جنوب أفريقية: كيف مُنِعتُ من دخوله

تقدَّم المسافرون على الباخرة إلى ضابط المهاجرة، ولما أن جاء دَوْري فاجأني الضابط قائلًا: آسف أن أبلغك بأن حكومة الاتحاد لا تسمح لك بالنزول في بلادنا، كما يقضي قانون المهاجرة، قلت: ولكني سائح ولستُ مهاجرًا وجواز سفري يؤيد ذلك، وهاهي أوراقي الرسمية التي تثبت بأني موظف في الحكومة المصرية وأني جئت في رحلة علمية، قال: هذا أمر المنع ولا طائل في المناقشة، قلت: ولكن الباخرة سائرة بعد الكاب إلى إنجلترا رأسًا وليس ذاك طريقي فهل يسمح لي بالنزول حتى آخذ أول باخرة عائدة إلى شرق أفريقية، قال: لا يكون ذلك إلا بأن تُزَجَّ في معسكر المهاجرة حتى تجيء الباخرة، قلتُ: ألَا أستطيع أن آوي إلى نُزُلٍ تحتَ رِقَابَتِكم بعد أن أدفع التأمين الذي تطلبون؟ قال: هذا لا يكون، وتركني.

موقف قلق لم أخبره طَوَالَ حياتي! أقوم برحلة كبَّدتْني كثيرًا من الجهد والمال قصد البحث العلمي الخالص فأودع السجن! أيةُ عدالةٍ في الدنيا تُسيغ ذلك؟ لبثتُ ليلتي أتردَّدُ فوق ظهر الباخرة من مقعد لآخر ورجل البوليس يراقبني ويسير خلفي أنَّى سِرْتُ، وركبان الباخرة يرمقونني بنظراتهم التي كنتُ أقرأ في بعضها العطف وفي البعض سوء الظن بأني مجرم أثيم، ثم أويتُ إلى مضجعي، ولكن كيف ينام الحائر القَلِق الأعزل. وفي صباح اليوم التالي علمتُ أن باخرة العودة ستجيء بعد ثلاثة أيام فآثرتُ السجنَ لكي أنقذ رحلتي بعد أن أكدوا لي أن المكان مريح وأني سأكون مُمَتَّعًا داخلَه بكل ما أريد، وسأدفع نفقات الحجز والرقابة والحرس وحمل المتاع، ولقد استكتبوني صكًّا بقبول السجن ودفْع ما أُطالَب به من نفقات، ولم يكن يدور بخلدي أن في الأمر شيئًا خفيًّا.

جِيء بي إلى معسكر كبير وما إنْ دخلتُه حتَّى بدأتِ الغِلْظة الأليمة والمعاملة التي تُنكِرها النفوس الأبيَّة وبخاصة مِن رئيسِهم المسمَّى «هلاول» الذي بدرني في نغمة الأمر بقوله: أمعك نقود؟ أسرِعْ وأظهِرْها، ثم نظر إليَّ شذرًا وصاح: ما لك تضرب في مشارق الأرض ومغاربها هكذا! ادفع ثمن هذا غاليًا الآن! قلتُ: وما شأنُكَ في هذا؟ إني مستعدٌّ أن أدفع ما تطلبون، ثم همَّ يفتشني بشكل قبيح وهو يقول: نحن لا نحب أن نرى وجوه المصريين هنا.

قلت: ألا يصح أن أعامَل معاملة هي خيرٌ من تلك كما وعدتموني، قال: لا تُعارِض فتلك أوامر يجب ألَّا تناقش بعد أن وكزني ووجهه مقطب كئيب، ثم التفتَ إلى الحقائب وقال: افتح هذه لنرى ما فيها، ثم أمرني أن أُخرج منها ما أريده داخل السجن، وكلما أخرجتُ شيئًا قذفني بنكاته القارصة، من ذلك أنه رأى زجاجةَ «صبغة اليود» فقال: حذارِ أن تشربها الليلة! ورأى المشط فقال: وكذلك الشعر لا بد أن تمشطه! ورأى بعض الكتب فقال: وما تلك؟ قلتُ: بعض مؤلفاتي في الجغرافيا والرحلات، فقال: إذن فأنت الرجل الذي أبغضه منذ الصغر! وما إلى ذلك من هراء القول. فثارت ثائرتي وقلت: أنا لا أطيق هذه الإهانات، وخيرٌ لي أن أعود إلى الباخرة، قال: لا فقد انتهى الأمر.

حملتُ متاعي والسجان أمامي يصيح في خشونة: «ادخل هنا!» وإذا بي أجوز بابًا حديديًّا مصمتًا في أعلاه أعواد الحديد إلى ردهة صغيرة سماوية إلى يسارها صفٌّ من القاعات المختنقة المظلمة فاسدة الهواء؛ إذ ليس بها سوى فتحات عالية مختنقة بها شباك الحديد والسلك، أما الباب فحديد مصمت حاولتُ أن أحرِّكه حولَ مفاصله لتتسع فتحة مدخله فلم أستطع لثقله، وليس به سوى ثقب مُقَبَّى يغشاه الزجاج، وهذا ليطل خلاله السجان فيرى ما أنا فاعل داخل ذاك الجُبِّ، أما الأرض فالأسفلت القاتم الأغبر والسقف ألواح الحديد، ويلاصق الجدران لوحتان من خشب للجلوس أمامهما ثلاثة أَسِرَّة هي أعواد ثقيلة من خشب متباعد عليها قطعة من لباد أغبر وبطانيتان رقيقتان باليتان أقذر من أن تسيغ لك نفسك لمسهما، تلك هي مقرِّي داخل السجن، وفي الجانب الآخر من الردهة مقصورة للمياه تعافُ النفس دخولها، وصادف أن كنتُ في كل هذا السجن وحيدًا، وقد تُرك معي عبدٌ أسود ضخم الجثة غائر العينين يراقبني آنًا ويتهادى مشيًا على مرأًى مني آنًا آخر، وكلما مضت فترة سمعت صليل أبواب وحدائد مزعجة وإذا به حارس آخر يدخل ليرمقني ثم ينصرف، وكان كلما دخل واحد بدرني قائلًا: «أمعك نقود؟» صوِّرْ نفسك في هذا الموقف، وقد أرخى الليلُ سدولَهُ وساد السكون إلَّا في وطء أقدام ثقيلة لذاك الزنجي خلال فترات متقطعة. وكلما أقبل ميعاد الطعام وفد الغلام «بصينية» من حديد أسود صدئ بها بعض أطباق من الزنك وإلى جانبها «براد» من زنك قديم قذِر به شاي مازجَهُ اللبن ومنطال (كوز) لأتناول فيه الشاي، وأقسم لو وجدتُه في مرحاض لما مسسته، وهذا هو الطعام الممتاز الأوروبي الذي سأدفع عنه أكثر من سبعين قرشًا كل يوم.

جَنَّ الليلُ واشتدَّ البرد ونوافذ الطاقات مفتحة ليس بها أبواب والفصل هناك شتاء قارس يعادل برد يناير في مصر تمامًا، ومفروض أني سأنام ملء جفوني؛ لأني لم أنم الليلة الفائتة إلا غرارًا! مفرش قذر يابس وغطاء منتن خفيف لا وسائد ولا تكآت والقاعة واطئة مرطوبة نزُّ الماء يُلمَس في جدرانها، على أني لا أغمِط القوم فضلهم فقد كان من وسائل الترف في تلك الغرفة مصباح كهربائي ضئيل وقطيلة (فوطة) خيِّل إليَّ من شدة قذارتها أن الزنجي مسح لونه فيها. هكذا افتُرض أن أقضي ثلاث ليال كنتُ أسرح في مداها اللانهائي وإذا بالغلام يتحدث إليَّ فيقول: متى تسافر؟ قلت: يوم السبت في أول باخرة قال: ومَن يَدري! فطالما كان المسجونون أمثالك يقولون: إننا سنسافر بعد يومين، فيُقيمون عشرات لا بل وشهورًا، قلت: ولماذا؟ قال: لأن القوم هنا يستفيدون بطول المكث نفقات من المسجونين فيُفوِّتون عليهم باخرةً وثانية وثالثة بحجة أنها ممتلئة وليس بها أماكن خالية. وأنا أعلم أنْ لو أفلتتْني الباخرة المقبِلة انتظرتُ بعدَها ثمانيَ ليالٍ أخرى حتى تجيء الثانية!

قلت: يا لله أهكذا يُعامَل الأبرياء في بلادٍ تدَّعي المدنية وتنتحل لها جنسية أوروبية نفورًا مما تسميه بالهمجية الإفريقية؟ وهل بعد ذلك وحشيةٌ وتجرُّدٌ عن الإنسانية؟! أهكذا يُكافَأ البحث العلمي الخالص فينقلب الثواب عقابًا قاسيًا ممضًّا؟!

في السابعة والنصف مساءً أقبل الحارس وأخذ يُحادِثني عن سبب سجني ولما عرفني قال: ولكن كيف يتصرفون مع رجل مثلك هذا التصرف المشين، وأخذ يطعن على العقول المدبرة لتلك البلاد بشكل دلني على أن الفساد شائع، وهذا عين ما قاله لي الحارس في الباخرة بالأمس، وفي نهاية الحديث أبدى أسفه ولما أخذ ينصرف قال: هذا «الجردل» لقضاء الحاجة، ثم أغلق عليَّ الباب بمفاتيحه الثقيلة. أظنك تقدِّر مدى جولات الفكر في عزلة القلق الأعزل، أخذت الساعات تتلو بعضها البعض والسكون يزداد وحشة إلى منتصف الليل حين اضطجعتُ، وإذا بطفيليات البَقِّ وغيره تتسابق إليَّ وتترامى عليَّ من كل جانب فقمت فزعًا عيوفًا، فكم من مجرم أثيم ملوث الدم موبوء الجسد لامَسَتْ تلكم الحشرات! لم يسعني إلا المكث على مرارة الخشب بعيدًا عن هذا الفراش الموبوء حتى الصباح، وأخذت تمر الساعات وأنا كلما أسمع جلبة أخال الحارس أقبل ليفتح الباب فتزول بعض الوحشة حتى الساعة الثامنة والنصف صباحًا حين فتح الباب وقدم طعام الإفطار في صمت وتقطيب، ولبثتُ أتوقع أن يحمل الزنجي الفراش «والجردل» وإذا بي أنا المكلف بذلك فلم تُسِغ لي النفس عمله وتركتُ الأشياء مكانها.

كتبت للرئيس أقابله شاكيًا شارحًا ما لقيت فرفض طلبي، وكم كنت أخشى أن يطول بي المكث ويفوِّتني هؤلاء الأنذال الباخرة فأظل في هذا الجب ما شاء الله، وكم كنت أرى من نقوش على الجدران خطها مَن أصابهم سوء الحظ أمثالي فزجوا في ذاك الجب، وكلها تدل على الإيلام الممضِّ، منها مَن يصف تلك البلاد التي تدَّعي المدنية بأنها أظلم ما على سطح الأرض، والبعض يشبِّه المكان بجهنم والبعض يكتب: سأبرح هذا الجحيم غدًا بعد أن قضيتُ فيه شهرًا ونصفًا!

وفي الصباح كتبتُ أرجو مقابلة الرئيس للمرة الثانية، فجاءني الضابط البغيض «هالاول» وأخذ يتهكَّم في قحة زائدة ولم يسمح لي بمقابلة الرئيس وقال: إن كان لديك شكاية فها أنا، فقلت له: أيليق هذا المكان برجل مسئول مثلي سيدفع عنه جنيهًا في اليوم، قال: وأي مسئول أنت؟! قلت: موظف في حكومة لا تقل احترامًا عن حكومتكم، ومدرِّس ومشتغل بالعلم والتأليف، فأخذ يتهكَّم ويقول: نعم، المكان لا عيب فيه، فهل تظن أننا سنقيمه لك من جديد؟!

أقبلتِ الليلة الثالثة وأمضيتُها على مَضَض انتظارًا لما عساه يجيء به الغد وعند الفجر شعرت بألمٍ مُبَرِّح في أحدِ جَنْبَيَّ من أثر برد المكان ورطوبته وحاولتُ أن أقاومه، ولكن ليس في الوسع شيء ولو ناديتُ حتى اختنقتُ فلن يسمعني أحد، أخيرًا أقبل الغلام بالإفطار وهو يقول: أنت ستذهب إلى الباخرة اليوم؛ لأني رأيتُها على الميناء أمس ولأني أخبرتُ المطعم ألا يجهز لك طعام الظهر فاستبشرتُ، وفي العاشرة جاء الضابط الذي ابتلاني الله به وناداني في سوء أدب وخشونة قائلًا: محمد! محمد! أمستعد للخروج؟ فرمقتُه شذرًا ولم أُجِبْه، فقال: ستخرج بعد نصف ساعة، وحاول أن يكون متظرِّفًا، ولما خرجتُ وصعدتُ إلى الطابق العلوي لأتسلَّم نقودي طلبت أن أقابل الرئيس، فقال: لماذا؟ قلت: أريد التحدث إليه، قال: ولكنه خرج ولن يعود إلَّا يوم الإثنين بعد باكِرٍ فهل تنتظره؟! فأسرعتُ وقلبي يُسابقني إلى الباخرة، وأخذ بعض أتباعه يتألَّم لما حل به، وقال بأن هؤلاء الضباط جميعًا أنذال، تلك طبيعتهم هم يشوهون سمعة البلاد دائمًا ونحن الموظفون تحتهم لا نستطيع الكلام، نتألم لما يجري أمامنا ونحن صامتون، وهنا أقبل ذلك النذل وجلس إلى جانبي وقال: أظنك غاضبًا! قلت: وأية نقمة وغضب وبخاصة لما لاقيته على يديك أنت شخصيًّا! قال: ولِمَ؟! قلت: لأنك عاملتني معاملة الكلاب، قال: لم يحصل شيء من ذلك، قلت في صوت جهوري: ألستَ أنتَ الذي قلتَ كَيْتَ وكيتَ، وذكرتُ بعضَ إهاناته لي ولما رأى جموع المسافرين منصتين لقولي: قال: بل كنت أمزح لأني رأيتك في موقف حرج، فأردتُ أن أسرِّي عنك، قلت: هل تبادلنا الإخلاص والتعارف من قبل وهل تقاطيع وجهك كانت تدل على المزاح، وهل قولك بأنكم لا تحبون المصريين قول المازح؟ قال: إذن ستشكوني خاصة، قلت: نعم إلى كافة النواحي المسئولة في مصر وإنجلترا، بل وفي كل بلد أتصل به، فبدت عليه علائم الارتباك وقال: لكن حذار أن تقول غير الصدق، فأنا خادم الحكومة أنفذ قوانينها فحسب، قلت: نعم لكم أن تمنعوني من الدخول في بلادكم، ولكن ليس لكم أن تلحقوا بالناس مثل تلك الإهانات، فليس ذلك من القانون في شيء، فتركني وأقلعتِ الباخرة والناس من حولي أقصُّ عليهم أمري فيذهلون ويستنكرون ويرمون القوم بكل خسة وتوحش.

هنا باغتَنِي شابٌّ نمساويٌّ قائلًا: لقد أخطأتَ التصرف فلقد حلَّ بي مثل ذلك يوم حللت البلاد منذ ثلاثة شهور، لكني كنتُ أحسن حظًّا منك إذ لجأتُ إلى تصرُّف مالي مهد لي سبيل الدخول، ولقد أيد ذلك كثير من المسافرين ومن بينهم بعض العائدين من الإنجليز!

وقد شرعت أكتب احتجاجي لرجالاتهم وكبريات جرائدهم من ظهر الباخرة، فجائني رد جريدة «ناتال مركوري» بأنها عاينتْ مكان السجن فإذا به حوشي مشين، ورد وزير داخليتهم في شبه اعتذار بأن القانون قضى بذلك ويؤكد في آخر خطابه بأنني «على الأقل لاقيت أحسن معاملة على أيدي رجاله!» فعجبتُ لتلك المغالطة؛ إذ كيف تعد تلك الشتائم وذاك السجن المزري من حسن المعاملة.

غابت عن ناظري تلك البلاد التي سأظل أحمل لها أسوأ الذكريات، بلاد لم ترعَ للعلم حرمة، ولا للمجاملات الودية عهدًا، ولكن كيف تفعل ذلك وهي تعد مصر والمصريين — بنص قوانينها — من الأمم المنحطَّة التي هي دون بنيها مقامًا. ولقد علمتُ لما أن عرضت شكواي على القنصلية البريطانية في القاهرة أنهم يضعون مصر في زمرة الشعوب الملونة Coloured المنحطة في زعمهم، ولو أني علمت ذلك وأنا هناك لكان لي معهم إزاء تلك الإهانة الكبرى شأن آخر. والعجب أنا نظل سكوتًا فلا نطالب بمحو تلك الوصمة أو على الأقل بمقابلة المثل بالمثل، فلِمَ لا يُمنَع أبناؤهم من الدخول إلى بلادنا على نحو ما يفعلون معنا؟ هل غفلوا عن أصولهم فعدوا أنفسهم من السادة وهم مَن نعرف مِن أصولهم ما نعرف؟

ولكن حسبنا أن نتغنَّى بأننا كرماء لضيوفنا وهم بنا مزدرون ولحقوقنا غامطون!

figure

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤