنة ٢٠٠ ألف أوقية من المعدن الجديد و٩٠ ألفًا من القديم المعاد صهره.
والحكومة هناك تشاطر في نحو ٦٠٪ من الأرباح، هذا خلافًا لما تتقاضاه من ضرائب الصادر وضرائب الدخل من أصحاب المناجم، وقد سنَّتِ الحكومة قانونًا بالاتفاق مع اتحاد المعدنين تحدد به مقدار المعروض من الماس كل عام حتى لا يهبط ثمنه هبوطًا فاحشًا يصحبه إيقاف العمل وطرد آلاف العمال من المناجم.
ويظهر أن الماس يعم الأراضي التي يجري فيها نهر أورانج كلها؛ لأنهم يعثرون عليها في كل أرجائه إلى مصبه حيث ينتثر الشاطئ بالماس إلى شمال مصب الأورنج بنحو ٣٠٠ ميل وقيل: ٦٠٠، ولذلك أطلق على هذا الجزء اسم «شاطئ الماس»، ويرجح العلامة الدكتور فاجنار أنها حملت مع رواسب النهر ودفعها تيار بنجويلا الذي يسير إزاء الشاطئ شمالًا بدليل صغر بلوراته كلما سرنا شمالًا مما يؤيد أن في الأرانج بطونًا للماس تُستكشَف بعدُ، على أن الماس هنا يعيبه صغر حجمه رغم جودة نوعه.
ولقد أخذ يحتلُّ القصبُ الأراضيَ التي تُزرَع هناك شايًا؛ ذلك لأن الشاي يتطلب خبرة الأسيويين، وهؤلاء قد منعت القوانين الجائرة هجرتهم إلى جنوب أفريقية على أني كنتُ أرى كثيرًا من النجاد يكسوها الشاي، وعلمتُ أن المساحة المنزرعة ثلاثة آلاف فدان ولا تسد سوى ربع حاجة جنوب أفريقية من الشاي، وشجرتُه هناك تنضج بعد سبع سنين، لكنها تعطي محصولًا يسد نفقاتها في الرابعة، ولذلك وجب على زرَّاعه أن يبدءوا برأس مال كبير ينفقون منه حتى يَنتُج ويُربَّى وإذا عُني بالأرض ونظافتها يؤتي الشاي ثمرَه لمدة خمسين عامًا بدون حاجة إلى تجديد زرعه، ومتوسط محصول الفدان في الناتال ٣٥٠ رطلًا جافًّا — كل أربعة أرطال من الورق الرطب تصبح رطلًا جافًّا — وهذا دون المحصول الذي شاهدتُه عامِي الفائتَ في جزيرة سيلان بالهند، ولعل لخبرة الهنود وتوافر عددهم دخلًا في ذلك؛ فإن أجرة العامل في الناتال تزيد على أجرته في الهند ثلاثة أضعاف ونصف.
ولعل أول ما استرعى أنظارنا تعدُّد السِّحَن واختلاف الأجناس البشرية، إذ كنا نرى الهنود والملايو بجسومهم الناحلة والسود بقاماتهم الطويلة وعضلاتهم المفتولة خصوصًا المتابيل والزولو أشد سكان الأرض فراسة وقسوة؛ فهم أخطر من الهنود الحمر في أمريكا وزنوج أستراليا وما أورى زيلندة، وأظهر ما كنا نراهم وهم يسوقون الركشا يلبسون في رءوسهم القرون الكبيرة علامة على القوة وحولها الريش علامة على السرعة وخفة الحركة، إلى هؤلاء المولَّدين الأفريقيين بسِحَنهم الأوروبية في لون أسمر، ثم الهولنديين والإنجليز، فالناس هناك خليط لا أول له ولا آخر.
- البشمن: «شعوب واق الواق» أقدم سكان أفريقية فهم هناك منذ العصر الحجري حين كانوا
يتنقلون في كل أرجاء القارة، على أنه يُشَك في أنهم سكان أفريقية الأوائل
(ذلك لأنا عثرنا على أقزام في وسط القارة يخالفونهم) ولم يكونوا يعرفون
النار، ولقد استحضر منهم فرعونُ عددًا كان يرقص أمامه ويسليه، وقال
المسعودي بأن أهل السواحل عرفوا سكان «واق الواق» وكأنهم القردة، أولئك
الذين عاشوا مع سائر الحيوان قبل أن يخلق الله الإنسان من الطين، ولهؤلاء
الحق أن اعتقدوا بأنهم غير آدميين؛ فهم أبعَدُ الناس عن الآدميين لقِصَرِهم
(فهم دون خمس أقدام) ولشَعْرِهم المنفوش ولآذانهم التي لا شحمة لها
ولوجوههم المثلثة عديمة اللحى وكأنها وجوه الثعالب، وكانت عيونهم غائرة تحت
حواجب مشرفة بارزة، وكانت سوقهم الدقيقة وأقدامهم الصغيرة تبدو وكأنها لا
تكاد تحمل بطون الرجال المنتفخة ولا الثدْيَ الهادل والعَجُزَ الضخم
للنساء، وكانوا رعاة يتنقلون في عشائر عدد الواحدة ٣٠٠ على الأكثر، يقودهم
زعيم كأنه القائد الحربي، والروابط العائلية كانت واهنة بينهم، يتزوجون
أكثر من واحدة، وشبانهم يقتتلون من أجل الحصول على الزوجات، ونساؤهم
وَقُورات، وروابط الزوجية واهنة أيضًا فلا يكاد الطفل يستقيم على سوقه حتى
يهيم على هواه، والمسنُّون والمرضى يهجرهم ذووهم؛ لأنهم عبءٌ لا يستطيع
الانتقال، وعبادتهم الجنُّ والتمسكُ ببعض التقاليد الخرافية، وبعضهم كان
يقدس «كاآنج» Kaang رئيس السموات، والبعض
عبدوا النجوم والقمر، ولغتهم فقيرة اللفظ لا تعدو كلماتها ٦٣ وهي غاصة
بأصوات التهتهة واللكنة Clicks ومخارج
الأنف فدراستها توضح لغة الإنسان الأول وكيف تطورت ومنها فَهِمَ البعضُ
أسرار أصوات بعض الطيور والحيوان، وكيف تطورت إلى الكلام، وأنت تسمع
أصواتهم في مخارج متقطعة وكأنها عواء القردة.
ويختلف المعنى بحسب طريقة التعبير والتهتهة، واللغة خالية من صيغ الجمع، ومعرفتهم بالحساب لم تتعد الثلاثة، لكنهم عوَّضوا بعض هذا النقص في اللغة والحساب بالحفر والرسم، وفي هذين فاقوا إنسان العصور القديمة، ومن مواهبهم غرامهم بالأقاصيص وحركات الوجه والرقص الذي يمتاز به كل سكان أفريقية، وفيما عدا ذلك فليس لهم من متاع الدنيا شيء قط، حصلوا على النار من أثر الاحتكاك، وسكنوا العشش، ورداؤهم عباءة من جلد خفيف يتخذونها غطاء لهم في الليل، وتزينوا بالودع وبيض النعام يحملون فيه الماء، ودخنوا نباتًا كالطباق اسمه dagga وثَمِلوا بخَمْر أعدُّوه من العسل البري وبعض الجذور النباتية، ولم يستأنسوا من الحيوان سوى الكلب، ولم يعرفوا المعادن ولا الزراعة ولا النسيج؛ وكان عمادهم في الغذاء على الجذور والنمل وأصداف البحر وما يصيده الرجال من الحيوان بسهامهم المسمومة، يتخذون السم القوى من حشرة هي أصغر من البعوضة حجمًا، وهم في القتال بواسل، ولهم قدْرة مدهشة على الحصول على الماء من النبات فهم يمتصونه حتى من الغاب الأجوف ومن جذوع الشجر ومن بعض فصائل القرع التي تنمو في الصحراء. ولقد كانوا يقاومون حياة الرعاية التي عاشها الهوتنتوت ويرمونها بأنها حياة خمول، كذلك لم يتفقوا مع النزلاء أبدًا؛ ولذلك فَنِيَ منهم في القتال كثير إلا أقلية تقطن الصحاري فيما جاور كالاهاري، ولا يزال العالَم حائرًا مدهوشًا لما خلَّفه أولئك المنحطون من الفن الجميل في الحفر والتصوير على الصخور في كل أرجاء جنوب أفريقية، وقد أرجعها بعض العلماء إلى ما وراء ٨٠٠٠ سنة ق.م. - الهوتنتوت: وهم أحدث عهدًا من البشمن، ويخال البعض أنهم قبل مجيء الهولنديين بألف عام كانوا يقطنون حول البحيرات، ثم زحفوا جنوبًا، ويرى البعض أنهم انحدروا إلى الساحل الغربي ولازَموه إلى الكاب ثم شرقًا إلى الناتال، وآخرون يرون أنهم ساروا إزاء الساحل الشرقي، وكان زحفهم لاجتناب الاحتكاك بالبانتو من جهة وللتخلص من ذباب «تسي تسي» حول الزمبيزي من جهة أخرى، وأجسادهم أكبر من أجساد البشمن وقاماتهم أطول، وكانوا يُسمُّون أنفسهم خُويْ خُويْ Khoi khoi أي رجال من رجال، وكان لهم لحًى وجسومهم أنحف من الأوروبيين وظهورهم مجوفة وأقدامهم صغيرة وعيونهم متباعدة وخدودهم غائرة وذقونهم مدببة ولونهم زيتوني مصفر، ورغم شعرهم الجعد الصوفي وشفاههم الغليظة وأنوفهم الفطساء فإن لونهم يقرب من ألوان الأوروبيين، وهم يزينون شعرهم بالودع والنحاس، وكِلَا الجنسين يلبسون جلود الأغنام، صوفها يلامس الجلد شتاء ويكون من الخارج صيفًا، بيوتهم نصف دائرية ومن الحصر والعصي، وهم وسط بين العصرين النحاسي والحديدي، وعلى ذلك فهم يتقدمون البشمن بمراحل، استخدموا النحاس بكثرة والحديد على قلة، وهم رعاة قبل كل شيء، ويقع عمل الرعاية على الرجال وإعداد اللبن والغذاء على النساء، وليس هناك من رابطة بين القبائل، يسيطر على كل قبيلة رئيس وراثي، على أن الثروة لديهم أهم من الزعامة، وأغنياؤهم يتزوجون بأكثر من واحدة، وعنايتهم بالمسنين والمرضى لا توجد، ولغتهم أغنى قليلًا من لغة البشمن، وقد ورثوا عنهم كثيرًا من التهتهة، وقد امتزجت بها اللغات الحاميَّة، وهم يحبون القصص والرقص كالبشمن، لكنهم أقل منهم شجاعة وفنًّا؛ إذ لا يعرفون الحفر ولا التصوير، أسلحتهم الحِرَاب والسهام ذات الأطراف المعدنية والدروع والتروس من الجلد، وبعضهم يُمرِّن الثيران تتقدمهم في القتال ليحتموا خلفها، وبعضهم يعبد الجن، والبعض ارتقى واعتقد في إله الخير ومحلُّه السماء الحمراء وإله الشر ومقره السماء المظلمة السوداء، ولا يكاد يوجد الجنس صافيًا اليوم رغم أنهم كانوا كثيرين يوم دخل الهولنديون البلاد، وقد وصفهم فان رييبك بأنهم مَرِحون قَذِرون كِرام لحدِّ التبذير كسالى نَهِمون في الطعام يتناولونه أنَّى وجدوه، شديدو الصبر إبان المَحْل، يحبون التطيب بالأعطار وهم مخلصون صادقون شكورون.
وأكثر ما يُرى الهنود في الناتال؛ حيث جُلبوا من بلادهم للقيام بشئون الزراعة التي تنحَّى عنها في البدء أهل البلاد — وهم اليوم نادمون على ذلك — أما في الكاب فالهنود أتى بهم الهولنديون من الملايو وجزائر الهند يوم أن كان جنوب أفريقية تحت حكمهم، وكثير من الباعة هناك من الملايو ولهم أحياء خاصة، وكثير من نسائهم محجبات يلبسن القناع، وكثيرًا ما تسمع المؤذن يدعوهم إلى الصلاة؛ لأن سوادهم مسلمون.
وتعجب إذ تعلم أن كثيرًا من العمال من البيض كسالى يعوزهم النشاط، فهم لا يفترقون عن السود كثيرًا، ومع ذلك تجدهم ممتازين، وقد قيل إن نزلاء الجنس الأبيض الذين حلوا جنوب أفريقية وجدوا العبيد فاتخذوهم رقيقًا لمدة قرنين، فَقَدَ البيضُ خلالَهما نشاطَهم وفضائلهم الخلقية — وتلك من سيئات الملكية وإهمال فكرة الشيوع في الأرض والتمسك بذاك القانون الظالم الذي يخصص العمل الممتاز للبيض دون السود، ذاك التصرف الذي ينقده الكثير لمنافاته للإنسانية، ولأنه يجعل البلاد عاجزة عن منافسة العالم اقتصاديًّا بسبب علو أجور البيض، لكنهم يعترفون بأنهم مضحُّون في ذلك مقابل ضرورة تحويل البلاد جميعها إلى مواطن للجنس الأبيض دون الأسود الذي يرمقه البيض بنظرات الحنق والاحتقار فلا ينادونه إلا بنغمة الآمر ولا يتحدثون عنه إلا باسم «كافر» مما كنتُ أتألَّم له كثيرًا، على أن القلق وعدم الرضى من جانب السود آخذٌ في الزيادة؛ لأن احتكاكهم بالبيض علَّمهم أن يتمسكوا بحقوقهم وصوالحهم التي شعروا بأنها مهضومة ضائعة، وقد أخذ يبدو ذلك في حركات الإضراب حيثما يكثر العمال من السود هناك.