السيجار

ربما للمرَّة النادِرة الثالثة أو الرابعة في حياتي، حدَث ذلك الشيء الذي كثيرًا ما يَحلُم به أيُّ راكبٍ اعتاد ركوب الطائرة وحيدًا، حتى أصبحَت مسألة مَن يكون جارُه، وكيف يكون، أهمَّ ما يخطر بباله قبل وأثناء — وربَّما بعد — الركوب. بضربة حظٍّ مفاجئة، والمقاعد حولي وعبر الطائرة كثيرة وفارغة، وجاءت الحلوة الطويلة ذلك الطولَ السامق، الذي نفتقده في شرقيَّاتنا العَظيمات القصيرات، مُبتسمةً ابتسامةَ الْمُرحِّب بك، وبكل ما يمكن أن يدور بخَلَدِك، حمراءَ الشعر، حمراء النَّمش، حمراء البياض، والحُمرة درجاتٌ ودرجات، وبالدقَّة مرسومةً وموزَّعة، حمراء لحُمرتِها هالة، وكأنَّ آلهة الجمال تُسلِّط عليها من يومِ ولادتها كشافًا مسرحيًّا، متلوِّن الحمرة يتبعُها أنَّى تتوجَّه، ولها يصبح الظل والواجهة، والمسقط والبروفيل! جاءت وتلفَّتَت واختارت — دون المقاعد جميعِها — ذلك الْمُجاوِرَ لي واعتَلتْه، فعلى الفور أصبح الكرسيُّ عرشًا! وردًّا على ابتسامتها المرحِّبة، أطلقتُ تحيةً لها ألفَ ابتسامةِ ترحيب؛ ملكةٌ من بافاريا بكل إرادتها اختارَتْني لأكون شعبَها الوحيدَ المحظوظ، بل الظاهر أن صَمَّام الحظ، كان قد أفْلَت من قبضة النَّحْس تمامًا، وقبل أن تُقلِع الطائرةُ كانت قد طلبَت مني مطلبًا صعبًا جدًّا، ومِن فرط جَسامته يكاد يكون مستحيلًا؛ أن أتفضَّل وأتنازل وأسمح، وأكونَ دليلَها حين تصلُ إلى القاهرة، دليلَها إلى أوتيل لائق؛ فهذه أولُ مرة لها في الشرق، تَحلُم به منذ عاشت، والقاهرةُ بالذات كانت دائمًا مركزَ الحُلم؛ ولهذا فلم تُمضِ في بيروت إلا يومًا واحدًا، ومن فَرْط لَهْفتِها ذهبَت إلى المطار دون حجز! ومن حظِّها الحسن أنهم ارتضَوُا الوضع، وها هي الآن في الطائرة، وبعد أقلَّ من ساعتين ستكون في قلب المدينة الحلم!

صدِّقوني أو احسُدوني، أو تَزمَّتوا وتظاهَروا بالنفاق والورَع، ولكنها راحَت مرةً أخرى ترجوني أن تُرافِقَني — وليس أن أرافقها أنا — إلى حيث «أُضيع وقتي!» بعضَ الوقت كي أساعدها في إيجاد المكان المناسب، في الفندق المناسب، وبالسعر المناسب؛ فهي تَمقُت الهيلتون والشيراتون والأماكنَ الخاصة بالأغنياء؛ لأنهم عواجيز، أو العواجيزِ؛ لأنهم أغنياء، وتعبد الفنادقَ ذاتَ الطابع! حبَّذا لو كان لدينا فنادقُ في الهواء الطَّلْق، أو فيللات غُرَفها خِيام وفِناؤها الصحراء، وطعامها يُشوى في العَراء على النار، والنار يُقلِّبها بدويٌّ بلحيته السوداء، وشبابه الأسمر وعِقاله المدلَّى — إهمالًا أو أناقة — إلى جانب! حبذا لو يَشوي لها اللحمَ ومعها يلتهمه، في ليلةٍ تحت خيمة، ليلةٍ لا يَشهَدُها سِوى القمر.

حين رأيتُها قادمةً في الممر، ودون أن أدري، كنتُ من فرط طولها وهَيبة الأنوثة المكتمِلة في القَوام الكامل، قد أعطيتُها خمسة وثلاثين عامًا أو شيئًا من هذا القبيل، وحين اقتربَت بدا لي عمرها الحقيقي في حدود الثلاثين، وحين ابتسمَت وجلسَت وتحادَثْنا؛ بالذات حين بدأَت تُغمغِم حُلمَها اليَقِظ، وكشافاتُ حمرتها تزداد توهجًا، وكل نَمْشة في وجهها تكتظُّ انفعالًا، وتَصنع من مكانها وبسمتها إلى جارتها، وعلاقتها بالجارة الأخرى كلمة؛ سرٌّ جمالي خاص تَبوح به عن نفسها وتنكشِف، وعمرها يتَناقص، بحيث قَرَّب النهاية، ولولا أنها لا تصحُّ إلا لمن جاوزَت الطفولة، إلا لصبيَّةٍ تدرك وعن يقينٍ تَلمَس لماذا المرأة مطلوبة؟ لماذا يتقاتل عليها الرجال؟ لماذا تضنُّ بالحب؟ لأنها هي الحب — كلَّ الحب — حين تحب؟ لولا هذا لارتدَّتْ إلى العاشرة، وكلماتُها تتحَشْرَج بالحُلم وبالنِّهاية حلمًا. ما أجمَلَكن أيتها الغربياتُ في شيءٍ واحد، حين لا تجعَلْن ألسِنتَكن تنفرد وحدها بكل الحديث، حين نالت أجسادُكن معكن الحرية، وأصبح لها ومع العقل والقلبِ حقُّ التعبير؛ تحلمن، أو حتى تتكلَّمْن أحلامًا، فتَستَحِلْن جميعًا حُلمًا بالصدق، وليس بالتمثيل!

وما أبشعَكِ أيتها البافارية الألمانية، كأنك من قبيلة جنٍّ أحمر انحدَرْتِ! كنتِ تحلمين، وتقتربين مني تُريدينني مشاركةً لك في حُلمك. تحلمين ويزداد كشافك الأبديُّ احمرارًا، وبنفس حلمك، «النفس حلمك» يَنصِب — من حيث لا أدري — على ملامحي ذلك الاصفرارَ المتغامق الفضَّاح، فحُلمكِ تبنينَه كنتِ تُقوِّضين حلمًا لي مذ رأيتك، وبقاهرةٍ تضعينها في خيالكِ وصحراء، وباللحم البدوي، كنت تَقتُلين قاهرةً أجملَ أعرِفُها وأحفظ أركانها، وصحراءَ أروعُ ما فيها أنها ليست من رمال، وببدويِّك الأسمر ولحيته وشاربه كنت تَنزِعين عني — كما يفعل بعضُ مخرجينا بقساوةٍ — دَوري؛ دور البطل، فلا بدويٌّ أنا ولا لحيةَ لي، وبلون جلدي لا أَمُتُّ إلى الصحراء، أو حتى إلى محافظات بحري، عيناي مصيبتُهما السوداء أنهما ليسَتا سوداوَين كما بطَلُك، ذلك الذي لم أشعر نحوه بِذرَّة تفسير لحماسك هذا الفائر المتوحش.

وأيضًا كما يفعل ممثِّلونا والروايةُ تُقرأ، حيث لا أحد إلا الملقِّن يُصغي إلى الموضوع، وإنما الكلُّ وبلا وعيٍ يبحث عن أكثر الأدوار صلاحِيةً له، أغناها «بالإفيهات والنِّكات» أطولها، أبطلها كما يحدث هناك، وحلمي يتحطم، ولونُكِ يحمر، وحلمي يتحطم، ولون البطل يسْودُّ، ولوني أنا يصفر! كنتُ وقد فقدتُ الدور الرئيسي أبحث — بغير ما لهفةٍ — عن الدور الذي أعدَدتِه لي في حلمكِ ذاك.

فجأةً ضحِكتُ.

وبانزعاجٍ مؤدَّب سريع، توقفَتْ عن الحديث وسألَتْني: ماذا حدث؟ هل أخطأتُ في شيء؟

كان انزعاجُها حقيقيًّا؛ فالضحك في ألمانيا ليس كالضحك هنا؛ فمِن حقِّكَ المُطلق هنا أن تَضحك في أيِّ وقتٍ تشاء، ولأي كلامٍ يُقال، حتى لو كان الكلامُ جادًّا، ليس فيه ما يُضحِك؛ بل بالذات لو كان الكلامُ جادًّا حقيقة، وليس فيه ما يضحك، الضَّحِك هناك — كأي شيءٍ — لا بد أن يتوفَّر لحدوثه أسبابٌ وجيهة قوية، مُقنعةٌ جدًّا، وواضحة جدًّا، ولا يختلف عليها اثنان. حتى في بعض الروايات مثلًا ممكنٌ أن تَحدث مواقفُ تدفعك دفعًا للضحك، ولكن لأنَّ النص لم يَنُص على الضحك هنا، فإن أحدًا لا يضحك! الضحك هناك نظام، وكأي شيءٍ لا بد أن يتم بنظام، فإذا فعَل إنسانٌ فَعْلتي، وفي نهاية كنهاية حلمها في لحظةٍ تحَشْرَج فيها صوتها، ضحك، فلا بد أن شيئًا قد اختلَّ في النظام العام؛ جُنِنتُ أنا، أو جُنَّت هي، أو تَسرَّب مع فتحات الهواء في الطائرة شيءٌ من الغاز الضاحك!

انزعَجَت، وبلهفةٍ تساءلَت مروَّعةً: لماذا أضحك؟

وكنت أضحك لأني اكتشفتُ أن دَوري في حُلمها، هو الدور الذي نَحتفظ به في الرواية للرجل الطيِّب الذي يَقود الناسَ لتحقيق أحلامهم؛ للقادة.

كنت أضحك للكمِّ الهائل من خَيبة الأمل التي أحسستُ بها؛ فليس لِشخصي اختارَتْني مَلِكتي البافارية، وفضَّلَت المقعد الخاليَ بجواري على كل ما عداه من مقاعدَ خالية، وإنما لمؤهِّلاتي تلك التي يتطلَّبها دوري، واضحٌ أني عربي مُثقف، أعرف لغات، وأعرفُ النساء أيضًا، وأحب — كما رأت كلَّ أمثالي في بيروت وغير بيروت — أن أساعد السيدةَ، أيَّ سيدة؛ فما بالُك بجِنِّيةٍ مُلتهبة الأنوثة صاخبة الاحمرار؟!

يا بنت الإيه! اسمعي إذن و…

وكما يتحدَّث الطلبة في برنامج ألف سلام، وكخطابات المغتَرِبين ومحاضرات ذَوي الحماس … رحتُ والأصفرُ في وجهي يَنتقل إلى البرتقاليَّة والطَّماطِمية والبِطِّيخيَّة، وما شئتَ من ألوان الاحمرار، رحتُ وبقسوةٍ بالغة، أو فلنفعَل كاللُّغويين الكبار ونقول: بقسوةٍ بَليغة، أو ببلاغةٍ قاسيةٍ، رحتُ أخلع تلك الصورة البدائيةَ الكريهة، التي يبدو أنها علَّقَتها في عقلها منذ الطفولة. كما غاظَتْني بحُلمها عن البدويِّ وسُمرته، تهوَّرتُ في حماسي دفاعًا عن برج الجزيرة وآثار الفراعنة ساعةَ العصرية على شُرفة مينا هاوس.

وحين انتَهيتُ ضحكَت؛ ربما تقليدًا لما فعَلتُ بكلامها أنا، ووجَدَت أنَّ عليها اتِّباعَه، وردَّ التحيةِ فعَلَت، ولكني أنا انزعجتُ؛ فقد خِفتُ أن تكون قد وقَفَت على سر البلاغة القاسية، والقسوة البلاغية وحَماسي المفاجئ للبرج؛ لا جمال البتةَ فيه، وربما أيُّ برج حمامٍ أبيضَ في أي نجع، يبدو لي أكثرَ منه وَداعةً وحضارةً ورمزًا.

أكثَرتُ من تفاصيل البدايةِ، أعرِف؛ فأنتم لا بد أنكم — مِثلما كنتُ أنا تمامًا — شَغوفون أن تَنتهيَ البداياتُ بسرعة. وفي القاهرة أُصبِح وحدي مع البافارية الغربية الحالِمةِ، بليلةٍ تنطبع فيها آثارُ الأحلام على الرمال.

ولقد حدث!

بل، ولقد حدَث أكثرُ مِن هذا.

حين هبَطنا القاهرةَ كان اللقاء قد تم. في بيروت بدَأْنا والبدويُّ حُلمُها، وهي أو مِثلها حُلمي، وكعادةِ الحياة والأحياء نبدأ معها ومعهم مستنكِرين، مطلقًا مختلِفين غيرَ راضين، ببساطةٍ نرفض الواقعَ تمامًا، ونرفض الخضوع، وببساطةٍ وكما رفَضتُ أنا حلمها تمامًا، حتى مزَّقتُ القاهرة كلها من أجله، وكما لا بد كانت ستَرفض حُلمي لو عرَفَته، وكعادة الأحياء أيضًا حين يَرفُضون الواقع المفروض، ثم شيئًا فشيئًا يلتَقون بادِئين من الأمانيِّ المشترَكة والأحلام. نحن أيضًا تَعادَيْنا تمامًا في الحلم، ولكن الواقع المحض بدأ يقربنا، واقتراب الواقع من الواقع فن اسألوا عنه أهل الذكر. فالسيدة حين تُخرج السيجارة وتضعها في فمها، دون أن تبحث أو تحاول حتى البحث عن ثقاب، مُنتظرة أن تفعل أنت ذلك الحريقَ الصغير، الذي تلتقط بعضه بطرَفِ سيجارتها، وبحُنْكةٍ تتذوق طعم الدخان الناتج عنها، السيدة حين تفعل هذا، تضعك في الواقع أمام امتحان، يرسب البعض فيه رسوبًا لا نقض فيه.

ذلك أنها أيها السادة حين تضع السيجارة في فمها، الذي ضيَّقَته خصوصًا، حين يحدث هذا إنما يكون في الواقع بدايةَ بدايةٍ لمحاورةٍ مُحاذية، تَسير جنبًا إلى جنب مع الحوار العادي؛ المحاورة الحقيقية ذات اللغة الخاصة والمستَويات المختلِفة في الإدراك والفَهْم، المحاورة الأهم التي مِن خلالها تُدرِك المرأةُ مَن أنتَ؟ — في الحقيقة: من أنت؟ وأيُّ الرجال أنت؟ وبأيِّ الخصال تتمتَّع؟ وأين نُقَط الضعف؟ — إنك إذا اندفعتَ مثلًا كالتلميذ الخائفِ أن ينسى قطعةَ المحفوظات ملهوفًا، فتبحَث في جيبك عن الولاعة، وما إن تَعثر عليها حتى تُحسَّ بالاضطراب، ومِن بعيد تدقُّها، تُشعِلها، وغالبًا ما تفشَل، وبعصبيةِ مَن يريد إثباتَ البراعة ثانيةً — وربما ثالثةً — تحاول، ثم تُقرِّب النار بخوفِ مَن يخشى أن يُحرِقها، وليس بأناقةِ مَن يتيح لها أوسعَ الفرص لاستعراض أناقتها الخاصة في تَحاشي اللهب، والاقتراب من الشعلة، وأخذِ النفَس، وإخراج النفَس، والتحرك إقدامًا وتراجعًا، والْتِفاتًا وابتِلاعًا، وإهمالًا في الإسراع والتراخي، الذي تَنْشدُّ له الأعصاب، اسألوا أهلَ الذكر، ستجدون أنَّ لكل حركةٍ كتابًا أو بابًا، وللأبواب مفاتيح، والمفاتيح أحجام، والمشكلة ليست مُشكلةَ اصطِدام رجلٍ بامرأة وخلاص؛ المشكلة أن تُدبِر بحيث يبدو الالْتِقاء طبيعيًّا أكثر من الالتقاء نفسه، المشكلة أنك عارف وأنها عارفة، وأنك عارف أنها عارفة، وهي عارفة أنك عارفٌ أنها عارفة … وهلم جرًّا. ولكن كيف؟ وأين الرجل الذي يصبح فخرُه هذه المرةَ أنه الجاهل (مدَّعِيًا طبعًا) وقوَّتُه أنه الغبيُّ المفاجَأ، وكأن الأمر يحدث ولا يدَ له فيه؟! إنَّ شُرب الشاي هو شربُ الشاي، ولكنْ أن تجعل مِن مجرَّد احتساء قَدَح من الشاي فنًّا وطقوسًا تُزاوِلها مستمتعًا، وكأنها ليست وسيلةً لشرب شايٍ، أيِّ شاي! ولكنها — هي الوسيلة — غايةٌ في حد ذاتها! كيف تجعل من كلمة «شكرًا»، تبدو وكأنها أهمُّ كلمة نطَقتَها في حياتك، وكأنك لأول مرةٍ تقولها، ومن أجلها استخرَجتَها من صندوق كنوزك التي لم يرَها أحد، وتُقدِّمها بإعزازِ الملك يقلِّد الملكةَ التاجَ؟ كيف بصدقٍ تجعلها تُحس بكلمة شكرًا؛ بنُطقِك لها، بإخلاصك وإعزازك واختصاصك بها تاجًا باهرًا كالتاج الحقيقي على رأسها، ساعةَ ترى الرجال تضعه، وعلى كل الناس، وبالكلمة متوهِّجةً فوق شعرها تَفخر وتَتيه.

اسأَلوا أهلَ الذِّكر.

فأنا لم أسأَلْهم فقط؛ أنا بعضٌ من أهل الذِّكر هؤلاء.

وكان مِن المحتَّم إذن أن أجعل الحلم الذي في خيالها يتبخَّر.

وأُحِلَّ مكانَه ما أريده أنا.

وما أرَدتُه بالضبط تحقَّق.

فقد تحولَت الخيمة إلى حجرةٍ في فندقٍ فاخر.

وتحول البدويُّ الأسمر ذو اللحية إلى شخصي أنا، محدثًا وأنيقًا وبارعًا.

ومضت خُطَّتي في طريقها بأسرعَ وأروع ما توقَّعتُ، وانتهى العَشاء.

وكنت أعرف وأحفظ درس السيجارة، والحريق الصغير الذي عليَّ أن أُحْدِثه.

وأول نفَس لها من السيجارة كيف تُخرِجه.

ومَددتُ يدي بعُلبتي أنا أعزم.

ولكنَّها هزَّت رأسها بأناقةٍ بالِغة معتذِرةً.

وبيدٍ رخْوة مدَّت يدَها إلى حقيبة يدِها، وفتحَتْها وأخرجت …

أخرجَت …

أخرجت سيجارًا ضخمًا من حجم «تشرشل».

وفضَّت عنه ورق السلوفان.

وبين شفَتَيها وضَعَته.

ومالت برأسها وفمِها، وبالسيجارة ناحيتي، تطلب الشعلة.

وكالمذهول المنوَّم تمامًا، وبأكثرَ مِن فشلٍ واحد اشتعَل طرَفُ السيجار في النهاية.

وبتلذُّذٍ عظيم تمتص رحيقَ دخان، وتَنفُثه لِيُشيع في الحُجرة تلك الرائحةَ الخاصة للسيجار الهافانا.

ولا بد أنها لاحظَت ذُهولي.

فبنعومةٍ بالِغة سألَتْني: أيُضايقك أن أشرب سيجارًا؟

قلتُ بسرعة: أبدًا أبدًا.

ثم رُحتُ أقول ببطءٍ شديد: أبدًا … أبدًا!

ولكني كنتُ أقولها وأنا سرحان تمامًا!

لقد كان في عقلِها حُلمُ بدويٍّ لحمي حمراوي طرَدتُه.

ولكن …

هذا السيجار …

كلما رأيتها من «الفاس» أو «البروفيل» نفس الملامح الدقيقة؛ النَّمش البُنِّي فوق الأرضية المحمرَّة، الشعر المتوهِّج بالاحمرار، كلُّ شيء كما كان، ولكن السيجار — ذلك السيجار اللعين — قد غيَّر بوجوده، بمجرَّد وجوده، معنى كلِّ شيء، طعمَ كلِّ شيء. تُطْبِق بفمها على فم السيجار، فيَنبُت لها شارِب!

والرائحة التي تُعَبِّق المكانَ تُحيلُ مَلِكة بافاريا إلى كائنٍ آخر، أيِّ كائنٍ غير المرأة!

قالت: أعرفُ أن كثيرًا من الرجال، لا يُعجبهم أن تُدخن المرأةُ السيجارَ مثلهم، أرجو أن تكون من المؤمِنين بالمساواة، أليس كذلك؟!

هزَزتُ رأسي موافقًا، وعن يقينٍ مُوافق؛ فالسيجار في الحقيقة قد ساوى بينَنا، بين ملكتي البافارية، وبين الرجل، أيِّ رجل؛ أنا مثلًا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤