بدء الرحلة

إلى بور سودان: غادرنا بور سعيد عصر الأربعاء نشق قناة السويس جنوبًا، ثم أوغلنا في خليج السويس الذي كانت تبدو سواحله على الجانبين تارة تنأى وطورًا تقترب إلى أصيل الخميس حين دخلنا البحر الأحمر وظل الساحل المصري باديًا. وفي باكورة الجمعة كنا وسط الماء لا تبصر العين من اليابسة شيئًا، وفي غداة السبت أقبلنا على بور سودان. حللتُ المدينة فبدت صغيرة جديدة ليس بها ما هو جدير بالذكر طرقاتها نظيفة وفي استقامة، وعلى جوانبها تقوم المباني الحديثة في طابق واحد، ومظهر المدينة مجدِب عارٍ عن النبْت لا تكاد العين تقع على خضرة قط، ويزيدها جدبًا جبالها المقفرة التي تحيط بها من كل جانب اللهم إلا جون من البحر طَمَرَ القومُ جانبًا منه وأقاموا الميناء عليه، والأرصفة مزودة بالروافع الثقيلة تجري على قضبان تؤدي من السفن إلى حظائر للسلع ما صدر منها وما ورد، وأظهرُ بناءٍ إذا أقبلتَ على المدينة من الميناء، دارُ المديرية من طابقين كان يعلو سارياتها العَلَمان المصري إلى جانب الإنجليزي وأهل المدينة أخلاط من السود يتكلمون العربية والزنجية. وكان عمال الميناء من قبل من مهاجري اليمن، لكن الحكومة رأت أن تخص الوطنيين بهذا العمل فاستقدمت من داخل السودان جماهير يقومون بالنقل مقابل أجر خمسة قروش في اليوم، وأعجبُ قبيلة كانت تبدو بينهم البشارية يرسلون شعورهم تتدلى على أقفيتهم في جدائل رفيعة وشعر الناصية يترك منفوشًا وقائمًا في كرة، وجو المدينة لافح محرق شديد الجفاف؛ ذاك لأن أمطارها تسقط في الشتاء وبمقادير قليلة إلا إذا صادفهم السيل وعندئذٍ ينذر بالخطر، ومن هذا الماء يملئون أحواضًا يرشحون الماء فيها ويستقون منها، وهنالك وراء الجبال عند منازل المطر نطاق ضيق تكسوه الخضرة وهو المكان الوحيد الذي يستنبتونه في هذا الإقليم القفر.
figure
ميناء بور سودان.

غادرنا المدينة فأنعشنا نسيم البحر قليلًا، وقد كان جو البحر الأحمر هذا العام جميلًا في الجملة، ولم نحس ذاك السكون الخانق الذي كابدناه عامنا الفائت في طريقنا إلى الهند والصين واليابان، ويظهر أنه لا يكون إلا في أواخر مايو، على أن الحرارة أخذت تتزايد من يوم لآخر، وفي يومين دخلنا:

figure
طريق كلنديني يشق غابات المانجو، ممباسا.
عدن: بجزائرها المحدبة الجافة تقام البيوت والحصون على منحدراتها المواجهة للقارة، وكان ساحل القارة يبدو جليًّا وطيئًا على بُعد، وقد نزلتُ المدينة للمرة الثانية فلم أستزد منها بشيء جديد، صخور عاتية عريت عن النبت يكاد يصهرها وهج الشمس، وفي الأصيل برحناها والماء هائج مضطرب أنذر بمرض البحر، وأخذ ذلك يتزايد حتى انقضى اليوم التالي وظَهَر إلى يميننا قرن أفريقية عند رأس «جوار دافوي» في حائط صخري مجدب مخيف يمتد إلى الآفاق، وهنا تغيرت الظروف الجوية فأضحت الريح جنوبية وبَلِيلَة كادتْ قطرات ضبابها تكسو الجبال على بُعد منَّا، وأخذت الريح الموسمية هذه تزأر في شكل مخيف حتى لم ينجُ فرد من مرض البحر وظلت السفن تترنح طوال يوم الأربعاء وبعض الخميس وخفَّ الحر الذي عوَّدَنا أياه البحر الأحمر، وكان الهواء باردًا عاصفًا بَلِيلًا يحس المرء أنه مشبع بالرطوبة ذاك البلل الذي هو سر فيض نيلنا الغامر، وخصب بلاد الهند النادر، وكانت السماء تتلبد بالغيوم الثقال ولبثنا وسط هذا المحيط الزاخر القاتم الرهيب يومين، ثم عبرنا خط الاستواء جنوبًا فتحسنت حالة البحر نوعًا وخفت حدة الريح وندرت سحب السماء وأضحت متقطعة، وكان ينعشنا الأمل بوصول أرض ممباسا في الغداة كي نجد عوضًا عن هذا البحر الممل ولو إلى حين.
figure
على حافة قلعة ممباسا.
ممباسا: في ستة أيام من مغادرتنا لعدن ألقتِ الباخرة مراسيها على أرض ممباسا، وهي جزيرة ذَرْعُها ميلانِ في ثلاثةٍ، تسمى ملكة الجزائر المرجانية؛ إذ تحفها هالة من شعاب المرجان وبدت في خضرتها الوفيرة القاتمة كأنها زمردة ألبست فجوة من شرق أفريقية، وفيما بينها وبين القارة يتلوى البحر في مخابئ آمنة جعلت الميناء من أجمل مِيَن شرق أفريقية وأمنعها على الإطلاق، ولقد كانت الميناء القديمة تقوم شمال الجزيرة لكن الإنجليز اتخذوا ساحلها الجنوبي مرفأ؛ لأنه أفسح مجالًا وأبعد غورًا فأقيمت عليه الأرصفة الممتدة تقوم عليها العنابر والروافع التي تديرها الكهرباء، ويطلق القوم على هذا الجزء: مرفأ كلنديني ومعناه بلغة السواحليين مكان الماء العميق، نزلنا إلى رصيف الميناء باكورة الصباح وكانت الجزيرة تعلو تدريجًا في منحدر من صخر الجير المهشم القديم فسلكنا سبيلنا صعدًا في طريق «كلنديني» الذي يشق الجزيرة نصفين وتقوم عليه المباني الرئيسية من متاجر ودور للحكومة وبيوت منسقة، والطريق تحفه الغابات ذات الأشجار الوارقة الباسقة على اختلاف أنواعها ولا تكاد تخلو قطعة من الأرض من النبات والعشب الوفير فهو كسائر طرق الجزيرة قد شق وسط غاباتها الكثيفة وكان أظهر الشجر المانجو، الذي كنا نرى ثمره ملقًى على الأرض في كثرة هائلة ولا يُعنَى المارة بأمره فثمنُه هو وسائر الفاكهة الاستوائية زهيد للغاية فقد كنت أنتقي أطايب المانجو من بائعه بملليمين ولما أتينا على آخر الطريق بدت القلعة التاريخية تطل على الميناء القديمة — ويسمونها قلعة يسوع — شادها البرتغال سنة ١٥٩٣ يوم أن أصبحت ممباسا عاصمة دولتهم الإفريقية، لكنها سقطت في يد سلطان ممباسا سنة ١٦٣١ حين قتل جميع البرتغاليين في المدينة، وبعد أربع سنوات استعادها البرتغال وأعادوا بناءها، وفي ١٦٩٦ بدأ العرب حصارهم العظيم الذي دام ثلاث سنين وانتهى بفتح القلعة وقتل ما تخلف من حاميتها، وهي اليوم سجن ويزمع تحويلها إلى متحف، وفي مدخل تلك الميناء كاد فاسكو دجاما يفقد أسطوله؛ لأن قواد سفنه وكانوا من العرب تآمروا على تدميره فاتفق اثنان وسبَّبا اصطدام سفينتين تحطمتا ولما قبض عليهما وعُذِّبا بصبِّ الزيت المغلي في جسدهما اعترفا بأنهما فَعَلا ذلك انتقامًا للعرب فشُنقا قصاصًا ولفاسكو دجاما شارع صغير باسمه وعامود تذكاري كأنه قمع السكر شكلًا ولونًا.

وممباسا كانت منذ القرن الثامن حصنًا للعرب منيعًا تحت أئمة عُمان ومسقط، وكانت أكبر أسواق للرقيق إذ ذاك، ولما كشف البرتغال طريق الرأس وجدوا في مرافئ شرق أفريقية أماكن آمَن من البحر وغوائله تلك التي قاسَوْها في جنوب أفريقية، وفي سنة ١٥٠٩ حاز «المايدا» قائدهم النصر في إحدى معارك التاريخ الحاسمة هي «واقعة ديو» حين دمَّر أساطيلَ العرب والمصريين مجتمعة وضمن للبرتغال احتكار المحيط الهندي لمدة قرن من الزمان كامل، ولا يزال يطلق القوم على الجزيرة «كسيواتشا مفيتا» أيْ جزيرة الحروب.

figure
مساكن ممباسا من جدائل العصيِّ تسد بالطين.

ومدينة الأهالي هنا أشبه بقرية صغيرة تقام بيوتها وكأنها الأخصاص من شباك العصي والأعواد تملأ فضاءاتها بالطين وسقوفها متحدرة تكسى بالقش أو صفائح المعدن، والبيت في مجموعه مربع الشكل والطرق أزقة متلوية في غير نظام، وكنا نرى جمهرة من تلك الدور بين فجوات الغابات الفطيرة والسكان أخلاط من بينهم ٧٥٥٦ من الهنود، ٧٥٢٣ من العرب، ١١١٩ من الأوروبيين، ٢١٣٥٢ من السود، ومجموع السكان حوالي ٤٥ ألفًا يتكلمون لغات مختلفة أخصها: السواحلية: وهي خليط من لهجات البانتو مع العربية، وكنت أتلمس في كل جملة كلمة أو اثنتين أفهم بها سياق الحديث، وتكتب بحروف عربية وهي اللغة الرسمية في شرق أفريقية فكنت أراها تكتب إلى جانب الإنجليزية حتى في الإعلانات، فمثلًا عند منحنيات الطرق كنت أجد كلمة «أصبر» بمعنى خفف السير، وعند بائع الماء ترى كلمة «ماج» ومن الكلمات الشائعة: «زماني» بمعنى من زمان مضى و«بريدي» بمعنى البرد، و«كرتاس» بمعنى الورق و«سفري» بمعنى الرحلات «وَمَبارَك» للتحية، و«دَوَى» للدواء، واللغة السواحلية سائدة في شعوب السواحل جنوبًا إلى الناتال ومن ممباسا إلى فكتوريا نيانزا في داخل أفريقية.

والشعب السواحلي وليد اختلاط العرب بالزنوج فهو من أب عربي وأم زنجية، وهم يعيشون اليوم عيشة خمول في السهول الساحلية ذات النبت والشجر الوفير، وقد كانوا تجار عاج ورقيق من قبل، ولما حرم الاتجار بالرقيق أهمل العرب مزارعهم؛ لأنها كانت تتوقف في فلحها على أيدي الرقيق، وكان هؤلاء يحبون سادتهم من العرب ويختلطون بعائلاتهم؛ لأنهم كانوا يعاملون معاملة حسنة، وكانوا لذلك أصحاء الجسوم لكنهم بعد إلغاء الرقيق فقدوا سادتهم ولم يستطيعوا العمل وحدهم فأضحوا وكأنهم الغنم فقدوا راعيهم كذلك العرب فإنهم اعتادوا من قبل حياة السادة يشرفون على عبيدهم فحسب، فلما فقدوا عُمَّالهم لم يستطيعوا مباشرة العمل وحدهم، فكان من نتائج هذا التحرير أن انحطَّ النوعان السيد والمسود، وتدهورت حالة الإنتاج في الأراضي الخصيبة الساحلية، والعرب هناك لا يزالون يفاخرون بحسبهم القديم ويتمسكون بأهداب من العزة واهية في فلول قصورهم المتوارثة في مدن السواحل، ولا يزالون يحتقرون العمل اليدوي ويظهرون شيئًا من كبريائهم القديم كنا نلمحه على وجوههم، وهم آخذون في التدهور السريع لا بل والانقراض أمام المزاحمين من الأجانب أسيويين وأوروبيين، ويقال عن السواحليين أنهم مبذرون كسالى على أنهم قوم مرحون قانعون بما يلقون يشتغلون بجد أسبوعًا من كل شهر، وبما يكسبون يسدون حاجاتهم بقية الشهر وكفاهم فخرًا أنهم نشروا لغتهم التي أصبحت لغة التعارف بين كثير من وسط أفريقية وشرقها.

figure
نقف تحت شجرة «الباوباب» في غابات شرق أفريقية.

وفي ممباسا طائفة من أصفياء العرب تحكي لهجتهم لهجة أعراب البادية في مصر على أنهم قذرون ومتأخرون ويشبهون في السِّحَن مسلمي الهنود الذين يكثرون هناك، وللمدينة مظهر إسلامي في تعدد مساجدها وهم يتمسكون بشعائرهم لا يحيدون عنها، أما سِحَن الزنوج فمُنفِّرة للغاية بقاماتهم القصيرة وأنوفهم المفرطحة والنساء أشد قبحًا، يلبس غالبهم الطربوش تتدلى خصلته الغليظة الملونة (فيما يحكي «زر» العمامة) على جباههم وكأنهم البُلَهاء.

وممباسا تقع إلى جنوب خط الاستواء بأربع درجات وكان الجو مدة إقامتي بها جميلًا أميَل إلى البرودة إلا أنه رطب فالسماء قلما كانت تخلو من الغيوم، ولم أشعر وأنا بها أنني أقارب خط الاستواء بحرِّه القائظ على أنه إذا بزغت الشمس فإنك تلاحظ فرقًا عظيمًا في الحرارة؛ إذ ترسل الشمس أشعتها الرأسية فتكاد تخرق الجلد فإذا ما حجبتْها سحابة — وكثير ما هي — انتقلنا من وهج المنطقة الحارة إلى نسيم الجو الأوروبي البليل والموسم البارد هناك بين إبريل وسبتمبر، ويلفت النظر أشجار عتيقة هي بقايا أشجار «الباوباب» التي نمت إبان سيادة العرب والبرتغال وقد اعوجَّتْ أعوادُها بمضي السنين وكثرت تجاعيدها وفروعها بحيث كانت تبدو الشجرة وكأنها أربع شجرات أو ست ضمت إلى بعضها وتشعبت كل في أعلاها تشعبًا مستقلًّا عن جارتها.

والميناء صاخبة تظل حركة الشحن والتفريغ بها دائبة وهي الميناء الرئيسية لمستعمرة كنيا، والمنفذ الوحيد لمتاجر أوغندا؛ إذ يصلها بالبحيرات خط حديدي وكذلك تصرف عنها بعض متاجر تانجانيقا والكنغو وأشهر ما تصدره: البن الذي يزرع في مساحات شاسعة في كنيا، ثم السيسال وهو نبات كالصبار يدق فيصبح أليافًا صفراء براقة، لكنها خشنة تحكي الليف الأبيض من نخيل مصر وينسج للأشرعة والغرائر والحبال، ومن المواد الصادرة من هنا القطن ذو الليفة القصيرة وقشور شجرة Wattle تستخرج منها الأصباغ وكذلك العاج، وقد زرت في ميناء ممباسا مستودعًا للعاج تجمعه الحكومة وتصدره تحت إشرافها بمقادير وفيرة، ومن الأسنان ما كان بالغ الطول زنة أكبرها مائتا رطل أعني أن الفيل الواحد قد ينتج أربعة قناطير، ويختلف العاج جودة باختلاف الحيوان سنًّا ونوعًا، وكان ثمن الرطل الغفل من النوع الجيد خمسين قرشًا ويصدر الخرتيت بقلة وقرنه قصير وفي مخروط مقوس إلى الخلف وثمن الرطل منه سبعون قرشًا.
figure
سن الفيل قد يبلغ ضعف قامة الرجل طولًا.

وغالب الأعمال التجارية يقوم بها الهنود، أما باقي الأهلين فأُجَرَاء وقد قيل لي: إنه بسبب الكساد العالمي الحالي اضطر نحو نصف الجنس الأبيض وبخاصة أصحاب الأعمال الكبرى من الإنجليز أن يبرحوا البلاد، وقد لاحظنا الكثير منهم يعودون لإنجلترا لكساد أعمالهم هنا، وها هي باخرتنا غصت بهم يوم برحت ممباسا.

figure
بعض سيدات السواحليين من المسلمات.

قامت باخرتنا «لانجبي كاسل» تشق ما بين جزيرة ممباسا إلى اليسار وإفريقية إلى اليمين وكانت الشواطئ وفيرة النبت وبخاصة شجر المانجو إلى اليسار والنرجيل إلى اليمين والساحل مشرف رأسي ومن صخور الجير الذي اصفرَّ بمضيِّ السنين وفي خمس ساعات أقبلنا على بلاد تنجانيقا:

تانجا: قرت عيوننا في باكورة الصباح بجمال المناظر حول تانجا التي دخلناها في الليل ونحن نيام، خليج تحفه الجزائر الصغيرة المترامية وفوق الجزيرة الكبيرة أقيمت المدينة ببيوتها المنثورة، ثم طغت على جوانب الخليج قبالتها حيث يصب نهر سيجي Sigi الصغير، وقد كانت عهد الألمان أولى ثغور تانجانيقا، لكنها اليوم فقدت شيئًا من شهرتها، ولا يزال يصدر منها فوق ثلث حاصلات البلاد، والإقليم حولها غنيٌّ بمزارع السيسال والكبرا وفوق المرتفعات البن والشاي، وهي منفذ طبيعي لإقليم كلمنجارو، أهلها أحد عشر ألفًا من بينهم ٥٦٣ من البيض و٤٥٨١ من الأسيويين هاجمها الإنجليز سنة ١٩١٤، لكنهم رُدُّوا بخسائرَ فادحة، وفي سنة ١٩١٦ فتحها الجنرال «سمطس» ولا تزال تُرى باخرة ألمانية صغيرة غرقت هناك إبان الحرب. أقلتْنا سيارة طافت المدينة وهي على نمط دار السلام، ثم أوغلنا في مجاهل الغابات خلفها فهالَنا ما بها من فصائل النبات الملتف المتعانق بين صغير وعملاق وخلالها قطع القوم فجوات زرعوها من السيسال والتابيوكا، لكن غالب الأراضي مهمل يحتاج في زرعه واستغلاله إلى جهد كبير حتى تُستأصَل تلك الطفيليات التي كنا نمر خلالها فتغطي جموعَنا تمامًا بعضُها في أعواد وأوراق كأنها قصب السكر والبعض شجيرات أوراقها مهفهفة خفيفة عريضة، هنا ذكرنا حقًّا مخابئ الوحوش التي خبرنا السائق عنها طويلًا؛ وبخاصة السبع والشيتا نمر أفريقية الأرقط، وبينا نحن نتحدث إذا بجمهرة من القردة في أحجام مختلفة تجري على بعد وتتسابق إلى الشجر، وهنا قال الرجل بأن هذه القردة أضحت من أكبر المنغصات هناك لا بل وفي باقي أفريقية إلى أقصى الجنوب فهي تسير في جماعات وتهاجم حقول الذرة ويقف منها حارس أو اثنان للرقابة ولا يفتأ الباقون يقطعون أكواز الذرة ويولون سراعًا، لقد اتبعوا في مطاردته طريقة عجيبة هي أن يصاد واحد في فخ، ثم يحلق شعره كله ويطلى جسده بدهان أزرق ويطلق صراحة فإذا أتى عشيرته ورآه الجمع هكذا خشي أن يحل به مثل ذلك، فينقطع الجميع عن زيارة تلك البقعة مدة طويلة هروبًا من ذاك المنظر المخزي!
figure
وسط الغابات المغلقة في تانجا.

أدَّى بنا التسيار خلال تلك الغابات إلى مغاور بها من الصاعدات والداليات والفجوات ما يُشعِر بمرور نهر تحت الأرض ثقب الصخر هكذا، والمنطقة حولها جِدُّ موحشة لولا ما نرى من جموع الفراش رائع النقوش، ومن أسراب الطيور الغريدة في ألوانها الساحرة، وبعد أن سرنا طويلًا فاجأنا نُهَيْر يكاد يغطيه كثيف النبت وخليعه، ومن الشجر الذي استرعى أنظارنا «الباوباب» الشامخ، وكان له ثمر كأنه أكواز الشمام الكبير يغطي قشورَه وبرٌ أملس ناعم إلى ذلك شجر متعدد الثمرات من بينها ثمرة حمراء هادئة كأنها التفاح قلبها ناصع البياض تتوسطه نواة ضخمة كنواة المانجو ويسميها القوم بالسواحلية «توفاه» بمعنى تفاح، والجوافة والمانجو التي أثقلها الثمر دون أن تجد صاحبًا يستغلها. هنا حط رهطنا الرحال وأخذنا نأكل من ذلك الثمر الشهي حتى امتلأنا بطونًا وجيوبًا، ويتخلل كلَّ أولئك شجرُ النرجيل الذي لا يغيب عن العين. طال بنا التجوال والركوب زهاء ساعتين بين وِهَاد ونِجَاد فهمنا خلالها معنى الغابات الكثيفة حقًّا في رهبتها ووحشتها وجمالها الرائع.

زنجبار: في أربع ساعات بدتْ أرض زنجبار في شبح فاتر لبث كلما قاربناه يجلو في جزائر صغيرة منثورة حول الجزيرة الكبيرة وحول الجميع نطاق أبيض ناصع من تكسر موج البحر على جسور المرجان التي يحيط بها، وكان النبت الوفير يكسوها جميعًا، وفي أكثر من ساعتين رسونا على بُعد من الأرصفة وأقلتْنا الزوارق الصغيرة إلى الشاطئ فبدت المدينة شبيهة بناحية الميناء القديم في الإسكندرية طُرقها مختنقة لكنها نظيفة وغالب بيوتها من طابقين في هندسة بين العربية والمصرية، ويواجه الميناء قصر السلطان القديم في منظر لا بأس بأبهته في أعمدته التي تحوط طوابقه كلها ويسمونه «بيت العجايب» وهو اليوم دار الحكومة كان يرفع عليه علم البلاد في قماش أحمر، وبجانبه القصر الجديد للسلطان على مدخله لوحة نحاسية كتب عليها: «السلطان الخليفة سيد»، وهو عربي يلبس عمامة شبيهة بعمامة الهنود، ومن هنا أقلتنا الركشا إلى أرجاء عدة من المدينة أخصها شارع «دارا جيني» وهو يجانب شعبة من البحر كأنها القناة الضيقة عليها قناطر عدة يصل بها القوم إلى مسكنهم الوطني وهو أخصاص تقام على شاكلة تلك التي في ممباسا تمامًا، وفي نهاية الطريق يقوم المتحف ويسمى «دار الأماني» تحت قبة صغيرة حوى بعض المخلفات القديمة من سيوف ومخطوطات وهدايا وبعض المقاعد والطبول الكبيرة التي استخدمت في الحروب والمعروضات ليست بذات قيمة تذكر، بعد ذلك زرنا بيت الحاكم الإنجليزي — وزنجبار وبمبا سلطنة تحت حماية الإنجليز — وهو أفخر مباني المدينة يقوم في شكل قلعة تطل على البحر تزينها الحدائق المنسقة وأمامها متنزه فكتوريا، وهو ملعب عام وبه بعض المقاهي والمراقص، أما أسواق المدينة فأعجب شيء بها؛ فهي أزقَّة مختنقة ذات لفائف كأنها التِّيهُ لا يُعلَم لها أول ولا آخر بشعابها المعقَّدة، فهي أشبه بحي خان الخليلي وما جاوره عندنا، أرضها مرصوفة نظيفة وبها تُعرَض مبيعاتهم وغالبها من منتجات هندية ويابانية، وتضم المدينة من الأهلين مائتي ألف نفس منهم ١٦٥ ألفًا من السواحليين وعشرون من العرب وخمسة عشر من الهنود، أما الأوروبيون فلا يجاوزون ٢٧٠، واللغة السائدة السواحلية التي يتكلمها الجميع، والإسلام دين السواد الأعظم، أما السِّحَن فبعيدةُ الشبه جدًّا ومنوَّعة، وغالبهم في جهلٍ عميق، ويقوم بالأعمال التجارية الهامة الهنود في الغالب، وليس للبلاد نقود خاصة فهم يستخدمون النقود الهندية (مثل الروبية، والآنه) وأعجب ما هنالك أن ساعة البلاد تسير على النظام العربي، فعند الغروب تكون الثانية عشرة وترى حتى ساعات الميادين تسير على هذا النظام.
figure
أمام «بيت العجائب» قصر سلطان زنجبار.
figure
في أحَد أزِقَّة زنجبار.
والمدينة تقوم على الطرف الجنوبي الغربي للجزيرة التي يبلغ طولها خمسين ميلًا ومساحتها ٦٤٠ ميلًا مربعًا، وتبعد عن القارة بنحو ٢٢ ميلًا، والبلاد تاريخية قديمة عُرفتْ أخبارها منذ سنة ٦٠ ميلادية، وظلتْ قرونًا أكبر مِيَن شرق أفريقية وأغناها موردًا، والبيت المالك والطبقة الممتازة من العرب من شيعة أيبادهي Ibadhi لذلك خلت مساجد المدن من المآذن والمؤذن ينادي من باب المسجد، وعدد مساجدها هذه يفوق المائة أشهرها مسجد كزمكازي Kizimkazi بُنِي سنة ١١٠٧ عندما احتلَّ الفرس الجزيرة والساحل المواجه لها، وعِمادُ ثروتِها:
القَرَنْفُل: الذي زرعه السلطان «سيد سعيد» وأمرَ أصحابَ الأرض أن يزرعوه وإلَّا اغتصبَ أملاكهم فأصبحَ الغلةَ الرئيسية منذ مائة سنة؛ إذ ٨٨٪ من قرنفل العالَم أجمع يصدر من هذه البلاد، وهو يشغل مساحة ٦٠ ألف فدان ونحو ٤ مليون شجرة تنتج نحو ١٨٠ ألف قنطار قيمتها من عشرة ملايين روبية — والروبية سبعة قروش — ويحسن ألَّا يزيد عدد الشجر على ثمانين للفدان، وشجره يُثمر في سن بين الخامسة والثامنة وقد يُثمر في الثالثة، وغلة الفدان خمسة أرطال من القرنفل الجاف، وجَنْيُ القرنفل يحتاج إلى مهارة وإلَّا تلف كثيرٌ من الفروع السفلى، وهو يُجفَّف بعمليات شاقة وإذا نضج وتُرك حتى تتفتح أكمامه فقَدَ قيمتَه، وإذا أزهر آذى الشجرة؛ لذلك كان العلم بميقات جَنْيِهِ وليدَ خبرةٍ طويلة، والحكومة تتقاضى عليه من الضرائب ما يوازي ٢٠٪ من قيمته لذلك اهتمت به كثيرًا؛ لأنه عماد موردها، ومن القرنفل تُستمَدُّ الأعطار والبُهَار والعقاقير والفانيليا Vanillin وعجيبٌ أنه جُرِّب في السواحل المقابلة لزنجبار في أفريقية فلم ينجح بتاتًا رغم تشابه المناخ، ولو أنه نجح تمامًا في مدغشقر التي بدأت تنافس زنجبار؛ إذ بلغ إنتاجها ١٨٠ ألف قنطار، وفي سنة ١٨٧٢ هبَّتْ عاصفة عاتية اقتلعتْ جميع أشجاره في زنجبار وأُعيد زرعُها.
figure
مصنع للقرنفل ينشر المحصول أمامه في زنجبار.
قمتُ بجولة في ضواحي المدينة وهي غابة كثيفة تشقها الطرق التي تعلو وتهبط وتلتوي في تعقيد كبير، وأظهرُ الشجر النرجيل والمانجو، وقد دخلتُ مزارع القرنفل بأشجاره الكبيرة في خضرة مصفرة وثمرُه ينمو في عناقيد من براعم متجاورة يعلوها زهر كأنه الوبر، ثم تحمر البراعم وتقطف، ثم تجفف، وكنا نرى البيوت كلها تنشره على الحصر أمام الأبواب وفي كثير من الجهات تقوم مصانعه، وكنا نمر ببعض مصانع «الكبرا» وفيها يجمع النرجيل، ثم يُعرى عن قشوره وألبانه ويُحطَّم لبابه ويشحن إلى الخارج لاستخراج زيوته، وتعد الجزيرة خير بلاد شرق أفريقية بإنتاج الكبرا؛ إذ صدَّرت نحو ١٣ ألف طن سنة ١٩٣٠، وشجرة النرجيل تزكو في الشواطئ الحارة الرطبة خصوصًا بين ممباسا والزمبيزي (في كنيا نحو نصف مليون شجرة وفي تانجانيقا ثلاثة أرباع المليون) ويكمل نمو الشجرة في سن العاشرة لكنها تُغِلُّ في السادسة والسابعة وتظل تثمر نحو مائة سنة، ويحسن ألَّا يزيد عدد النخيل في الفدان على سبعين شجرة وتغل الشجرة من الكبرا بخمسة قروش، وفي بعض الجهات يهمل الثمر مقابل العصير من الجذوع ذاك الذي يعمل منه نبيذ القوم المسمى Tembo على أن ذلك يؤذي بالشجر جدًّا لذلك منعتْه الحكومة في بعض الجهات.
figure
إحدى قرى زنجبار.

ومن الشجر الغريب هناك شجرة فاكهة الخبز ذات ورق في حجم ورق الموز، لكنه مخرم مسنن في وسطه وأطرافه وثمرتها في حجم الشمام الكبير إلا أنها أكثر تفرطحًا وأضيق في وسطها وظاهرها خشن محبب وباطنها مادة نشوية يتخذ منها الدقيق، وقيل إن ست شجرات منها تمون عائلة كاملة بما تحتاج إليه من الخبز طوال العام، إلى ذلك نبات «الكسافا أو الماهوجا أو التابيوكا» ويبدو كالكروم على بُعْد فإن دانيتَه بدا أعوادًا معقَّدة في طول قامة الرجل إذا اقتلعتَ العود من الأرض خرجتْ معه مجموعة من جذور درنية في حجم طويل ومادتها نشوية لبنية لمسًا وطعمًا ويأكلها القوم طازجة ومطبوخة، وما زاد من محصولها جُفِّف فأضحى خفيف الوزن هشًّا إذا سُحق بِيع دقيقًا، وهو من أهم المواد الغذائية في شرق أفريقية وحيث يكثر يزيد السكان، ويقال إنه أرخص المواد لاستخراج الكحول منه.

سرنا طويلًا خلال تلك المزارع الكثيفة النبت والشجر، وبين آونة وأخرى كانت تنكشف وِهادٌ تغص بالبيوت الريفية تقام من أعواد الغاب المتقاطعة تُطلى بالطين وتغطى بجدائل من خوص النرجيل، وكلهم مسلمون ولغتهم سواحلية، على أن النساء سافرات يلبسن دثارًا فضفاضًا خفيفًا ألوانه زاهية ويعلقن في آذانهن أقراطًا من ورق ملون مَثْنَى وثُلاثَ ورُباعَ وبعضُها في حجم نصف الريال، وسِحَنُهن أجملُ من سائر السود اللاتي رأيتُهن إلى آخر أفريقية جنوبًا ولون القوم أخفُّ سوادًا مما يُشعِر بتأثير الدم العربي فيهم جميعًا، وأعجب ما نرى حفلات الرقص القومي يتمايلون خلاله بشكل مضحك تصحبهم قرعات الطبول الإفريقية الضخمة وكأنها البراميل المستطيلة تدق من جانبيها.

وقد زرنا في تلك الضواحي القصر القديم للسلطان «سيد برغش» وهو أطلال وسط حدائق تزينها برك البشنين والبردي، ولا تزال كثير من أعمدته الضخمة قائمة وكذلك جانب من حماماته التركية بمداخلها الكثيرة، ويقص القوم أن هذا السلطان كانت له زوجات يناهز عددهن المائة جارية من مختلف الأجناس في هذا القصر، وهذا سر تسميته «بقصر الحريم»، وهناك قصر آخر يطل على البحر ولا بأس بحفظه كان مقرَّه الريفي ولا يزال السلطان الحالي يقضي فيه يوم السبت من كل أسبوع، عدنا من جانب الجزيرة الآخر مخترقين الحي الآهل بالسكان في بيوتهم ضخمة البنيان ذات الأبواب الحديدية المصمتة الثقيلة، ومن بينها دار البريد والحربية وأسواق الخضر والسمك، ثم زرنا الكنيسة الإنجليزية التي أقيمت في مكان سوق الرقيق القديم، وقد بُني المذبح في المكان الذي كان معدًّا للجَلْد والتعذيب، وقد صُنع الصليب الذي يعلو المحراب من خشب الشجرة التي يدفن تحتها قلب الرحَّالة لفنجستون على بحيرة على بحيرة بنجويلو في منابع الكنغو.

figure
تجفيف النرجيل لعمل الكبرا، دار السلام.
دار السلام: أبحرنا إلى دار السلام الخامسة صباحًا وكان البحر هادئًا جميلًا وظل عقد من الجزائر الصغيرة يمتد من زنجبار جنوبًا إلى مسافة مديدة، وكنا أحيانًا نلمح شاطئ القارة فاترًا على بعد، وفي خمس ساعات بدت مجموعة من الجزائر المتقاربة كثيفة النبت ومن ورائها مباني دار السلام وأخذنا نتطلع إلى مدخل الميناء وكان ربان الميناء Pilot يدير السفينة يَمنةً ويسرةً وكأنها السيارة على ضخامتها، وأخيرًا ظهر المدخل مختنقًا تحفُّه شواطئ رملية مدرجة لا تسمح بمرور سفينتين معًا وعنده رأينا رصيفًا منهارًا وسفينة غارقة كان قد رمى الألمان بذلك إلى قَفْل الميناء في وجه الأعداء من الإنجليز إبان الحرب، وما إن اجتزنا هذا المضيق حتى انفسحت الميناء بشواطئها الرملية الممدودة في ألْسُنٍ لا حصر لها تنتثر عليها المباني ذات السقوف المتحدرة الحمراء تحفها المزارع الغنية ويكاد يخفيها شجر النرجيل، وفي الحق إنها لَمِيناءٌ آمنة مختبئة حققت في نظري تسميتها بدار السلام التي أسسها سيد عبد المجيد سلطان زنجبار سنة ١٨٦٢ واحتلها الألمان سنة ١٨٨٩، على أن الميناء ضحلة المياه كأنها المستنقع ولا يمكن للسفن دخولها إلا ساعة المد، وكنا نلاحظ عند المدخل كثيرًا من الشجيرات يغطيها ماء المد في مساحات مترامية وعجبنا لنموها في هذا الماء الأُجاج، أما منظر الميناء بجزائرها ونبتها ومبانيها فمن أروع ما رأيتُ جمالًا فقد أبدعتِ الطبيعة تنسيقها وزادها الألمان تجميلًا.
figure
هكذا يبدو أجناد البوليس في شرق أفريقية كلها.

هنا أقبل البوليس الزنجي يلبس الطربوش الأصفر — وكان في ممباسا، وزنجبار أحمر اللون — تتدلى منه خصلة ثقيلة سوداء وبذلته صفراء ويلف على الساق شريط أزرق «الشين» أما الأقدام فبدت سوداء براقة بلونها الطبيعي؛ ذلك لأن رجال البوليس في شرق أفريقية جميعها يسيرون حفاة الأقدام. جُبتُ أرجاء المدينة بمبانيها ذات الهندسة الألمانية المتشابهة طرقها فسيحة مرصوفة وفي استقامة تسترعي النظر تَحُفُّها الأشجار الوارقة، والحي الأوروبي منها كثير الحدائق فاخر المباني لدرجة تفوق الوصف، والناس أشباه سكان زنجبار وممباسا غالبهم مسلمون، وكنا نسمع المؤذن ينادي للصلاة من أبواب المساجد أو من فوق سقوفها بلهجته العربية المحرفة، والهنود هنا كثيرون، وبيدهم غالب المتاجر شأنهم في سائر بلاد شرق أفريقية ووسطها، وقد علمتُ أن نحو نصف الأراضي والمباني في دار السلام وتانجا وزنجبار مِلْك لأغنياء الهنود، وهم ينبثون بين الأهلين ويخالطونهم ويعيشون معهم على قدم المساواة، ولذلك فهم محبوبون إلا من الأوروبيين الحانقين عليهم؛ لأنهم في زعمهم موضع خطر اقتصادي كبير بسبب مزاحمتهم للأوروبيين مزاحمة قاتلة في التجارة؛ ذلك لأن معيشتهم بسيطة جدًّا لا يكادون ينفقون شيئًا، وهذا ما جعلهم يكدسون الأموال ويزاحمون الغير بأجرهم الرخيص ونشاطهم الزائد، وكم كان دهشي عظيمًا لهذا النشاط الهندي الذي كان يبدو مجسمًا في جميع شرق أفريقية وقلبها إلى ألبرت نيانزا في الداخل، فلم أكد أدخل ديوانًا أو متجرًا إلا وهم قادته وذلك عكس ما رأيتُه منهم في بلادهم عامِي الفائت، وذلك يظهر بوضوح مبلغ أثر الضغط وفساد البيئة في بلادهم ذاك الذي يَقعُد بهِمَمِهِم إلى هذا الحدِّ الشائن، أما في خارج بلادهم حيث تحرروا من قيودهم السياسية والدينية والاجتماعية فقد ظهرت مواهبهم الكامنة وكفاءاتهم الخامدة.

figure
إحدى جميلات دار السلام.

ولهم هناك مدارسهم ومساجدهم وقد زرتُ في ضواحي دار السلام مدرسة لصغار الفتيات من الهنود حَوَتْ نحو مائة وخمسين يجلسن على الحصر في مكان نظيف، وكان الدرس ألعابًا رياضية يقف البنات في دوائر متداخلة ويَدُرْنَ وبأيديهن عصيٌّ قصيرة من الأبنوس كأنها الصوالج وفي وسط الدائرة فتاة تعزف على شبه بيان صغير وهن يرقصن وراء النغمة ويغمزن بأرجلهن ويغنين وتلطم كل فتاة عَصَوَيْها، ثم تعود بهما فتصدم عَصَوَيْ جارتها وهكذا.

والمدينة تشهد للألمان بحسن القيام على بلدانهم وتنظيمها بدرجة تفوق أقرباءهم الإنجليز، وقد كنتُ أسمع من كثير ومن بينهم موظف إنجليزي هناك كان يشغل وظيفة عهد سيادة الألمان، أن الإدارة اليوم اضطربتْ منذ غادر الألمان البلاد فهم في زعمه كانوا أقدر على حكمها، وتتردد الإشاعة أن تانجانيقا ستعاد للألمان. وكان جو البلاد باردًا لطيفًا أدفأ من أيام شتاء مصر قليلًا والسماء يغشاها السحاب المتقطع، أما صيفهم وهو موسم المطر الغزير فبَعْدَ سبتمبر حين يسقط المطر وابلًا وقد حفروا له على جوانب الطرق مجاري كأنها القنوات الصغيرة، والمدينة تقع جنوب خط الاستواء بسبع درجات إلا قليلًا، وسكانها عشرون ألفًا نصفهم إفريقيون. وهي اليوم أكبر مِيَن تانجانيقا تحتكر ٥٦٪ من تجارتها، ومن الصادرات الهامة التي كنا نراها توسق في السفن في غرائر كبيرة البُنُّ والفول السوداني المقشور الذي يستخرج منه المرجرين والكبرا وألياف السيسال: ذاك النبات الذي يحكي الصبار الكبير أدخله الألمان أفريقية من بلاد المكسيك فانتشر خصوصًا في تانجانيقا حيث بلغ الصادر منه في العام بنحو مليون جنيه وتقطع أوراقه من السنة الثالثة وعددها بين ٢٠، ٥٠ ورقة في العام وتظل تنمو كل عام مرة وينمو العود الأوسط تعلوه جمة «شوشة» عليها البذور وتظهر الأوراق الجديدة في أسفله، وبعد السنة الثامنة تموت الشجرة ويبذر البذر من جديد وتغل الورقة رطلًا والفدان ٢٨٠٠ رطل سنويًّا، وقد تبلغ أليافه المترَ طولًا في لون أبيض براق، والأوراق تعطن ثم تدق وتنشر الألياف على عصيٍّ في الشمس، ثم تحزم وهي خير ما يصنع منها الحبال لمتانتها، وهو يفضل في مصانع أوروبا على قنب مانلا وللنبات فضل في أنه ينجح في التربة الرملية ويحتمل أشد التقلبات المناخية ولا يتطلب مالًا كثيرًا وزراعته لا تحتاج إلى خبرة واسعة كما أنه لا يتعرض لأمراض قط ويمكن أن يستغل ويصنع في جميع شهور السنة، وأصلح الأجواء له الحارة الجافة، ومن ثم الأجواء الصحية الملائمة للإنسان، فمصر تلائمه جدًّا ولا أدري لِمَ لا نشجع إنتاجه في بلادنا رغم توافر الظروف لزراعته وحاجتنا إلى منتجاته، وقد بلغ ثمن الطن منه سنة ١٩١٨م ٩٩ جنيهًا، لكنه تدهور اليوم إلى ١٣ جنيهًا مما هدد زراعته جدًّا، على أن الأمل في انتعاشه كبير؛ لأن الطلب عليه متزايد؛ إذ يَفضُل قنب مانلا المزاحم له.
figure
بعض الأحياء الوطنية، دار السلام.

برحنا دار السلام الثانية مساءً بعد أن اضطرت الباخرة أن تنتظر علو ماء المد ثلاث ساعات وأخذت تتمايل حتى أتت على مخارج الميناء وسط المناظر الساحرة، وفي صباح اليوم التالي كان الجو جميلًا مشمسًا إلا في سحب خفيفة منثورة، لكنه ما لبث أن فاجأنا باضطراب إعصاري شديد أعقبه وابل من المطر، ولم يكن ذلك غريبًا فإنا نعلم أن مضيق موزمبيق أحد مفاوز الأعاصير، وكان السحاب يرسل القطرات فتتصل بماء المحيط في شكل قاتم مخيف وفي ساعتين انكشف الجو وعاد البحر هادئًا، أما مهابُّ الرياح غالب الأيام فالجنوب والجنوب الشرقي وتلك هي الرياح التجارية تندفع وراء الشمس إلى القارات الشمالية حيث يخف الضغط ويتخلخل الهواء.

إلى شرق أفريقية البرتغالية: في أقل من يوم دخلنا البحار البرتغالية وأقبلنا على خليج Pemba في دائرة كبيرة ذَرْعُها سبعةُ أميال في خمسة، وعند مدخله ميلٌ ونصف تحوطها الرُّبَى الصخرية التي كادت تعرى عن النبت خصوصًا في هذا الموسم من السنة وهو موسم الجفاف، وعلى مدرجات إحدى تلك الربى تقوم مجموعة من بيوت صغيرة بيضاء جديدة يشقها طريق رئيسي واحد يتلوى فوق المرتفعات، والبلدة تسمي بورت أميليا أقيمت منذ خمس سنوات وينتظر لها مستقبل تجاري عظيم؛ لأنها أصلح المنافذ الطبيعية لأرض نياسا لاند وقيل لجزء من رودسيا الشمالية أيضًا، ويزمع مدُّ خطٍّ حديدي بينهما وعندئذٍ تزاحم مدينة موزمبيق، والخليج عميق متسع الداخل بحيث إذا ما أقيمت عليه الأرصفة آوى من السفن ما لا يُحصى، وإقليم نياسا الذي خَلْفها غنيٌّ بالزراعة والتعدين، ومن غلاته السيسال والنرجيل والقطن والطباق والذرة والحبوب الزيتية، وقد ظلت الباخرة يومنا توسق من السيسال والسمسم، والإقليم كثيف السكان من السود وإن كان البيض به قليلين، والميناء تعد من أصح مِيَن شرق أفريقية جوًّا؛ إذ يندر بها الملاريا والحمى السوداء وذباب تسي تسي تلك التي تكثر في سائر مِيَن البرتغال وذلك بفضل جودة الصرف الطبيعي بسبب مرتفعاتها.
figure
رقصة أوزارامو في شرق أفريقية.
الملاريا: تكاد تكون كل أفريقية من رودسيا جنوبًا إلى أقصى السودان شمالًا عرضة لهذا المرض إبان موسم المطر وهو نتيجة بعوضة مريضة ملوثة، وجراثيم المرض تحمل في دم البعوضة وتنقل إلى الإنسان إذا لدغته وقد تنقل من المريض إلى السليم، ولحسن الحظ قلما تلدغ البعوضة في ضوء النهار ولذلك قلَّ خطرها إذا اجتنب الإنسان الأماكن ضعيفة الضوء نهارًا وإذا طرد البعوض ليلًا؛ لذلك كنا نشاهد كل البيوت في المناطق الموبوءة تحمي نوافذها وأبوابها بشباك السلك، وأكبر حامل للمكروب الأهالي من السود وبخاصة أطفالهم، فإذا أبعد هؤلاء عن البيوت ليلًا قلت الفرصة في أن ينقل البعوض العدوى منها إلى غيرهم، وكان يصف لنا الأطباء تناول خمس حبات من الكينين يوميًّا خصوصًا عند تناول الطعام وذلك يكفي لمنع العدوى، وبعوض الملاريا لا ينقل بعيدًا إلا بواسطة الرياح القوية، ولما كانت المياه ضرورية لحياته لزم ردم النقائع واستئصال الشجيرات والغاب المهشم الذي يتجمع تحته الماء الراكد، فإذا تعذر ذلك وجب رشها بالبترول، وكثير من البط وصغار السمك يأكل بويضات البعوض Larvae بشَرَهٍ زائد، وقيل إن سيوة في مصر تخلصت من ذلك الوباء بنوع من السمك اسمه تاليبيا Talipia جلبتْه من فرنسا سن ١٩٢٧، ويقال إن بعض أنواع الخفاش أفاد في استئصال البعوض في جهات من الولايات المتحدة، وإذا عُني بعلاج الملاريا زالت تمامًا على أنها كثيرًا ما تبقى في الجسم مختبئة في الطحال أو الكبد وعندما يناسبها ضعف الجسم تظهر ثانية، وعدم الانتظام في علاجها مدة طويلة قد يؤدي إلى مضاعفات منها:
الحُمَّى السوداء: التي تسبب نزول الدم القاتم مع البول، ومن هنا جاء اسمها، وهذا المرض أخطر من الملاريا؛ لأنه يضعف القلب ضعفًا شديدًا؛ لذلك وجب ألا يحرك المريض وألا يجلس، وتحتم أن يباشره الطبيب دائمًا.
ومن الأمراض المنتشرة هناك مرض الماشية Nagane الذي تنقله ذبابة تسي تسي تلك التي تنتشر في ٦٧ مليون فدان من رودسيا وحدها وتفتك بالماشية فتكًا ذريعًا، ومما يخفف من وطأتها أنها قلما تلدغ ليلًا ولا تقارب المياه ولا تعبر الأنهار قط.

لبثتْ باخرتنا في بورت أميليا يومًا كاملًا هاجمَنَا خلاله جماهيرُ الباعة من السود كلٌّ يحمل أقفاصًا من الغاب بها مجاميع من طيور ذوات ألوان ساحرة، وكان القفص يعرض بعشرة قروش والبَبْغاءُ الكبير بخمسة قروش والنسناس بعشرة، وذلك يؤيد كثافة الغابات موطن تلك المخلوقات.

figure
جانب من سوق دار السلام.
قمنا إلى موزمبيق: فوصلناها في نصف يوم فبدتْ جزيرة كبيرة حولها مجموعة من جزائر تكسوها الخضرة النضرة، وأخذنا ندخل بين طياتها وعلى منحدرات تلك الجزائر جميعًا تقوم المدينة، والجزيرة الرئيسية تبعد عن القارة بثلاثة أميال، والجزائر كلها مرجانية تحفها الشعاب المتعددة وتغض بمختلف الأصداف ذات الأشكال العجيبة التي هاجمَنَا بها جمهورُ الباعة. رسونا بعيدًا وحملتْنا الزوارق إلى المدينة، وأول ما استرعى أنظارنا القلعة القديمة بحوائطها الحجرية الضخمة الشاهقة التي يبلغ علوها ٣٥ قدمًا، وهي تحيط بطرف من الجزيرة، دخلناها وتسلقنا أسوارها التي تثقبها عيون تطل منها المدافع القديمة الثقيلة تُحمَل على عَجَل من خشب وفي وسط سقفها حوض غائر لجمع ماء المطر الذي كان يستقي منه الحراس، وفي أسفلها عدة مقاصير وحجرات مظلمة بُنيتْ سنة ١٥٠٨ بحجارة كلها نقلت من البرتغال على بعد ٨٠٠٠ ميل في زوارق ذاك العصر، وهي تُتخذ اليوم سجنًا، ويفاخر البرتغال بأن عَلَمَهم ظل يرفرف فوقها منذ أقيمت في سنة ١٥٠٨ إلى يومنا هذا بدون انقطاع.
figure
مزارع السيسال في تانجانيقا.
خرجنا نجوب المدينة فراقتنا طرقها الضيقة الملتوية رصفت بالحجر يجانبها إطاران بالأسمنت وإلى جانب أحدهما مجرًى صغير لماء المطر الذي ينزل إبان الصيف وبخاصة في ديسمبر ويناير، أما البيوت فكلها من طابق واحد وبالحجارة الثقيلة، لا تكاد تَرى بها من النوافذ شيئًا فهي تحكي بيوت القرون الوسطى تمامًا، ويخيل إليك أنها مجموعة سجون ممتدة، وكنا نرى معدن الميكا القديمة يقوم مقام الزجاج في بعض مناورها، وأجملها بيت الحاكم يطل على الميناء، والبلدة صغيرة لا يعدو ساكنوها ٧٣٦٥ نفسًا منهم ٤٨٦ من البيض، ٢٥١ من الهنود والباقون من الزنوج الذين يدين غالبهم بالإسلام، ولهم جانب من المدينة أقاموا به أخصاصهم المربعة ذات السقوف المنحدرة بالقش والطين والغاب، وكم يروقك منظر السيدات وهن يسرن في ملاءات خفيفة من أسفل الجسد إلى وسط الصدر في وجوه منكرة يزيدها قبحًا أن الكثير منهن يلطخن الوجه كله بعجين أبيض بحيث لا ترى منه إلا عينين براقتين، وتلك آية التجمل لديهم، والسيدة إذا سارت بدا تقوسها في انتفاخ عجزها إلى الوراء وصدرها الكاعب إلى الإمام في شكل مضحك؛ أما الطرق الرئيسية فتكاد لا ترى بها مارة قط، فإذا ما أطلتَ النظر في الأبواب المفتحة بدا في داخلها المظلم حانوتٌ به بعض المعروضات الضئيلة، والمدينة ظلت عاصمة أملاك البرتغال زمنًا طويلًا، والإقليم الذي خلفها خصيب بالذرة والفول «السوداني» والسمسم والتابيوكا والبُنِّ، وظلت السفينة تحمل وسقها من الفول والسمسم والكبرا، ويزمع مد خط حديدي منها إلى نياسالاند التي تعد إحدى منافذها الطبيعية، وهي وإن قلَّت أهميتها اليوم عن ذي قبل إلا أنها هامة من الوجهة التجارية؛ ففيها تجمع غلات البلاد المجاورة بواسطة خفاف السفن التي يمتلكها الأعراب وتسمى داو Dhows، ومن هنا تصدره إلى الخارج. قمنا نشق بوغاز موزمبيق إلى:
بيرا: فوصلناها في يوم واحد، وكن جو يومنا مضطربًا عاصفًا مطيرًا، وقبل أن تبدو بيرا بساعات تغير لون ماء المحيط فأضحى عكرًا كأنه ماء النيل إبان الفيضان وذلك من أثر نهر الزمبيزي الزاخر، ورغم بُعْد بيرا عن مصبِّه بنحو مائة ميل سبَّب ماؤه حدوث تيارات قاسية تجتاح المدينة، إلى ذلك فإن المدينة تقع قرب مصب نهرين صغيرين «Pungwee من الشمال وBuzi من الجنوب»، ولقد انتظرنا دليل الميناء ونحن نبعد عنها بنحو ١٨ ميلًا مما يدل على أن مدخل الميناء ضحل قليل الغور، وقد عانينا كثيرًا ونحن نرسو إلى رصيف الميناء، ولما غاض الماء إبان الجَزْر هَوَتِ السفينة حتى استقرتْ على الأوحال فأدهشني ذلك، لكن علمتُ أن السفن مبسوطة من أسفلها وليست مثلثة كما كنتُ أعتقد فلا ضير أن تستقر السفينة على قاعها، وفي الأصيل علا المد فجاوز ١٨ قدمًا، وهذا المد العالي الذي يدرك المدينة هو سر شهرتها التجارية وإن كانت الجرافات دائبة على تطهيرها من الرواسب، دخلنا المدينة فبدأنا نسمع البرتغالية يتكلمها غالب البيض، أما لغة السود فلهجة أخرى تقرب من السواحلية، وقد لاحظنا في وجوه السود تغيرًا فاللون أسود والشعر أمعن في التجعد والقامات أخذت في الطول، والبيوت مبعثرة في غير نظام وكلها من طابق واحد إلا شارع هو آية في التنسيق له أرصفة بالأسمنت، وعلى الجانبين تقوم الأشجار ومجارٍ للمطر تُطمَر بالرمل، ثم إطار ضيق للراجلين وأجمل ما به بيوت في فلات أنيقة تقوم على عُمُد أو شِبَاك من قوائم الأسمنت والآجرِّ وعليها طابق واحد متحدر السقوف والكلُّ تغشاها شِبَاك السلك الدقيق اتقاء البعوض؛ ذلك لأن المدينة تقع في بقعة وطيئة تكثر من حولها الأوحال والمناقع ويؤمها بعوض الملاريا، وكثير من البيوت يُبنى بألواح الصاج المجزع أو من الخشب وبها خط لسيارات الأمنيبوس، وقد كان بها ترام لكنه أوقف لقلة دخله، والهنود هنا أقل ظهورًا منهم في البلدان السابقة والبوليس من الزنوج يلبسون فوق الرأس قلنسوة ممطوطة توضع على جانب من الرأس وهم حفاة الأقدام.
figure
بورت أميليا «شرق أفريقية البرتغالية».
والغذاء القومي هنا مزيج من مدشوش الذرة يطبخ كالأرز المسلوق وقد تقطع عليه شظايا السمك نيِّئًا أو مقددًا ويأكله القوم بشكل تعافُه الأعين ويسمونه Milipapa، وسكان المدينة حول ١٦ ألفًا منهم فوق الألفين من البيض وأقل من ذلك من الهنود، وكثير من السود يقومون بزراعة الأراضي الداخلية خصوصًا التي تنتج المطاط والقصب والذرة، ولا تزال طريقة البرتغال سائدة وهي أن يمتلكوا الأرض جميعها ويكلف السود بفلحها، لكنهم بدءوا يرون أن الطريقة الإنجليزية في تمليك الأراضي للأهلين وتكليفهم بخدمتها مقابل ضرائب يدفعونها هي خير وأعود بالنفع، وميناء بيرا عظيمة، حركتها التجارية لا تخبو ولا يقل عدد السفن التي تدخلها عن ٦٥٠ حمولتها فوق ثلاثة ملايين طن، وهي تعد مفتاح رودسيا كلها تلك البلاد الشاسعة عديمة السواحل وتصلها بسلزبرج عاصمة رودسيا سكة حديدية.

ونهر زمبيزي يقسم رودسيا قسمين الشمالية الأقرب للفطرة والهمجية والجنوبية الأكثر عمرانًا، ولعل رودسيا أقدم بلاد لها تاريخ مدون في أفريقية بعد مصر، فأهلها الأصليون كانوا من البشمن الذين تركوا آثارهم في رسومهم داخل بعض المغارات هناك ولسوء حظهم كانت بلادهم مفرطة في الغنى المعدني خصوصًا الذهب، حتى غزا البلاد في عهد سليمان الحكيم شعب من الأعراب يسمَّوْن عرب سبأ أو شيبا، وهم فرع من الفينيقيين تملكوا مناجم الذهب واستخرجوه وأغرقوا به العالم حتى لم يصبح للفضة في عهد سليمان من قيمة تُذكر بجانب الذهب، وهؤلاء تركوا من آثارهم هناك ما هو جدير بالذكر بين معابد ومناجم وقلاع، ولعل أفخرها البيوت الصخرية في زمبابوي في مقاطعة فكتوريا من جنوب رودسيا قبالة ثغر بيرا مباشرة، وهي بقايا مدنية عريقة حقًّا كان أهلها يتعبدون في الهيكل الأهليلجي الذي كان يحوطه سور من الجرانيت علوه ثلاثون قدمًا وبه برج مخروطي شامخ، ويظهر أن السبئيين سادوا أغلب بلاد رودسيا على سعتها بين ٢٠٠٠ق.م، ١٠٠٠ بعد الميلاد حتى غلبهم جماعة البانتو من الشمال، ولما أغار البرتغال من الشاطئ سنة ١٤٨٥ دخلوا البلاد عن طريق الزمبيزي، لكنهم لم يتمكنوا من البقاء وهزموا سنة ١٧٦٠ وساد الهمج هناك فوق قرن من الزمان حتى كان عصر المستكشفين أمثال لفنجستون وسسل رودس.

figure
أمام قلعة موزمبيق، ويفاخر البرتغال أن علمهم ظلَّ يرفرف عليها منذ حلُّوهَا.

والبلاد غنية بالمعادن جدًّا، فلقد أنتجت على أيدي البيض مائة مليون جنيه من المعادن ثلاثة أرباعها ذهبًا — فهي ثالثة جهات الإمبراطورية البريطانية في إنتاجه، والنحاس بها كثير وبعض مناجم رودسيا الشمالية تنتج سبعة آلاف طن يوميًّا ومجموعة ما في أرضها ٥٠٠ مليون طن من النحاس، وقد كانت باخرتنا تحمل وسقًا منه في كتل فطيرة طوال إقامتنا في بيرا، ولعل أفخر مناظر رودسيا «شلال فكتوريا» على الزمبيزي وعنده تعبر سكة الحديد النهر في أعلى قنطرة في الدنيا، وليس في طوق إنسان أن يصور روعته، تصوَّر بحرًا زاخرًا من الماء في عرض ميل يهوي كله هوة غورها ٤٥٠ قدمًا وفي قرارها يختنق كل هذا إلى مائة ياردة ويعلو رذاذ الماء ٧٠٠ قدم في الجو ويسمع دوي الماء على بعد عشرة أميال، ويزيد المنظر سحرًا كثرة أقواس السماء التي تنعكس بألوانها المتحركة في ضوء الشمس نهارًا والقمر ليلًا، وفي اليوم المطير الهادئ يصعد البخار في خمسة أعمدة رأسية تسمى بالأصابع الخمسة أو «بالدخان الراعد» وهذه يراها المقبل على بعد ٢٥ ميلًا وأطلق العرب على الشلال — آخر الدنيا — ويخال البعض أن الشلال حديث العهد جدًّا، وأنه منذ ثلاثة قرون فقط كان الزمبيزي يجري إلى كالاهاري ويغذي أخوارها ومناقعها التي يُرى ماؤها اليوم آسنًا مالحًا فلما تحول النهر هكذا جفف إقليم كالاهاري وزاد مناخه تطرفًا.

وللأستاذ شفارتز مشروع هائل به يعيد صلة الزمبيزي بتلك المجاري القديمة فيملؤها ماء هي وسائر بحيرات كالاهاري فيعود للمكان خصبه، وبذلك يمكن ري عشرة ملايين من الأفدنة. وأهل رودسيا يعيشون على فطرتهم، وهم قبائل عدة وتتعدد لهجاتهم ويعبدون الجن، ولعل أعجب قبائلهم قبيلة «أواتوا» الذين يعيشون فوق مناقع لوكانجا وتقوم أخصاصهم من الغاب والطين وسط الماء ويتنقلون في زوارق نحيلة، أقدامهم مكفوفة كأقدام الوز وهي في الحقيقة رخوة لدرجة تجعلهم لا يكادون يطيقون الوقوف على اليابسة؛ لذلك حق عليهم التسمية بالإنسان المائي، وهناك قبيلة شبيهة بهم حول مناقع بنجويلو وتسمى قبائل «وونجا» شعارهم التمساح وقبائلهم لا تزال تتعقب أنسابها عن طريق الأم.

figure
مباني موزمبيق تبدو كأنها سجون «طرة».

وبعض النحاس الغفل الذي كان يوسق في السفن ونحن وقوف في بيرا يفد من «كاتانجا» في جنوب الكنغو البلجيكية، وتلك مقاطعة أثبت البحث الحديث أنها غنية جدًّا بالمعادن وبخاصة النحاس والراديوم، ففي سنة ١٩٢٢ كشف الراديوم مختلطًا بمعدن اليورانيوم ويصدر الخام إلى بلجيكا ونسبة الراديوم كبيرة جدًّا، ففي أمريكا أغنى بلاد الدنيا إلى سنة ١٩٢٢ كان يستخلص من طن الخام ٢٫٥٧ ملِّيجرام من الراديوم، لكن الطن في كاتانجا ينتج ٢٢٫٧ ملِّيجرام، ويقدر ثمن الجرام بنحو ١٢٠٠٠ جنيه، ولذلك يقدر ثمن الطن من الخام بنحو ٣٠٠٠ جنيه، والبوليس يحرس المناجم في كاتانجا اليوم وكأنها مناجم الماس، وقد كانت أمريكا تنتج أربعة أخماس محصول الدنيا لكن ستزاحمها كاتانجا تمامًا، ومجموع إنتاج الراديوم الآن ثلاثون جرامًا، وثروة هذا الإقليم أخذت تجتذب سكة حديد الكاب، والقاهرة إليها، فبعد أن كانت تنتحي ناحية شرقية انعرج الخط إلى الكنغو، وأرض كاتانجا مرتفعة تلائم سكنى الجنس الأبيض، وقد فكر البلجيكيون إبان الحرب الكبرى لما أن كادت ألمانيا تمحو بلادهم من أوروبا أن يتخذوا أمثال تلك المقاطعة من الكنغو وطنهم الثاني، وأن ينتقلوا إليها تحت أمير وطني بلجيكي.

قمنا عصر الجمعة إلى الجنوب، وبعد ساعتين بدتْ على بُعد إلى يميننا قرية سوفالا التاريخية القديمة التي كانت آخرَ محاطِّ العرب قديمًا، ويزعم البعض أنها الفاصل بين الشرق والغرب؛ إذ النفوذ الغربي سائد بعد ذلك إلى أقصى أفريقية جنوبًا، أما في كل ما سبق من سواحل أفريقية فالأثر العربي لا يزال سائدًا رغم خروج تلك البلاد من أيدي العرب، وفي الصباح بدت:

لورنزو ماركوز: في خليج عظيم الامتداد يناهز طوله ٢٦ ميلًا بين شواطئ رملية مشرفة لونها أحمر تكسو أغلبها الأعشاب، وقد أسماه البرتغاليون خليج «دلاجوا» ومعناه من «جوا» لأنه اتخذ مرسى لسفنهم الوافدة من الهند صوب البرتغال، أما السفن التي كانت تفد من البرتغال إلى جوا فكانت ترسو على خليج «الجوا» ومعناه «إلى جوا»، وهو اليوم مكان ثغر بورت اليزبث في الكاب.

نزلنا المدينة فهالنا ما رأيناه من مبالغة في التنسيق والنظافة، جميع الطرق رحبة تتوسطها المماشي ذات الأشجار، وبجانبها إطاران عريضان أحدهما يرصف بالأسمنت، وبين آونة وأخرى كنا نمر بمتنزه صغير أنيق تزينه الجواسق الخشبية سامقة السقوف، وهذه يتخذها القوم مقاهي ومشارب للشاي تحوطها أرصفة من الودع الملون، وجزء من المدينة مقام على منخفضات الشواطئ، أما غالب الأحياء الممتازة فتُبنَى فوق الرُّبَى من خلفها، وتمتد الشوارع بين هذا وذاك فتصعد بانحدار قاسٍ، وأنت تكشف من طرفها المرتفع المدينة كلها والخليج الرائع من دونك، والبيوت كلها «فلات» من طابق واحد هي آية في النظافة والجمال، ويتوسط المدينة سوقها في بناء فخم يحوطه متنزه جميل تقوم على أركانه الأربعة الجواسق الأنيقة، ولعل تلك الجواسق أظهر ما يميز المدينة، دخلنا السوق في باكورة الصباح فكان القوم من السود نساءً ورجالًا يفترشون سلعهم وبخاصة مواد الغذاء والفاكهة على مناضد من حجر وتسمع جلبتهم وهم يساومون الباعة وبخاصة النساء بصدورهن البارزة وأعجازهن المنتفخة وعلى ظهورهن يربطن أطفالهن وكأنهم صغار القردة، وكانت تسترعي نظري رءوسهم بشعرها الفلفلي وناصيتها المدببة وجبهتها المشطورة المتحدرة، ومن أفخر مباني المدينة محطة سكة الحديد التي تعد من أجمل محاطِّ أفريقية، كذلك حديقة النبات التي تغص بفصائل المناطق الحارة، وهي تقام على مدرجات بعضها فوق بعض، وفي جانب صغير منها حديقة للحيوان وفي طرفها الآخر متحف جميل حوى مجموعة من الحيوان المحنَّط المحشو بكامل حجمه تحوطه نماذج من بيئته، ويغلب أن ترى الحيوان ممسكًا بفريسته.

figure
أشرف على الحي الوطني المكتظ، موزمبيق.

ومن أعجب ما رأيتُ أفعى تُمسك بقرد صغير، وأخرى تمسك بغزال التفَّتْ حول جسمه وهي تمتص الدم من رأسه، إلى ذلك مجموعة من الأسماك المحنطة وبعض الحشرات ومن بينها ذبابة تسي تسي في حجم يزيد قليلًا على الذبابة العادية وأجنحتها مجزعة كأوراق الشجر، وهي إذا لدغت إنسانًا بدت عليه عوارض الجنون، ثم يستلقي وبعد شهور قليلة يصبح جسمه عظامًا بالية، وفي الطابق العلوي بعض المخلفات الحربية لهمج أفريقية يوم فتحها البرتغال، والدخول للمتحف بغير أجر، وهناك سجِلٌّ دوَّنَّا فيه أسماءنا.

وفي ناحية متطرفة من المدينة نُسِّق شاطئ البحر في مدرجات وطرق ملتوية وجواسق وحمامات هي آية في الإبداع، وتسمى ناحية بولانا، وكم يعجبك منظر الشاطئ الوطيء ومن خلفه تقوم شرفة عالية من الرمل الأحمر تتخلله منابت العشب البري، وحقًّا لقد أكْبَرَتْ تلك المدينةُ في نظري من شأنِ جماعة البرتغال وأيَّدتْ حُسْنَ ذَوْقهم، أما في المساء فالمدينة مظلمة هادئة إلا في مصابيح الكهرباء وإشارات المرور، وهذه على أحدث نظم فالمصباح معلق وسط مفارق الطرق ويتعاقب اللون من الأحمر (لإيقاف المرور) إلى الأصفر (للاستعداد للسير) إلى الأخضر (لفتح الطرق) في فترات منتظمة، كل ذلك يتحرك بنفسه بدون جندي يُباشِره «أوتوماتيكي».

وسكان المدينة ٣٧ ألفًا ربعهم من البيض والمسلمون هناك قليلون جدًّا، وليس بالمدينة مساجد قط، ويظهر أن جمعيات التبشير هناك ناشطة؛ لأني كنت أرى جماهير السود يمسكون بأناجيلهم تلف في مناديل من حرير وهم يسيرون زرافات إلى الكنائس يوم الأحد، والمدينة عاصمة شرق أفريقية البرتغالية، أما بيرا فعاصمة أملاك الشركة التجارية البرتغالية، وكل منهما له حكومته فهذه تديرها حكومة البرتغال رأسًا، أما منطقة بيرا فتديرها الشركة ولكلٍّ نقودها الورقية وطوابع للبريد تغاير ما للأخرى حتى إنني لم أجد هنا مَن يقبل نقود بيرا، وكذلك لم أستطع وضع طوابع شريتها من بيرا على خطاباتي هنا، وقيل إن الشركة ستسلم بلادها للحكومة بعد ست سنوات، ولهجات السود هنا متعددة؛ فأهل بيرا لا يفهمون أهل بورنزوماركوز على أنها من لهجات البانتو.

figure
إلى جانب إحدى حِسَان موزمبيق وقد كَسَتْ وجهَها بالعجين تجملًا.
البانتو: هم جميع السود من جنوب خط الاستواء إلى حدود جنوب أفريقية، لغاتهم وإن اختلفت لهجاتها إلا أنها ترجع إلى أصل مشترك، والبانتو ليسوا سكان البلاد الأصليين بل زحفوا من الشمال، فريق من الشمال الشرقي وهم أخفُّ سوادًا ويسمَّوْن بالشعوب النيلية التي دخَلَهم الدمُ الحاميُّ، ولما كان الدم الحاميُّ هو الذي ميَّز دم البانتو عن السود وكان الحاميون شعبة من الشركس أقرباء الأوروبيين قال البعض بأن البانتو أقرب إلى الجنس الأبيض منهم إلى الأصفر أو الأسود أو الأحمر.
وفريق أسود وَفَد من جانب الكنغو، والفريقان تقدما من البحيرات جنوبًا وبعضُهم زحف ناحية كلاهار، والبعض إلى الجنوب الشرقي وكانوا أكثر غلبة وقوة فأسسوا إمبراطورية مونوموتابا في القرن الخامس عشر، وفي القرن السادس عشر غزاهم فريق آخر أشد شراسة وحل ناتال وتبع هؤلاء قبائل «باروتسي» ضخام الأجسام في لون أسود نحاسي وشعر جعْد ولحًى نادرة الشعر وأنوف فطساء، وفي القرن الثامن عشر البافندا والباكوينا إلى الأورنج والدمارا إلى جنوب غرب أفريقية، وكل قبيلة كانت تحمل اسم رئيسها مسبوقًا بكلمة آما Ama بمعنى الشعب أو الناس.
والبانتو عمومًا لهم نظام قبائلي تدعمه أسس دينية، وكل قبيلة تقدس زعيمها، وسلطتُه زمنَ الحرب مطلقةٌ وزمنَ السلم تتوقَّف على قوة أخلاقه ومتانة عادات القبيلة وتقاليدها التي يفسرها للناس مستشاروه Indunas الذين يجب عليه أن يعمل بمعاونتهم، ويلي هؤلاء مقامًا مجلس القبيلة وغالبهم من أقرباء الزعيم؛ لأنهم يقدسون البيت المالك وفروعه.

وأغنياء الزعماء يتزوجون أكثر من سيدة والزوجة الأولى تسمى زوجة اليد اليمنى والثانية زوجة اليد اليسرى، وهناك الزوجة العظمى وابنها وارث الملك، وهذه الزوجة تأتي متأخرة في العادة؛ ولذلك غلب أن يتولى الوارثُ المُلْكَ طفلًا تحتَ وصاية عمِّه أو أحد أقربائه، وقد كان هذا من أسباب كثرة المنازعات خصوصًا عندما يبلغ الصبي الرشد ويتسلم مهام الملك، أما أولاد الزوجتين اليمنى واليسرى فيعطَوْنَ رجالًا وقطعانًا ليؤلِّفوا عشائرَ جديدة تنضم للقبيلة، ولذلك صعب على الأوروبيين هناك أن يقفوا على مقر السلطة وصاحب النفوذ الحقيقي منهم فقد يمضون معاهدة مع رئيس ويظهر لهم أن الباقين ليسوا مرتبطين بها لا هم ولا ورثته بعد موته، وكان يوقِف استبدادَ الزعيم برعاياه سهولةُ نظام التبنِّي والتحول من عشيرة لأخرى فإن استبدَّ هجروه وانحازوا إلى رئيس غيره والرؤساء في الغالب عادلون، ولهم محاكم وقضاة ويسمحون للمتهم بالدفاع والاستئناف وكل عقوباتهم تنفذ «بالكي» بالحديد الذي يسخن لدرجة الاحمرار، وعند بعضهم يحول على الطبيب الساحر ليشتَمَّ فيه رائحة الإجرام ويلصق به التهمة، على أن أغلب العقوبات تنحصر في شيئين الإعدام أو الغرامة التي تُدفع ماشية، أما السجن فغير معروف بين قوم يقطنون بيوتًا واهنة.

figure
بيرا «شرق أفريقية البرتغالية» بيوتها مبعثرة في غير نظام.
وكان عقاب السَّحَرة الموت واغتصاب أملاكهم؛ لأنهم ارتكبوا جرمًا سياسيًّا ودينيًّا، ويعتقدون في إلهٍ واحدٍ يسمونه امكولونكولو Umkulunkulo هو الذي خلق الناس وكل شيء حي من الطين وسلخه من عود الغاب، وكانوا يرون في هذا الإله أبًا أشبه بآدم عندنا منه بإلهٍ، ويحوط كل هذا عالَم للأرواح الطيب منها يجب أن نسعى لنتصل بها والخبيث يجب الابتعاد عنها، وهؤلاء هم الذين يتصل السحرة بهم ليلحقوا بالإنسان ضررًا أو بالماشية والمحاصيل.

وكان من وظيفة طبيب السحر أن يشتَمَّ هؤلاء، وأغلب الشبهات كانت تحوم حول المُفرِطين في الغِنَى، وقانون القبيلة كان يحفظ في ذاكرة الساسة المحنكين «أندونا» أما الكتابة فلم تكن في لغتهم، وكلما كان الرئيس لَسِنًا فصيحًا قدَّره الجميع وحاولوا النقل عنه، وتكثر بينهم المناظرات، التي هي في أوروبا أساس البرلمانات، وللنساء هناك — عكس أوروبا — قدرة مدهشة على استماع تلك المناظرات، ولذلك كان من نصيب المرأة عند البانتو أن تزيد في ثروة اللغة من ناحية التعابير الموسيقية الجذابة، ولكي يجتنب النساء ذِكْرَ أسماء الذكور من أقرباء أزواجهن كان لزامًا عليهن أن يخترعن كلمات جديدة، واليوم نرى بين نساء الزولو — أشد قبائل أفريقية رجعية — لغة خاصة بهن مجموع كلماتها نحو خمسة آلاف كلمة.

figure
البانتو يأكلون «الميليبابا» من مدشوش الذرة ونثير السمك.

ولهجات البانتو ٢٧٤ تمتاز كلها بكثرة التعابير وبأن أواخر كلماتها متحرك في الغالب، وبأن أوائل الكلمات متحدة الحروف مما يجعلها كلها متشابة متوافقة النغم، على أن بعض لهجاتها لا تخلو من التهتهة وضروب اللكنة التي سَرَتْ إليهم من لغة الهوتنتوت.

والبانتو من الناحية الاقتصادية رعاة ماشية، يمارسون الزراعة كعمل ثانوي، وإعداد الأطعمة والشراب المسكر وزرع الحبوب وفلح الأرض وتعهد الحدائق من نصيب المرأة، أما رعاية الماشية فعمل الرجال، والماشية ذات القرون ثروة القبيلة ومفخرتها، ولذلك قدسوا الماشية وأقاموا بيت الماشية في الوسط ومن حولها بيوتهم، وإذا أرادوا الاتصال بالموتى سلخوا ثورًا حيًّا وسط بيت الماشية يمثل القبيلة وآخر يمثل العدو والذي يظل حيًّا مدة أطول يدلهم على مبلغ نجاحهم أو فشلهم في الحرب المقبلة، كذلك كانت تدفع الغرامات والتعويضات ماشية، وشعر ذنب نوع من الماشية خير علاج للأمراض لديهم.

والماشية هي خير غُنْم في الحروب وبها يدفع المهر Lobala الذي تفاخر به الزوجة والذي يعدونه سر إنتاج الذرية؛ إذ لولا الماشية لأصبح الأولاد غير شرعيين! وحيازة الأراضي أساسية لديهم فالأرض والرجال دعامة القبيلة، والبيت الأعظم كرال Kraal للزعيم في الوسط وحوله تقوم البيوت الأخرى وحول هذه جميعًا مساحات الأرض المملوكة لهم، وقد تتداخل في أملاك القبائل الأخرى فإن تنازعوا على أرض كان السيف هو الحكم فمن هُزِم خَسِرَ أرضَه، وقد تُستأصَل القبيلةُ كلها وتضيع أرضُها والأرض ملك القبيلة كلها، وليس من حق الزعيم أن يبيعها أو يهبها، وهنا موضع خلاف شديد بينهم وبين نزلاء الأوروبيين الذين يتقيدون بالعقود المكتوبة، أما البانتو فلا يعرفون للعقود قيمة فليست الأرض لديهم هي الهامة، بل الناس الذين فوقها وكل فرد من القبيلة بحكم نشأته فوق الأرض له الحق في هوائها ومائها وعشبها وحطبها وحيوانها، ولذلك فإن هؤلاء إذا باعوا الأرض للنزلاء كان معنى البيع لديهم أنهم يمنحون بعض الامتيازات التي لأبنائهم على تلك الأرض مقابل ثمن من الماشية أو الضأن أو الأسلحة، وكان معنى ذلك في نظر الزعيم أن النزلاء أصبحوا أتباعه! ومثل تلك النزعات والأفكار المتناقضة أدت إلى كثير من الارتباك بين الفريقين وجرَّتْ إلى الحروب التي طالما خاضها البيض مع الكَفَرة في جنوب أفريقية، والبانتو عامل من العمال الذين تعوزهم المهارة والصبر التي اشتهر بها أهل الشرق، وهو خامل بفطرته؛ لأن حاجياته قليلة، ويمكن الحصول عليها بسهولة من الغابات وقنص الحيوان، لذلك فهو يميل إلى الرعاية أكثر من الزراعة التي يقع عبؤها على المرأة، ورغم احتكاكهم بالجنس الأبيض فإنك إذا زرت مساكنهم (تسمَّى كرال) بدتْ لك فطرتهم فهم لا يعبئون بالكماليات والمسرات، وهم قادرون على سد حاجاتهم القليلة وعدم الاهتمام بالراحة التي نهتم لها نحن كثيرًا، ويدهشك عدم شعورهم بالمسئولية العائلية تلك التي تقلق بالَنا نحن كثيرًا، وهم يملكون الأرض على طريقة المشاع، ومع أنهم ليس في مقدورهم إنماء الثروة فهم لا يسعون إلى ذلك قط، إلا أن الفقر ليس معروفًا لديهم، فكل أفراد القبيلة متساوون لا يتصدَّق أحدهم على غيره؛ لأن المال حق للجميع، إلى ذلك مورد الأب من مهور بناته، كل ذلك يشجع البانتو أن يعيشوا على فطرتهم وأن ينصرفوا عن العمل.
figure
أحد أبراج زمبابوي مقر كنوز سليمان الحكيم.
ميناء لورنزو ماركوز: والميناء مزودة بأحدث الوسائل وأوفاها من أرصفة وروافع وسكك حديدية، وهناك رافعة للفحم تستطيع تفريغ ٨٠٠ طن في الساعة يندر وجود أمثالها، هي تجلب الفحم من الترنسفال؛ إذ تتصل بها بخط حديدي فهي أقرب المنافذ لمعادن الترنسفال وذهب الراند أغنى مناجم الأرض جميعًا، إلى ذلك فهي تصدر فاكهة جنوب أفريقية، وقد لبثت باخرتنا توسق من أقفاص التفاح والبرتقال، وقد أعدَّ لها مخازن ذات مثالج على الميناء، وتقارب متاجر الثغر مليون طن في العام غالبها من الترنسفال.
figure
أمام محطة لورنزو ماركوز البرتغالية.
أرض الذهب: حُقَّ للعالَم أن يُسمِّي بلادَ الترنسفال بأرض الذهب، فقد زاد مجموع الذهب الذي استخرج منها رغم صغر مساحتها على ألف مليون جنيه في نحو أربعين عامًا، وأغنى بقاعها الراند الذي يُغِلُّ من الذهب أربعين مليون جنيه في العام مع أن إنتاج الذهب في العالم كله مليون جنيه سنويًّا فالترنسفال وحدها تنتج ٪ من ذهب العالم (أما الولايات المتحدة فتنتج ١٢٪ فقط).
وأول من كشف الذهب هناك رجل أفريقي اسمه «ووكر» وهو يحفر ليقيم منزلًا سنة ١٨٨٦، فاعترضتْه صخور من المجمعات «كنجلمرات» وبعض الرمل الفضي بدا تحتها الذهب في عرق يتلوَّى في امتداد أفقي لمسافة لا تقل عن ٨٠ ميلًا وفي سمك قد يبلغ أحيانًا خمسين ميلًا وامتداد من الغرب إلى الشرق، وقد بدأ الرجل يعمل في استخراج الذهب، لكنه قبل أن يُؤتي شيئًا يُذكَر مات صاحبه فقيرًا، ولقد أطلق الناس على هذا العرق اسم «عرق سبأ» Sheba reef إشارة إلى عرب سبأ وقوم سليمان الحكيم وما حازوا من ثروة من ذهب تلك الناحية قديمًا، فقد أثبتت الآثار أنهم استغلوا الذهب في مناجم تمتد من زمبابوي إلى الراند، ويعتقد الجيولوجيون بأن العرق نهر قديم كان يجري فوق صخور الجرانيت، وكان النهر يحمل تِبْر الذهب في رواسب وكانت له دلتا وهي التي يمثلها إقليم الراند أغنى البقاع بالذهب اليوم، ثم ما لبث أن طُمِر المجرى ورفعتْه القوة الباطنة، ولقد تكهن العلماء عن مستقبل الراند فقدروا أن الخام الذي به لا يقل عن ٥٥٠ مليون طن، وبعضهم قال بأنه ١١٦٠ مليونًا مع العلم بأن كل ما استخرج من الخام إلى اليوم لم يصل ٣٠٠ مليون، وقال الدكتور «فاجنار» إن بالراند الآن ما لا يقل عن ١٢٠٠ مليون جنيه من الذهب، وتقوم المناجم على نجاد تتخللها لوانئ الجرانيت وقد حفرت فتحاتها وتعمقت إلى ٧٠٠٠ قدم حتى قيل إنها أعمق مناجم الدنيا، وفي بعضها يشتغل العمال على عمق ٧٦٤٠ قدمًا، وهذا يصحبه زيادة في الحرارة وزيادة في الأجور والنفقات، وهذا ما يهدد التعدين هناك وينقص من قيمته عن ذي قبل، على أن تحسين وسائل الإنتاج لا تزال تعوض على المعدنين خسائرهم.
figure
في الراند أغنى مناجم الذهب في العالم تستخدم أحدث الآلات في الحفر.

ولقد درَّتْ تلك المناجم على العمال خيرًا كثيرًا فقد دفعت المناجم للبِيض من العمال في العشرين سنة الأخيرة ١٦٣ مليون جنيه وللسود ١٢٠ مليونًا، ولا يقل عدد البيض عن عشرين ألفًا والسود مائتا ألف، ورأس المال الموظف في الراند ٦٣ مليون جنيه، وتعد المناجم أبدع مناجم الدنيا وأتقنها نظامًا تحتكرها ٤٧ شركة يمثلها أعضاء في غرفة تعدين الترنسفال، ويقولون إن نحو ٨٥٪ من سبائك الذهب التي صدرت من الترنسفال عادت إلى البلاد نقودًا، وتلك الثروة الخيالية هي التي قامت من أجلها مدينة جوهانسبرج في الراند، وقد بلغ أهلوها في أمد وجيز نصف المليون نصفهم من السود والنصف من البيض ولا تزال تتضخم بسكانها، وقد أقيمت على نتوء جنوب نهر فال (ومنه أخذ اسم ترنسفال؛ أيْ: عبر نهر فال) وقد بدأ عدد العمال من السود قليلًا فاضطروا إلى جلب الصينيين الذين هددت كثرتهم البلاد فرُحِّلوا ثانية بعد أن أحرقوا جثث موتاهم وأخذوا رمادها ليدفن في بلادهم، أما اليوم فإن العمال السود كثيرون جدًّا وقد أحبوا العمل في المناجم حتى إن أبناءهم لا يُعدُّون رجالًا إلا بعد أن يبدءوا التوظف في المناجم، وتراهم يقيمون حفلاتهم يرقصون على أنغام طبولهم وموسيقاهم الخشبية (شرائح خشبية كالبيان تُضرب وتعطي أنغامًا مختلفة) كلما حلَّ موعد تسلمهم لمرتباتهم، وكانوا يتبارَوْن في ذلك لدرجة كانت تخرج بهم إلى النزاع والحرب أحيانًا، خصوصًا إذا ما لعبت الخمر بلبهم.

ومن معادن الترنسفال الهامة: البلاتين والماس، فالبلاتين ينتظر أن يزاحم أكبر البلاد إنتاجًا له وهي روسيا في إقليم أرال، ومحصولها السنوي ربع مليون أوقية، ثم كولومبيا في أمريكا الجنوبية وتنتج ٥٥ ألفًا، وثمن الأوقية ١٥ جنيهًا، والعالم يستهلك في السنة ٢٠٠ ألف أوقية من المعدن الجديد و٩٠ ألفًا من القديم المعاد صهره.

figure
في مناجم الراند وترى ٣١ سبيكة من ذهب ثمن الواحدة ٥٠٠ جنيه.
أما الماس ففي منجم برمير Premier حيث أقيمت مدينة بريتوريا من أجله، وجدتْ أول ماسة هناك زنتها ٢٠٢٣ قيراطًا وحجمها « × × ٢ بوصة» والمنجم كأس بركانية يكسر صخرها بالديناميت، ثم يحمل الهشيم ويركز كل ١٢٠٠٠ طن منه إلى قدم مكعبة، وهذه تفحص باليد وقد استخرج من هذا المنجم طن من الماس قيمتها مليون جنيه، مع أن ثمن الأرض كلها لم يبلغ ٥٢ ألف جنيه، على أن مصادر الماس الهامة في جنوب أفريقية حول نهر أورانج، وأقدم ماسة وجدت في جنوب أفريقية عَثَرَ عليها صبيٌّ اسمه يعقوب سنة ١٨٦٦ في قرية «هوبول» على الأرنج، وكان يلعب بها وزنتها قيراطًا وثمنها خمسمائة جنيه، وهذا الصبي هو الذي نبَّه الناس إلى وجود الماس كما فعل ووكر الذي عثر على عرق الذهب في الترنسفال، وبعد سنين عثر آخر من الهوتنتوت على قطعة زنتها قيراطًا بيعت بمبلغ ١١٢٠٠ جنيهٍ، وهي التي يطلق عليها اليوم «نجم جنوب أفريقية» وثمنها اليوم ٢٥ ألف جنيه، وسرعان ما ذاعت الإشاعات المبنية على الوهم والمبالغة في أوروبا عن الوديان التي تنتثر بقطع الماس وعن أكواخ الزنوج من الطين ترصعها قطع الماس الثمينة، فدفع هذا بالكثير إلى المهاجرة إلى «وادي الماس» وفي سنة ١٩١٣ عثروا على قطعة ثمنها ثلاثون ألف جنيه، وفي ١٩٢٤ وجد طفلٌ قطعة زنتها ٤١٦ قيراطًا، ولقد ازدحم المهاجرون حول «كمبرلي» التي تحفها المناجم فيما لا يزيد على ميل، وقد أنتجت تلك المنطقة وحدها بنحو ٢٥٥ مليون جنيه من الماس في أقل من نصف قرن، وقد كان الممولون يشترون المزارع الصغيرة بآلاف الجنيهات، ثم يبحثون عن الماس وكان بعض تلك المزارع يغل ملايين منه، ويكثر الماس في تربة من الطفل الأزرق، والعادة أن العمال يملئون عربات صغيرة من ذلك الطفل، ثم ينشرونه شهورًا في العراء والشمس حتى يقلَّ تماسكه ويمكن تكسيره بسهولة وتسمى تلك المساطح floors يحرسها رجال مسلحون وتحوطها أسلاك شائكة، وإذا ما صلحت للعمل حملت ثانية في عربات وحلت بالماء وبآلات ذوات أسنان حادة، ومن كل مائة عربة تستخلص واحدة تحوي الماس، وهذه تدخل آلة تفصل الماس إلى ست درجات حسب الحجم والوزن، ومن كل سبعين ألف طن من الطفل الأزرق يستخرج عشرة أرطال من الماس، وعادة القوم عند البحث عن الماس أن يجتمع الحفارون تحت قيادة رئيس، ثم يقفون في صف ويصدر الرئيس الأمر بالجري فيهجمون سراعًا ويختار كلٌّ مكانًا يدق فيه وتدًا، ثم يحفر حوله، وفي سنة ١٩٢٧ كان أكبر سباق من نوعه هناك حين بلغ عدد أفراده عشرين ألفًا جَرَوْا كلهم في وقت واحد.

والحكومة هناك تشاطر في نحو ٦٠٪ من الأرباح، هذا خلافًا لما تتقاضاه من ضرائب الصادر وضرائب الدخل من أصحاب المناجم، وقد سنَّتِ الحكومة قانونًا بالاتفاق مع اتحاد المعدنين تحدد به مقدار المعروض من الماس كل عام حتى لا يهبط ثمنه هبوطًا فاحشًا يصحبه إيقاف العمل وطرد آلاف العمال من المناجم.

figure
إحدى حفائر الماس الكبرى في كمبرلي.

ويظهر أن الماس يعم الأراضي التي يجري فيها نهر أورانج كلها؛ لأنهم يعثرون عليها في كل أرجائه إلى مصبه حيث ينتثر الشاطئ بالماس إلى شمال مصب الأورنج بنحو ٣٠٠ ميل وقيل: ٦٠٠، ولذلك أطلق على هذا الجزء اسم «شاطئ الماس»، ويرجح العلامة الدكتور فاجنار أنها حملت مع رواسب النهر ودفعها تيار بنجويلا الذي يسير إزاء الشاطئ شمالًا بدليل صغر بلوراته كلما سرنا شمالًا مما يؤيد أن في الأرانج بطونًا للماس تُستكشَف بعدُ، على أن الماس هنا يعيبه صغر حجمه رغم جودة نوعه.

إلى الناتال: أقلعت الباخرة في باكورة الصباح «الإثنين ٢٥ يوليه» والبحر هادئ والجو مشمس بارد كأنه شتاء مصر؛ إذ كنا نقارب بلاد جنوب أفريقية في شتائها الذي يحكي جو يناير عندنا، وفي صباح اليوم التالي دخلنا خليج دربان أكبر بلاد الناتال، وهو في دائرة تحوطها الرُّبَى من جميع نواحيها تكسوها الأعشاب النضرة والأشجار الوفيرة.
وأرصفة الميناء ومعداتها هائلة صاخبة، وظلت باخرتنا تحمل وسقها من غرائر السكر الناعم الذي تستخرجه الناتال من القصب المنزرع في مساحات شاسعة، وقد علمنا أن الفدان هناك ينتج بين ٣٠ و١٠٠ طن من القصب حسب جودة الأرض، ومن السكر بين و طن، ويظهر أن دراية الزولو سكان البلاد من السود بزراعة القصب كبيرة؛ لأن الفدان في جاوه مثلًا ينتج ٤٠ طنًّا من القصب فقط، وفي كوبا ٢٠ طنًّا وفي هواي ٤٩ طنًّا، وهي من أحسن البلاد إنتاجًا على أن هبوط ثمنه هذا العام إلى أربعة ملِّيمات للرطل عاكَسَ إنتاجَه بعض الشيء، ويعزى هذا الهبوط إلى كثرة إنتاج العالَم من السكر الذي بلغ ٣٠ مليون طن مقابل سنة ١٩١٤ من القصب والبنجر معًا. ولقد أنتجت الناتال ٧٨٨ مليون رطل صدرت نصفها بنحو مليون جنيه سنة ١٩٣٠.
figure
كيف تفرز قطع الماس بحسب الحجم والجودة.

ولقد أخذ يحتلُّ القصبُ الأراضيَ التي تُزرَع هناك شايًا؛ ذلك لأن الشاي يتطلب خبرة الأسيويين، وهؤلاء قد منعت القوانين الجائرة هجرتهم إلى جنوب أفريقية على أني كنتُ أرى كثيرًا من النجاد يكسوها الشاي، وعلمتُ أن المساحة المنزرعة ثلاثة آلاف فدان ولا تسد سوى ربع حاجة جنوب أفريقية من الشاي، وشجرتُه هناك تنضج بعد سبع سنين، لكنها تعطي محصولًا يسد نفقاتها في الرابعة، ولذلك وجب على زرَّاعه أن يبدءوا برأس مال كبير ينفقون منه حتى يَنتُج ويُربَّى وإذا عُني بالأرض ونظافتها يؤتي الشاي ثمرَه لمدة خمسين عامًا بدون حاجة إلى تجديد زرعه، ومتوسط محصول الفدان في الناتال ٣٥٠ رطلًا جافًّا — كل أربعة أرطال من الورق الرطب تصبح رطلًا جافًّا — وهذا دون المحصول الذي شاهدتُه عامِي الفائتَ في جزيرة سيلان بالهند، ولعل لخبرة الهنود وتوافر عددهم دخلًا في ذلك؛ فإن أجرة العامل في الناتال تزيد على أجرته في الهند ثلاثة أضعاف ونصف.

وقد رستْ باخرتنا إلى جوار رصيف الحيتان وهو المكان الخاص بأعداد ما يصيده القوم من الحيتان الكبيرة، والناتال من البلاد الشهيرة بصيدها، وقد كان يلقى أمامنا منها ما لا يقل عن خمسة في جثث هائلة، وقيل لنا إن ما يصاد منها في جنوب أفريقية لا يقل عن ثلاثة آلاف حوت في السنة ثمنها نحو نصف مليون جنيه، وقد صدرت البلاد خمسة ملايين جالون من الزيت بثلث مليون جنيه، ومن الحوت يأخذون الزيت، وثمن الطن منه ٢٥ جنيهًا، ثم اللحم وهو غني جدًّا بمادته الغذائية، ثم السماد، ثم العظام وهي ثلث وزن الحيوان بها ٢١٪ من فوسفات الجير، ٪ من النشادر، ويمكن تحويل الجثة كلها إلى سماد غني، ولقد أسرف الإنسان في صيد الحوت حتى هُدِّدَ بالانقراض؛ إذ بلغ ما صِيدَ من نصف الكرة الجنوبي ١٧٥٠٠ حوت وفي العالم كله ٤٥ ألفًا من السنة، ولسوء الحظ أن حمايته متعذرة؛ لأنه خارج عن حدود كل دولة فلا يحميه إلا القانون الدولي.
figure
صيد الحيتان مهنة هامة في دربان.

ولعل أول ما استرعى أنظارنا تعدُّد السِّحَن واختلاف الأجناس البشرية، إذ كنا نرى الهنود والملايو بجسومهم الناحلة والسود بقاماتهم الطويلة وعضلاتهم المفتولة خصوصًا المتابيل والزولو أشد سكان الأرض فراسة وقسوة؛ فهم أخطر من الهنود الحمر في أمريكا وزنوج أستراليا وما أورى زيلندة، وأظهر ما كنا نراهم وهم يسوقون الركشا يلبسون في رءوسهم القرون الكبيرة علامة على القوة وحولها الريش علامة على السرعة وخفة الحركة، إلى هؤلاء المولَّدين الأفريقيين بسِحَنهم الأوروبية في لون أسمر، ثم الهولنديين والإنجليز، فالناس هناك خليط لا أول له ولا آخر.

ولعل أعجب الشعوب جميعًا الهوتنتوت والبشمن:
  • البشمن: «شعوب واق الواق» أقدم سكان أفريقية فهم هناك منذ العصر الحجري حين كانوا يتنقلون في كل أرجاء القارة، على أنه يُشَك في أنهم سكان أفريقية الأوائل (ذلك لأنا عثرنا على أقزام في وسط القارة يخالفونهم) ولم يكونوا يعرفون النار، ولقد استحضر منهم فرعونُ عددًا كان يرقص أمامه ويسليه، وقال المسعودي بأن أهل السواحل عرفوا سكان «واق الواق» وكأنهم القردة، أولئك الذين عاشوا مع سائر الحيوان قبل أن يخلق الله الإنسان من الطين، ولهؤلاء الحق أن اعتقدوا بأنهم غير آدميين؛ فهم أبعَدُ الناس عن الآدميين لقِصَرِهم (فهم دون خمس أقدام) ولشَعْرِهم المنفوش ولآذانهم التي لا شحمة لها ولوجوههم المثلثة عديمة اللحى وكأنها وجوه الثعالب، وكانت عيونهم غائرة تحت حواجب مشرفة بارزة، وكانت سوقهم الدقيقة وأقدامهم الصغيرة تبدو وكأنها لا تكاد تحمل بطون الرجال المنتفخة ولا الثدْيَ الهادل والعَجُزَ الضخم للنساء، وكانوا رعاة يتنقلون في عشائر عدد الواحدة ٣٠٠ على الأكثر، يقودهم زعيم كأنه القائد الحربي، والروابط العائلية كانت واهنة بينهم، يتزوجون أكثر من واحدة، وشبانهم يقتتلون من أجل الحصول على الزوجات، ونساؤهم وَقُورات، وروابط الزوجية واهنة أيضًا فلا يكاد الطفل يستقيم على سوقه حتى يهيم على هواه، والمسنُّون والمرضى يهجرهم ذووهم؛ لأنهم عبءٌ لا يستطيع الانتقال، وعبادتهم الجنُّ والتمسكُ ببعض التقاليد الخرافية، وبعضهم كان يقدس «كاآنج» Kaang رئيس السموات، والبعض عبدوا النجوم والقمر، ولغتهم فقيرة اللفظ لا تعدو كلماتها ٦٣ وهي غاصة بأصوات التهتهة واللكنة Clicks ومخارج الأنف فدراستها توضح لغة الإنسان الأول وكيف تطورت ومنها فَهِمَ البعضُ أسرار أصوات بعض الطيور والحيوان، وكيف تطورت إلى الكلام، وأنت تسمع أصواتهم في مخارج متقطعة وكأنها عواء القردة.
    figure
    ويختلف المعنى بحسب طريقة التعبير والتهتهة، واللغة خالية من صيغ الجمع، ومعرفتهم بالحساب لم تتعد الثلاثة، لكنهم عوَّضوا بعض هذا النقص في اللغة والحساب بالحفر والرسم، وفي هذين فاقوا إنسان العصور القديمة، ومن مواهبهم غرامهم بالأقاصيص وحركات الوجه والرقص الذي يمتاز به كل سكان أفريقية، وفيما عدا ذلك فليس لهم من متاع الدنيا شيء قط، حصلوا على النار من أثر الاحتكاك، وسكنوا العشش، ورداؤهم عباءة من جلد خفيف يتخذونها غطاء لهم في الليل، وتزينوا بالودع وبيض النعام يحملون فيه الماء، ودخنوا نباتًا كالطباق اسمه dagga وثَمِلوا بخَمْر أعدُّوه من العسل البري وبعض الجذور النباتية، ولم يستأنسوا من الحيوان سوى الكلب، ولم يعرفوا المعادن ولا الزراعة ولا النسيج؛ وكان عمادهم في الغذاء على الجذور والنمل وأصداف البحر وما يصيده الرجال من الحيوان بسهامهم المسمومة، يتخذون السم القوى من حشرة هي أصغر من البعوضة حجمًا، وهم في القتال بواسل، ولهم قدْرة مدهشة على الحصول على الماء من النبات فهم يمتصونه حتى من الغاب الأجوف ومن جذوع الشجر ومن بعض فصائل القرع التي تنمو في الصحراء. ولقد كانوا يقاومون حياة الرعاية التي عاشها الهوتنتوت ويرمونها بأنها حياة خمول، كذلك لم يتفقوا مع النزلاء أبدًا؛ ولذلك فَنِيَ منهم في القتال كثير إلا أقلية تقطن الصحاري فيما جاور كالاهاري، ولا يزال العالَم حائرًا مدهوشًا لما خلَّفه أولئك المنحطون من الفن الجميل في الحفر والتصوير على الصخور في كل أرجاء جنوب أفريقية، وقد أرجعها بعض العلماء إلى ما وراء ٨٠٠٠ سنة ق.م.
  • الهوتنتوت: وهم أحدث عهدًا من البشمن، ويخال البعض أنهم قبل مجيء الهولنديين بألف عام كانوا يقطنون حول البحيرات، ثم زحفوا جنوبًا، ويرى البعض أنهم انحدروا إلى الساحل الغربي ولازَموه إلى الكاب ثم شرقًا إلى الناتال، وآخرون يرون أنهم ساروا إزاء الساحل الشرقي، وكان زحفهم لاجتناب الاحتكاك بالبانتو من جهة وللتخلص من ذباب «تسي تسي» حول الزمبيزي من جهة أخرى، وأجسادهم أكبر من أجساد البشمن وقاماتهم أطول، وكانوا يُسمُّون أنفسهم خُويْ خُويْ Khoi khoi أي رجال من رجال، وكان لهم لحًى وجسومهم أنحف من الأوروبيين وظهورهم مجوفة وأقدامهم صغيرة وعيونهم متباعدة وخدودهم غائرة وذقونهم مدببة ولونهم زيتوني مصفر، ورغم شعرهم الجعد الصوفي وشفاههم الغليظة وأنوفهم الفطساء فإن لونهم يقرب من ألوان الأوروبيين، وهم يزينون شعرهم بالودع والنحاس، وكِلَا الجنسين يلبسون جلود الأغنام، صوفها يلامس الجلد شتاء ويكون من الخارج صيفًا، بيوتهم نصف دائرية ومن الحصر والعصي، وهم وسط بين العصرين النحاسي والحديدي، وعلى ذلك فهم يتقدمون البشمن بمراحل، استخدموا النحاس بكثرة والحديد على قلة، وهم رعاة قبل كل شيء، ويقع عمل الرعاية على الرجال وإعداد اللبن والغذاء على النساء، وليس هناك من رابطة بين القبائل، يسيطر على كل قبيلة رئيس وراثي، على أن الثروة لديهم أهم من الزعامة، وأغنياؤهم يتزوجون بأكثر من واحدة، وعنايتهم بالمسنين والمرضى لا توجد، ولغتهم أغنى قليلًا من لغة البشمن، وقد ورثوا عنهم كثيرًا من التهتهة، وقد امتزجت بها اللغات الحاميَّة، وهم يحبون القصص والرقص كالبشمن، لكنهم أقل منهم شجاعة وفنًّا؛ إذ لا يعرفون الحفر ولا التصوير، أسلحتهم الحِرَاب والسهام ذات الأطراف المعدنية والدروع والتروس من الجلد، وبعضهم يُمرِّن الثيران تتقدمهم في القتال ليحتموا خلفها، وبعضهم يعبد الجن، والبعض ارتقى واعتقد في إله الخير ومحلُّه السماء الحمراء وإله الشر ومقره السماء المظلمة السوداء، ولا يكاد يوجد الجنس صافيًا اليوم رغم أنهم كانوا كثيرين يوم دخل الهولنديون البلاد، وقد وصفهم فان رييبك بأنهم مَرِحون قَذِرون كِرام لحدِّ التبذير كسالى نَهِمون في الطعام يتناولونه أنَّى وجدوه، شديدو الصبر إبان المَحْل، يحبون التطيب بالأعطار وهم مخلصون صادقون شكورون.
figure
بقايا نقوش «البشمن» على الصخور في ناتال.
ومشكلة السكان في جنوب أفريقية من أعقد مشاكل الدنيا؛ فالبيض منقسمون على أنفسهم لا بحسب الجنسية فحسب، بل وأيضًا بسبب ما شجر بينهم من النزاع في الماضي، كذلك أهل البلاد متعددو الأجناس والقبائل مختلفو النزعات، وإلى هؤلاء عدد متزايد من الهنود وهم مُبغَضون من الفريقين السابقين، فكيف يمكن لكل أولئك أن يمتزجوا ليكونوا جنسية لها قومية واحدة! تلك مشكلة معقدة، فالبيض هناك هم القادة والسادة والسود الخَدَم والأتباع رغم كثرتهم الهائلة — فعددهم ملايين والبيض مليون ونصف — وزاد الأمرَ تعقيدًا أن السود مختلفون في مقدار الذكاء فالبانتو ومنهم الزولو أذكى من الهوتنتوت وهؤلاء أذكى من البشمن، إلى ذلك كثير من المولدين الذين يحاولون أن يلحقوا أنفسهم بالبيض ويرفعوا مستواهم إليهم.
figure
سائقو الركشا من الزولو والقرون شعار البسالة والريش شعار خفة الحركة.

وأكثر ما يُرى الهنود في الناتال؛ حيث جُلبوا من بلادهم للقيام بشئون الزراعة التي تنحَّى عنها في البدء أهل البلاد — وهم اليوم نادمون على ذلك — أما في الكاب فالهنود أتى بهم الهولنديون من الملايو وجزائر الهند يوم أن كان جنوب أفريقية تحت حكمهم، وكثير من الباعة هناك من الملايو ولهم أحياء خاصة، وكثير من نسائهم محجبات يلبسن القناع، وكثيرًا ما تسمع المؤذن يدعوهم إلى الصلاة؛ لأن سوادهم مسلمون.

figure
كيف يجدل جميلات «الزولو» شعورهن.
والهولندي والإنجليزي القُحُّ آخذٌ كلاهما في الزوال والانقراض، والذي يحل محلَّهما اليوم الأفريقي Afrikander الذي يظهر فيه الأثر الهولندي أكثر من الأثر الإنجليزي، يؤيد ذلك إحصاء الجنس الأبيض هناك الذي دل على أن ٧٠٪ من البيض في الكاب هولنديون و٨٥٪ في الأورنج و٦٠٪ في الترنسفال، ولا يسود الدم الإنجليزي إلا في الناتال حيث تبلغ نسبة الهولندي ٢٥٪ فقط، ويرى البعض في سكان جنوب أفريقية الذين اندمج خليطهم اندماجًا تامًّا هكذا سيادة المرأة الهولندية وحماسة شبان فرنسا وحنكة السن الألماني، ولكثر توغلهم في البراري الداخلية أضحَوْا نصف متوحشين وأهملوا نظافة البيوت الهولندية وافتقروا إلى النظام الاجتماعي، وعاشوا عيشة شبيهة بعيشة الرعاة المملة، إلى ذلك فإن اشتغالهم بالصيد ودوام أكل اللحوم وتعدد الحروب مع الكَفَرة والبشمن جعلهم أكثر جفاءً من الأوروبيين، على أن نظام المعيشة العام يبدو إنجليزيًّا ولغة القوم السائدة مزدوجة إنجليزية وتاليه Taal وهي لهجة هولندية يحرفها ذووها بين بلد وآخر، لكن اللغة الكتابية أقرب إلى الهولندية، أما العامية فقد بسطت كثيرًا ودخلها كثير من الكلمات الغريبة، وكثيرًا ما يسمع المرء ثلاث لهجات هولندية مختلفة: الهولندية التي يتكلمها أهل هولندا ولهجة محلية تستخدم في التعليم والتالية، وقد كان لهذا الخلاف فضل في ظهور اللغة الإنجليزية إلى جانب الهولندية، وأغنياء الهولنديين هناك يعيشون عيشة إنجليزية ويوفدون أبناءهم ليتموا تعليمهم في جامعات إنجلترا، وكان يطلق على أولئك الهولنديين شعوب البوير: والكلمة معناها المزارعون؛ لأنهم كانوا يزرعون الأرض لإطعام ماشيتهم، وقد كانوا يحتقرون الأهلين؛ لذلك تجدهم مُبغَضين من السود، وهذا مما ساعد على تقدم الإنجليز إلى جانبهم في جنوب أفريقية، والبويري حريص في المال شحيح في معاملاته ميال للمرح والنكات عنيد إلى الحد الأقصى، ويحاول البوير منذ قامت حكومة الاتحاد أن يسلبوا غالب الأعمال من أيدي منافسيهم الإنجليز؛ لأنهم يشعرون بأنهم الأغلبية التي يجب أن تمسك سلطة البلاد بيدها وتتصرف في أموالها، ولقد كنتُ ألمس ذلك في عين السخط التي كان ينظر بها هؤلاء إلى الإنجليز جميعًا، وهم دائبون على مضايقة الإنجليز في أعمالهم ووظائفهم لدرجة أن كثيرًا منهم أخذ يترك تلك البلاد إلى غيرها، وقد كان معي في سفينة العودة نحو ثمانية من الإنجليز الذين فصَلَهم رؤساؤهم من البوير، وكانوا يقصدون شرق أفريقية بحثًا عن عمل جديد، وأظهر ما يكون ذلك الشعور في الترنسفال والأورانج أولًا، ثم في الكاب والناتال، هذا إلى انصراف البلاد تدريجًا عن الاتجار مع الإنجليز وشذوذها عن إنجلترا في الاحتفاظ بالنقد الذهبي رغم خروج إنجلترا عن معيار الذهب، مع أن ذلك قد أحدث أثرًا سيئًا في صادرات جنوب أفريقية. ولغة البلاد الرسمية مزدوجة الإفريقية (الهولندية) والإنجليزية وتطبع جميع الأوراق بهما معًا، ولا يُقبَل في الوظائف إلا مَن يُجيدها، وكنت أرى الإعلانات وأسماء المتاجر تُكتب بهما معًا وتُدرسان في المدارس جميعها.
figure
لا تزال تلك العربات تجرها قطر من الثيران أداة النقل في ريف جنوب أفريقية.
figure
مَلِك من البانتو يرأس حفلة رقص حربية أمام قصره.
الحاجز اللَّوْني Colour Bar ضرب من الرِّقِّ المستور: ما كان أشدَّ دهشي واستنكاري للمعاملة السيئة التي يُعامِل بها البِيضُ في جنوب أفريقية الشعوبَ السوداء، رغم أنهم أصحاب البلاد وليسوا دخلاء متطفلين كالبيض! فقانون «الحاجز اللوني» هناك يحرِّم على السُّود القيام بالعمل الممتاز الذي قصر على البيض، حتى ولو وجد من السود أَكْفَاءٌ لهذه الأعمال، وخص بالسود العمل اليدوي المهين، إلى ذلك فليس للسود حق دخول الوظائف العامة، ولهم مدارسهم الخاصة يدرسون فيها مبادئ القراءة البسيطة، وليس لهم دخول مدارس البيض، ولا يَدَ لهم في تصريف شئون البلاد؛ لأنهم ممنوعون من التصويت في الانتخاب، ولا يباح لهم دخول النُّزُل والمقاهي وما شاكلها فلهم محالهم الخاصة، بل وفي بعض الأحيان بلاد وأحياء خاصة، وفي بعض البلاد يحرم عليهم دخول الأحياء الإفرنجية بتاتًا، ولا يُقبل الخَدَم منهم ويعامل الأسيويون وبخاصة الهنود والصينيون كذلك، فهم في الناتال ممنوعون من فتح المتاجر بجانب البيض، وكم ناقشتُ القوم في هذا التشريع غير المعقول، ذاك الذي ينافي النواميس الطبيعية، فكانت تَعِلَّاتهم أن أجور هؤلاء زهيدة جدًّا لدرجة تزاحم البيض مزاحمة قاتلة، وهم لا ينفقون في معيشتهم شيئًا يذكر بجانب ما ينفقه البيض؛ لذلك وجب إبعادهم بتشجيع بقائهم في حياتهم الريفية الهمجية وبسنِّ قوانين تحدد لهم دائرة أعمالهم، وخشية أن يجتاح السود الجنس الأبيض (لأن السود هم الأغلبية الساحقة) يحظر القانون على البيض الزواج من السود أو اتخاذ نسائهن خلائل لهم، ولا يلحق بالسود الأسيويون فحسب بل والمولدون وهم من النزلاء الأوائل الذين اختلطوا بالدم الأسود، ويُميَّزون على السود قليلًا؛ إذ يُسمَح لمن يزيد دخله على مائة جنيه في العام بالاشتراك في التصويت العام، ولهم أن يقيموا مقاهي وحانات خاصة بهم، أما السود فممنوعون من الخمر بتاتًا هذا في الكاب فحسب، أما في باقي جنوب أفريقية فالمولدون يعاملون معاملة السود، وأدهى من ذلك أنهم يعاملون بعض الدول الأخرى معاملة شبيهة بذلك، تلك الدول التي يضعونها تحت نظام اسمه Quota System وما كانَ أشدَّ ألَمِي عندما علمتُ أن المصريين كذلك! لذلك لم أعجب عندما علمتُ أن «المهاتما غاندي» قد اضطرتْه معاملةُ جنوب أفريقية لبنيه من الهنود بهذا الاضطهاد المُزْري أن يصبح على ما نعلمه فيه من التطرف في الدفاع عن صوالح بنيه؛ لأنه أمضى شطرًا من حياته مشتغلًا بالقانون في بلاد جنوب أفريقية وعاين بنفسه ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.
figure
جمهرة من أكواخ البانتو، كرال.

وتعجب إذ تعلم أن كثيرًا من العمال من البيض كسالى يعوزهم النشاط، فهم لا يفترقون عن السود كثيرًا، ومع ذلك تجدهم ممتازين، وقد قيل إن نزلاء الجنس الأبيض الذين حلوا جنوب أفريقية وجدوا العبيد فاتخذوهم رقيقًا لمدة قرنين، فَقَدَ البيضُ خلالَهما نشاطَهم وفضائلهم الخلقية — وتلك من سيئات الملكية وإهمال فكرة الشيوع في الأرض والتمسك بذاك القانون الظالم الذي يخصص العمل الممتاز للبيض دون السود، ذاك التصرف الذي ينقده الكثير لمنافاته للإنسانية، ولأنه يجعل البلاد عاجزة عن منافسة العالم اقتصاديًّا بسبب علو أجور البيض، لكنهم يعترفون بأنهم مضحُّون في ذلك مقابل ضرورة تحويل البلاد جميعها إلى مواطن للجنس الأبيض دون الأسود الذي يرمقه البيض بنظرات الحنق والاحتقار فلا ينادونه إلا بنغمة الآمر ولا يتحدثون عنه إلا باسم «كافر» مما كنتُ أتألَّم له كثيرًا، على أن القلق وعدم الرضى من جانب السود آخذٌ في الزيادة؛ لأن احتكاكهم بالبيض علَّمهم أن يتمسكوا بحقوقهم وصوالحهم التي شعروا بأنها مهضومة ضائعة، وقد أخذ يبدو ذلك في حركات الإضراب حيثما يكثر العمال من السود هناك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤