بلاد كنيا

عود إلى ممباسا: ركبتُ البحر عائدًا من حيث جئتُ ومررت ثانية ببلاد أفريقية الشرقية البرتغالية، ثم بلاد تانجانيقا، ثم بلاد كنيا ولما أن حللت ممباسا قمت بقطار «البضاعة» أخترق قلب بلاد كنيا، ولم يوافق يومي يوم قطار للمسافرين Mail، وذلك يقوم مرتين في كل أسبوع، وفي كل يوم عدا هذين قطار للبضاعة تلحق به عربة أو اثنتان للمسافرين.
figure
تبدو هضبة كنيا موسم الجفاف شبه صحراوية.
أخذ القطار يسير بنا وسط جنة من النبت الوفير والشجر الكثيف، وكان أظهره النرجيل والمانجو، وبعد مسيرة خمسة عشر ميلًا وهي عرض السهل الشرقي الساحلي الوطيء أخذنا في الصعود السريع في لَيَّات عجيبة، وبين آونة وأخرى كانت تنكشف وهادٌ مغضنة وفيرة النبت عديدة النقائع مشعبة المسايل في مشاهد خلابة حتى أقبل الليل، وكان كلما تقدم القطار قل النبت فصار عشبًا، وفي الصباح كنا نسير فوق هضبة شبه مجدبة، شتان بينها وبين المنحدر الساحلي الذي كان بالأمس غنيًّا بالشجر، وكاد الشجر ينعدم في تلك البرية شبه الصحراوية إلا في شجيرات نصف شائكة والأرض يكسوها كلأ جاف لذلك يسميها الأهلون Nyika ومعناها البراري، وأجف جهاتها قطعة وسطها تسمى تارو Taru، وزاد الإقليمَ جفافًا أنا كنا نجوزه إبان موسم الجفاف، الذي يكاد ينعدم مطره، والمحاطُّ صغيرة ونائية عن بعضها، والجهة تكاد تخلو من الأهلين اللهم إلَّا جمهرة من السود كانوا يفدون إلينا كلما وقف القطار من أكواخهم المنثورة، وكانوا فرحين كأنهم وجدوا بعض الأنس في ضوضاء القطار، ويختلط بهم كثير من الهنود الذين يكوِّنون السواد الأعظم من موظفي المحاطِّ والقطر، والكل يتكلم السواحلية التي يفهمها الجميع، وإن كان لكل قبيلة لهجة خاصة لا تفهمها جارتها، فالسواحلية أصبحت لغة التفاهم Lingua Franca وهنا فاجأتْنا سحابة كثيفة من الجراد الذي يُغِير على الإقليم منذ ست سنين ويهدد المزارع وطالما فتك بإنتاجها، وكثير من الأهلين عرايا إلا في أزار فضفاض من الجلد وبيدهم القِسِيُّ والسهام وإلى جانبهم الخناجر الكبيرة على فطرتهم الأولى، أما الجو فكان أميَلَ إلى البرودة، وبخاصة في الليل وباكورة الصباح؛ إذ حاكى شتاء مصر تمامًا — رغم أنا نقارب خط الاستواء قلب المنطقة الحارة. وذلك من أثر الارتفاع الذي كان يناهز خمسة آلاف قدم، وكانت السماء صافية مكَّنتْنا أن نمتع البصر بمشهد:
figure
قمة جبل كلمانجارو أعلى ذرى أفريقية وأصلها كأس لبركان خامد تبدو كالطبق المقلوب.
جبل كلمانجارو: أعلى ذُرى أفريقية جميعًا يشمخ في السماء إلى ١٩٧١٠ أقدام، تتوِّجه عمامة من الثلج الوضَّاء علوها ٧٠٠٠ قدم، وحدها، ولذلك لم أعجب لما علمت أن معنى كلمان جارو الجبل الأبيض، وأصله بركان خامد تكسو جوانبه الغابات من علو ٦٠٠٠ إلى ١٠٠٠٠ قدم، تحتها شجيرات وأعشاب ومزارع تعم مدرجاته الهادئة، وفوقها عشب قصير إلى ارتفاع ١٣٠٠٠ قدم حيث تبدأ الثلوج، تلك التي تبعث بألسن من الثلاجات عديدة تنزل إلى علو ١٢٥٠٠ قدم في جنوبه الغربي وإلى ١٨٧٠٠ فقط في الشمال، ويسمى شعوب المساي ذروته الغربية المسماة «كيبو» ببيت الله نجاجي نجاي Ngaji Ngài ويعلل البعض ندرة ثلوجه على سفوحه الشمالية والشرقية التي كنا نراها إلى تيار هوائي دفيء يمر في سماء تلك الجهة، وقد حدَّث بعض القوم بأنه يرى في أعلاه وكأنه الإناء المقلوب، وهو أسهل جبال أفريقية جميعًا لمن أراد تسلقه، وإن تلك الغابات التي نراها ملتفة كثيفة إلى حد مخيف، يليها علوًّا إقليم شبيه بجبال الألب في عشبه وزهوره، ثم يعرى أديم الجبل في صخر بركاني قاتم مسافة طويلة تؤدي بنا إلى الثلوج الوضاءة، وهناك يخف ضغط الهواء لدرجة تجعل نبرات القلب تدقُّ سراعًا حتى لتكاد تسمعها فيمن يجاورك من الصاعدين، ولا تقوى على احتمالها إلا القلوب الراسخة القوية، وسكة الحديد يخرج منها فرع عند محطة «فوي» إلى حجر ذلك الجبل العتيد، وكانت أخص المزارع أسفله من البن والموز تتصاعد أعمدة الدخان من آلاف الأخصاص المختبئة فيها.
واصل القطار بنا سيرَه في قلب كنيا، وما لبث أن وقع البصر على جماهير من الحيوان البري في أنواع مختلفة وقطعان لا تدخل تحت حصر ذات اليمين وذات الشمال، تعرفتُ من بينها الزبرا والزراف والتياتل والنعام. هنا علمتُ أنَّا نُجانِب أكبرَ حرم للحيوان في الدنيا Game Reserve لا بل أكبر حديقة طبيعية للحيوان يحرم القانون صيد الحيوان أو قتله داخل حدوده، ولقد كان شريط سكة الحديد هو الحد بين الحرم إلى اليسار والصيد المباح إلى اليمين، ولبث كذلك زهاء ثلث الطريق بين ممباسا ونيروبي عاصمة كنيا وجموع الحيوان تبدو قريبة منا في كثرة هائلة وبعضها كان يسير وراء رئيس كأنه القائد، وكأن الحيوان قد عرف حرمه، فإذا ما أحس قرب القطار وكان إلى جانبنا الأيمن خارج الحرم عدا سراعًا إلى عبور الخط إلى يسارنا وهناك أبطأ السير، ثم وقف يرمقنا بنظراته وكأنه أمن شرنا واحتمى في القانون متحديًا إيانا ونحن نشير إليه بأيدينا فلا يعيرها أهمية، وليلة الأمس دهم قطارنا زرافة وهي تتخطى القضبان فقتلها، ووقف لذلك برهة، فكنا نرى الجمع الباقي من الزراف يقف آمنًا مستأنسًا، وقد حاولت أخذ صورة شمسية لتلك القطعان لكن كانت تعوزني «العدسة المقربة» التي يستخدمها هواة الحيوان وقد خبَّرني القوم أنهم كثيرًا ما رأوا جمعًا من الحيوان يجفل ويولي الأدبار في ذعر شديد؛ لأنه أبصر بأسد كاسر على بعد منه، ومن أنواع الحيوان التي لم أرَها من قبلُ الجاموس والبقر البري ويسمون نوعًا منه جنو، وآخر أوريبي والهارتبيست والويلدبيست وكثير غيرها.
figure
قطيع من وايلد بيست في حرم الحيوان.
حرم الحيوان ومسرحه: لبث الإنسان زمانًا يبرر قتل الحيوان البري لأسباب منها الاستفادة باستغلال الأراضي الزراعية والاتجار فيما يصيد من الحيوان، إلى ذلك ما يستفيده صحيًّا من وراء مطاردته ومن اتقاء الأوبئة التي يحملها هذا الحيوان، لكن الفكرة السائدة اليوم حماية الحيوان في مساحات من الأرض تعتبر إما ملكًا عامًّا أبد الدهر ويطلقون عليها مسارح الحيوان National Park وإما حرمًا يمنع القانون صيد الحيوان فيه حتى ينسخ ذاك القانون بقرار برلماني ويسمونه G. Reserve ويراعى في تلك البقاع أن تلائم الحيوان الذي يراد حمايته، وأن تكون شاسعة غنية بالأعشاب والمياه وأن تنأى عن البقاع التي يراد ترقيتها وأن يسهل على الزوار دخولها، وأن يندر سكانها ومعادنها؛ لذلك تنتقَى غنية بالمناظر الجذابة والجو المغري الجميل.

ولقد بدأت تتغير وجهة نظر هواة الصيد، فبعد أن كان يلذ للإنسان صيد الحيوان والإسراف في قتله ذاك الإسرافَ الذي خُشِي معه انقراض كثير من فصائل الحيوان آثر اليوم استخدام آلة التصوير ذات العدسات المقربة بحيث يمكن تصوير الحيوان وجموعه وهي في حالتها الطبيعية، إلى ذلك فإن تلك المسارح أصبحت خير الوسائل لدراسة الحيوان، خصوصًا وأن الحكومات أقامت بها جواسق يستأجرها الرواد بثمن زهيد، ومن أشهرها مسرح «كروجر» في شرق ترنسفال في جنوب أفريقية ومسرح ألبرت شمال شرق الكنغو البلجيكية بين بحيرتي إدورد وكيفو، ويؤمها من العلماء ما يقرب من ١٥ ألفًا كل عام، وأما حرم الحيوان فمتعدد خصوصًا في كنيا وأوغندة والسودان.

figure
سباع مجاهل كنيا طالما تفتك بالكثير من الأهلين.

والحيوان لا شك متأثر بالعشب حوله؛ ففي مرتفعات شرق أفريقية حيث يكثر الغذاء طوال العام لا يرغَم الحيوان على التجول بعيدًا، كما هي الحال في رودسيا ونياسالاند، والعادة أن حيوان المناطق التي تكثر بها الشجيرات أكثر تجوالًا وسفرًا من ساكن السهول، إلى ذلك الألوان الواقية للحيوان التي تجعله يحكي الوسط من حوله، فإن لم تكن واضحة استعيضت بقوة الحواس الشم والبصر والسمع، وقد قيل إن القرون من أكبر العوامل في إرهاف السمع، إلى ذلك خفة الحركة والرائحة الكريهة التي تنبعث من بعض الحيوان واللحم كريه المذاق، وعجبت من بعض الغزلان في أفريقية؛ لأن أنثاه تفقد رائحتها تمامًا إذا ما قاربت الوضع لكيلا يهتدي عدوها إلى مكانها، وفي يومين أو ثلاثة من ميلاد صغارها تعدو في سرعة الأم تمامًا، وبعض الحيوان يشتم رائحة عدوه على بعد ثلاثة أميال، والبعض كالنسر مثلًا يرى بقع الدم على الأرض من علو عشرة آلاف قدم، ولعل للحيوان إحساسًا لاسلكيًّا لم يتوصل إليه ماركوني إلا هذه الأيام يهديه إلى ما يحوطه من خطر حتى في حلكة الليل. أليست الغريزة التي أوتيها الحيوان أبعد أثرًا من العقل الذي وُهبه الإنسان؟!

figure
ملك الغاب.

ولقد كانت أفريقية غاصَّة بالحيوان في بدء كشفها حتى إن الكاشفِين كانوا يطلقون اسم الحيوان الشائع على الأنهار والجبال والبحيرات وما إليها، لكن دخول الجنس الأبيض طاردها إلى المجاهل، فالسباع مثلًا كانت تجوب القارة كلها إلى الكاب، وكان كثير منها يوجد في حدائق المنازل هناك، أما قطعان الغزال — ذاك الذي فاق ٣٢ فصيلة — والزبرا فكانت تسد الآفاق لكن إسراف الناس في قتْلها أباد كثيرًا من أعدادها، لا بل وفصائلها، ولا تزال شرق أفريقية تغص بالحيوان على اختلافه. ولقد قصَّ عليَّ القومُ هناك من أنباء الحيوان وعاداته شيئًا كثيرًا نروي هنا بعضها:

السبع: يعرفون منه في أفريقية ثلاثة أنواع؛ ذا الرقبة البيضاء والحمراء والسمراء وهذا أشرسها والنوع الذي يوجد شمال السودان لا معرفة له وهو أقل وحشية، ومتوسط طول السبع من الذنب إلى الأنف ثلاث ياردات، ووزنه بين ثلاثة قناطير وخمسة وينقص وزن الأنثى عن الذكر بمقدار الربع، والأسد يعمر بين عشرين سنة وثلاثين، وهو حيوان يسير في جماعات ويهاجم كذلك في جماعات، وهو يمتاز عن الشيتا — نمر أفريقية الأرقط — بذَنَبِه الذي يجرُّه في الأرض وراءه إذا سار على عكس ما يفعل الشيتا، وهو لا يهاجم الإنسان قط إلا إذا كان جائعًا والجروح التي يحدثها سامة، وقوته لا يصدقها العقل حتى قيل إن الأسد يستطيع قفز حائط مرتفع وفي فمه عِجْل، وخير الطرق لقتله أن تصوب الرصاصة بحيث تخترق الحلق إلى الرئتين أو بين العينين، وإذا أصابت الكتف أعجزتْه عن السير، لكنه يظل حيًّا ساعات وهنا الخطر الأكبر، ومعرفة السبع تخف عادة إذا كان من سكان الشجيرات، وزئيره نتيجة لذبذبة في الحلق لا تصحبها حركة ظاهرة في الفم؛ ولذلك ينخدع السامع في تحديد مصدر صوت السبع على بُعد، وهو يزأر ليلقي الرعب في قلوب فرائسه، وإذا شبع لا يهتم أبدًا بما يرى من صيد وحيوان، ويعرف سائر الحيوان فيه ذلك فلا يعبأ به وهو شبعان، وكثيرًا ما يخترق السبع قطيعًا من الزبرا أو الهارتبيست في شرق أفريقية وهي لا تتحرك، وكم فتك السبع في كنيا بالجماهير من الناس إبان مد سكة الحديد بين ممباسا وفكتوريا حتى إن الأهلين كانوا يعتقدون أن أرواح زعمائهم تحل أجساد تلك السباع لتفتك بمن يشتغل في مد الخط؛ لأن ذلك كان في زعمهم إهانة كبرى لهم، ويظهر أن السبع يلعق جلد الإنسان ليشرب دمه طازجًا قبل أكل لحمه، وقد ثبت ذلك من الجثث التي أُنقذتْ من براثن السباع قبلَ تَمَام أكلها؛ إذ كانت تُرى قطعٌ من الجسد وقد أزيل عنها الجلد وبدا اللحم من تحتها جافًّا خاليًا من الدم.

والسبع يتعقب فريسته في سكون، ثم يهاجم على أن الفرقعة تزعجه، حدث مرة أن هاجم سبع تاجرًا على حمار في محطة «فوي» وقبل أن يمسك به ذعر الحمار فدوَّى رنين بعض الآنية التي كان يحملها فخاف السبع وفر هاربًا، وإذا فاجأ قومًا وصاحوا في وجهه ولى عنهم، وعجيب أن يبدأ السبع أكل فريسته من الذنب متجهًا نحو الرأس، فكلما أزعج وترك فريسته كان أسفلها منهوشًا، وقبائل «واكامبا» هناك تلتهم لحوم السباع والفهود نيئة بعد سلخ جلودها، ويعتقد الهنود أن شحم الأسد خير علاج لمرض «الروماتزم» وأمراض أخرى وإذا أكل السبع قصد مجرًى للشرب، وعندئذٍ يستلقي في أول مكان ظليل يلاقيه دون أن يهتم بأحد، فهو لا يخشى حيوانًا قط سوى الإنسان وإلى الآن لا يزال الإنسان في أفريقية بعيدًا عنه ومِن أحب اللحوم لديه لحم الزبرا، والعجب أن يتبعه ابن آوى أو ضبع ويقترب منه وهو يأكل فريسته وكلما لمس اللحم نفر السبع فيه فتنحى قليلًا، ثم عاود الكرة وأخيرًا يأكل ما تخلف من الأسد، ويقول الأهلون: إن السبع يأكل لحوم جميع فصائل الحيوان إذا دعتْه ضرورة الجوع حتى لحوم السباع نفسها، لكنه يأنف من لحم الضبع وابن آوى، فهو لا يأكلها ولو أشرف على الهلاك جوعًا؛ وذلك احتقارًا لشأنهما.

figure
أحب اللحم للسباع حمار الوحش، والسبع يبدأ أكل فريسته من ذَنَبِها.

ولا يزال السبع يكثر جدًّا في أوغندا وشرق السودان إلى حدود الحبشة، وأجمل أنواعه في بلاد كنيا، وقد خبَّرني ناظر إحدى المحاطِّ وهو هندي أنه كثيرًا ما كان يستيقظ ليفتح الطريق للقطار، وإذا بسبع أو اثنين قد كمنا تحت مقاصير المحطة وزئيرهما يصم الآذان فلا يجسر أن يفتح الباب ويظل القطار واقفًا وهو يصفر حتى تذعر الأسد وتفر، وكثيرًا ما تهاجم أرصفة المحاطِّ فيختبئ العمال داخل المكاتب وفي مخازن الماء (الفناطيس).

ومن الحيوان المفترس كثير الوجود هناك إلى جانب الأسد الفهد والشيتا: فالفهد أصغر من النمر قليلًا وزنُه قنطار ونصف، ولعله أخطر حيوان في الوجود إذا جُرِحَ، وهو من أصعب الوحوش مراسًا وأشدها حذرًا بحيث يتعذر قنْصُه أو ضربه، وموطنه الشجر والغاب، وطعامه من القردة والغزلان والدجاج والفيران، وإذا أعوزتْه تلك سطا على الخراف، ولخطره يطارده الناس ويقتلونه أنَّى وُجد؛ ولذلك ندر جدًّا.

والشيتا: يصعب تمييزه من الفهد ولا خطر منه إلا إذا جُرِحَ، وحتى وهو جريح لا ينكص راجعًا على صياده، ولونُه جميل أصفر أو أحمر تزيِّنه بقع سوداء وبطنه أبيض وذنَبُه طويل، لكن يظل مرفوعًا، وهو يترنح في مشيته وهو أسرع الحيوانات طُرًّا، وقيل: إنه يجري بسرعة خمسين ميلًا في الساعة، ولسهولة صيده كاد ينقرض، والشيتا هو نمر أفريقية الأرقط؛ إذ لا يوجد نمر المخطط في تلك القارة أبدًا.
figure
قطيع من «الزبرا» يرد الماء في حرم الحيوان.
الزراف: كم كان يروقنا منظر أسراب الزراف وهي تتهادى في مشيتها ورقابها الطويلة تترنح، وأعجبُ ما ترى الزرافة وهي راكضةٌ أو رابضة على الأرض بجوار شجيرة ورأسها يشمخ وكأنه جذع له شعاب، وإذا قاربتَها ألفيتَها وديعةً أليفةً، علوها وهي واقفة في مسقط رأسي من طرف قرنها إلى الأرض قد يقارب ستة أمتار، ولها قرنان قصيران يغطيهما الجلد ونتوء من عظم يطول كلما تقدم الحيوان في السن حتى يُرى أحيانًا وكأنه قرن ثالث، وخلف الدماغ قرنان صغيران جدًّا، وقوة البصر لديه حادة، ولحمه لذيذ، وجلده قيِّم في صنع السياط الطويلة، فقد تتخذ منه سيور في طول يفوق ستة أمتار إذا شق الجلد بطول الرقبة، والزراف يكثر في السهول الجافة كثيرة الشجيرات والأعشاب الشوكية، على أنه آخذ في الانقراض؛ ولذلك حرم قتله بتاتًا، وكثيرًا ما تشتبك رقاب الزراف بأسلاك البرق فتقطعها وهي تجري في الظلام، وشعر ذنبها سميك تتخذ منه بعض الأساور أحيانًا.
النعام: ومن أكثر الحيوان ذيوعًا هناك النعام بين أغبر رمادي وأسود — وغالب الذكور كذلك — وقد استأنس القوم منه الكثير — خصوصًا في جنوب أفريقية — وأول أفراخ استؤنست منه في سنة ١٨٥٧، ثم أخذ ذلك في الانتشار حتى داهم التجار انحطاط ثمن الريش اليوم إلى حد أخذ يهدد تربية النعام بالانقراض، وقد أرسلت حكومة جنوب أفريقية بعثة سنة ١٩١١ لجلب نعام شمال أفريقية وغربها وهو أجود؛ لأن ريشه أقصر وأكثف، ومتوسط ما ينتجه الطائر بين ٢٠–٢٦ أوقية من الريش، و٦٠–٦٢ ريشة طويلة بيضاء، و٦٠–٧٠ ريشة سوداء، هذا خلاف الريش القصير، والظَّلِيم (ذكر النعام) يزيد إنتاجه الثلث على إنتاج الأنثى.
figure
الشيتا أسرع الوحوش قاطبة.

ويُربَّي النعام بالتفريخ عادة، فتوضع الطيور الكبيرة في زرائب مساحتها عشرة أفدنة حيث يُعنَى بإطعامها يوميًّا، ويجب إلا تُزعَج بأية حال، ثم تؤخذ صغار الأفراخ إلى زرائب مساحتها حوالي مائة فدان، حيث يُعنَى بها وبإطعامها بمقصوص العشب وهشيم العظام والحصى وما شاكلها، وأكبر عدوٍّ لها ابنُ آوى، ويتقي القومُ شرَّه بوضع الأفراخ داخل حظائر تغلق ليلًا، ولمَّا كانت الذكور كَلِفَةً بالنِّزال وضرب أندادها فُصل بينها بسياج من شوك.

ويفرخ زوج النعام ثلاث مرات في السنة، وتفقس كل مرة بين ١٦ و١٧ بيضة، ويؤتي الفرخ نتاجه من الريش في الشهر السادس من سنِّه، وذلك بأن تقص أطراف الريش وتترك خوافيها ثلاثة أشهر حتى تذبل، ثم تنتزع دون أن تسبب للحيوان ألمًا، وبعد ذلك بستة شهور أخرى يبدأ المحصول الثاني بالنظام نفس، وخير أنواع الريش ما نمت في الربيع والخريف، ولقد هم القوم سنة ١٨٨٠ بتربيته وبنوا عليه آمالًا تبشر بالأرباح الطائلة، فبلغ الثمن لزوج النعام ٢٠٠ جنيهًا، وإذا كان من نوع ممتاز بيع الزوج بألف جنيه، ولما نزل سعر الريش عقب سنة ١٨٨٦ أفلس الكثير من التجار، ثم عاد الثمن إلى الصعود حتى بدْء الحرب الكبرى حين هوى الثمن من ثلاثة جنيهات للرطل إلى جنيه ونصف، فكان ذلك ضربة قاضية يضاف إليه الجفاف الذي توالى هذه السنوات، وكذلك التغير الذي حدث في أزياء الناس وأذواقهم مما نزل بعدد النعام إلى العُشْر في جنوب أفريقية، فعدد المستأنس منه اليوم ١٠٤ آلاف، تُغِلُّ سنويًّا ألف رطل ثمن الرطل نصف جنيه، وتفرض الحكومة غرامة مائة جنيه على مَن يُصدِّر النعام وخمسة جنيهات على من يصدِّر بيضَه.
وفي سنة ١٩٣٠ بدأ يدخل الريش في النسيج بنسبة ٪ ويمكن أن يزاد إلى ٢٥٪، كذلك بدأ القوم يدبغون جلد النعام الذي يساوي الواحد منه ربع جنيه، ويُباع لحمه بخمسة قروش للرطل، مما جعل قتل الحيوان أربح من تربيته فأخذ هذا يهدد بانقراضه، وجلده هذا متين جدًّا مخطط تخطيطًا غريبًا يلائم القفازات والحقائب (المحافظ) والفُرُش، وغالبه يصدَّر إلى أمريكا، ويلاحظ نقص شديد هذه الأيام في الصادر من منتجات النعام في شمال أفريقية وغربها، والريش الأفريقي يفضل ريش أستراليا وأرجنتيا بأمريكا كثيرًا في جودته، والنعام أكبر الطيور حجمًا ومن أشدها حذرًا وأقواها بصرًا، لكن مخ النعامة لا يزيد على مخ الغراب، ولحمُها لذيذ الطعم جدًّا والسباع تحب لحمها، ويغتبط الأهالي إذا رأَوْا أسدًا يفترس نعامة؛ لأنهم يسرعون إلى المكان لأخذ الريش الثمين، والنعامة تأكل أوراق الشجر والحشرات كالعقارب والجعلان، وكذلك الحصى إن دعتها الضرورة.
نيروبي: في ثماني عشرة ساعة بعد قيامنا من ممباسا وصلنا نيروبي عاصمة مستعمرة كنيا البريطانية. وهي تقوم في وهدة تتغضن من حولها التلال، وهي على علو ٥٤٩٠ قدمًا لذلك كان الجو بها باردًا وبخاصة لما جنَّ الليل حين كنتُ أشعر برعشة شتاء مصر القارس وأنا في غرفتي مساء، وهنا أدركتُ حقًّا أثر الارتفاع في زيادة الفرق بين حرارتي الليل والنهار، وأن الليل هو شتاء تلك الأقاليم الاستوائية المرتفعة، والمدينة لم تكن شيئًا منذ ربع قرن حين كانت مجموعة من أكواخ بائسة، أما اليوم فهي مدينة ذات مبانٍ فاخرة وطرق معبَّدة فسيحة تتوسطها المزارع وبجانبها الشجر في تشذيب جميل، على أن اختيار موقعها لم يكن موفَّقًا؛ لأنها عرضة لسيل المطر الذي يهوي إليها من النِّجاد حولها إبان المطر، وموسمُه هنا مرتان من مايو إلى يولية، ومِن أكتوبر إلى ديسمبر، فتصبح رطبة نزة، وقيل إن سبب اختياره أن عاملًا زنجيًّا ممن كانوا يشتغلون في بناء سكة الحديد كان يحمل قضيبًا من حديد ولما وصل تلك البقعة أجهده الحر والتراب فألقى به هنا، ولما جاءه المهندس قال: لا بأس باتخاذ هذا المكان قاعدة لأعمال الشركة، ومِن ثَمَّ نشأت المدينة، مع أن هناك من المرتفعات حولها ما كان أجدر بها وأولى.
figure
قطيع من الزراف.
قمتُ بجولة في أطراف المدينة فأخذتِ السيارة تعلو في طرق متلوية تحتها المزارع والأشجار وبخاصة شجر وتل Wattle الذي ينزع القوم قشوره وعندما تجف تقطع شظايا، ثم تصدَّر في غرائر لاستخراج الأصباغ الحمراء منها، ثم شجيرات البن التي تغطي مساحات هائلة في ارتفاع قصير وتنمو في صفوف مسطرة في دقة وتنسيق فائق، وحبوب البن تنمو متجاورة واحدة فواحدة على طول الفروع في حجم النبق وفي لون أخضر، فإذا ما احمرتْ جُمعتْ باليد، وكل ثمرة في داخلها حبتان متلاصقتان بناحيتيهما المشقوقتين، وتتوسط أغلب المزارع مصانع تعده للتصدير، وكلها في أيدي الأوروبيين وبخاصة الإنجليز، ويمتاز بُنُّ شرق أفريقية برائحته الذكية القوية، وهو يزكو في كنيا على ارتفاع ٦٠٠٠ قدم، وقد صدر منه سنة ١٩٣٠ فوق ٣١٠ آلاف قنطار، ومتوسط الصادر بمليون جنيه، وشجرته تثمر في سنتين ومرتين كل عام، ويُجنى من كل شجرة بين رطل وثلاثة في المرة الواحدة، والشجرة تعمر طويلًا، ففي نيكاراجوه بأمريكا الوسطى تثمر إلى سن الستين، وعلى سفوح كلمانجارو يزكو البن العربي الشهير.
وكنا نمر بمساحات شاسعة من الأرض الخصبة ذات التربة الحمراء السميكة وهي وقف على الأهلين لا يباح لغيرهم امتلاكها Native Reserve شأن كثير من أراضي كنيا، وكنا نرى أكواخهم المستديرة تتناثر خلالها وهم يزرعون فيها كل ما يحتاجون، وبخاصة الذرة، وهم لا يهتمون بالزراعة للبيع والاستغلال؛ لأنهم لا يكادون يعرفون للنقود قيمة إذ كانت حاجياتهم فطرية محدودة، والعادة أن تقطعهم الحكومة تلك الأراضي مجانًا مقابل دفع ضريبة بسيطة لا على الفدان بل على الكوخ الواحد بمعدل جنيه ونصف في العام، ولما كان الرجل منهم يتزوج أكثر من واحدة — إذ الغالب لا يقل عن خمس نسوة — اضطر أن يدفع الضرائب مضاعفة بقدر ما يمتلك من بيوت، وهذا ما يدفع أولادهم إلى العمل لكي يحصلوا على ما يسدون به تلك الضرائب وعلى أمهار زوجاتهم، وفيما عدا ذلك لا حاجة لهم بالمال.

وقبائل تلك المنطقة يسمون الكيكويو: يسيرون عرايا نساء ورجالًا إلَّا في إزار من جلد يتدلى من أمام ومن خِلَاف إلى الركبتين، وهو مفتوح الجوانب غير منتظم الأطراف، ولا يَرَوْن عيبًا في ظهور كل أجزاء الجسد عارية فكأنه أمرٌ طبيعي، وتَرى النسوة يلبسن في السوق الحجال من النحاس أو الفضة في أساور أو ثعابين قد تبلغ العشرين تحت بعضها أسفل الركبة وعند العرقوبين لغير المتزوجات وفي الأذرع دون الأرجل للمتزوجات، ويعلقن حلقات ملونة كبيرة من الخرز تحت الأذن ولثقلها ترفع الأذن بشريط من خرز يلف على الجبهة ويربط في قوف الأذن ليساعدها على حمل تلك الأوزان، وشحمة الأذن تُخرق وتشحذ فتتسع لحلقة في حجم الريال الكبير تعلوها أخرى وثالثة أصغر منها، ثم تخترقها قطع من خشب أسطوانية الشكل، إلى ذلك عقود الخرز العدة، وكثير من الرجال يفعل ذلك أيضًا، أما الرءوس فتحلق ناعمة، وترى النسوة يسرن طوال الطريق وهن يعلقن وراء ظهورهن أحمالًا من الحطب أو المتاع أو الأطفال في قطعة من جلد يرفعها سير يمر بأعلى الجبهة وإلى جانبها يتدلى إناء من جلد به مزيج الذرة وجذور التابيوكا كأنها البطاطا في طعم لزج كالعجين، والرجال يحملون الحراب والدروع وسلاحهم الرئيسي القِسِيُّ والسهام المسمومة، وهم يَبرُدون الأسنان الأمامية لتبدو مدببة حادة، ويتخذون أخصاصهم في أعماق الغابات، حتى إنه ليصعب الوصول إليها، وإن وصلتَها تعذر عليك دخولها إلا حبوًا، وهي مجدولة جدلًا جميلًا يدل على شيء كثير من حسن الذوق والاستعداد للرقي، على أنها قذرة جدًّا يعيش داخلها الناس والقطعان.

figure
الشارع الرئيسي في نيروبي عاصمة كنيا.

وهم زُرَّاع لحد كبير، ويُعرَفون بين جيرانهم بالغدْر والجُبْن والمكر، على أنهم مسالمون نشيطون، وهم يخافون آلة التصوير خصوصًا نساءهم خشية أن يؤثر فيهن سحرها أثرًا سيئًا، وكنتُ كلما رأيتُ جمعًا منهن أعرض «الفتوغرافية» لهنَّ مداعبةً فكنَّ يَصِحْنَ ويولولْنَ ويضطربْنَ في مرأًى مضحك، وهم كلما شعروا بضعف في إنتاج أرضهم للذرة والبطاطا لجئوا إلى غابة جديدة فأحرقوها واستنبتوا مكانها حتى أتلفوا مساحات شاسعة من الغابات هناك، لذلك بدأت تمنع الحكومة ذلك وتعمل على إعادة استنبات الأشجار، والكيكويو وثنيون في عقائدهم كثيرة الخرافاتن ومن عاداتهم خِتَان الفتيات دون الذكور، وقد سَرَتْ منهم تلك العادة إلى الكثير من السود من حدود السودان، وهم في الختان لا يكتفون بقطع الزائدتين (الشفرتين) فحسب بل وما حولهما، ثم يُربط الفخذان أيامًّا فيلتحم طرفا الجرح ويسد المكان كله عدا موضع غابة رفيعة توضع وسط الجرح وتحرك قليلًا في كل يوم، فإذا اندمل الجرح لم يترك إلا ثقبًا ضئيلًا هو موضع تلك الغابة، وعند الزواج يحاول الزوج فضَّها فتُحمَل إليه الزوجة في بيته وأهلُها من حولها، ويحاول الزوج ذلك فإن صاحتْ أخذوها منه إلى بيتهم على أن تعاد في الليلة التالية، ويعاد ذلك حتى يستطيع فضها، ولا يزال القوم خاضعين لنظام القبيلة، وزعماؤهم يقومون بالفصل في الخصومات بينهم، فإن عجزوا وهذا نادر تدخلت الحكومة في الأمر.

figure
وسط مزارع البن «كنيا».

لبثنا نسير في تلك الجنة صعدا ومن حولنا المروج والغابات في أراضٍ مغضنة رائعة المناظر، ومن بين تلك المنحدرات ما كان يُزرع شايًا على أنه لا يصادف هناك من النجاح كثيرًا، وأخيرًا أدى بنا السير إلى نُزُل منعزل فوق ربوة تعلو سبعة آلاف قدم، هي جنة ساحرة لولا ما كان يحوطها من برد زمهرير، يقصدها الكثير للراحة أيامًا محدودة، فإن طال المكث أضر بالقلب بسبب خفة ضغط الهواء، الذي يعجِّل بالإجهاد؛ لذلك كنا نشعر بالتعب عاجلًا كلما سرنا على الأقدام قليلًا، ومن تلك الربوة بدا على بُعدٍ جبل:

figure
سيدات الكيكويو يلبسن إزارًا من جلد.
كنيا: الذي يشمخ في السماء ١٧٠٤٠ قدمًا، وهو ثاني ذُرى أفريقية، وأولُ مَن بلغ قمتَه السير ماكندر سنة ١٨٩٩، والقمة تتدلَّى منها خمسة عشرة ثلاجة، وهي بقايا لبركان خامد قديم هَشَّمتِ التعريةُ من ارتفاعه ما لا يقل عن ٣٠٠٠ قدم، لذلك لا نرى الفوهة اليوم واضحة، وتكسوه بين ارتفاع ٥٥٠٠، ١٢٠٠٠ قدم غابات من الأرز cedar والكافور والخيزران (البامبو)، وعلى جوانبه تتدرج النباتات من الاستوائية الكثيفة إلى أعشاب جبال الألب وزهورها في جلاء تام، والإقليم الذي حوله أخصب بقاع كنيا جميعًا وأكثرها ملاءمة لسكنى الجنس الأبيض ومن أغناها بالقنص بما في ذلك الفيلة، وأخص قبائل الأهلين حوله:
المساي: أولئك الذين كانوا نذير الفزع وسادة الحرب لجميع أهل أفريقية من فكتوريا نيانزا إلى ممباسا، حياتهم حياة قتال وحرب، على أن عديدهم تضاءل بسبب توالي الحروب وفتْك الجُدَرِيِّ بهم، وأول ما يسترعي نظر السائح نظامُهم العسكري المحكم، فالصِّبْية رُعاةٌ مسلحون إلى سن ١٦ حين يصبحون من المقاتلة Elmorani الذين يخضبون حرابهم بدم الغير، ويخلصون لوطنهم، ويمتنعون عن الزواج والتدخين والمسكرات، ويعيشون عيشة زهد وتقشف، حتى تنقضي مدة خدمتهم، وإلى جانب الحِرَاب ذات الحدَّيْن والدروع يحملون سيفًا تراه معلقًا من حزام من جلد غفل، ومنظرهم وهم في أردية الحرب يلقي الرعب في القلوب، وبخاصة غطاء الرأس الذي يطوق الوجه كله في شعور نافشة، وكلما هاجموا محلة Kraal قتلوا الرجال المدافعين جميعًا بالحراب، أما النساء فيقتلنَ في المساء بالهراوات وهم يفاخرون أنهم لا يتخذون من بعضهم أسرى ولا مسجونين، بل يقولون حيثما تمر جنودُنا لا تُعقِب من الأحياء نفرًا، وقد لا يقتلون النساء أريحية منهم، ولكي يتخذوا منهن خدمًا، وغرضهم الأول من تلك الغارات الاستيلاء على قطعان الغير؛ لأن المساي رعاة لا زُرَّاع تُقدَّر ثروتهم بحسب قطعانهم، وعجيب أنهم لا يصيدون الحيوان الذي تغص به بلادهم احتقارًا، اللهم إلا السباع، غذاؤهم الرئيسي لحم البقر واللبن والدم الطازج الذي يُتَّخَذ من الحيوان وهو حي، والنساء يقمن بالتبادل التجاري البسيط، وقد تكون القبيلتان في قتال مستعر والنساء على الحدود يتبادلن تلك المتاجر، وهم يعبدون إلهًا اسمُه «نجاي» Ngai ويطلقون هذا الاسم على كل ما لا تفقهه أفهامهم، ومن عاداتهم الغريبة اقتلاع السنَّيْنِ الأمامِيَّيْنِ من الفك الأسفل، وتلك أخص ما تميزهم عن جيرانهم، ويخال البعض أنها عادة شاعت اتقاء مرض تصلب الفك الذي كان منتشرًا لديهم، حدث مرة أن تابعي في ضواحي نيروبي وكان من المساي صادف جمجمة في الأرض فأسرع إليها ورفعها باحترام وقد عرف أنها لمساي مثلِه لنقص السنَّيْنِ الأماميَّيْنِ، ثم عكف على بعض العشب — وهم يقدسون العشب؛ لأنه سرُّ نمو قطعانهم — وبصق عليه وحشا به تجاويف الجمجمة والتفتَ إليَّ وقالَ: ذلك لكي نزيل الشرَّ عنَّا، ودهشتُ لما صادفَنَا صديقٌ له في الطريق فبصق هو في وجهه، وتلك عادتهم في التحية، ويسترعي النظرَ آذانُهم وما فيها من الحلي فهم يشحذون شحمتها طويلًا، ثم يثقبونها وتتدلى منها أكواب وصفائح وقِطَعٌ من خشب في أحجام مخيفة، والرجال يلبسون جلود السباع وأذناب القردة على رجولهم وريش النعام فوق رءوسهم، وعند العرقوبين يضع الرجال أجراسًا لتدل الناس على اقترابهم، والنساء يغطين أجسادهن بأطواق النحاس في البطن والخصر والسوق والسواعد والرقاب في أوزان مبهظة، ولا تعد السيدة من النبيلات إلا بكثرة تلك الأطواق، وهم لا يدفنون موتاهم خشية تدنيس الأرض بل يحملون الجثث في العراء وتترك لتلتهمها جارحات الطير والوحوش، ولا يدفن سوى الزعماء فوق تلال تقوم مشرفة عليهم، والمساي أنبل المتوحشين وأكثرهم استقامة، وهم يتخذون من القبائل الأخرى خدمًا ورقًّا، خصوصًا قبائل «اندروبو» وإذا جاءك مسالمًا مدَّ ذراعه الأيمن بمحاذاة كتفه وشد أصابعه إلى أعلى بحيث تواجه راحة اليد من أراد مسالمته.
figure
أحد المقاتلة عند الكيكويو ويرتدي قرطًا وكأنه الكوب الكبير.
figure
جبل كنيا الرائع.
ولقد كان نظامهم العسكري المحكم من أكبر العقبات والمشاكل أمام الحكومة التي أخذت تقاومه وتصرفهم عنه بمنع المران العسكري وتحريم حمل الحراب والدروع، لكن سرعان ما حدا بهم هذا إلى التدهور والفناء وتحاول الحكومة صرف مجهودهم إلى استثمار منتجات الألبان، وهي تقيم لهم المصانع والمدارس لذلك، ويساعد الحكومةَ في ذلك زعماؤهم رغم احتقارهم للعمل اليدوي، كذلك فهي تشجع تصاهرهم مع الكيكويو، والمساي صحيحو الأجسام نحيلو السوق قريبون في الشبه من المصريين الأصفياء، لونهم نحاسي ولغتهم قريبة من لغات أعالي النيل، وهم يعدون أنفسهم الطبقة الأرستقراطية في أفريقية، يؤيد ذلك مظهرهم الوقور وبسالتهم وكبرياؤهم واستقلالهم وذكاؤهم، وهم ضعيفو الإيمان بالسحر، وزعماء الدين لديهم Laibons يقصر عملهم على الدواء والعلاج واستنزال المطر، والحالة الصحية حولهم رديئة فمنازلهم تطلى بروث البقر وتقام في دوائر كي تقي البقر داخلها فينتج من هذا انتشار التراب والذباب بكثرة مخيفة، نساؤهم يعِشْنَ عيشةً هي أسهل من نساء القبائل الزراعية، وتهددهم الوحوش التي تجري وراء قطعانهم، وقديمًا كان جُلُّ مرانهم على صيد السباع بالحراب والدروع كخطوة للمران الحربي فلما قاومت الحكومة هذا الروح تشجع الحيوان الوحشي وأضحى لا يخشى الناس فأباحتِ الحكومة لعدد محدود منهم حمل الحراب لوقاية قطعانهم، ومن أسوأ عاداتهم تخضيب حراب المقاتل الحديث بدماء الغير، ولا يزال بعضهم يهاجم الغرباء ويقتلهم رغم تحريم القانون لذلك، والنساء هن اللاتي يشجعنهم على ذلك؛ لأنهن يسْخَرْنَ جماعات من كل مقاتل لم تخضب حربته ومن حفلاتهم قبل التخضيب أن يصارع الفتى ثورًا أسود يظل يومًا كاملًا يطعمه القوم اللبن ويسقونه الخمر، ويتبارى الكل في حفل ويحاول كل فتًى أن يُمسك بالثور الثَّمِل السكران من قرنه الأيمن، وسرعان ما يُلقي الثورَ على الأرض ويسلخه حيًّا ويقطع الجلد إلى سيور يتزين بها الفتيان جميعًا حول العرقوبين والرسغ، ولتقديسهم للبقر لا يذبحونه لأخذ اللحم؛ لذلك كان جل غذائهم مزيجًا من اللبن والدم، ويستخرج الدم بطريقة مدهشة إذ يربط الثور ويضرب الرجل بسهمه في وريد الرقبة فيسيل دم الحيوان ويجمع في إناء لحدٍّ لا يُميت الحيوان، ثم يضمد جرحه ويترك الحيوان ليستعيد قواه ودمه، ثم تعاد العملية مرارًا، ويقال أن وباءً فتك بماشيتهم سنة ١٨٩٠ فأباد قطعانهم ولوثت عفوناتها أرجاء الهواء ومياه الأنهار فمات من المساي جماهير عدة ولم يستعيدوا عديدهم وسلطانهم بعد تلك الصدمة، فكان هذا من حظ النزلاء البيض من الإنجليز في تلك الجهات حيث لم تكن مقاومة المساي لهم كما كان القوم يتوقعون.
figure
المساي في كامل ردائهم الحربي.

عدت إلى ناحية أخرى من نيروبي هي مسكن الطبقة الأرستقراطية من الهنود، والهنود هنا كثيرون وبينهم المفرطون في الغنى، وبيدهم غالب المتاجر والوظائف المتوسطة في مصالح الحكومة وفي الأنزال، وهم المشرفون على الخدم من السود في كل مكان، وإن الإنسان ليعجب لنشاط الهنود وسعيهم بعيدًا وراء كسب المال وكأنهم اليهود في الحرص على المال أو جماعة الإغريق في ريف مصر، وكلهم مكتنزون للمال لا يكادون ينفقون منه شيئًا لبساطة معيشتهم، وغالبهم هناك من المسلمين، ولذلك أقاموا لهم مسجدًا على نظام تاج محل هو آية في الهندسة والجمال، والشيعة منهم أقاموا بناءً ضخمًا صُفَّتْ به المقاعد، وكأنه المدرسة يفِدُ إليه الصبية كل يوم بين السادسة ومنتصف الثامنة مساءً وهم يرتلون بعض أدعية ويصلون، ثم ينصرفون، أما مساكن الأوروبيين ففي ضاحية تسمى التل تطل على المطار الفسيح وإلى جانبها مباشرة حرم الحيوان، وقد كنتُ أرى به آلاف الغزلان والتياتل «هارتبيست وويلد بيست» وغيرها.

المتحف: زرت متحف المدينة وهو على صغره قيِّم في محتوياته، راقني به مجموعة من الحيوان المحنط، وأعجبُه دب النمل Ant bear وكأنه القنغر شكلًا وحجمًا، والسمك ذو الرئة في طول مترين وكأنه كلب البحر Shark، ثم مخلفات الإنسان من جماجم أسنانها بالغة الضخامة وجباهها متحدرة، ومقاعد وآلات وآنية من خوص وخشب وزينة من أقراط وأساور من نحاس وخرز وأسلحة من حراب وتروس وآلات موسيقية منها طبول منقورة في جذوع الشجر وقيثارة ذات أوتار بعضها طولي وبعضها عرضي «وقانون» من غاب غليظ أجوف يرص متجاورًا وتعلوه سيور الجلد بدل الأوتار ورباب ومزمار، كذلك أفخاخ للأرجل من جديلة من خوص تتوسطها عصيٌّ مدببة تكاد تتلاقى في وسط الدائرة فتَخِزُ جلد المجرم المعاقب وخزات مستمرة أليمة، وسفن شراعها من جدائل الخوص، وثم قسم جيولوجي وآخر نباتي به نماذج من ألواح الخشب على اختلاف صنوفه، وقرن هو ثمرة شجرة Entada طوله متر ونصف وبه أربع عشرة فولة الواحدة في حجم قطعة الصابون الكبيرة ينمو قرب السواحل الحارة، وأعجب الكل ثمرة سوداء كأنها خشب الأبنوس في فلقتين متجاورتين كأنهما قربتان بيضيتان متلاصقتان لونًا وحجمًا، وشجرتها تنمو في الشواطئ وبخاصة في جزائر سيشل وتسمى جوز البحر Coco de mer والنخلة تصل مائة قدم وأوراقها عشرين، والثمرة تكاد تكون أكبر ثمار الدنيا حجمًا تنضج في عشر سنين، عثر عليها الكاشفون أولًا طافية في البحر، والثمرة تؤكل وتصلح لعمل بعض الأدوية، وثَمَّ قسم للحشرات من بينها حشرة العصيِّ Stick في طول شِبْرَيْن، وكأنها العصي تمامًا والحشرة المُصَلِّيَة praying تحكي «فرس النبي» تأكل لحوم غيرها، وسميت كذلك لأنها ترفع رجليها الأماميتين وكأنها تصلي دائمًا، ومجموعة من فَرَاش بديع، والمتحف رغم صغره قيم جدير بالزيارة.
figure
يلبس المساي جلد السبع الذي يصيده بحربته ليدل على رجولته.
figure
سيدات المساي.
إلى الأخدود الأعظم: غادرتُ نيروبي فأخذ القطار يعلو في صفحة غنية بالمزارع أظهرها البن، وكلما توغلنا زادت وعورة المنحدر وتعقدت ليَّات السكة ويمكنك تقدير ذلك إذا علمت أننا علونا في الأميال الخمسة والثلاثين الأولى ألفي قدم، والقاطرة هنا من ذات المحركين كي تستطيع مغالبة ذاك الصعود، وكان الخط يجانب سلسلة ملتوية تهوي من جوانبها الوديان المختنقة إلى قرار الوهاد المغضنة من دوننا، والمناظر من حولنا رائعة، لبثنا نعلو والوهاد تنكشف حتى مررنا بمحطة «كيكويو» نسبة إلى حافة الهضبة التي تعلوها ومَن يقطنها من قبائل الكيكويو، هنا بدا الإنسان على فطرته عاري الجسد في غير إزار كلَّا ولا ستار للعورة نساءً ورجالًا، اللهم إلا الأغنياء منهم، وهؤلاء يلبسون إزارًا من جلد ليس تحته شيء، وفي تلك المرتفعات متسع للرعاية وبخاصة للبقر والماعز التي كنا نرى منها القطعان الكثيفة، والبقر يلفت النظر بلونه القاتم ذي البقع البيضاء وبما يعلو كتفه من سنام ناتئ غليظ، ولما قاربنا الذروة زادت غابات شجر واتل Wattle في ورقه القاتم المثقب المهفهف وزهره الذهبي العطر ذاك الذي تستغل قشوره للأصباغ وخشبه للوقود، وكثير من قاطرات سكة الحديد تحرقه بدل الفحم، ويقولون إن الإقليم كانت تسده الغابات والأحراش منذ نصف قرن فقطعت وزرع هذا الشجر مكانها، وحيث تبدو التربة الحمراء السميكة تقوم منابت الذرة. أخيرًا وصلنا إلى الذروة في محطة Upland على علو ثمانية آلاف قدم، منظر أذهل الفؤاد بروعته إذ تكشَّفَ من دوننا:
الأخدود الأعظم Great Rift Valley: في مشهد سيظل يشغل من الفكر حيزًا لا تمحوه السنون فلعله أروع مشاهد أفريقية على الإطلاق، هنا بدا الوادي المغضن الفسيح في هوة لا تكاد تدرك العين قرارها، ذاك القرار الذي كان ينأى من دوننا بألفَيْ قدم فكانت تبدو وديانه المختنقة اللانهائية تتلوى وسط الربى المخروطية إلى قصارى مسارح النظر، منظر دونه المناظر التي رأيتُها في سويسرا وإسكندناوه وجبال الهملايا، وقد زاد المكان جمالًا أبناؤه الأبرار الذين لم تمسسهم مساوئ المدنية من الإنسان الهمجي عاري البدن وطوائف الحيوان الوحشي التي كنا نمر جوارها وبخاصة أسراب النعام والتيتل والزبرا حمار الوحش بديع النقش ذاك الذي كانت جموعه تسير في مئات ترعى وجميع رءوسها في اتجاه واحد وفق عادتها. ظل القطار يهوي فتستبين تلك الربى الناتئة وما جاورها من أكواخ مكورة ساذجة، وكل تلك الربى مخاريط لبراكين خامدة كانت ثائرة غاضبة يوم أنِ الْتَوَى سطح الأرض وانفطر فخلف ذلك الأخدود الهائل الذي يمتد من موزمبيق وبحيرة نياسا جنوبًا إلى البحر الأحمر فالبحر الميت في فلسطين شمالًا؛ أعني مسافةً ذَرْعُها خمسة آلاف ميل، وهو يبدو واضحًا بين الحافتين المشرفتين: كيكويو إلى الشرق وماو إلى الغرب، وسَعَةُ ما بينهما ١٢٨ ميلًا، ويقولون إن سبيلنا هذا خلاله بواسطة سكة حديد كنيا هي خير بقاع الأخدود روعة وجمالًا، أخيرًا أدى بنا الهبوط إلى مشهد سلسلة من البحيرات تطوقها حافات المخاريط البركانية القديمة ومِن أسمَاهَا مكانًا «لونجونوت» الذي يعلو ٩٠٠٠ قدم وتتسع فتحته إلى ميلين ونصف، وهي غائرة العمق تكاد تسدها الغابات وتتخللها شقوق تصعد غازات سامة، ومن ورائه تبدو سلسلة من بحيرات أهمها ماجادا، نايفاشا، ناترون، المنتايتا وناكورو وبارنجو.
figure
بعض أردية الحرب عند المساى.
وبعد أن جزنا محطة «لنجونوت» وبحيرتها وبركانها بدت نايفاشا ( × ١٥ ميلًا) في شكل هلال تتوسطه جزيرة هلالية هي ناحية من شفة ذاك المخروط البركاني الهابط، وهنا كثر الطير والزبرا وأفراس الماء بشكل استرعى أنظارنا، وكانت منحدراتها تكسى بمزارع السيسال، وفي سبع ساعات دخلنا بلدة ناكورو في قرار الأخدود الأعظم، هنا استرحتُ يومًا كاملًا في بطن ذاك الوادي الفذ الأوحد، والمدينة بجوها المنعش البارد الصحي مزار لطلاب الراحة والاستشفاء، إذ يبلغ ارتفاعها ٦٠٠٠ قدم أو يزيد قليلًا، وهي قرية صغيرة بها طريقان رئيسيان متقاطعان، تصَفُّ عليهما الحوانيت والمساكن الوطنية ذات الطابق الواحد والسقوف المنحدرة، وكلها من صفائح الزنك، وحول نصف أهلها وتجارها من الهنود، وأحد هذين الطريقين يؤدي بنا هبوطًا إلى بحيرة آسنة صغيرة تحوطها عدة رُبًى بركانية ويحف بمدرجاتها الرملية كثيف الدغل وبعض الشجر المنثور، وفيها كثير من الطير ودابة الماء، وقد تسلقتُ بعض تلك الربى فبدا منظر البحيرة فيها رائعًا، على أن البعوض مختلف الحجم كان يحوطني أينما سرت في سحائب مخيفة، والمدينة تطوقها حافة بركان Menengai قطر فوهته أميال، ومن ورائها يمتد بطن الأخدود الأعظم شمالًا وجنوبًا في سهول مترامية تعوزها الفلاحة ووسائل الري كي تغل نتاجًا وفيرًا.
figure
بعض زينة الشعر عند أهل كنيا.
إلى فكتوريا نيانزا: برح القطار ناكورو وأخذ يصعد الجانب الغربي للأخدود وكان الصعود سريعًا؛ إذ بلغنا القمة بعد ٤٣ ميلًا، علونا خلالها ٢٢٥١ قدمًا فوق ناكورو، وكانت ليَّات السكة متعددة والربى المنثورة يعلو بعضها البعض تكسوها الغابات القاتمة، وهنا وهناك كنا نرى بقاعًا شاسعة زرعها ذووها، على أن هذا الجانب رغم ثروته بالنبت وكثرة المسايل المائية التي تسيل بالماء إبان المطر، أندر سكانًا والمناظر أقل روعة، ومعابر سكة الحديد هنا بلغت ٢٧ في قناطر ملتوية شاهقة تشهد لأولئك الجبابرة الذين أقاموا الخط مغالبين الطبيعة ووعورتها، وهنا شعبة لسكة الحديد تعبر خط الاستواء ثلاث مرات في طيات متعاقبة. عبرنا «حافة ماو»، ثم أخذنا نهوي سراعًا إلى السهول المؤدية إلى فكتوريا نيانزا وفي خمسين ميلًا هبطنا ٣٧٠٠ قدم، ولن أنسى زمهرير البرد خصوصًا لما أقبل المساء، فقد كادت قدماي تجمدان، وكان البرد يفوق أقسى ليالي شتاء مصر، والعجب أننا كنا فوق خط الاستواء تمامًا، لكن هو الارتفاع الذي هبط بالحرارة إلى ذاك المدى البعيد، على أنا شعرنا بزيادة الدفء عاجلًا لما أن أخذنا في ذاك الهبوط، ولقد انتقلنا إلى جوٍّ حارٍّ تمامًا لما بلغنا كيسومو على البحيرة وأخذت السهول تنفسح وتنأى الربى كلما هبطنا وغالبها برِّيٌّ يكسوه العشب والشجر إلا في بقع نادرة من نبات الذرة تجانبها جمهرة من مساكن القوم، وفي ظني أن مستقبل تلك المتسعات وَقْفٌ على الفلاحة والزراعة إذا ما زُودت بوسائل الري والأيدي العاملة، وإقليم كنيا رغم غناه المفرط في خصب التربة ووفرة المطر وكثافة النبت نادر السكان، ولعل أغنى بقاعه بالنبت والخصب الأخدود الأعظم؛ لذلك كنا نرى كثيرًا من المساكن تجاور المحاطَّ على خلاف الهضبة بين ممباسا ونيروبي التي كانت موحشة خالية من الأهلين، وكان نصيبنا من الحيوان الوحشي هنا قليلًا.
دخلنا كيسومو: فتجلَّتْ مياهُ فكتوريا على بُعدٍ في لونها الفضي وامتدادها الرهيب، ووقف القطار إلى جانب السفينة Clement hill والمدينة قرية صغيرة بها طريقان واضحان عليهما الدور والحوانيت، وغالب أزِقَّتها تطل على البحيرة في انحدار؛ لأنها تقع على إحدى رُبَى خليج «كافروندو» وهو شعبة من البحيرة كأنه رأس الحيوان تحفُّ به من جميع نواحيه نجاد مغضنة، والمدينة قد فقدتِ اليوم شيئًا من شهرتها التجارية لمَّا أنْ فُتح الطريق الحديدي إلى جنجا وكامبالا رأسًا، على أنها لا تزال المرسى الرئيسي لبواخر البحيرة، تلك التي نُقلتْ قطعها بسكة الحديد وركبت في حظائرها التي تعدُّ أعلى مراسٍ للسفن في الدنيا، وأول باخرة وصلت فكتوريا أرسلت قطعًا لا يزيد وزن الواحدة على قنطار، نُقلتْ كلها على كواهل الناس من ممباسا مسافة ٦٠٠ ميل، وكانت حمولتها ٦٨ طنًّا، فتصور مبلغ المشقة والنفقات! إلى هذه الأخطار التي تعرضتْ لها القافلة من الوحوش والقحط ونضوب الغذاء.
figure
زينة الآذان والأنوف عند قبائل توركانا.
وقد كانت السفينة تحمل وسقها من الأغنام والخنازير ومنتجات الألبان، والمدينة تموج في المساء بأسراب حيوان اسمه Impala كالغزال الصغير، تسير قطعانه بجانب المارة كأنها مستأنسة، ويواسي بعضها البعض، وحدث مرة أنْ ضُرب واحدٌ منها فجُرح وفرَّ وعَدَا معه اثنان إلى جانبه ليعاوناه على المسير. هنا بدا الأهلون من قبائل كافرندو أبعد عن الهمجية التي لمسناها في سكان الأخدود، يلبسون الأردية في جلابيب فضفاضة من قطن، ولا يكثرون من التزين بالمعادن والخرز، وهم أقوياء بواسل ومستمد رئيسي للعمال، وهم من أكثر الهمج عِفَّة يحكمهم زعماء أشداء، وعديدهم يناهز المليون، والضباط والبوليس يلبسون الطربوش الأحمر تتدلى منه خصلته الثقيلة.
فكتوريا: قمنا إلى أوغندا نشقُّ عباب مياه خليج كافرندو الذي ظلت شواطئه تبدو في سلاسل جبلية وطيئة تكسوها خضرة خفيفة، وكان لون الماء عكرًا زيتيًّا تشوبه حمرة خفيفة كأنه ماء النيل إبان الفيض.
figure
ما أقسى ما يعانيه القوم في تجميل شفاههم هكذا.
ولقد كان الجو صحوًا والشمس محرقة والحر قائظًا، ولمَّا أن تحركت الباخرة أنعشَنَا نسيمُ البحيرة البليلُ، ولبثنا نشق خليج كافرندو زهاءَ خمسِ ساعات (٥٠ ميلًا)، وقبيل المنفذ أخذت المخاريط الخامدة الصغيرة تتقارب حتى خُيِّل إلينا أن البحر مغلق لا منفذ له، لكن ما لبثت تلك المخاريط تنشق إلى جزائر جرانيتية صغيرة يتلوَّى الماء خلالها، وهي جميعها تكسوها خضرة لا يكاد يستقيم لها عود، وقد بدا للخليج منفذان رئيسيان مختنقان، سلكنا سبيلنا إلى الأيمن بين منثور الجزيرات الساحرة، وما كدنا نجوز آخرتها حتى دخلنا بحر «النيانزا» المائج الخضم الذي غابت عنا شواطئه وصفا ماؤه في خضرة زيتية مستملحة، وهنا فقط كان الفرق بينه وبين المحيط بمائه صافي الزرقة. وقفتُ أُجيلُ النظر في تلك العظمة، وشعرتُ بالغبطة الكاملة حيث تحقق حلم كنتُ أحسبه خيالًا بعيدَ النوال هو أنْ أرى فكتوريا نيانزا التي نَدِينُ لها بروحنا وحياتنا؛ لأنها المنبع الثابت لنيلنا الخالد العتيد، وما كانَ أحلَى مغربَ الشمسِ وقد صوَّبتْ إلينا رياشَها الذهبية من خلال كومات السحب! وقبل أن تنفذ إلى الصميم منَّا دفعتها صفحة الماء عاكسة إياها في توهج يسحر اللب، وما كادتْ تغرب الشمس حتى انطفأتْ تلك الألوان الجذَّابة، وخيم الظلام الرهيب شأن سائر البلاد الاستوائية التي ينطفئ فيها ضوء الشفق عاجلًا، ولقد أنصف القوم في تسميتها «نيانزا» ومعناها البحر فهي ٢٥٠ × ١٥٠ ميلًا أو ٦٨٠٠٠كم٢ تطوفها الباخرة في خمسة أيام كاملة، وهي تغاير سائر البحيرات في أن شواطئها مدرجة وليست مشرفة، تكسوها الخضرة التي تعرَّفْنا مِن نباتها البردي والبشنين، وإذا ما هاجت وغضب ماؤها اقتلع منها كُتَلًا كنَّا نراها طافية.
figure
مسجد هندي على نمط تاج محل في نيروبي.

استقبلنا مشرق الشمس بألوانه القاتمة الجملة «وبورت بل» قبالتَنا وهي ثغرٌ صغير أُقيم على البحيرة ليصلها بمدينة «كامبالا» العاصمة التجارية لأوغندا، وهي ليست مدينة، بل مجموعة مراسٍ وأرصفة عليها أشرطة سكة الحديد التي تمتد سبعة أميال إلى كامبالا.

figure
قطعان الحيوان عند الأفق في حرم الحيوان.

هنا انتقلنا إلى القطار فسار بنا وسط مدرجات فكتوريا التي كان يكسوها البردي والغاب والقصب الكثيف، ويغطي أجوان البحيرة العديدة أطباق البشنين ونَورُه الكبير، وكنا بين آونة وأخرى نبصر بجمهرة من الأكواخ زرع القوم حولها بعض الخضر وأشجار الموز حتى وصلنا محطة كامبالا.

figure
القطار ينزل بنا إلى الأخدود الأعظم.
figure
بحيرة ناكورو وسط الأخدود الأعظم.
كامبالا: أخذت أصعد في طريق متلوية أدتْ بي إلى النُّزُل فنظرت من حوله وإذا الوهاد والنجاد لا حصر لها، تكسوها جميعًا الغابات والأحراش، وتتناثر عليها المباني الحديثة في سقوفها المتحدرة من صفائح الزنك، والكل في طابق واحد، وفوق ذروة كل ربوة بناء شامخ، والمنظر حول كامبالا ينم عن مناظرَ أوغندا كلِّها، تلك التي أطلَقَ عليها ستانلي «لؤلؤة أفريقية» فهي مجموعة من تلال محدبة، ذُرَاها مسطَّحة، بينَها وديان تسدها الخضرة، وتفاجئك المياه بكثرة وعلى غير انتظار، والمدينة مقامة على سبعة تلالٍ، كما بُنيت روما، لكنها أبعد جمالًا وأغنى روعة، تتصل كلها بطرق متلوية تهوي تارة وتصعد أخرى إلى مئات الأميال في رَصْفٍ بديع، وهي تشق جزءًا من أفريقية كان إلى أمدٍ قريب مجهولًا مغلقًا، ارتقيت أعلى تلك التلال واسمه تل ناميرمبي Namirembi ومعناه تل السلام، تتوِّجُه الكاتدرائية الإنجليزية، وفيها أقيمتْ أول صلاة مسيحية هناك سنة ١٨٧٧، ودُمرت تمامًا بعاصفة سنة ١٨٩٤، ثم جُددت بعد عام، لكن السماء الغاضبة نسفتْها بعاصفة سنة ١٩٠٠، والكنيسة الفاخرة الحالية أتمت سنة ١٩١٩، وإلى مقربة من المكان «تل كاسوبي» تتوِّجه المدافن الملكية، وأروع ما رأيت منها مقبرة الملك موتيزا Mutesa وابنه الماجن موانجا Mwanga والد الملك الحالي، وبجوار المدفن الطبل الأعظم «موجا جازو» الذي كان يدقه رئيس الجلادين «موتا مانياج» كلما أرادت آلهة القبيلة «لوباري» الفظيعة بعض الذبائح البشرية كيوندا Kiwenda طوع عادتها الدموية القاسية، والمدخلُ قَبْوٌ يحوطه سور من جدل الغاب الأنيق، تتوسطه ردهة مستديرة تقوم حولها مساكن الحراس، وفي المقدمة المدفن وهو كوخ فاخر مستدير يقوم على عدة عُمُد مزركشة ومن جذوع الشجر، وفي قراره المقبرة تصفُّ عليها الحِرَاب البراقة، وإلى يمينه مدفن ابنه موانجا، وإلى جوار حظائر المدفن مسكن أخت «موتيزا» وحاشيتها في أكواخ كبيرة تحوطها أسوار الغاب، وكم خضَّبتْ أرجاءَ هذا التل دماءُ الأبرياء من بني الإنسان، وكانوا يُقدَّمون زرافات كقرابين في عهد ذاك الطاغية.
figure
سكة الحديد إلى فكتوريا، وهي هنا تعبر خط الاستواء ثلاث مرات بلياتها العجيبة.
نبذة عن تاريخ أوغندا والطاغية موتيزا: أول مَن رأى أوغندا من الأوروبيين «سبيك»، لكن تجار العرب كانوا يعرفون البلاد حق المعرفة قبل ذلك بزمان بعيد، ولقد دهش سبيك؛ لأنه بعد أن سار من الساحل عند زنجبار بين أقوام من العرايا الهمج رأى أهل أوغندا يلبسون الأنسجة المختلفة حتى إنهم استنكروا أن يَرَوْا حمار سبيك يبدو عاريًا، وقد لاقاه الملك موتيزا وأكرمه، وكان طاغية قاسيًا، له سبعمائة زوجة ومائة وخمسون من الأبناء، وقد رحَّب بالأجانب ظنًّا منه أنهم سيزيدون البلاد علمًا وقوة واعتنق المسيحية، وطلب أن توفد إلى بلاده البعوث الدينية، ولما مات موتيزا سنة ١٨٨٤ قيل إنهم قدَّموا على مقبرته خمسمائة من الضحايا البشرية، وقد كَرِهَ ابنُه موانجا المسيحية وشجَّعه العرب على ذلك، وكان شِيَعُ المسيحيين هناك في شقاق مستمر، فأخذ موانجا في إحراق كل مَن يعتنق المسيحية أو يُلقيه طعامًا للتماسيح، لكن بعض قومه ثاروا عليه فهرب وأيَّد العربُ أخاه ملكًا لنشر الإسلام، لكن أسرع المسيحيون واستنجدوا بموانجا الذي حارب العرب وخذلَهم، وأيده المبشِّرون بالمال والرجال حتى كانت سنة ١٨٩٠ فأُمضيتْ معاهدة بين إنجلترا وألمانيا ضُمتْ بها أوغندا لإنجلترا، ودخلها «لوجارد» حاكمًا فاتحًا بجيش من السودانيين وأهل زنجبار وهُزم العرب على مقربة من «كوار» سنة ١٨٩١ في مقاطعة أنكولي، ولما أمِنَ المسيحيون خطر العرب اقتتلوا ثانية (الكاثوليك الروم ضد البروستانت)، وكان لوجارد يتعقب فلول جنود أمين باشا السودانيين فقُتل بعض البروستانت بيد الكاثوليك الذين ساعدهم موانجا فقامت الحرب بين الفريقين طويلًا، وأخيرًا رُفع العلم البريطاني لأول مرة هناك ومُنح المسيحيون من الفريقين امتيازات كثيرة، ثم طالبت الشركة التجارية البريطانية في شرق أفريقية بامتلاك البلاد وقرر البرلمان البريطاني إخلاءها لكن عاد فعدل عن ذلك.
figure
الشوارع في كيسومو تنحدر كلها إلى بحيرة فكتوريا.
figure
كامبالا تقام على سبعة تلال، وهاك جندي البوليس وسط شوارعها المنحدرة.
figure
الزي القديم والحديث في كامبالا.

وفي ١٨٩٤ أُعلنت الحماية على أوغندا، وأُطلق أيدي الكاثوليك والبروستانت معًا ليقوموا بشئون التعليم وتحويل الوثنيين إلى المسيحية ما استطاعوا، وأخذت الحماية توسع أملاكها غربًا وشمالًا، وفي ١٨٩٧ ثار موانجا ثانية بمعاونة المسلمين وجنود السودان، وكادت إنجلترا تخسر البلاد كلها لولا انتصارها سنة ١٨٩٩، وفيه أُسر موانجا ونُفي إلى سيشل حيث مات سنة ١٩٠٣، وأمضيت معاهدة «منجو» سنة ١٩٠٠ ونصب ابن موانجا «دودي تشوا» ملكًا تحت أوصياء من أهله؛ لأنه كان طفلًا في سن الرابعة، ودَفعتْ له بريطانيا راتبًا كبيرًا، وتعهَّده مدرس إنجليزي خاص. والطاغية موتيزا كان يقدسه رعاياه، وكان يحكم حكم إقطاع معقد، وكانت تقلبات أهوائه قاسية مدهشة، فطالما بتَرَ رأس زوجة لأنها نسيتْ أن تُغلق الباب وراءه، وكان ماجنًا؛ فكلما سمع عن فتاة جميلة حملها إليه أتباعه قهرًا عنها، والتعذيب لأقل هفوة كان شائعًا كقطع الآذان واللسان وقلع العيون وما إليها، وكان كلما خرج جيشه دُفنَ أمامَه طفلٌ حيٌّ إرضاءً للعفاريت، ولا يزال الباجندا أهل البلاد إلى اليوم يستهينون بالحياة ولا يستنكرون كثيرًا من أعمال القسوة التي تقع تحت حسهم، وكثيرًا ما كان يجلس موانجا ويجيء الرجل أمامه فيقطع ذراعه، ثم يشوى في النار، ثم ساقُه وأخيرًا يُلقَى كله في النار على مرأًى منه وهو ثَمِلٌ سكران.

figure
أمام مقصورة موتيزا حيث كانت تقدم الضحايا البشرية.
figure
أمام مدفن موتيزا الطاغية وابنه الماجن «موانجا».
ومن تلال كامبالا السبعة تل منجو Mengo مقر الحكومة الوطنية وموطن الكاباكا «الملك»، وكان الطريق الرئيسي المؤدي إلى القصر يتدرج علوًّا إلى المدخل الرئيسي تجانبه الخضرة والأشجار المشذبة، ويطوق التل كله سور شاهق من جدائل الغاب والقصب متقن الصنع أيَّما إتقان، وعلى الباب يقف الجندي «أسكرى»، وإلى داخله تقوم المباني يمينًا وشمالًا، بعضها حديث النظام والبعض أقبية وأخصاص عادية، وتلك دور الحكومة، وفي الوسط يقوم القصر الملكي وهو قصر حديث البناء، وأمام بابه توقد نارٌ لا يَخمد أوارُها إلَّا يومَ يموتُ الملك، وكانتْ تُزجيها الذبائحُ البشرية منذ نصف قرن، وإلى جوارها رأينا طبولًا تدق على الدوام إعلانًا وإرهابًا، ويقطن القصر الملك الوطني السير دودي تشوا Daudi Chwa سليل ملوك باجندا، وخلف القصر بركة تغص بالتماسيح التي كان غذاؤها لحوم المجرمين الذين كانوا يُلقَوْن فيها أحياء، وعلى ربوة من تل كامبالا نفسها زرت متحفًا صغيرًا أقيم في مكان الحصن الذي بناه «لوجارد» ورفع عليه العلم البريطاني لأول مرة سنة ١٨٩٠، هنا ذهب خيالي إلى عهد أمين باشا والعلم المصري الذي ظل يرفرف فوق المكان طويلًا، ولولا غدرُ الزمان للبث هناك إلى يومنا هذا، أما المتحف فصغير يحوي بعض مخلفات أوغندا من دروع وتروس من الخوص والجلد وأسلحة من حراب وقِسِيٍّ وطبول وأدوات موسيقية ساذجة وبعض زينة المحاربين وما إليها، وبجوار السجن تقيم عجوز شمطاء هي ساحرة شهيرة اسمها موواموزا كانت في مقاطعة كيجيزي قرب حدود الكنغو، ولكثرة ما سببتْ من شغب وإرهاب نفتْها الحكومة إلى هنا، وهي تخصص لها ولخَدَمِها وأتباعها من حولها رواتب شهرية بها تعيش في رخاء؛ وذلك اتقاءَ شرها وسيطرتها على أذهان السذج من دهماء العبيد.

وكامبالا هي العاصمة التجارية لأوغندا، أما العاصمة السياسية فهي:

figure
مدخل البيت الملكي «كاباكا» في كامبالا.
عنتبة: (ومعنى الكلمة الكرسي) فهي تُشرف على البحيرة بثلاث شعاب كأنها الكرسي، وهي مدينة فاخرة آية في التأنق، على أنها صغيرة جدًّا، ويكاد يكون كل قاطنيها من كبار الموظفين الأجانب، وتسترعي النظر بها متنزهاتها اللانهائية وحديقة للنبات هائلة بها جُلُّ فصائل الشجر والزهر وبخاصة الاستوائي، وقد وصلناها بالسيارات من كامبالا في أقل من ساعتين، وكامبالا تعلو البحر بنحو ٣٩٠٠ قدم، والجو فيها جميل جدًّا أميل إلى البرودة، والسماء صافية في العادة قبل الظهر، أما بعده فتكاد تحجبها الغيوم التي كثيرًا ما تَهمي وابلًا، أذكر منها عاصفة عاتية ظلت ساعة كاملة والماء يتهاطل كأنه من أفواه القرب، وكان ضجيجه إلى جانب قصف الرعد مرعبًا مزعجًا مما جعلني أفهم معنى الأمطار الاستوائية، مع أني كنت هناك في غير موسم المطر، والإقليم يشعرك بعظمة الغابات أينما طوحتَ ببصرك، أما الطيور بديعة اللون فلا تُحصى ولا تخبو زقزقتها وتغريدها لا ليلًا ولا نهارًا، وفي المساء وسط ظلمة المدينة الحالكة ترى الخضرة تنتشر فيها نجيمات تتلألأ وتنطفئ في كثرة هائلة وهي اليراعة الطائرة fire fly التي أزعجتْني أيما إزعاج لأول مرة رأيتُها وكنتُ في الطريق وحيدًا حينما لاحظتُ عددًا منها فوق قمة أحد تلال النمل، وما كدتُ أُقاربها لأعرف ما هي حتى هبَّتْ منها عاصفة في وجهي وكأنها نار قد انفجرت.
figure
المقصورة الملكية في أوغندا.
والأهلون من السود يتجمع غالبهم حول تل منجو مقر الملك وغالبهم من شعوب «الباجندا» يلبس كثير منهم أردية بسيطة من قشر شجرة اسمها Bark cloth tree ينزعون قشرها الليفي بعناية، ثم تنقع قِطَعُه في الماء وتنشر وتدق بالمطارق حتى يصبح ناعمًا طريًّا خفيفًا، والشجرة منتشرة في كل أوغندا، وأعجب ما فيها أنك إذا قطعتَ جزعًا ودفنتَه في الأرض ينمو شجرةً بمجرد نزول المطر عليه، وإذا سُلخ الجلد وجب تغطية الجذع بورق الموز وقاية له حتى يظهر الجلد من جديد، وجلد المرة الثانية أدق أليافًا وأكثر نعومة وجودة من جلد الدفعة الأولى، وقد بدءوا يلبسون اليوم جلابيب القطن، والباجندا هؤلاء أهل جِدٍّ وذكاء وكبرياء، يفاخرون بأن منشآتهم سابقة للإنجليز الذين لم يزيدوا على نظمهم في إدارة البلاد شيئًا، وقد كانوا طعمة لتجار الرقيق قديمًا أكثر من غيرهم، ويمتاز الواحد منهم على أهل كنيا بأنه منتج وأنه سيد نفسه في مزارعه، ويرجى على يديه تقدم زراعي خصوصًا في القطن، وأوغندا تعد ثالثة بلاد الإمبراطورية البريطانية في إنتاجه، وهم أسرع من غيرهم في التمدين بدءوا يلبسون الملابس الإفرنجية ويُعبِّدون الطرق وينظفون المساكن ويركبون الدراجات التي كنتُ أراها مطية الجميع في مزارعهم، وأكواخهم من الخوص والغاب والطين، بعضها مربع والبعض مستدير، وغالبهم لا يَدِين بدِينٍ خاص إلا أن أثر المبشرين المسيحيين واضح جدًّا؛ فهم أول مَن حلَّ البلاد من البيض، دائبون على الدعاية الدينية، وقد ضموا لهم طائفة كبرى من السود الذين كنت أراهم يسيرون والصليب الفضي يتدلى من صدورهم، ومئات منهم يؤمُّون الكنائس يوم الآحاد، أما المسلمون فقليلون إلا مِن الهنود الذين يحتكرون المتاجر ويحلون أكبر أحياء المدينة، وللقوم لغتهم الخاصة، على أن السواحلية لا تزال لغة التعارف بين المتنورين من القبائل المختلفة.
figure
عند مدخل القصر الملكي تدق هذه الطبول صباح مساء رهبة وإزعاجًا.

هذا، وجمال الطبيعة حول كامبالا يأخذ باللب، وطفقت أتجول كل يوم سيرًا على الأقدام خلال تلك النجاد والوهاد تطربني أصوات الطيور وتقر عيني بألوانها إلى الآلاف المؤلفة من الزهور فوق الشجر ووسط الكلأ في فصائل لا يحصيها العد وتطير حولها مجاميع الفراش كبير الحجم، وعجيب أني كنت أرى كل فراشة لا تحط إلا فوق زهرة تحكيها لونًا، وقد كنت أقصد إزعاجها فتطير، ثم تعود إلى زهرها دون أن تخطئ، وكان الطير يفعل ذلك إلى حد ما، وكم كنت أحاول ترك الطريق المعبد لأشق الأحراش والغابات اختزالًا فتخونني لياتها وأظل أسير فلا أهتدي إلى غاية، كلا، ولا أتعرف حتى المكان الذي طرقته، أذكر ليلةً أني خرجتُ عصرًا صوب تل الملك فأوغلتُ في الغاب ظنًّا مني أنني أستطيع تحكيم ملكة الاتجاه، فما لبثتُ أن ضللتُ وسط تلك الغابات الرهيبة الموحشة إلى الثانية صباحًا، أعني الليل كله تقريبًا، حتى فاجأتْني ناعورة سيارة سلكتُ سبيلي جريًا إليها وإذا بي في طريق شُقَّ خلالَ الغابات، ولن أنسى مبلغ الذعر كلما سمعتُ حركة وأنا جالسٌ أستريح في وحشة الليل الرهيبة، على أني علمتُ بعدُ أن الوحوش والحشرات قد قلَّتْ هناك جدًّا لقرب الغابات من مواطن الإنسان، أما الأهلون فشديدو الملاحظة يتعرفون طريقهم حتى وسط الشجر الكثيف، وكان النساء نشيطات في الزراعة يتعهدن الموز والبطاطا والتابيوكا، وكلهن يلبسن الملاءات الملونة تدثر الجسم كله من أسفل الصدر، أما ما فوق ذلك فعارٍ، ويسترعي النظر الحزام الذي يلف من فوق العجز إلى ما تحت السرة وهو مدلًّى من الأمام فيساعد على انبعاج الصدر والبطن إلى الأمام وانتفاخ العجز إلى الوراء فتبدو السيدة مضحكة في مشيتها خصوصًا إذا كانت من قبائل «باهيما» رُعاة البقر المشهورين في أنكولي غرب البحيرة، وآية التجمُّل لديهن السِّمَن المفرط الذي تسعى إليه السيدة حتى لا تكاد تستطيع السير، وهم يتخذون من شعر الفيل أساور وعقودًا رجالًا ونساءً، يدهنون رءوسهم بروث البقر، فإذا سألت أحدهم عن تلك العادة القذرة أجابوا بأنهم لو نظفوا أنفسهم نفر البقر منهم فهو لا يتبع إلا الجسوم الملطخة بفضلاته، والعجيب أنهم يعدون أنفسهم الطبقة الأرستقراطية المسوَّدة على من حولهم، وأعجب ما في أبقارهم قرونها التي يهولك امتدادها.

وكنت أرى آلاف المخاريط التي يسمونها «تلال النمل» يسكنها النمل الأسود والأبيض في حجم بالغ وتراها من داخلها مثقبة في سراديب متلوية، والنمل هناك آفة خطيرة تفسد كل شيء في الغابات والمساكن، وهم يتركون النمل يبني مخاريطه التي تراها تصفُّ على جوانب الطرق ووسط الغابات، فإن تعرَّضوا لها لجأ النمل الى إقامتها تحت المساكن بعد نخْرِها فلا تلبث المساكن أن تنهار، وهذا النمل أعمى لا يبصر، ويبني له حواجز على جذوع الشجر في الغابات ليأمن السقوط إذا تسلق، وهذه يقيمها من الطين الذي يحمله فوق رأسه ويلصقه بالجذع بمادة صمغية من أفرازه وينخر الشجر ويأكله.

figure
التمساح لوتمبي يجيب النداء.

والكساد المالي كان يبدو مجسمًا في أوغندا كما بدا من قبلُ في كنيا وسائر بلاد جنوب أفريقية وشرقها، فكثير من الدور والحوانيت خاوية الوفاض، تُعرض للإيجار ومئات منها آخذ في التصفية ودخْل الحكومة آخذٌ في النقْص السريع خصوصًا دخل السكة الحديدية والبواخر؛ لذلك اختَصَرَتْ كثيرًا من القطر والبواخر، وتفكر في الاستغناء عن بعض الموظفين، كما استغنت عن كثيرين من قبلُ وأنقصت المرتبات جميعًا، وها هو نُزُل سافوي ثاني أنزال المدينة يبيع متاعه وسيغلق أبوابه آخر الشهر، ولم يكن به من النزلاء غيري أنا ورجل آخر؛ مما أفقدنا روح الاجتماع فكنا نتناول طعامنا ونأوي الى مضاجعنا خلسة كأننا خجلون مما نحن فيه من وحشة، على أن الأهلين لا يخشون ذاك الكساد لندرة حاجياتهم ولتوافر طعامهم الفطري من منتجات الغابات التي لا ينضب معينها.

figure
يناديان التمساح لوتمبي على بحيرة فكتوريا.
figure
على ضفاف بحيرة فكتوريا حيث يقطن التمساح المقدس لوتمبي.
وفي ناحية من كامبالا تبعد عنها بنحو أربعة عشر ميلًا وتطل على البحيرة مكان يسمونه لوتمبي Lutambe أيِ التمساح، قصدناه فكان الطريق إليه يهوي وسط المزارع والغابات الكثيفة المشتبكة المظلمة، ومشهد البحيرة ساحر بجزائرها الصغيرة المنثورة وتغضن الساحل الذي يحفه نبات الماء في كثافة مشتبكة وبخاصة البردي والبشنين والحلفاء وكثير من الأشجار والشجيرات، وكان بعض الشاطئ مدرجًا والبعض صخريًّا مشرفًا في حمرة قاتمة من نسيج الجرانيت المحبب، وعجيب أن كانت تنمو خلاله الأعشاب وبعض الشجر، وهذا المكان يدين بشهرته الذائعة لتمساح ضخم عتيق من بين آلاف التماسيح التي تغص بها البحيرة.

وقف زنجي هناك على الشاطئ وأخذ يناديه وهو يصيح بأعلى صوته قائلًا: «لوتمبي ياد يالوتمبي يانجو كوو» مرات حتى سمع التمساح النداء على بُعْد شاسع وعمق سحيق ووفد إلى الرجل وزحف بجواره ليأكل من يده بعض السمك، ولبث الغلام يناديه يومنا زهاء الساعة والنصف وكدنا نيأس من ظهوره وأخيرًا عند الغروب ظهر يشق الماء وأخذ يزحف بجوارنا كأنه أليف مستأنس يلتقط السمك الذي كنا نقدمه له، وعلمنا أن متوسط ما يكفيه كل يوم مائة كيلوجرام من السمك.

ويقول القوم في أقاصيصهم أنه ظل حارس البحيرة الأمين فوق مائتي عام ويقدسه الجميع، وفي بعض الأحيان لا يسمع النداء فيصفق له الغلام بصفائح في الماء فيجيء إليه، ويؤيدون أنه عتيق بتثاقله الشديد عندما يظهر ويمشي على الشاطئ، ويروُون عنه أنه نهش ذراع رجل مرة، ولقدسيته اتهموا الرجل بالسرقة فأخذوا الرجل إلى الشاطئ ونادوا «لوتمبي» وطالبوه بقولهم: «أرنا بحكمك الراجح إن كان الرجل لصًّا أم بريئًا.» وقدموا له الذراع الثاني فالتهمه التمساح، وعندئذٍ اعترف الرجل بسرقته وردَّ ما سرق لصاحبه ومات بعد ذلك بزمن قليل، وعادة تقديس التماسيح واستئناسها ومداعبتها هكذا مصرية قديمة.

figure
سوق كامبالا.
سوق كامبالا: يقوم في بناءين متجاورين يقسمان إلى مدرجات طولية مسقفة تعرض تحتها المبيعات، أحدهما للخضر واللحوم، وهو نظيف جدًّا كان القوم يبيعون فيه أنواعًا شتى من الفول والجذور بعضها أخضر يؤكل طازجًا، والبعض مجفف كأنه قطع الحلوى يُسحق ويباع دقيقًا، ثم الفاكهة وبخاصة الموز في عراجين ضخمة، ويليه كثرة «البوبوز» في حجم «الشمام» إلا أنه مدبب من أحد طرفيه ولون لبه برتقالي وطعمه حلو لذيذ كان يقدم لنا في النزل نأكله بالملعقة في طعام الإفطار، أما البناء الآخر فقسم فيه للسمك المجفف في شكل أغبر مقدد منفر المنظر كريه الرائحة ويعرض في أحجام مختلفة من تروس قطرها خمسة سنتيمترات إلى سمك طوله المتر، وقسم آخر مكشوف تعرض به من القناني القديمة وعلب التبغ الفارغة وقطع من صفيح ونحاس للزينة وكلها من سقط المتاع تدل على سذاجة القوم وسخف عقولهم، والزحام هنا بالغ أشده، وكم كان يسترعي نظري نظام التحية إذا تلاقى صديقان يبسط أحدهما كفيه متجاورين ويلمس الآخر بطنهما براحته، ثم تظل اليد تتحرك بينهما ذهابًا وجيئة مرات، وخلال ذلك يفوه كلٌّ بكلمة تحية تتبعها زمجرة، لا بل وتأوهات عميقة طويلة، ومن الغريب أن وجه كل منهما منصرف عن وجه أخيه، والنسوة تمر وهي تتهادى متثاقلة لما تحمل فوق رأسها من متاع وفوق ظهرها من طفل كأنه القرد الصغير، وغالبهم يبدون في حرائر فاضحة اللون بين أزرق وأصفر وأحمر، وبعضهن لا يغطين الأكتاف الى الثديين ليظهرن زينة الوشم والتجريح الذي خلف في الجسم صفوفًا منظمة من أدران تتعرج يمنة ويسرة، وقد جرني الحديث عن المستوى الخلقي هناك، فعلمت أن العفة لا تكاد توجد بين الأهلين الذين لا تزال نزعتهم الحيوانية سائدة، هذا إلى تذوقهم طرفًا من المدنية التي جعلت بعضهم يسعى وراء النقود من أي طريق، وسواء أكانت المرأة آنسة أم متزوجة فإنه يمكن استمالتها واستهواؤها عاجلًا، وكثيرًا ما يرضى الآباء والأمهات والأزواج بذلك، وقد أيَّد عندي ذلك زيارتي لمستشفى كامبالا أكبر مستشفيات تلك الأقاليم؛ حيث كان غالب المرضى هناك يشكون الأمراض السرية وبخاصة الزهري، وقد خبرني بعض الأطباء هناك أن تلك الأمراض منتشرة في البلاد بكثرة مروعة، وهي تودي بحياة الكثيرين منهم، ولحسن الحظ أن القوم لا يُخفون المرض بل يقدمون أنفسهم للحقن بدون خجل.
figure
لا تكاد تنقشع تلك السحائب عن جبال القمر أبدًّا.

والزواج هناك من سن العاشرة، والبنات يبلغن الحلم مبكرات، والأب يُؤثِر الذرية من البنات؛ لأنه يتقاضى عليهن مهورًا عن زواجهن، ثم يأخذ الزوج عروسه ويبقى المهر الذي دفعه للأب يتمتع به، وأخص مهرجان يقام للزواج الرقص والطبول المزعجة.

وليس في المدينة من وسائل التسلية أو الملاهي شيء قط على كبرها حتى ولا المقاهي أو المراقص كلا ولا الأضواء، فإذا أقبل الليل خيم الظلام وعم السكون وسادت الوحشة المدينة كلها، ومصابيح الطرق متباعدة ضئيلة الضوء؛ لأنها تنار بالبترول حتى إنني كنت أتلمس طريقي ليلًا وكأني الأعمى الضرير؛ لذلك كان لزامًا أن يحمل كل عابر سبيل مصباحه أو «بطاريته» كي يتعرف طريقه وسط تلك الظلمة الحالكة.

وبالمدينة مجموعة من شبه متنزهات في متسعات تكسوها الخضرة، وفي بعضها تنمو الأشجار وغالبها ملاعب «للجولف والتنس والهوكي» ويتوسط المدينة متنزه صغيرة يعرض به مدفع حديث بعيد المرمى لا يزال براقًا انتُزع من السفينة الألمانية التي كانت تحرس ثغر موانزا جنوب فكتوريا نيانزا لما سقطت في أيدي الإنجليزي سنة ١٩١٦، وأقيم إلى جواره نصب تذكاري لمن فقدوا أرواحهم في الحرب العظمى من السود سكان البلاد، ويخيل إليَّ أن كامبالا كلها متنزه جميل من أية بقعة نظرتَ أحاطتْ بك الخضرة النضرة في أرض مغضنة إلى الآفاق، ومساكن الأهلين من الزنوج هنا نظيفة إذا قورنت بأكواخ القبائل الأخرى؛ إذ ترى البيت وقد استؤصلت من حوله الأشجار والأعشاب البرية وأحيط بسياج يغلب أن يكون من النبت والزهر، ويكنس الناس داخل البيوت ويحرقون القمامات عند الغروب في أجحار وراء البيوت تلك الفكرة التي نقلتْها فِرَق الكشافة عن أمثال أولئكم من سكان الغابات.

figure
أقزام جبال القمر ويبدو الأوروبي وسطهم عملاقًا.
figure
أقزام السود في غابة أتوري على رونزوري جبال القمر.
إلى جبال القمر: «رونزوري»: طالما حننتُ إلى مشاهدة جبال القمر تلك التي تخيلها بطليموس قبل الميلاد مستمدَّ مياه أعظم أنهار الدنيا نيلنا المبارك، ولقد كان الإسكندر المقدوني يرى ذلك، وقد سمع سبيك من العرب أن هناك جبلًا رهيبًا لا يكاد يستبين لكثرة ما يكسوه من المواد البيضاء ولا يستطيع أحد ارتقاءه لوعورة منحدره، وقد رآه بيكر في زرقة فاترة لذلك أسماه «الجبل الأزرق»، وفي ١٨٧٥ تسلق ستانلي جانبًا صغيرًا من مرتفعه، لكنه لم يكن يدري ما يعلوه من ارتفاع شاهق، كذلك أمين باشا الذي أقام على ألبرت عشر سنين ولم يرَ قبسًا منه، ولقد تحقق لي مرآه بفضل رجل فرنسي لاقيته في كامبالا علمت منه أن هناك طريقًا معبدًا طوله ٢٠٧ أميال تشقه السيارات غربًا الى «فورت بورتال»، وهي قرية صغيرة في أسفل تلك الجبال قطعناها في ست ساعات خلال مناظر أوغندا المألوفة الساحرة، نجاد تنكشف منها هُوًى تسدُّها الغابات وتباغتنا النقائع في غير حصر تغص بالبردي والبشنين، أكبرها بحيرة «وامالا»، ثم جزنا تل «موبندي» موطن السَّحَرة ورسل الآلهة «ناكاهيما» وعليه تقوم بقايا الشجرة المقدسة التي تقدم تحتها الضحايا البشرية، وعندما قاربنا «فورت بورتال» كثرت منابت البن التي تحفها من جميع نواحيها، وهناك حللتُ استراحة خشبية لأمضى فيها ليلتي استأجرتُها بجنيه؛ إذ ليس بالمدينة فنادق قط لا بل وليس بها شيء إلا بقايا حصن قديم.
figure
رعاة «أنكولي» بأبقارهم ذوات القرون الشامخة «أوغندا».
هنا قام إلى غربنا «رونزوري» يسامت السماء ويتصل بسحبها في كثافة رهيبة أيدت في ظني خرافات القوم هناك، أولئك الذين يعتقدونه مقر الجن ومحط الأرواح التي انسلخت عنها أرواح أجدادهم من الحكام الجبابرة؛ لذلك فهم يرهبونها جميعًا، أما الغابات حوله فتسد الآفاق سدًّا ويسمونها غابة أتوري Eturi مقر الأقزام من السود الذين رأيتُ بعضَ أفرادهم في المدينة، ولا يجاوز الواحد أربع أقدام في الطول، يعيشون على الصيد بحرابهم وسهامهم المسمومة، لم أَشْفِ من مشهد ذاك الجبل العاتي غلة فلقد طفقت أرقبه سبع ساعات متواليات في وضح النهار، لكن لم أدر أوله من آخره ضباب وسحاب ورذاذ ماء لا ينم عما فوقه، ولقد قيل لي إن منحدراته وبخاصة الشمالية أكثر بقاع الدنيا رطوبة؛ لأن مطرها يفوق ٢٠٠ بوصة، ولأن نز الماء من جوانبها لا ينقطع أبدًا، ولا تكاد الجبال تبدو إلا بضعة أيام من السنة إذا ما صفا أديم الجو حولها، ولا يكاد حينذاك يبدو في لون قرنفلي شاحب تكسوه عمائم الثلج في مساحة مائة ميل مربع وتتجلى أعلى الذرى «مرجريتا» على علو ١٦٧٩٤ قدمًا، وهي أشد ذرى أفريقية وعورة وأصعبها تسلقًا، وأحدث مَن حاولوا صعود الرونزوري «دوق أبروزي» الذي يقول في كتاب رحلته عن وعورة الغابات هناك:

كنا لا نرى في الأرض سوى جذوع وفروع تسد الآفاق، يكسوها الطحلب الذي يتدلى منها وكأنها اللحى الكثة المترنحة تشوِّه كل شيء، وما الأدواح إلا لفائف لا يتعرف المرء أين تبدأ مطاويها وإلى أين تنتهي، ولا سبيل إلى الورق الأخضر إلا إنْ تلمسته في الأغصان السماوية وأنت لا ترى للضوء قبسًا بسبب ما يحجبه من الجدائل الكثيفة والفروع المتعانقة في كثرة تسد كل شيء، أما الأرض فيخفيها خليع النبت ميته، وتبطنه طبقات من الطحلب الزلق اللزج، قذر في مرآه نتن في رائحته، والمكان ساكن موحش رهيب.

عدت إلى كامبالا وفي نفسي حسرة؛ لأني كنت أخالني أستطيع أن أرتقيه فأشرف على سمليكي في هوَّته السحيقة، لكن وابل المطر ووعورة المرتقى وكثيف الغاب كل ذلك حال دون تحقيق ما هَوِيتُ، على أن ما رأيتُه يعوِّض ما كلفتني تلك الجولة الفرعية من عناء ومال هو عشرون جنيهًا أو يزيد.

figure
شوارع جنجا تنحدر كلها إلى بحيرة فكتوريا.
figure
تحت شجرة موتيزا حيث كانت تقدَّم الضحايا البشرية في جنجا.
إلى جنجا منفذ النيل: أخذ القطار يعلو بنا تدريجًا وهو يتلوى لياته العجيبة وسط أقاليم مموجة تكسوها الخضرة الكثيفة، وبين آونة وأخرى كانت تبدو فجوات زُرعت من الموز تمتد متسعاته إلى الأفق كأنه الغابات، وقد كان علو شجره يفوق أربعة أمتار وفي وسطها تقوم أكواخ قليلة للأهلين، وقد يزرعون بجوارهم بعض الذرة والبطاطا، وفي بعض الجهات قصب السكر، ومررنا بأحد مصانعه الكبيرة على أن القصب هناك من نوع قصير العقد صغير الأعواد، وكانت تنكشف بعض النقائع ومسايل المياه وكلها تكاد تختنق بالنبت والبردي في «شواشيه» الأنيقة، وكانت المحاطُّ متباعدة جدًّا لندرة السكان هناك. وكان القطار يحمل وقوده من أرمات الخشب المكدسة في المحاط، وقبيل جنجا فاجأَنا منظر البحيرة في لونها الفضي وامتدادها العظيم، وسرعان ما انعطف القطار فبدا النيل وهو يتلوى في مخرجه من البحيرة وكأنه طيات من الفضة يخرج من قمع متلألئ هو خليج نابليون، وقبل أن يستقيم رأيته يهوى درجة هي شلال ريبون مفتاح النيل وتتوسط تلك الدرجة صخرتان متباعدتان ينساب الماء خلالهما في ثلاث فتحات أكبرها اليمنى، وتلك الصخور بدت على بُعد كأنها شعاب الزمرد الأخضر، ولما دانيتها بعد حلولي المدينة كانت صخورًا سوداء من الديوريت الناري القديم تكسوها الأعشاب الطويلة والشجيرات، وأمام ذاك المسقط الذي يهوي بالنيل كله أربعة أمتار تكثر الشعاب الصخرية المنثورة في غير نظام يتمايل الماء حولها، وينزل عدة مساقط صغيرة هنا انثنى القطار وعبر النهر بقنطرة نحيلة، يبدو مشهد الشلال والجنادل والصخور من فوقها رائعًا، وما كدت أحل غرفتي من نُزُل أبيس Ibis الأنيق الصغير حتى تمثل أمامي منظر الشلال والنيل فأسرعت إليه سيرًا على الأقدام مسيرة ربع ساعة، وهناك تجلت العظمة وتوالت الذكريات، نزلت إلى حافة الشلال فلم يسعني إلا أن أجلس معظم الوقت أنظر إلى مهوى الماء السحيق وأستمع لدويِّه الرهيب يظلني رذاذه ويطربني هزيمه. كان يتجلى ماء فكتوريا عند شفا المسقط أملس ناعمًا في وسطه مضطربًا يعلوه الزبد في جوانبه، وبين آونة وأخرى نرى السمك يحاول مغالبة الماء بقفزاته العدة عساه يتخطى الشلال سابحًا في الهواء إلى البحيرة، لكن أنَّى له ذلك ودفعُ الماء شديد ومستواه بعيد وكأنه كان يتخذ هذا العمل ملهًى له ومستراضًا، وكان الطير يحطُّ فوق البحيرة، ثم لا يلبث يطير جماعات يتخذ كل فريق شكلًا هندسيًّا هو إلى المخروط أو الوتد أقرب ويحوم حولنا، ثم يعود فيهوي إلى الماء، هنا سرح الخيال في النيل ومصر، وما كانت عليه إبان عظمتها، وما تعاقب عليها من حوادث وعبر، والنيل باقٍ على هذا النحو طوال الأعمار، وكنت أشعر بآيات إخلاصي تتجسم خارجة من القلب لتسابق الماء إلى الوطن العزيز، منظر جدير بالتقديس، ولا يزال إلى اليوم يقدسه بعض قبائل الكنغو، يفدون إلى ريبون ويقدمون للنيل القرابين والضحايا ليسترضوا إله المياه الجارية.
figure
على حافة شلال ريبون منفذ النيل المبارك.

وعلى جانب من الشلال مولِّد للكهرباء يسخِّر بعض مائه المندفع وتلك تستخدم في رفع المياه للمدينة كلها، لكنه لم يستغل في الإضاءة لندرة السكان وشح الاستهلاك في جنجا، والمدينة نفسها متسع من الربى يشرف منحدرًا إلى خليج نابليون تكسوه الخضرة النضرة والشجر الوفير، وبيوتها فلات حديثة بديعة تنتثر مبعثرة في مساحات شاسعة وتشقها الطرق المتلوية والمتاجر تصف على طريقين متقاطعين هما أكبر طرق المدينة، وعلى الشاطئ أقيم مرسًى للسفن كان يغص بالنقل والتجارة قبل اتصال جنجا بكامبالا بسكة الحديد، لكنه اليوم فتر تجاريًّا وخمل، وكان أخص ما ينقل إليه القطن أهم نبات أوغندا، وتُعنَى به إنجلترا هناك عناية خاصة فتعرض نماذجه في محطة سكة الحديد، ويزرع حول بحيرة كيوجا في الأراضي ذات التربة السوداء، وموسمه الشتاء، وقد كانت تقلُّه بواخر البحيرة إلى ناماسجالي، ومنها بسكة الحديد إلى جنجا، ومِن ثَمَّ في فكتوريا إلى كيسومو، ثم بسكة الحديد إلى ممباسا، أما اليوم فتقلُّه سكة الحديد من شرق كيوجا إلى ممباسا مباشرة (وقد بلغت المساحة المزروعة في أوغندا ٦٠٠ ألف فدان).

figure
شلال ريبون، وترى فكتوريا إلى اليسار والنيل إلى اليمين.

وقد اتخذ الإنجليز من الأراضي الممدودة متسعات للرياضة على اختلاف صنوفها، شأنهم في جميع بلدانهم، وعلى منحدرات المدينة المؤدية إلى البحيرة كثيرًا ما تخرج مردة التماسيح وعمالقة أفراس الماء وتشاطر الناس ذاك المستراض الجميل، على أنها كثيرًا ما تلتهم عاثري الحظ من الأهلين وهم يغتسلون أو يغسلون متاعهم، حتى قيل إن التمساح يقتل من سكان أفريقية أكثر مما يقتله أي وحش آخر.

figure
النيل وجنادله بعد خروجه من فكتوريا.

وفي ناحية من المدينة شجرة قديمة كان الطاغية «موتيزا» يجلس تحتها ويأمر بالذبائح البشرية التي طالما خضبت دماؤها تلك البقعة على مشهد منه، وهي اليوم وسط ملعب للتنس يجتمع اللاعبون حولها مرحين كأنهم يتحدَّوْن ذاك الوحش ويتناولون الشاي تحتها.

figure
نستقل الباخرة جرانت من ناماسجالي عبر بحيرة كيوجا.
إلى بحيرة كيوجا: غادرت جنجا بسحر مناظرها نهارًا ووحشتها الفائقة ليلًا إلى ناماسجالي ولبث القطار زهاء أربع ساعات يشق طريقه في صعود وهبوط ويسلك مطاوي عجيبة وأجواف غابات مهملة لم تطرقها يد إنسان، فالإقليم موحش لم نكد نرى به من الأهلين أحدًا ولم يقف القطار في كل ذلك إلا أربع وقفات بجوارها جمهرة من الأكواخ حولها مساحة من الموز والبطاطا يعيش عليها قوم هم أشد سوادًا ممن رأيناهم من قبل، وتربة الأراضي حمراء ناعمة يطير هباؤها فيخضب كل شيء.
figure
نرسو على بورت ماسندي لنستقل السيارات إلى بحيرة ألبرت.
وناماسجالي: قرية لا تكاد تزيد حوانيتها على عشرة كلها في أيدي الهنود ولها ميناء صغيرة على بحيرة كيوجا في مكان من البحيرة اتساعه ثلاثة أضعاف اتساع النيل عندنا، هنا حللنا باخرة صغيرة كأنها منشور رباعي طويل يتقدمها «صندلان» متلاصقان في حجم كبير عليهما البضائع ومسافرو الدرجة الثالثة ودهشت لما رأيت الباخرة تدفع هذين أمامها كل رحلتها، قمنا نشق عباب كيوجا ذاك البحر الذي يبدو ماؤه أملس مخضرًّا لا حراك به قط، تحفُّ جوانبه الحلفاء والبردي والغاب بمقادير كبيرة، وأخذت البحيرة تنبسط فتنأى شواطئها تارة، وتضيق وتتقارب أخرى، وكل شواطئها مناقع ضحلة، وكان جو يومنا أميَلَ الى الحرارة رغم ما أصابنا من مطر على أن الليل فوق أديم البحيرة بارد جميل.
figure
يستعرض زوجاته التسع راقصات، أوغندا.
figure
الطريق بين ماسندي وألبرت، وترى شجر واتل تحته شجيرات البن.
وفي اليوم التالي أصبحنا والمطر وابل ومستبحرات المياه مشعبة في كل جانب، وأعشاب البردي والبشنين تظهر في جزائر سابحة في حجم كبير، وكثير من تلك الكتل من خليع النبت كان يعترض سير السفينة فيُنتشَل بالروافع ويُرمَى إلى الجانب، والسفينة مستعدة لذلك مزودة بالروافع الثقيلة فوق «صنادلها»، وفي باكورة الصباح كانت أسراب التماسيح تمرح وسط الماء في بقع سوداء على مقربة من الضفاف، وكانت المنطقة الواقعة إلى يميننا تدخل في نطاق مرض النوم، ذاك الذي يُعدُّ أخطر الأمراض في أوغندا وجنوب السودان، والمناظر من حولنا أضحت سهولًا لا أثر للجبال فيها، وكان النيل يختنق أحيانًا إلى نصف سعته في مصر وباخرتنا Grant كانت تترك عند مفارق الماء زورقًا بخاريًّا «رفاصًا» ليذهب إلى المِيَن الصغيرة الواقعة على شعاب بحيرتي «كيوجاوكوانيا»، وتلك الشعاب تبدو على الخريطة لكثرتها وكأنها العنكبوت، ثم تعود خفاف البواخر هذه لتلاقي باخرتنا عند عودتها، وفي وسط ذاك المتسع اللانهائي من البردي ظهر مرسًى صغير هو:
ثغر ماسندي: حوله بضعة مساكن خالية من الأهلين، هنا أقلتنا سيارة المصلحة وسارت بنا ساعة ونصفًا في طريق شق وسط البردي أولًا، ثم وسط متسعات مبسوطة يزرعها القوم وخاصة من السيسال تليها غابات وأحراش برية لم تمسسها يد الإنسان إلا في فجوات صغيرة بها الموز والتابيوكا حيث كنا نبصر بكوخ أو اثنين فقط، ولما قاربنا مدينة ماسندي بدت الرُّبَى، وكنا نرى الغابات يحكي نباتها المتسلق الكُرُوم تغطي الأرض كلها بأعراشها، والطيور فيها لا حصر لها، وكان الطريق نفسه يغص بدجاج غانا ودجاج الوادي البديع الذي يأكله القوم كثيرًا، أما الجو فكان ماطرًا باردًا أحوجني إلى ارتداء المعطف الثقيل. دخلنا مدينة ماسندي عاصمة «بانيورو» من أقسام أوغندا فشابهت كامبالا في مناظرها المغضنة وفيرة النبت إلا أنها أصغر، وحللنا النزل التابع لمصلحة سكة الحديد وهو آية في الجمال، والنساء هنا يلبسن ملاءات ملونة خفيفة تلف حول الجسد من فوق الثديين إلى القدمين، ويَعنِينَ بشعرهن الذي يُجدل على قِصَرِه الشديد في فتائل رفيعة لكل ذؤابة لا تزيد على سنتيمترين ويَسِرْنَ حفاةً سافرات شأن جميع نساء أفريقية الشرقية، وغالب الرجال يلبسون الجلباب من القطن على نحو ما نراه في مصر، وهم هنا خاضعون لحكومات قوية من زعمائهم الذين تمهرهم الحكومة الإنجليزية رواتب مقابل قبضهم على ناصية الأمور، وهي لا تتدخل تدخلًا مباشرًا في شئونهم، ولولا ذلك لما استطاعت الحكومة إخضاعهم أو الإحاطة بهم، وتلك الخطة متبعة بشكل أكثر إحكامًا في أوغندا منها في غيرها، وتتخذها إنجلترا نموذجًا لحكم طوائف الشمال المتبربرة وتنتوي نشرها في كنيا، وهؤلاء الزعماء يعيشون عيشة بذخ إفرنجية ويلبسون وزوجاتهم أردية أوروبية، ولهم برلمان في مقاطعة منجو شمال شرق كامبالا للمداولة في شئونهم، ولا تزال غالب الأعمال في يد الهنود وبخاصة المسلمين منهم، على أن جل حركة التوفير على أثر الأزمة الحالية منصبَّة عليهم، وكبار الإنجليز يعترفون بأن توظيف الهنود كان خطأ كبيرًا في السياسة منذ البداءة، ويحاولون إحلال السود أو الأخلاط ممن هم غير الهنود مكانهم، والتعليم تقوم به البعثات الدينية تعاونها الحكومة. أمضينا في ماسندي يومًا وفي الغداة قمنا بالسيارة إلى:
بيوتيابا: فوصلناها في ساعتين (٤٥ ميلًا) خلال أرضٍ مموَّجة عليها غابات عذراء تكسو أشجارها الطفيليات وتتخللها المسايل، وفي الوهاد كانت تبدو الغابات مغلقة تمامًا، والطريق شق في تربة حمراء يزيد سمكها على مترين، وليس به من الأهلين أحد اللهم إلا جمهرة قليلة من السود، كنا نجوز أكواخهم كل بضعة أميال ينشرون أمامها «الماهوجا» بعد تقشيرها، ثم يدقونها دقيقًا في أهوان من الخشب، وكان بعضهم يمزج هشيمه بفتات الذرة، إلى ذلك بعض الموز والسمسم والبطاطا.
figure
رقصة الفتيان في أوغندا.
figure
رقصة الحرب في أوغندا.

وفي فترات متباعدة كانت تظهر قرية صغيرة جدًّا، وعجبت أن كان الهنود هم أصحاب الحوانيت فيها، وبعد منتصف الطريق كنا نمر بمزارع النزلاء البيض وبخاصة الإنجليز في مساحات أقاموا وسطها بيتهم الأنيق، وقاموا يستأصلون النبات البري ويزرعون البن في شجيراته القصيرة وصفوفه المنسقة ووسقه الكثير، ولكي يتقوا وهج الشمس عنوا بالغابات وبَوَاسِقِ الشجر لتحمي شجيرات البن من دونها، وكم كان عجبي شديدًا لإقدام هؤلاء على عمل شاقٍّ وحياة موحشة لا ترى حولهم من مؤنس قط، لكنها الرجولة والخلق الرصين يروض النفس ويستمد النشاط والسرور من كل شيء، وحول كل مزرعة نفر من الأهلين يقومون على خدمة الأرض، وكنا نراهم نساء ورجالًا يقطعون العشب البري، ثم يتركونه مكانه حتى يجف، ثم يحرق حيث هو فينقي الأرض ويسمدها وكلهم يُدخِّن في غلايين خشبية طويلة حتى الفتيات.

figure
رقصة الفتيات في أوغندا.

وما حللنا الثلث الأخير من الطريق حتى أخذنا في الهبوط، ثم عند الميل السادس من بيوتيابا داهمنا مشهد الأخدود الألبرتي الرائع تتوسطه البحيرة في هوة بُعدها ألفا قدم بلونها الفضي تحفُّها سهول مبسوطة إلى مدًى شاسع تؤدي إلى تلال تعلو في نجاد وسلاسل لا نهائية (وذرع البحيرة ١٠٠ × ٢٥ ميلًا) منظر ساحر حقًّا، يكاد يقارب مشهد الأخدود الأعظم، وهذا الجزء من الطريق يعد من أجمل طرق الدنيا لتنوع مناظره وكثافة غاباته وتعدد فصائل شجره نخص منه النخيل وشجر الصمغ الأزرق والعنب البري المتسلق والسرخس عريض الورق الذي منه تكوَّن الفحم في العصور البائدة. أما القردة والفيلة فحدِّث عن كثرتها.

figure
فتيات عِلْية القوم في أوغندا.

هَوَيْنا إلى تلك السهول التي اسودَّت تربتها بما خلَّفته البحيرة عليها من رواسبها، ثم جزنا مجموعة من أكواخ وحوانيت ومبانٍ حكومية، وتلك كلها مدينة بيوتيابا، ولها ميناء صغيرة لا بأس بحركتها التجارية؛ فهي حلقة اتصال بين بلاد أوغندا إلى اليمين والكنغو إلى اليسار، وكانت جبال الكنغو تظهر فاترة وراءنا ونحن نرسو على بيوتيابا، وقيل لنا ذاك جبل «لولوجا» وهو جزء من خط تقسم المياه بين الكنغو وألبرت، قمنا نشق عباب ألبرت ولبثنا نرى الشاطئين على بُعد؛ لأننا سلكنا سبيلنا إلى الجزء الشمالي من البحيرة، وهو يأخذ في الاختناق حتى يصبح بحر الجبل المتسع عقب تقابل نيل فكتوريا بالبحيرة مباشرة، وعلى تلك الجبال تقع مدينة محاجي من بلاد الكنغو ولها ثغرها الصغير الذي مررنا به — والبحيرة تعلو سطح البحر بنحو ٢٠١٨ قدمًا، على أنها أحطُّ من فكتوريا بنحو ١٧٠٨ أقدام، ماؤها أشد زرقة وطعمه أكثر تغيرًا من ماء فكتوريا؛ مما يدل على زيادة عمقها وأملاحها.

ولبثنا نسير صوب النيل وقد لزمت الباخرة الجانب الأيسر للبحيرة؛ لأنه أبعد غورًا بسبب قربه من الجبال، أما الجانب الأيمن فوطيء تمتد وراءه السهول، أخيرًا مررنا بعدة جزائر يغطيها العشب خصوصًا البردي والبوص والبشنين الذي طالما كنا نلاقي كتلًا منه طافية، ثم دخلنا مأزقًا هو أضيق من نصف نيل مصر وهنا أول نيل بحر الجبل، وكانت السهول الممدودة إلى يميننا جزءًا من «حرم الحيوان» لذلك رأينا بين الأشجار المتفرقة جموعًا من الفيلة أكثر الحيوان ظهورًا هنا فكان يبدو في قطعان ولم نرَها على الجانب الآخر قط؛ لأنه خارج عن الحرم فكأنها أنِسَتْ في حرمها أمنًا، وهذه المنطقة من أوغندا وما يليها شمالًا إلى جنوب السودان وغربًا إلى الكنغو خير مناطق الفيلة في الدنيا.

figure
الطبيب الساحر وهو ذو نفوذ يسود أذهان الناس في أوغندا.
والفيل: لا يكاد يوجد جنوب الزمبيزي، وقد أسرف الكثير في قتله حتى قُدِّر ما يُقتل سنويًّا في الكنغو البلجيكية بستين ألفًا في السنة، ويقدر عدد الفيلة في أوغندا بنحو سبعة عشر ألفًا وفي تانجانيقا ٣٦ ألفًا، والفيل يسير في جماعات أقلها بين ١٠ و٤٠، وقد يبلغ القطيع مائتين، والفيل الأفريقي يغاير الأسيوي في آذانه بالغة الحجم فهو إذا بسط أذنيه ساعة الهجوم كان طولها من أقصاها لأقصاها خمس ياردات، كذلك فهو يغاير الأسيوي في جمجمته فمخه أوطأ في دماغه، وهناك فجوة في رأس الفيل الهندي رخوة تسبب موته سريعًا، وهذه لا تكاد توجد في الأفريقي، والفيل من أحدِّ الحيوان شمًّا وأرهفه سمعًا فهو يشتمُّ رائحة الإنسان على بعد نصف كيلومتر ولا يُعادِله حيوان آخر في ذلك، والعادة أنه يرفع خرطومه في الهواء ليشتمَّ رائحة عدوِّه، على أن بصره ضعيف لا يرى على بعد ٥٠ ياردة حتى ولو كان الجسم على وضح الأفق، ويعمر طويلًا؛ إذ يزيد عمره على ١٢٠ سنة، وفي الكنغو نوع من أقزام الفيلة لا يزيد علوه على أقدام، ولا يزيد وزن نابه على سبعة أرطال للذكور ورطلين للإناث، ولقد أسرف الأوروبيون الأوائل في قتل الفيل فاختفى من مناطق كثيرة هناك، لكن البلجيكيين اليوم فطنوا لذكاء الفيل وهم يسخِّرونه في الزراعة، فالزوج من الفيلة يجر أربعة أطنان بسرعة ١٥ ميلًا في اليوم، ويحرث فدانًا في نصف اليوم، ويمتاز على سائر الحيوان في أنه غير قابل لعدوى الأمراض، وأنه يتكفل بغذائه وحده فلا يكلف صاحبه شيئًا.
figure
شارع رئيسي في بيوتيابا على ألبرت.
figure
بعض أبناء بيوتيابا على ألبرت نيانزا.
figure
تسير الفيلة في قطعان يتقدمها دليل.
وفي كثير من جهات أوغندا كثرت الفيلة لدرجة مضرَّة؛ لذلك توفد الحكومة بعثات لقتلها ومطاردتها إلى المجاهل، وحدث مرة أن طارد صيادٌ قطيعًا وضرب رصاصة في فيل منه فصاح وسقط إلى منحدر، ولشدة الضجة اضطرب القطيع فأخذ الفيل الهاوي يصدم فيلًا آخر فيقع حتى وجد جمع من الفيلة أسفل الهوة وقد هشمت عظامها تهشيمًا، والفيل إذا رأى عدوه أعطى إخوانه إشارة ليستعدوا، وإذا قصد المهاجمة رفع خرطومه وآذانه وحدق في العدو، ثم عدا نحوه، وهناك طيرٌ يلازمه ويحط على ظهره اسمه Egret وكثيرًا ما يدل على الفيل إذا رُئي الطير يحوم فوق العشب في جماعات، ويظهر أن الطير يتبع الذباب الذي يعف على ظهر الفيلة ويضايقها جدًّا؛ ولذلك ترى الفيل يظل يحمل العشب بخرطومه ويلقيه على ظهره ليطرد هذا الذباب، والعادة أن الفيل إذا أصيب ومات بعيدًا، فإنه يعد ملكًا لمن صاده وبعد أسبوع يصبح ثلثه ملكًا لمن يعثر عليه والثلثان للحكومة.
العاج: والفيل الذي يقطن الجهات الجافة التي يقل فيها الغذاء تكون أنيابه قاسية على أن أجود العاج ما كان لينًا، وهذا يكثر في الجهات وفيرة المياه حيث تطول الأنياب ويجود نوعها، ويندر اليوم أن نعثر على فيلة ذات أنياب كبيرة، ونحن إذا قسمنا أفريقية من وسطها تمامًا بخط رأسي كان العاج في غرب هذا الخط أشد صلابة منه في شرقه؛ لذلك كان أجود العاج في الشرق، وأسنان الأنثى أصغر وأخف وزنًا فسن الأنثى يبدأ من ١٥ رطلًا والذكر من ٤٠ رطلًا ويزيد، وأثقل سن عثرنا عليه يحفظ اليوم في متحف كنزنجتون بلندن وزنه رطلًا، والفيل الكبير قد يصل علوه إلى كتفيه ١٢ قدمًا وقد يزن ستة أطنان، وأكبر الفيلة أسنانًا اليوم في أوغندا وفي أعالي النيل والكنغو البلجيكية، وقلما يزيد سن الفيل في السودان والحبشة على ٤٠ رطلًا، وأكبر الفيلة أسنانًا لا تسير في جماعات بل فرادى، وكثير من العاج المصدَّر من أفريقية مأخوذ من هياكل الفيلة التي يعثر عليها القوم ميتة في الغابات، وأعلى ثمن عرف لرطل العاج الجيد جنيه ونصف، ومن هذا تصنع كرات «البلياردو».
figure
أفراس الماء في منطقة السدود.

والنيل من هنا إلى منطقة السدود شمالًا غاصٌّ «بأفراس الماء» التي كانت تنفر في الماء بكثرة مروعة، والتي كانت تصادم باخرتنا صدمات عنيفة، وفرس الماء غذاء محبوب للأهلين الذين يلتهمون لحمه نيئًا ومجففًا، وهو ثاني الحيوانات وزنًا بعد الفيل؛ يزن ثلاثة أطنان، وسُمْك جِلْده بوصتان وهو أصلح ما يكون لصناعة السياط (الكرابيج)، وكان لأسنانه قيمة كبيرة يوم كانت تتخذ منها الأسنان الصناعة، والأنياب السفلى يصل طولها ثلاثين بوصة خصوصًا إذا لم ينطبقا على الأنياب العليا، وأطول ناب عُرف ٥٥ بوصة وصيده خطر؛ لأنه حيوان مهاجِم مَهِيب، ويقول صيادوه إن خير مكان لقتله أن يضرب تحت العينين وخلف الأذن، ويغلب أن تصوب الرصاصة إلى الأنف الذي يطفو فوق الماء وهو سريع الغوص جدًّا، فإن أصيب غاصَ ولا يطفو إلا بعد ست ساعات من قتله.

figure
النيل قبيل نيمولي وبه الأعشاب الطافية.

ولعل أكثر بقاع الأرض بهذا الحيوان النيل من هنا إلى بحر الجبل شمالًا، والحيوان يظل في النهر نهارًا لا يُرى منه ظاهرًا سوى الآذان والعيون، وفي المساء يقصد البر ليأكل، ولا يعود للماء إلا فجر اليوم التالي، وهو يصعد مناطق العشب والسدود بسهولة ويتخذ له طرقًا ثابتة للخروج والعودة، والأهالي (خصوصًا الشلوك والنوير من سكان بحر الجبل) يصيدونه بحرابهم فيكمنون له عند الغروب على جوانب تلك المسالك وإذا قرب أرسلوا حرابهم ذوات الأسنان الجانبية، وهي تتصل بحبال طويلة فيسرع الحيوان بالعودة لكنهم يتعقبونه حتى يموت ويجرونه إلى الشاطئ، على أن بعض الأفراس تهاجم عدوها، وبفكها المُخيف قد تتناول زورقًا بمَن فيه وتغرقهم جميعًا، على أن ذاك الإنسان الهمجي لا يبالي بحياته قط، وإذا مات الحيوان جروه إلى الشاطئ، وسرعان ما يقطعونه ويشعلون النيران ويأكلون شواءه، وكثير منهم يلتهم اللحم نيئًا والباقي يقطعونه في شرائح تعلق على الأشجار المجاورة؛ بحيث لا يبقى من الحيوان إلا هيكله في أقل من ساعتين.

وكثير منهم يدفع الضرائب من أسنانه، ويظهر أن أفراس الماء كانت تمضي غالب وقتها في البر نهارًا وليلًا، لكن هجمات الإنسان لها اليوم ألجأتها إلى الماء طوال النهار، وساعده في غذائه وسط النهر كثرة الأعشاب الطافية خصوصًا كرنب الماء الذي يكثر في منطقة السدود، ويبدو كالزهر الأخضر الكبير يطفو على السطح وهو الذي يسد النهر؛ لذلك يظن أن طرد أفراس الماء إلى النهر يساعد على إنقاص تلك الزهور فتخف كثافة السدود. وكثيرًا ما كنا نسمع صوت أفراس الماء تنبعث من أعماق الماء دون أن نرى علامة تدل على موضع الحيوان حتى ولا فقاقيع الغاز التي تتخلل الماء ساعة تنفسه، ولحمه خشن لكن القوم قد امتدحوا لي طعمه. ويأكل بعضُ البِيضِ هناك لسانَه فقط.

figure
مرسى رينو كامب على نيل ألبرت.

اختنق النيل وأضحى كالقناة بعد مغادرتنا لبحيرة ألبرت ورسونا على «بكواش» من قرى الضفة اليسرى حيث انتقلنا إلى باخرة أصغر تستطيع مواصلة السير في مجرى النيل الضحل، وما كدنا نرسو عليها حتى هالني جماهير السود الذين وفدوا ليرَوا البواخرَ ونزلاءَها، وما كان أشد دهشتي حين رأيت الكثير منهم عرايا تمامًا نساءً ورجالًا وأطفالًا! تضع المرأة حول خصرها عِقْدًا من خرز تتصل به ذؤابة من ورق الموز أو جدائل من سلوك الحديد أو الخرز أو حزمة نحيلة من العشب، لا تكاد تستر العورة، ومن خلاف يتدلى شريط أو «زر» من فتائل رفيع طويل يتحرك ذهابًا وجيئة كلما تحركت هي في شكل يبدو على بُعد وكأنه الغورلا أو القرد الكبير بذَنَبِه المتدلِّي، وألوانُهم جميعًا فاحمة برَّاقة، والناس يختلطون هكذا في غير حياء كأنهم البهم على فطرتهم الأولى، جنَّ الليل وسادت الوحشة وإذا بسحائب البعوض وصغار الهوامِّ الطائرة تخيم حولنا حتى كادت تعشى الأبصار لكثرتها؛ إذ كانت تخترق كل شيء رغم أن الأبواب والنوافذ تكسوها شباك السلك لمنعها؛ لذلك اضطررنا أن نطفئ المصابيح كلها، وبعد العشاء مباشرة آويت إلى مضجعي وحول الثالثة صباحًا أيقظني قصفٌ للرَّعْد مخيف وهزيمٌ للعاصفة مرعب فقمت مذعورًا، وإذا بشدة الرياح تكاد تلقي بالسفينة إلى البر، وسيول المطر كانت تترى في غزارة غير مألوفة، ولقد دفعت العاصفة ماء النهر إلى البحيرة فهبط مستواه أكثر من قدم، وخشي الربان إن استمر ذلك أن تدرك السفينة الأوحال فيتعذر المسير، وفي الثامنة صباحًا مررنا بمرسى:

موتير: في مكان مختنق من النهر تحفه من الجانبين ربوتان صخريتان؛ ولذلك اختار المهندسون المكان لإقامة سد ألبرت المنتظر، على أني أخال الماء إذا ما علا خلفه بين سبعة أمتار وتسعة كما هو مزمع يغرق من البلاد المجانبة لضفتي النهر وللبحيرة نفسها مساحات شاسعة كانت تبدو وطيئة من حولنا، على أن التعويضات لن تكون كبيرة؛ لأن الإقليم مهمل لا يكاد يطرقه إنسان.
figure
جميلات من قبائل نوبة على نيل ألبرت.

ولقد اتخذ أمين باشا موتير هذه معسكرًا له، وأقام حصنه بها، ولا تزال ترى أنقاضه على بُعد، ومنه كان يُشرف على الإقليم كله من قِبَل خديوي مصر؛ لذلك أثار المكان في نفسي ذكريات جعلت له قيمة كبيرة عندي رغم أنك لا ترى اليوم إلا مرسًى صغيرًا وراءه استراحة واحدة ليس غير، وقد هداني بعض القوم إلى مكان هناك تدفن فيه بعض جثث الجنود المصرية التي كانت مع أمين باشا.

figure
على ضفاف النيل الأعلى في رينو كامب.

وحول تلك المنطقة قوم ينتحلون اسم «النوبة» يظن أنهم من سلائل الجنود السودانيين الذين حلوا مع أمين باشا وتوطنوا الإقليم بعده، وغالبهم مسلمون إلى اليوم، وهم يعدون أنفسهم أكبر شأنًا من سائر القبائل يتكبرون ويفاخرون عليهم، وتتخذ منهم حكومة أوغندا أجنادًا أشداء، وأجمل ما استرعى نظري رداء نسائهم يتخذ من جلد المعزى وبعد صقله يقطعون الجلد خيوطًا طويلة «شرابة» ويعملون منه نطاقًا يربط حول الخصر فتتدلى أهدابه النحيلة الطويلة وتسترهن إلى نصف الفخذين فتُكسِبهن جمالًا وجاذبية خصوصًا وهي تهتز مع أعجازهن إذا ما سرن يتهادين، وأجسادهن جميلة وإن أعوز الوجوه الجمال لكثرة ما يعلوها من تخطيط يميز كل قبيلة عن الأخرى، وقد كانت هذه العلامات في الأصل تطبع على وجوههم علامة الرق، والنساء هناك مُجِدَّات خصوصًا في إتقان السلال والخوص والأصباغ التي يتخذونها من قشور الشجر وعصاراته وهن مَهَرة في القتال كالرجال تمامًا.

figure
على نيل ألبرت، رينو كامب.

أما النيل نفسه هناك فيُرى عادي الاتساع إذ يقل عن سعة نيل مصر، لكنه في الواقع عظيم الاتساع؛ لأن أكثر من ثلثيه يغطيه نبات الماء خصوصًا الغاب والبردي فيبدو كأنه جزء من الشاطئ، لكن كثيرًا ما كنا نرى كتلًا كبيرة منه طافية يحاول الربان تجنبها خشية أن تمسك بهدارات الباخرة فتحطمها، وأكثر ما يرى ذلك العشب عند المنحنيات في جانبها المحدب غير المواجه للتيار، على أنه لا يكاد يخلو منه مكان، وجزائره المنفصلة لا تُحصى، بعضها بالغ الامتداد، يتشعب النيل عندها شعبتين أو ثلاثًا، أما أفراس الماء والتماسيح وطيور الماء فلا تدخل تحت حصر، ولا تزال الفيلة تُرى بكثرة في حرمها إلى يميننا، هذا إلى التياتل والقردة على الجانبين، وماء النهر أملس هادئ عديم التيار، على أن لونه عكر.

figure
عرايا نيل ألبرت يصيدون السمك بحرابهم.

وصلنا مرسى «رينو كامب» وكان عرايا القوم يتطلعون إلى السفينة في تزاحم، وكان يومنا يوم السوق لديهم؛ لذلك اجتمعوا تحت شجرة كبيرة قرب المرسى، وكانت السلع المعروضة بعض أنواع الحبوب كالسمسم والذرة وسعف النخيل والسمك الطازج والمجفف، وكنت إخال رينو كامب غاصة بالخرتيت؛ لأن معنى اسمها «معسكر الخرتيت» على أني علمت أنها كانت محطَّ رِحَال جماعة الصيادين الذين كانوا ولا يزالون يخرجون للصيد في جماعات (سفاري بلغتهم) وأخص الحيوان هناك الخرتيت الذي أصبح نادر الوجود لدرجة أنه كاد ينقرض، حتى إن الحكومة تحرم صيده اليوم بتاتًا، «والخرتيت»: يقطن حيث يوجد الفيل خصوصًا على ضفاف النيل الأعلى، وهو يلجأ اليوم إلى سكنى الشجيرات ويهجر السهول، وقرنه عظيم القيمة خصوصًا لدى الصينيين الذين يتخذون منه مقويات لأعضاء التناسل، وتعمل منه آنية لشرب الماء، والناس يعتقدون أن أي شراب مسموم إذا وضع في كوب منه تصدع وانفلق، وحاسة الشم عند الحيوان قوية، أما السمع والبصر فضعيفان حتى إنك لو وقفت ساكنًا ومر بجانبك لم يحس وجودك، وقرنه الأمامي أطول من الخلفي، وطول الأول ٤٣ بوصة والثاني ٢١، والحيوان يزن ثلاثة أطنان، وجلده سميك جدًّا لا يكاد يخترقه إلا الرصاص المصمت الثقيل، وهناك نوع اسمه «الخرتيت الأبيض» أكبر جثة وأطول قرونًا، ولونه كلون أخيه، ولا يمتاز عن العادي في اللون، بل بالفم المربع وبنتوء من العظم فوق الجمجمة يمنعه أن يرى ما يقع أمامه إن كان الرأس أفقيًّا، وهو أندر حيوان ثديي في الوجود، ويظن أن ما يوجد في أوغندا كلها لا يجاوز ١٣٠، والخرتيت حيوان مهاجِم خطير قوي، حدث مرة أن مهرِّبي العبيد كانوا يسوقون إلى الساحل واحدًا وعشرين عبدًا توثق رقابهم إلى سلسلة واحدة كما كانت العادة فهاجمهم خرتيت ضرب العبد الأوسط ومن قوة الصدمة قطعت السلسلة رءوس العبيد جميعًا وفصلت من جثثها.

figure
الخرتيت من أندر الحيوان وجودًا وأخطرها صيدًا.

غادرنا «رينو كامب» نشق طريقنا وسط النهر الضيق الذي لا يزيد على سعة قناة في عرضه، وكان يساعدنا تياره الضئيل وهو هنا بين ميلين وثلاثة في الساعة، وكانت تبدو إلى يميننا سلسلة من جبال وطيئة، وكان عهدي بالنهر الاتساع العظيم والتيار الضئيل لكن ألفَيْته على خلاف ما أعرف على أن جوانبه يكسوها العشب إلى سفوح التلال المحيطة بالوادي فلعل هذا داخل ضمن مجري النهر وإن أخفاه ذاك العشب، وعلمت أن الإنسان يتعذر عليه السير فوقه لكن الفيلة تَجِد السير عليه سهلًا لضخامة أرجلها التي لا تغوص بين فتحاته. وأنت إذا دانيته خيل إليك أنها أرض منزرعة مع أنه نبت كثيف يطفو في تماسك شديد وجذور ملتفة، وكان النهر أحيانًا يتشعب فنرى خلف العشب مستبحرات شاسعة، وطالما وقفت الباخرة وأرسلت زورقًا إلى ناحية من ذاك العشب لتقل بعض المسافرين من الأهلين.

وفي المحاطِّ التي وقفنا بها كان بعض الإنجليز يفدون ليتناولوا بعض الشراب والطعام من الباخرة التي لا تزورهم إلا مرة كل أسبوعين؛ لذلك لا يصلهم البريد إلا كلما مرت بهم، وهم يضبطون ساعاتهم على الشمس؛ إذ لا صلة لهم بالعالم الخارجي؛ ولهذا كنا نجد فرقًا قد يزيد على نصف الساعة بين زمننا وزمنهم؛ وكلما سألناهم عن مبلغ اغتباطهم بتلك العزلة أبدوا استمتاعهم الكامل وسرورهم لما هم فيه، فأعود أُكبِر فيهم تلك الهمة العالية، والحق إن الإنجليزي لقديرٌ على خَلْق السرور والاستمتاع في كل مقام سهل أو صعب، وهنا تبدو التضحية للواجب والإخلاص في خدمة الأوطان.

figure
مرسى نيمولي حيث ركبنا السيارات خمس ساعات إلى جوبا.
بتنا ليلتنا في محطة اسمها لاروبي ومنها قمنا إلى نيمولي، وهنا بدت الجبال المعقدة، وأخذ النهر يتلوى رغم اتساعه، وإلى يسارنا مررنا ببقايا حصن لأمين باشا في دوفيلي Dufile وأخذ النخيل الذي يسمونه براس بام brasspalm ينتشر بكثرة هائلة بورقه المروحي، وحيث يوجد تكثر الفيلة؛ لأنها تأكل ثمره الأصفر الكبير، ويقال إن الفيلة هي التي تنشر النوى وهي تلقيه على طول السواحل، ولذلك يؤم صيادو الفيلة البقاع التي يكثر فيها هذا النخيل، وقبل الظهر ظهرت نيمولي، واسمها أكبر منها؛ لأني كنت أخالها مدينة فإذا هي مرسًى صغير لا يجانبه شيء سوى مظلة من حديد، وقد كان لها شأن يذكر من قبل لكنها اضمحلت اليوم كثيرًا، وهي وما يليها شمالًا من ضفة النيل الغربية كانت تابعة لأوغندا، أما الساحل المقابل لها فكان تابعًا للسودان من نيمولي جنوبًا إلى مخرج النيل من ألبرت فتبودلت المناطق سنة ١٩١٣ وجعل خط الحدود أفقيًّا يتبع الجبل المجانب لنيمولي من الجنوب مباشرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤