يموت الزمَّار

تقريبًا كلُّ ما كتبته من قصص ونسَبتُه إلى نفسي، أو قمتُ فيه بدور الراوي، كانت كلها أبدًا لم تقع لي، إلا هذه القصة؛ فأنا فعلًا فيها الراوي، وما حدَث فيها حدث لي. ولقد حاولتُ المستحيلَ لكي لا أكون أنا أنا، أو لكي يكون الحادثُ وقَع لغيري، وكان ممكِنًا أن تكون أروعَ وأكثر إمتاعًا، ولكني بيني وبين نفسي، كنت أحسُّ أني سأكذب؛ بالضبط مثلما كنتُ حين أتقمص أنا شخصَ الراوي في قصصٍ أخرى، معظمُها أبدًا لم يحدث لي، كنت أحس أني أكثرُ صدقًا مع الآخَرين ومع ذاتي.

إنها إذن قصةٌ خاصة جدًّا، أعرف أن كثيرين سيَهُزون أكتافهم حِيالَها ويقولون: وما لنا ولهذا القولِ الذاتي الخاص؟! ولكن، مَن يدري؟ ربما لن أَعْدَم واحدًا يُحِس ذاتَه تمامًا، وهو يراني أتحدث عن ذاتي؛ فنحن في النهاية أبناءُ ذاتٍ واحدةٍ؛ عُليا عميقة، أو سُفلى. إنما الاتصال قائمٌ وموجود، والمهم هو الوصول إليه، وقد يُضطَرُّ الكاتب في أحيانٍ أن يَستعمل دَلْوه الداخلي الخاص؛ للوصول إلى مياه الآخرين العميقة.

وكنتُ حين أقرأ أن فلانًا الممثلَ، أو أن جريتا جاربو الممثِّلة، تتبع طرقًا بوليسية منذ أكثرَ من أربعين عامًا؛ لِتَختفي عن الأنظار العامة، وتَعتزِلَ الفن أو تُقاطع هي دائرةَ الضوء؛ لأنها تَستمتع كثيرًا بأيِّ كوخِ ظلٍّ تأوي إليه، كنت حين أقرأ هذا كلَّه، أُحس أنه نوعٌ من الإبهار الصُّحفي، يلجأ إليه النجومُ؛ زيادةً في اجتذاب البريق.

وهذه المرةُ لا شيء من «هَيافة» بعض النجوم في ذِهني، وبعد طول تدبُّرٍ وتفكير، وبعد انفرادٍ بالنفس ذلك الانفرادَ الخاصَّ التام، الذي تُحِس أن همسة الخاطر، حتى، لا تُشارِكُك إياه، قررتُ في لحظة حسمٍ باردة كالثلج، لا انفعال فيها ولا تراجع أو ندَم، أن أكفَّ تمامًا عن الكتابة، أيِّ كتابة! ليس يأسًا أو تدلُّلًا أو نوعًا من استِدْرار الإشفاق على النفس، تُجاهَ النفس، ولو من ذات النفس، ولكنه إدراكٌ عميق كامل بعدم جَدْوى الكتابة أصلًا، ليست كتابتي فقط، ولكن كل الكتابة مُذْ عرَف الإنسانُ الكتابة، أو — في رأيٍ — ماذا فعل الإنسانُ بالكتابة؟! أو بمعنًى أصحَّ: ماذا فعَلَت بالإنسان الكتابةُ؟ أصلحَت أخلاقَه؟ كذبٌ في كذب؛ فالإنسان أيامَ الحضارة المصرية القديمة، وأيامَ أثينا وطيبة وبابل، وأيام أفلاطون وأرسطو والفلاح الفصيح، ربَّما كان أكثرَ تسامحًا وهدوءًا مع نفسه ومع الآخرين، وربما لم تَفعل نصائحُ كِتابه بتحريضه على الصدق وعلى الشرف وعلى النُّبل، إلا العكس تمامًا، فلا أعتقد أن وحشية المحارِبين أيامَ أولِ حروبٍ عالميةٍ عرَفها التاريخُ بين المصريين والحيثيِّين، أو بين الفُرس والإغريق، كانت تصل إلى مِعْشار ما وصلَت إليه وحشيةُ المتحارِبين في آخرِ حربٍ عالمية خاضها الإنسان، ولا وحشية ما حدث ويحدث للبشر في فيتنام أو أفغانستان أو لبنان. فصحيحٌ أن بالكتابة تَعلَّم الإنسانُ، ولكنه بالتطور العقلي الذي أحدَثَته الكتابةُ والكتاب فيه تعلَّم أيضًا أن يُصبح شريرًا أكثرَ عِلمًا وبشاعةَ عِلم، كالحيَّة الرَّقْطاء التي فوق الناب الطبيعية، التي زوَّدَتها بها الطبيعة؛ لِتَلدغ بها عدوَّها مرة، تعلَّمَت وتَعلَّم كيف يُزوِّد نفسه بأنيابٍ أكثر، وخزانات سُم أكثر، أنيابٌ لا تكتفي بنَفْث السم، ولكنها تُرسله ميراج وميج وفانتوم ونابالم ونيوترون وكوبالت! وبدلًا مِن تُرْس التعذيب الذي كان يُشَد إليه جسده، أصبحَت وسائل العذاب تَصل إلى نُخاع النخاع مِن أدَقِّ أعصابه حسًّا، ولم يَعُد في الحرب فُروسية أو عَلَم أبيض أو قوانينُ أَسْرى، وإنما هو الشرُّ يندفع من عقولٍ قد زوَّدَتها المعرفة بالتصميم القاتل على الإبادة! باختصار، مُذ عرَف الإنسانُ الكتابةَ عرَف أيضًا كيف يصبح الشريرَ في أعنَفِ وأبشعِ صوره.

قد يقول القائل: ولكنه التطوُّر، وليس الكاتبَ أو الكِتابة! والردُّ جاهز؛ فالتطور ناتجُ العقل، والعقل ناتج الكتابة. ودَعُونا لا نتفلسف أكثر؛ فلقد كان حلمي بالكتابة كحلمي بالثورة، كحلمي بالمعجزة القادرة على شفاء كل وأي داء. وفي عمري أنا سأرى اخْتفاء الحَفاء، وعمومية الكساء، وزوال الحاجة، واكتفاءَ كل محتاج. كانت واحةَ العمر ألجأ إليها، كلما نَضِب مَعين الخيال، وأتزوَّد منها وبها بالقدرة على مواصلة اللَّهَاث، وكان الوصولُ على مرمى حجر، وكأنني سأصحو في الغد لأجد الصباحَ فجرًا، ليس فجرَ يومٍ، ولكن فجر عصر؛ عصرٍ كامل تام يعود فيه الإنسانُ يُحب بكلِّ نهَمِ وعُمق وظمأ الحب، ويَعيش ورَوعةَ الحياة يشربها مُتْرَعة قطرةً وراءها قطرة، ولكل قطرةٍ طعم، ولكل لحظة زمَن، تمر أشواقٌ وصهلَلة ومَعانٍ.

حياةٌ أستمتع فيها إلى التَّعالي أنِّي ابن، مثلما أستمتع به إلى مُهجَة كبدي أنِّي أب، تأخُذني الأم إلى أعمق أحضانها، تُرضعني خلاصة الأنوثة، وأرتشف وأنا أضمُّها نُعناعَ أنِّي ولد، وخمرةَ أني رجل! حياة أنا فيها محِبٌّ مَحبوب، عاشقٌ معشوق، مؤثِّرٌ ومغيِّر، ومتأثِّرٌ ومتغير، ودائمًا إلى الأعلى والأروع، حياة، حياة؛ أتَعرفون ما هي الحياة؟!

في الواقع وأنا أتأمل القرارَ من نواحيه، أدركتُ جانبًا مِن عظمة وعبقرية شكسبير الشاعر الكاتب، فليست روعتُه أنه فقط كتَب، ولكن الأروعَ من كتابته أنه عرَف متى وكيف يتوقَّف ويقف. في الواحدة والخمسين كان قد انتهى من كتابةِ آخر أربع أعظم مسرحياته على الإطلاق: الملك لير، وعطيل، وماكبث، وهاملت. وبانتهاءِ عَرض آخر واحدة منها، لستُ أعرف ما هي على وجه الدقة، اتخَذ القرار، وصفَّى نصيبه في مسرح الجلوب، وسوَّى أموره ورحل إلى بلدته، وهناك اشترى منزلًا (أصبح الآن كعبةَ الرُّواد)، ومكَث عامَين بعيدًا تمامًا عن الكتابة والمسرح، وكلِّ ما يتصل بهما، ثم مات في الثالثة والخمسين!

هذا هو الرجل؛ عاش وقال، وصمت ومات، وهكذا وهكذا لم يمُت، ولا زال يعيش ويقول، ولا يَنتهي أبدًا.

وليس مطلقًا تقليدًا لشكسبير، ولا لأيِّ أحد — فالموضة عندنا أننا لا نَكتب إلا تقليدًا، ولا نحيا إلا تقليدًا؛ ربما لأن معظم مَن يُقيِّمون إنتاجنا وحياتنا هم دائمًا وأبدًا مقلدون، ومقلدون أيضًا غيرُ متقِنين؛ فأنا لم أعرف هذا إلا في قراءةٍ عابرة لمجلة قديمة، كان فيها مقالٌ عن شكسبير قرأتُه بعد القرار (واسمحوا لي باستعمال الكلمة)، فأكد لي حتميَّةَ ما انتهيتُ إليه.

وحين راحت السَّكْرة وجاءت الفِكرة، وجَدتُ أني لست فقط مختلِفًا تمامًا؛ كَمًّا، ونوعًا، وحياةً عن شكسبير وغيره، ولكن مختلِفٌ أيضًا أني موظفُ كتابةٍ عامٌّ، بينما كان هو صاحبَ قطاع خاص، في استطاعته تصفيةُ كتابته والعيشُ بما يتبقى لديه من رأسِ مال، أنا موظَّف في جريدةٍ كبرى تدفع لي راتبًا شهريًّا من أجل أن أكتب، وعليَّ — شئتُ أم أبيت، ومِن أجل أن أعيش — أن أظلَّ أكتب، فإذا قررتُ أن أكف تمامًا عن الكتابة فأبسط المواقف الشريفة، أن أبحث لي عن عملٍ آخر، أو وسيلةِ حياة ثانية، وهكذا مثلما يفعلون قبل المعاش، حيث من حقهم أخذُ إجازة ثلاثة أو أربعة أشهر، أعطيتُ لنفسي الحقَّ في إجازة أبحث فيها عن مصدر رزق؛ أزرع قطعة الأرض التي تخصني في قريتنا، أفتتح مستوصفًا للعلاج الرخيص، أُتقن حِرْفة النِّجارة التي أهواها، والتي أصبحَت ماهية الأسطى فيها لا تقل عن عشرة جنيهات في اليوم، أحيل عرَبتي إلى تاكسي أعمل عليه … أي شيء، إلا أن أُمسك القلم مرةً أخرى، وأتحمل مسئولية تغيير عالَم لا يتغيَّر، وإنسانٍ يزداد بالتغيير سوءًا، وثوراتٍ ليت بعضَها ما قام؛ فما حدث بعدَ بعضِها أبشعُ مما كان عليه الحالُ قبلها.

يأس؟!

ولماذا نُسمِّي النظرة الحقيقية الواقعية يأسًا، والتمسُّك بخُرافة الأحلام التي لا تتحقق، هو التفاؤل الإنساني، الذي لا نجده سِوى في الكتب، وعلى ألْسِنة وأفواهِ وأقلام «إخواننا» الكُتَّاب.

وكنت في قراري صامتًا كَتومًا، لا كلمة واحدة لزوجتي نفسِها، ولا عِلم لصديق؛ فأنا أعرف كمَّ ما سيَصدر من اعتراضٍ وسخرية، أقلُّها أني أتصيَّد التقريظ والمديح، والرغبةَ في الحث على مواصلة ما يسمُّونه بالنجاح. إن الحياة — هكذا أراها — ليست لُعبة أضيعها مُصغِيًا لهذا، أو مولِيًا أذني لذاك؛ الحياة حياتي، والقرار قراري، وكم من أمورٍ تكاد تكون قتَّالة، فعَلتُها دون ذرة تردُّد وحتى لو كادت، أو بعضها فعلًا ضيعني، دون ذرة ندم.

بل والقرار التالي الأخطرُ بعد اللَّاكتابة: هو اللاقراءة! فالحليفُ الداهية الخبيث للكتابة هو القراءة، هي المنزلق الذي إذا وضَعتَ عليه قدَمَك، وجدتَ نفسك في سرعة الضوء، تَهْوي حتمًا إلى حيث تبدأ، أنت لا ترى ولكن تَصنع الحروف والمعانيَ والكلمات، ويلفُّك التِّيه الخالد ما بين أحرفٍ تصنعها وأحرفٍ تصنعُك، وحياةٍ تصنعها ولا تَحياها، وحياةٍ تصنعُك أجيرًا لها، فقط تحقق لها ما هي تريد. مذ كان عمري خمس سنوات وإلى الخمسين، وأنا أقرأ وأكتب، وأكتب وأقرأ. الحياة تصطخب في الدنيا، وأنا صريع الحياة الموهومة بين دَفَّتَي كتاب، وكلها من ورقٍ، وكلها من حبر، ضيَّعتُ عمري أتعلم كيف أتعلم الكتابة، والبقية الباقية ضيعتها كيف أعلم ما في الكتابة، والنتيجة أني أنا نفسي استَحَلتُ إلى كلامٍ، وأصبحَت روحي من ورقٍ، وأحلامي ومتعتي كائنةً كلها من حبرٍ، بين كلمتين أو جملتين أو صفحتين. أيُّ حياة؟!

كثيرًا ما قضيتُ اللياليَ إلى صباحها في غابة الأحرف تائهًا؛ أزرَعُها مرة، وأقطعها مرات، ولا نسمة إلا رائحةُ اللون الأسود، وسَحاباتٌ من دخان، وأنصافُ أكوابٍ مليئة «بتنوة» من بنٍّ جاف، ولا أتبين إلا هناك أشعَّة الشمس تشحب ضوءَ الكهرباء، وأحس أن ظهري انكسَر مقوَّسًا إلى الأبد أو يكاد! فأقوم لأعدِلَه وأخرج إلى الشُّرفة؛ ما أجمَلَها ساعةَ السابعة في الصباح؛ طازَجة، ودائمًا جديدة! تصور كلَّ صبح دائمًا جديدًا أبدًا، لم تمسَسْه أرضٌ من قبل، ولا احتوَتْه سماء، وإنما هو هَدية الكون الجديدة تمامًا لنا، الناشئة لتَوِّها وفي الحال، هذا هو الصباح الطازج الصابِح، الذي علَيَّ أن أتركه لأمضَغ ساعاتِ ليلٍ ونومٍ بائتة وحامضة؛ فقد مضى أوانُها من زمان.

في ساعات صبحٍ كتلك، كنتُ كثيرًا جدًّا، ما ألمح «كَنَّاس» شارعنا جالسًا على الرصيف المقابل، مُسنِدًا مِقشَّته إلى كتفه، محتضِنًا إياها وكأنما يلتمس منها أُلفة يومٍ كامل سيَقضِيانه معًا، وفي يده اليمنى غالبًا كنت ألمح كوب شاي وفي اليسرى سيجارة. ومهما كانت الدنيا صيفًا أو شتاء، فأبدًا لا بُرودة هناك ولا نيةَ احتِرار، وإنما هي — في رأيي — لحظةُ السعادة القُصوى! هذا رجلٌ يقوم بعملٍ جادٍّ محدد؛ ينظف شارعنا من كلِّ ما نقذفه نحن الأفندية والستَّات من فضَلات! نام قِطعًا الليل ونامَه مبكرًا؛ فها هو مبكرًا قد استيقظ، واستمتعَت كلُّ خلية من خلاياه بسبع ساعاتٍ على الأقل من خُلوِّ البال. واحدًا من ملايينِ ملايين الرجال، الذين لا أشير ولن يُشار لهم بأيِّ بَنان، عاش وقام، ورفَس زوجته ونام، بالضبط اتَّسق تمامًا مع قانون كونٍ أعظم، جالسًا استعدادًا لقانونِ عملٍ أعظم، وها أنا المشار إليه بالبنان، عاكس القانون، ومُقاوم الظلام ليغيِّر الناموس، وأتى عليه النهار ليجِدَه حطامُ دون كيشوت، خُيِّل إليه أنه قضى الليل يَعكس ويُحارب طَواحين الهواء والاتجاه، وأحَس حتى دون أن يواجه أحدًا، أن طاحونةً لم تتوقَّف وجَناحًا منها لم يتعطَّل أو يتغير أو يتبدل، لا تنعم براحة البال ولا حتى براحة البدن، أعطِني مِقشَّتَك أيها الرجل وخُذ ذلك القلم؛ فمُنتَهى أمَلي أن أرى أو أستَعمِل شيئًا له مفعولُ مِقشتك، والمفعول أراه أمامي بعينَيَّ، وأشهَده وأُحسُّ بفائدته.

قدَرُك الذي عذَّبك وأمرَضك، وحملتَ من أجله هموم الكرة الأرضية فوقَ قرنك، ولست ثورًا إفريقيًّا خالدًا، باستطاعتِه أن يتحمَّل الدنيا بهمومها، بلْهَ همومَك أنت وحدك إلى الأبد، كَلَّ جسدُك من المرض، مَرِض المرَض، وحيرتَ نُطُّس الأطباء من الكرملين إلى مايو كلينيك وكليفلاند وهارلي ستريت، وأصبحتَ مريضًا عالميًّا، وأصبحَت حياتك كونيةَ الحيرة، فيقرر الأطباء أنك ستموت في ظرف ٤٨ ساعة، وإذا بك بعد ٢٤ ساعة في قوة الحصان، ويقرر الأطباء أن عندك سرطانًا، وأنك أمامك شهرٌ بالكثير لتودِّع الحياة، فتبدأ حياةً جديدة وسيمةَ الملامح جدًّا بعد أسبوع، حتى يئِسوا منك مثلَما قالت لك الدكتورة إيلينا: أنت يا زميل، حالتُك لا تخضع للطب الذي درَسْنا، وقال لك البروفيسور الكبير في نيويورك فريدمان: حالتك نادرة، ولكنها التفسير الأوحد، تنفعل إلى درجة المرض، وتَمرض إلى درجة الموت، وتموت إلى درجة الحب، والمسألة خرَجَت عن كل ما لدينا من علمٍ تعلَّمْناه نعلمه؛ ربما تعرف أنت!

وفي ركنٍ خفيٍّ من أركان نفسي السرِّية كنتُ أعرف: أنَّها ذلك الجزء الذي يُمْلي عليَّ أن أكتب، يُمرِضني ويحيِّرني، وجزء كقوانين الكون كيف لي أن أسيطر عليه؟ ولا كيف أريحه؟ فإذا أخذتُ إجازة وذهبتُ إلى الشاطئ، ثارت الزوبعة في يافوخي حتى تتَكتَّل عليَّ الأمراض، وربما تهدأ تمامًا إذا وجَدت نفسي في وسَط وحركة جيش التحرير في الجزائر، أو أستعد ليومٍ عصيب من أيام الحركة الوطنية والقومية.

وأيضًا ما علينا.

فلْتَكن قد فعَلَت الكتابةُ ما فعلت، وليكن قد حدث ما حدث، بل فَلْأكُن سأموت حتى، أقسِم غيرَ حانثٍ أني قدرتُ الموت واستحضرتُه تمامًا، ووجدتُه ألف مرة أرحَم، لم أعُد أستطيع، أبدًا لم أعد أستطيع! إني لأكاد أَحسُد إلى درجة البكاء، هؤلاء الزملاءَ الكُتَّاب الذين يكتبون كل يوم، وعن كلِّ وأيِّ قضية؛ من السياسة إلى القصة، إلى العلم، إلى المذكرات، إلى الحب، إلى الأمومة إلى … إلى … إلى … إلى أي شيء، كيف بالله يكتبون؟! ولماذا أجد القلم في يدَهم سهلًا، ودرجة الانفعال ٣٧، لا تَنخفض ولا تَزيد، وضغط الدم لا يعلو ولا ينخفض، ١٢٠ على ٨٠ بكل الصحة — واللهم مزيدًا من الصحة — وبكل التعقُّل والمنطق، يَكتبون ويكتبون ويكتبون، يومًا بعدَ يوم بعد يوم، ألَدَيهم آلةُ «زيروكس»، يضغطون على الزرار من هنا، فتَخرج الصفحة زيروكسية مكتوبة جدًّا من هناك، أم «أنا» الحالة؟ فلا بد أن أحدَنا هو الحالة قطعًا.

وأيضًا — ولثالث مرة — ما علينا.

•••

طيب، أخذتُ المهنة وقلتُ أتدرب على إصلاح أجهزة الفيديو كاسيت؛ فلقد أخطأتُ ذات مرة، وأحضرتُ جهازًا غير تقليدي، وحاولتُ تشغيله فأبى أن يعمل، وجربتُ جميع المشاهير وغيرِ المشاهير من مُصلحي الفيديو، حتى استوعبتُ العملية تمامًا مثلهم، وأصبحتُ أعرف البال، من سيكام، من الأوتوماتيك بال سيكام، والأنظمة الثلاثة الأوتوماتيكية، والألوان التسعة والسبعة، ومثلهم أيضًا أدركتُ أننا كلنا قد أخذناها فهلوة، وأن أقصى ما قضاه أي مهندس منهم، لدراسة هذا الجهاز الجديد، الذي سيَقلب العالم رأسًا على عقب في القريب العاجل جدًّا، لم يَقضِ في الخارج أكثر من ستة أشهر، وهي في رأيي فترةٌ غير كافية لدراسةِ نظرية — مجرد نظرية — التليفزيون، فما بالك بالتسجيل التليفزيوني العمليِّ وأجزائه المعقَّدةِ الوظائف؟!

سأكون صناعيًّا عِلميًّا جدًّا، وحتى لو كان الأمرُ تغييرَ مِهنة، فأنا كثيرًا ما بُشِّرتُ في أحاديثي «أيام الجد!» أن الإنسان في عالم المستقبل، لن يَقصُرَ عمره على مهنةٍ واحدة، يقضي في روتينها محترفًا كلِّيةً، وأن المستقبَل يحمل للإنسان القدرةَ على أن ينتقل من جرَّاحِ قلبٍ إلى قافز باراشوت هاوٍ إلى نجار موبيليا — أعرف جرَّاحَ قلب في أمريكا، يعمل يومَيِ السبت والأحد نجارًا محترفًا فعلًا — إلى عازف أكورديون، إلى ما شاء من المهن والهوايات، خلال حياته الواحدة، بحيث لا يَعتريه شهر أو أسبوع أو حتى يومُ مَللٍ واحد.

وجئتُ ببعض المراجع، وأحضَرتُ تليفزيوننا القديم، وبدأتُ أَدرُس الدوائرَ ومَصائد الأشعَّة والصمَّامات وأنصافَ الموصِّلات «الترانسستور»، ولم يَستغرق الأمرُ أكثرَ من أربعة أيام؛ لأُلقِيَ بكل شيء جانبًا؛ إذ كنت قد تركتُ أجملَ أنواع المعادلات الكتابية الشاحِذة للخيال المدرَّة للجمال، فهل أغرس نفسي في مُعادَلات أبعدَ ما تكون عن التصور، وأقربَ ما تكون إلى واقعٍ صُلب ينطح فيه الإنسانُ رأسه؟ لا كتابة، لا قراءة، لا دراسة؛ فلقد أخطأت، كان الواجب التكتيكي يقتضي مني، وقد قررتُ أن أتنحى، أن أتنحى عن عالم الأحرف كُلِّيةً، والخيال إلى قلب الحياة نفسها، قلبها الصاخب المتدفق متعةً، وليس إلى دوائر الترانسستور والتليفزيون، المغلقة حتى على نسمة الهواء.

شارع المتعة والحياة، فلان؟ أهلًا وسهلًا، أو أهلين وسهلين، هاي جو، بالأحضان يطبق ضلوعي، وأنا قرأتُ لك، وأنا فاتني أن أقرأ، يا سلام يا عبقري! يا لسوء حظي! وبدلًا من أن أستمتع أنا، أصبحتُ أنا وسيلةَ المتعة، وغير مسموح لي حتى بمشاركة «جمهور» الحاضرين مَباذِلَهم الصغيرة أو الكبيرة أو رِواية نكتةٍ فاضحة؛ فأنا «فلان» المفكِّر «المهول»، والاستنكار ينبثق كالدُّش البارد المفاجئ، إذا حدَث وحاولتُ — مجرد محاولة — أن أهرِّج، وهل يُسمَح حتى في أيام الوثنية للآلهةِ بالتهريج؟! وأعود آخر الليل شديدَ التأنيب لنفسي؛ فالعاصفة الهوجاء التي قُوبِلتُ بها، تنتهي في آخر السهرة بسلامٍ كسلامِ صداقةٍ انتهَت، وكأن الواحد يقول لنفسه: ها هو آخَرُ يطلع زيِّنا، والظاهر كلهم كده، صيت ولا غنى، وأهه كله بكش! لم يَقبَلْني صخب الحياة ولم أقبله؛ فالناس يُفضِّلون إذا صخبوا أن ينسَوُا العقل، فإذا حضَر العقل أو كلام العقل، فهم يَصنعون شيئًا من شيئين؛ إما يُلْغونه تمامًا بإحالته إلى محطِّ سخرية، وأما يُحِيلونه تمامًا إلى عنصرٍ عاقل كابِت، كالوعي يُثبِتون له ولأنفسهم أنهم لا يَقِلون عنه «احترامًا»، والنتيجة أن يَنقلِب الأمر إلى حالة تمثيل، تتوقَّف فيه الانطلاقةُ التلقائية، التي رغم كلِّ ما يبدو فيها من هبوطٍ، انطلاقة براءة الطفل، الذي يريد أن يلهو داخل الإنسان، وهكذا وببساطةٍ تامة تنتهي المتعة، أي متعة.

•••

وقلتُ: لقد مضَت أحقاب، منذ أن لَعِبتَ دورَ الأب، وإذا كنتَ قد أنتجتَ أعمالًا، فلماذا لا تلتفت الآن لإنتاج بشر؛ بشَر تعطيهم ما أعطَتْك الحياة من خبرة؟ تجمعهم كلَّ عشيةً وتعيدها أواصرَ عائلة، فكَّكها التليفزيون الذي أخرَس الحوارَ بين أفرادها، شلل النادي والكورة التي تولَّت مهمة التربية والأب، وأصدقاء السوء ليس وراء معظمهم سوى الشوائب، تنزعها كالشوك السام الذي يغرس كلَّ يوم في الأقدام، وعليك بإبرةٍ رفيعةٍ متهالكة، وبمقاومةٍ رهيبة من الولد صاحب القدم أن تنتزِعَها.

واكتشفتُ أني أبحث عن دور، أصبَح مكانه حفريَّات التاريخ هناك، حيث تَرقد مراكب الشمس، لو أمعَنتَ في الصحراء قليلًا، ستجد ملايينَ قبورٍ عليها شواهدُ مكتوبٌ فوقها: كائناتٌ كانت آباءً! فَلْيرحمهم الله.

أبٌ ماذا في هذا الزمن، الذي أراد النظامُ الذي يُدير الكونَ الآن، أن يُفكِّك العائلة فيه؛ لِيُسهل على نفسه شراءَها؟! أيدٍ عاملة شابَّة، تَرضى بالقليل وتعطي الكثير، ولا تسمع تعاليم الآباء، عن عمق مَطالب الشعوب والفئات منذ أقدم العصور، آلاتٌ منتِجة حديدة غير مُثقَلة بتاريخ مُطالَبات ونقابات، وإنما هي ابنة «رجل بستة مليون دولار» و«جي آر» و«سوالين» جديدة، تشكلها وتعطيها ما شاءت من بنج بونج وتنس وكورة، ومنطقٍ ساحق رهيب، دراسة ماذا وأنت تستطيع كجرسون في فندق أو حتى شيال، أو مُصادق للسائحات العجوزات، أن تطلع لك في اليوم بعشرين أو ثلاثين جنيهًا بالتمام والكمال، تصرف وتشتري عرَبة، والجامعة والتعليم واللقَب الذي تريده، ستجدها كلَّها ملفوفة في خِرَقٍ قديمة، ألقيناها من نوافذ المناور في العمارات؟! ماذا يُجْدي الحديث عن سعد زغلول ومصطفى مشرَّفة وحتى فاروق الباز، أمام ثلاثين جنيهًا وعرَبةٍ ولو «سيات»، يَلمَسها المراهق لمسةَ اليقين كل يوم، ويُحيلها لصناديق بيرة وشحنة بنات وطريق صَحاري سيتي وهات إيدك، إلى حديثٍ عن المجد القديم، والمجد ها هو أمامك جديدًا «نوفي» تحت أمرك، ودقيقة واحدة ويكون رهن طلبك، وإذا أرَّقَك ضميرُك هاك بلبوعة قادمة من بيروت، تُزيل كلَّ الآلام وتحقق جميع الأحلام، وتصبح إذا أردتَ في وَمْضة كِسْرى أنوشِرْوان!

كان الله واحدًا والأب واحدًا، وفي البدء كان الكلمة، بالطبع الكلمة الطيِّبة.

في عصر الوثَنية الحديثة هذا أصبح الإلهُ الواحد، حتى في الدين الواحدِ عشَراتِ المِلَل والنِّحَل، والأب الواحد أصبح عشَراتِ الآباء تختار أيَّهم كما شئت، حسب لون الفانلة أو نوع الفتاة أو فرقة الغناء أو مكانتك في الشلة. وما أبعدَ المسافةَ بيننا وبين البدء! بحيث أصبحت الكلمةُ والأوقع والأكثر جذبًا للانتباه شارعَ المتعة والحياة: فلان؟ أهلًا وسهلًا، أو أهلين! من جديد أمرٌ يحتاج إما أن تَهدِمه تمامًا وتُعيده خلقًا آخر، وهذا ليس بمُستطاعِك، وإما أن تكتفيَ أن تقوم بدور المتفرج، في طابورٍ طويل من الآباء يغمر العالمَ كلَّه، يتفرجون على كائناتٍ كانت في البدء أبناءً.

•••

ولم يَعُد إلا أن أُحيلَ نفسي — رغم الطاقات التي تتفجَّر مني، ورغم أني في أكمَلِ وأنضجِ «فورمة» إنتاجٍ في أي مجالٍ ومكانٍ — إلى التقاعد! وتقاعدتُ. أتمشَّى مبكرًا في الصباح، أحتسي كوب شاي في مقهًى أو نادٍ، أعود إلى البيت، أحاول أن أُصلِح حنفية أو أُفسِد «كوبس» نور، أنا في إجازةِ ما قبل الإحالة إلى الاستيداع.

وشيئًا فشيئًا بدأتُ ألحظ مسألةً بالغة التفاهة.

إن قدرتي على التمشِّي أصبحَت أقلَّ، وكلَّ يوم تقل، وأصبحتُ أعود إلى البيت، وكأني قد بنَيتُ السدَّ العاليَ بمفردي، متعَبًا مهدودًا لا أكاد أصلُ إلى البيت، حتى أظلَّ أستريح — ولو من الراحة — استراحةً تصل إلى الظهر.

وأتغدَّى وأجد نفسي في حاجةٍ ماسَّة إلى النوم، وكأنني ظلَلتُ اليومَ بِطولِه ساهرًا.

ثم ساءلتُ نفسي السؤالَ الأكبر: لماذا اليقظةُ المبكِّرة أصلًا، وليس ورائي مِن عملٍ أؤدِّيه؟

ثم سؤالٌ أكبرُ وأكبر: ولماذا المشي كلَّ يوم كل يوم، وأنا ليس لديَّ عملٌ ثابتٌ لكل يوم؟ وأسئلةٌ ليست مجردَ أسئلة، ولكنها مقدمةٌ حتمية معقولة؛ لشمولها بالنفاذ الفوري.

ما أروعَ التمَطِّيَ في فراشٍ دافئ ونحن في طوبة، حيث كلُّ شيء وكل إنسان من البرد يتجمَّد! ما أروعَ فِكرةَ أنْ ليس وراءك بالمرة أيُّ عمل! ليس الكسلُ هو الرائعَ في الموضوع، ولكن الأروعَ هو الإحساسُ الكاملُ أنْ ليست لديك أيةُ مواعيدَ أو واجبات، وإنما أنت لك حريةُ اليوم والغدِ والزمن القادم كلِّه.

كل حياتي كان مِحوَرُها أني أكتب؛ كلُّ اتصالاتي، دعواتي، ارتباطاتي، سببها خيطٌ واحد يصدر مني لِيُوزِّع آلافَ خيوط بعضُها يجذب، بعضها يعزف، بعضها يُقلِق، بعضها يُفرِح، بعضها يذكِّر أو يتذكَّر أو يصرخ ألَمًا. والخيوط تَلتقي عندي، تصنع لي يقظتي ومنامي، وتُرغِمني أن أرتديَ الثياب كلَّ يوم، وأُعانيَ مشاقَّ كلِّ يوم، وأودِّعَ الأمس وداعَ المغتاظ مرةً، وداعَ الصَّبْوة مرةً، لا أنتظر الغدَ بصبرٍ نافد، بل لا أُريده أن يأتيَ أبدًا.

ذلك المِحور لم يعُد له وجود؛ الكرة الأرضية الآن انطلقَت في الفضاء على حُريتها، بكل اتِّساعه وشُموله، تدور حولَ الشمس أو لا تَدور، تَترك وليدَها القمرَ يَنْعي حظَّه وخُسوفه، إذا أحست بعلل الصحبة.

ولأول مرة أحسُّ أني لستُ أنا مُلتقَى خيوط، ولا دائرة بالأمر القدَري حول محوره، ولا يُهمُّه أن يتلقَّى النور من هذه الشمس بالذات، أو يكتب عن هذا الموضوع، الذي يَشغَل الناسَ جميعًا، الآن بالذات، أقرأ أو لا أقرأ، وجميع ما أقرؤه غير مُضطَرٍّ لاختِزانه، أو إمعان التفكير فيه؛ فلم يَعُد عقلي في حاجةٍ إلى مذاكرة ما يقع، أي: مما يقع، وشبَح الامتحان الكتابي قد اختَفى من أمامه.

صادقًا مع نفسي لم أُحسَّ بطعم سعادةٍ حقيقية، مثلَما أحسَستُ وأنا لثلاثةِ أيام بنهارها ولياليها لا أتحرَّك من فِراشي، زوجتي تَعتبرني لا بدَّ مريضًا، فحتى حين أطلب الطعام، وأنا نصفُ جالس، ألمح الاستنكارَ البيِّن في عينيها، ولكنها في قَرارة نفسها تُقنِع نفسها، أني لا بد أستعدُّ لعمل عظيمٍ، ومن حقِّي أن أستعدَّ له بالطريقة التي تَحلو لي. وما دامت الطريقةُ هذه المرةَ هي التمدُّدَ في الفراش المنكوش، ومُلاءاته التي يحلُّ كلَّ يوم موعدُ تغييرها، فكم كان لي معها من تصرفاتٍ تستغربها، تُنتِج في النهاية شيئًا تكون هي أولَ السعداء به.

ماذا لو عرَفَتْ أن لا شيء وراء الأكَمة، وأن لا كتابةَ بعد الآن؟! ماذا لو أدركَت أنها لو احتجَّت أو عارضَت، فسأترك كلَّ شيء وأمشي لو اضطُرِرت؛ بلادُ الله لخلق الله.

طال الرُّقاد حتى أصبح الذَّهابُ إلى الحمام مشقة — وأيُّ مشقةٍ — ألهث لها، وأحس أني وكأني أسافر على أقدامي عدةَ أميال، وغسيل الوجه لم يَعُد يوميًّا بالضرورة! ماذا لو حدَث كلما أحسَستُ باتِّساخه؟ وغسيل الأسنان باعتباره عادةً راسخة، أحس بالقلق طَوال اليوم، إذا لم أفعَلْها بكوبٍ من الماء الدافئ والمعجون بجوار الفراش.

في الأيام الأولى كنتُ أقضي اليومَ في أحلامِ يقَظة، تعيد لي خُصوبة أحلامِ اليقظة في طفولتي، وعبْرَ رحلة الثماني كيلو مترات من المشي ذهابًا وعودةً إلى المدرسة، أكتَفي من الجرائد بالمنشتات، ثم أكتفي فقط مِن أجل العادة وحْدَها بتَسلُّمها دَفعةً واحدة، ثم إرقادها بجواري على أمَل أن أعود إليها في المساء. والمساء يجدني مشدودًا إلى التليفزيون، حَفِظتُ البرامج عن ظهر قلب، ولا حَلْقةَ أجنبيةً أو محليةً تَفوتني! ثم ضجَّ جسدي بهذا النشاط التليفزيوني والإذاعي، وشيئًا فشيئًا زهقتُ من الصورة، ثم زَهِدُت في الموسيقى، ثم أخرَستُ اللاسِلكيِّين تمامًا، وحتى أحلام اليقظة استَهلكتُها جميعًا، ولم يعد عقلي قادرًا على اختراع أدوية مثيرةٍ أُمْضي فيها الأحلامَ، حتى حدَث الأمر الذي لا أعرف بالضبط، أني كنتُ طوال الوقت أتوقع حدوثَه، أو أني دونَ أن أدري — وباللاوعي كما يقولون — كنت أخاف حدوثه؛ بدأَت ساقي اليمنى تتورَّم، ثم أعقبَتْها اليُسرى، بلا ألمٍ ولا أعراضِ جَلْطة. من ناحية — وكدارِس طب — قلقتُ كثيرًا أن تكون جلطةً في الأوردة العميقة للساقين، ورُحتُ أتصور كيف ستتكوَّن الجلطاتُ في بُحيرات الدم الوريدية في عضَلات الساقين، يعقبها لا بد زحفٌ إلى أعلى حتى يَشلَّ التجلطُ وريدَيِ الفَخذين العظيمين، ويا حبذا لو زحَفا إلى البطن حيث يتحد الاثنان، ويكونان الأورطى الوريديَّ، وأكون قد انتهيت!

ومن ناحيةٍ أخرى وجَدتُ فيما حدَث المنفَذ والمهرَب.

فالآن وبعدَ أن بدأتُ ألمح في عيون زوجتي أشياء، كالتي كانت تَحفل بها نظراتُ بطلة المرآة المقعَّرة، الآن عندي سببٌ وجيه تمامًا للرُّقاد؛ فالجلطة — أو الاشتباه فيها — أول تعليمات علاجِها الرُّقادُ تمامًا، ورفعُ الساق وعدمُ الحركة مطلقًا.

وحتى ولو لم تكن هذه هي تعليماتِ كبار الأطباء والجرَّاحين الذين عادوني، فأنا نفسي كنتُ قد فقَدتُ الرغبة تمامًا في الحركة؛ أيِّ حركة، ولو حتى لرَفعِ رأسي وصدري رُبع ارتفاعةٍ لتناوُل الطعام والشراب، وبمثل ما فقَدتُ الرغبة في الحركة؛ فقدتُ الرغبة في أشياءَ كثيرة جدًّا، أسأل نفسي: نفسك في إيه؟ الإجابة دائمًا واحدة: لا شيء أريد؛ لا الشوق أريد، ولا القلق على ابنٍ أو زوجة أو صديقٍ أو قضية! لا رغبةَ أبدًا أبدًا في أي شيء. وبدأَتْ أورامُ السيقان تزداد، وتزحف إلى أسفل البطن، والأطباء يوصونني بعمل تمرينات رياضية؛ لتحريك أصابع الأقدام، وقبضِ وبسط عضلات الساق والأفخاذ؛ لدفع الدم للعودة، ولا أجدُ في نفسي ذَرَّةَ رغبة في القيام بأي تمرينٍ أو تحريك أية عضلة.

الموت قادم.

لا أراه؛ فهو ليس شبحًا أو مَلاكًا أو قابلًا للرؤية، ولكني أُحسُّه، تمامًا كمَقْدَم المساء حين ينتهي العصر، ويحتَقِن وجه الدنيا بالغروب، وتحسُّ أن الظلام لا محالةَ سيَتبع هذا. الليل، الصمت الأبدي، عدَم الحركة في تمامها واكتمالها، وشمولها واستمراريتها! المذهل: لا استنكار، لا احتجاج، لا تفكيرَ مطلقًا في أيِّ مقاومة! وهل يُقاوم الإنسان مطلبًا هو شديد الرغبة فيه؟! بل هو حتى لم يَعُد شديدَ الرغبة فيه، إنما هو الانتظارُ الصَّبور غير المتعجِّل! فلْيَجِئ حين يجيء؛ فالجسد مُسجًّى لا يتحرك، والوعي بأنه هناك ممدَّد ومسجًّى وساكن، أو انتفاء الوعي سِيَّان، وماذا يَصنع الوعيُ مِن فارقٍ، إلا أن يجعل الانتظارَ معدودًا بالأيام والساعات، ومَشوبًا بالقلق؟! سيتكفَّل هذا الزاحفُ القادم بالقلق يستأصله، وبالانتظار يُنهيه، كما يتكفل الظلامُ بإخفاء الأشياءِ جميعها؛ الجميل والقبيح، البعيد والقريب، الدافع للحركة والمانع لها.

ربما الشيء الوحيد الذي تبَقَّى يخصني، ويجعلني في لحظاتٍ أُحسُّ بصهللة الإحساس بالحياة، هو نوعٌ من حب الاستطلاع؛ كيفَ — إذا جاء — سيَجيء؟ كيف الناس يموتون؟ وأي إحساسٍ بالضبط؟ وما هو ذلك الشيء الذي تواضَعَت عليه البشريةُ من قديم الزمان، وأسمَتْه طلوع الروح؟ أتأتي على هيئة «كَرْشة» نفَس، تنتابُ الشخص لِهُنَيهة، ثم ينقطع النفَس؟ أتأتي على هيئةِ استمرارٍ طويلٍ لنوبةٍ من نوبات التوهان والدوخة، التي كانت تعتريني بين الحين والحين، حتى لأحسُّ أني انفصلتُ عن وعيي، وأنه بقي مُعلقًا مُدرِكًا للموجودات مِن حولي، بينما أنا هَوَيْت وأهوِي بسُرعةٍ مخيفة إلى بئرٍ لا قرار لها؟ لا أُحس أني أهوِي، ولكن حين ينتقض شيءٌ في رأسي، يُعيد وصل الوعي بالأنا الهاوية، أحس أني فعلًا أصعد، ومعنى هذا أني كنتُ بالتأكيد أهوي.

كيف إذن يأتي ذلك الشيءُ المحيِّر؟ تلك النهاية السؤال؛ الموت؟ إن الجهد الذي بذَله مخترعُ المحرِّك؛ لِيُوجِد الوسيلة التي يستطيع بها إيقافَه عن الدوران، لم يَقلَّ في رأيي عن الجهد الذي بذله؛ لكي يحول المعدِنَ الساكن إلى عجلةٍ متحركة؛ فخَلقُ الحركة لا يُعادله سوى اختلاق السكون. كيف سأسكن أنا؟ أيحدث إغماءٌ محَّتم قبلها، أم أن بعضَهم يكون إحساسه بالموت هو آخِرَ مُدرَكاته، بحيث تكون النهاية هي نهايةَ الإدراك؟

ولم أكن أتوقع أن يأتي هكذا أبدًا.

فجأةً ذلك الصباح، وأنا أُداعب ابنتي الصغيرة، قبل ذَهابها المبكِّر إلى «أوتوبيس» المدرسة، حاملةً جبَل الكتب المقرَّرة على الثانية الابتدائية — كتلةٌ ضخمة تَنوء بها البنتُ فعلًا لا مَجازًا — فجأة وهي تجري لِتلحقَ بالأوتوبيس الزاعق، أحسستُ أني بلا ألمٍ أتنفَّس بصعوبة، أشفط بطني كلَّه لكي أخلق الفراغَ في صدري، وما يَكاد جزءٌ منه يمتلئ، حتى أحس بحاجتي إلى هواءٍ أكثر، وهكذا في منتصَف الشهيق أشهق، وفي منتصف المنتصف أعودُ أشهق!

ولم يَبرُق خاطرٌ وإنما مِسمارٌ رهيب، بخبطة شاكوشٍ واحدة مُفاجئة، أدركتُ السلاح الذي اختاره الموت؛ جلطة الرِّئة! في ثوانٍ يَنتهي كل شيء. ولم أعرف — أنا المسجَّى ثلاثةَ أرباعِ ميت، على فراشٍ غائص بي، مقعَّر فعلًا — أني أمتلك هذه القدرةَ الهائلة على الهلَع.

وكأنما كنت، وأنا أفكر بالموت بتلك السهولة واللامبالاة، أتحدَّاه من حيث لا أدري، فحين استقرَّ إلى درجة النِّزال وأمسَك بسلاحه، أرعش الرعبُ كلَّ خليةً من خلاياي.

وعادةً تليفون الجيزة لا يتصل بالدقي، فإذا اتصل ورد منزل جراح الشرايين الكبرى، لتقول لنا الفاضلة زوجته: إنه في مستشفى قَصر العَيني الآن، فمعنى هذا أنك ميتٌ، لا محالة ميت، إن الجلطة لا يبدو أنها من النوع القاتل في الحال، وأن هناك احتمالًا لاستِئْصالها بالجراحة، والحياة — كل الحياة — أصبحَت معلقة بتليفون قصر العيني، الذي أعرفه منذ عَمِلت فيه من قديم الزمان، أنه أبدًا عمره ما كان إلا مشغولًا مشغولًا مشغولًا! فالاتصال بالعزيز رئيس المكتب «تعبير تليفوني»، وكأن المكالمة من الخارج أو إلى الخارج، وليدخل على الخط، وفي ثوانٍ يكون سامعٌ على الطرَف الآخر! وفي ثلاث دقائق تكون زوجتي تَقود العرَبة بأقصى سرعة، وهي تؤكد أنْ لا جلطة ولا خوف. وإلى قسم التشخيص بالإشعاع الذَّري، ومجموعةٌ هائلة — من عميد الكلية إلى الجرَّاح إلى كتيبةٍ من شباب الأطباء — تتلقَّفُني وتُدخلني غرفة، الوحيدة في مصر التي تَرسم الرئة بالألوان بواسطة عقلٍ إليكتروني، وتُظهِر نتيجةً غريبة محيرة؛ الرئة اليسرى ليس بها قطرةُ دم، ولكن أيضًا ليس بها أيُّ جلطة!

ويشكون في صِدق الآلة؛ فهذه نتيجة عبثية تمامًا، فمعنى خُلوِّ الرئة من لون الدم أنها لا تتنفَّس، بينما بالسماعة وحتى باليد صوتُ تنفُّسِها واضحٌ وجلي ومسموع.

ويتطوع الطبيب الشابُّ بشرح كيف أنهم في أمريكا يبتكِرون بحثًا أو علمًا جديدًا اسمه: أخطاء الآلات، وأنها تشكل كذا في المائة.

وكان لا بد من إعادة الفحص.

وأُوضَع من جديد تحت شِقَّي الرَّحى، ولكن أي رحًى؟! أية غرفة تلك التي أنا فيها؟! حين تخرَّجتُ في كلية الطب، كانت الآلةُ الهندسية الوحيدة التي نعرفها هي جهازَ أشعَّة إكس، وجهاز إصدار الأشعَّة فوقَ البنفسجية. ما أراه طبٌّ مختلِف تمامًا، وفرع جديد اسمه الهندسة الطبِّية، يتطور بسرعة الصاروخ، ليبتكر كل يوم اختراعًا لم يتصوَّرْه أحدٌ من قبل. آخرها؛ ها هو موجودٌ بالغرفة أمامه، أو تَمدُّ له يدَك فيُعطيك في الحال اسمَ ونوعَ ووزن كلِّ عنصر داخلٍ في تركيبك، ويُصدر إشاراتٍ كسيرينة الإسعاف أو بوليس النجدة، لدى كل عنصر فيه نقصٌ أو دونَ المستوى المعتاد، وكل هذا حدَث في أقلَّ من رُبع قرن.

شِقَّا الرَّحى اللَّذانِ كَمُنت بينَهما؛ أحدهما ثابتٌ وهو الراقد أنا فوقَه، والآخر متحرك حركةً رائحة غاديَة، كحركة نقَّاش يَطْلي الجسمَ بشيءٍ غير منظور، يسمونها طريقة المسح؛ مسح الرئة، مسح الكبد، في الواقع مَسْح أيِّ شيء أو عضوٍ تُريده، وأيضًا ثبَت من الفحص الثاني أن الرئة تتنفَّس، ولكن بغيرِ نقطة دم! واستمرَّت المناقشاتُ طويلةً ومليئة بتغييرات، كالأجهزة لم تكن في الخمسينات نستخدمها، بل لم نكن نعرفها.

ولكن آلات ما آلات! تشخيصات ما تشخيصات! احتمالات أسوأ احتمالات! لقد عرَفتُ أنا مرَضي أو بالأصحِّ حالتي، نعَم، أعرفه الآن تمامًا.

وأنا متأكدٌ منه؛ الموت! زاحفًا خفيًّا، حتى بغير قُفَّازِ حياء، أو تشخيص، فما الحل؟

على مَرِّ عشَرات ومئات ملايين السنين، أصبح الشغلُ جزءًا من التكوين العُضوي للإنسان، صحيحٌ أنه ليس عضوًا كسائر أعضائه، ولا يُرى لا بالميكروسكوب ولا بالعين المجرَّدة، ولكنه موجود، إشعاعات مِن الموجات تَنطلِق من أجزاء جسمه، وتُشكِّل هالةً موجية من الموجات الحية، باعتبار أن الحياة في أعلى صُورِها، هي أرقى وأدقُّ وأعقدُ أشكال الوجود الماديِّ الموجي، رغم أنها مِثل كلِّ الموجات والتموُّجات، تلك التي تُشكِّل صُلب الوجود وقدرتَه على التبدُّل والتغير والتفاعل، مثلها مثلهنَّ؛ لا تُرى بالعين المجردة ولا بالميكروسكوبات الإلكترونية، ولا بأي صورةٍ ممكن أن يتَفتَّق عنها العقلُ البشري في المستقبل! إننا فقط نفترض أنها موجودات، ونفترض أنها من مادةٍ ما، ولكن المؤكَّد أنها موجودة، مؤكَّدٌ موجودة، وإلا لما كان الوجود.

هذه الموجات المحيطة — موجات التنبؤ والاتصال والربط العضوي الكامل بين الإنسان والإنسان، والإنسان والحيوان والنبات، وذَرَّات الرمال في الصحراء وماء المحيطات، وأقصى مجرَّة من المجرات — هي التي تُحرك الإنسان، أي: تُحرِّك زميلاتُها موجاتِ الداخل، وتُعطي إنسانًا مثلك اتجاهَ وحكمةَ ورؤية وضرورةَ أن تتخذ الحركةُ إيقاعًا يؤدَّى، وفي أنماطه العليا يَبتكِر ما نُسميه بالعمل. ويَستوي في هذا أينشتين وأجهَلُ فلاح في بلدنا، وكما يُخصص ويركز ويضيف أينشتين، والذي هو في وجوده أول الأمر نقطةَ الْتِقاء وتفاعُل للموجات، أعطَتْه القدرةَ القُصوى على تصوُّر الكون على هيئة معادَلات وحلِّ تلك المعادلات، وبالفعل أثبت أن المعادَلاتِ التي ابتكَرها، تنسجم تمامًا مع قوانين الموجات، وتجعله يتحكَّم لأول مرةٍ في الموجات، وكانت القنبلةُ الذَّرية والانشِطاراتُ، كذلك هي في فلاح بلدنا قدرة خارقة على الانحِناء، ربما لأكثرَ من عَشْر ساعات، وهو ما لا يَستطيعه أينشتين، ولكلٍّ منا محيطُه الخارجي من موجات، الجزء الأكبر الذي ينظمه هو العمل الملائم لموجاتنا الداخلية، بحيث متى تم التوافقُ العزفي بين نحن من الداخل ونحن في الخارج، نحن إنتاجًا وإبداعًا وجمادات، دخل الكائن دورةَ الكون رائعًا عظيمًا ومنسجمًا، وأرضى عنه الله والوالِدَين والإخْوةَ والأصدقاء، والناس.

وما انسحاب الحياة وتضاؤل اتِّصالاتها، ثم أخيرًا موتها، سِوى الخلل الحادث بين دائرة الداخل ودائرة الخارج؛ ولهذا يموت فورًا بعضُ الذين يُحالون إلى المعاش، ومَن بقي منهم حيًّا لا بد أن لدَيْه بديلًا لموجة العمل، واتصالًا آخَر بالوجود والموجودات.

باختصار لا سفسطةَ فيه ولا نظريات، حين قررتُ ألا أكتب، بينما موجاتي كانت قد رتَّبَت نفسها لأكثرَ مِن ثلاثين عامًا، على العمل الكاتب وتحويل الفكرة المختلِطة بالوجدان، وبالذاكرة الجماعية النشطةِ الاتصال، بالعدد الهائل من نقاط الالْتِقاء والبشر؛ اتصالٍ كامل ذي اتجاهين، حين قرَّرتُ التوقف خبَتْ تلك الموجات، وبدأت تَخمُد في جَذْوة الحياة، وأُفضِّل المشيَ على الجري، ثم الجلوسَ على المشي، ثم الرُّقاد على الجلوس، ثم السكون التامَّ عن الحياة، كان في حقيقة الأمر نوعًا غريبًا مبتكَرًا من الانتحار؛ توقفًا عن العمل، مِثلي مثلُ أيِّ خلية في المخ أو الكبد، أو حتى الجلد، تُقرِّر عدم القيام بوظيفتها، فلا تُرسل الأنزيمات ولا تَستقبل، وتنقطع الصِّلة بينها وبين العضو التي تَنتمي إليه، ثم بينها وبين جسد الوجود الأعلى «الإنسان»، والنتيجة حتمًا أن تموت.

ولقد حاوَلَت الخلية — والشهادة لله أنَّها كانت محاولاتٍ بطَلة — أن تستبدل عملًا بعمل، وتتسرَّب من حيث الكبدُ مثلًا إلى الجارة المَعِدة، وتُصبح خليةَ جوع وشِبَع، الْتِهام طعام ومضغ فقط، والنتيجة كانت الكفَّ عن وظيفة الحياة نفسِها، فخلية الكبد لا تهضم ولا تستطيع أن تواجِهَ حامض المعدة، بل وتهلك حتمًا إذا وقفَت وظيفيًّا حائلًا بين جارتها الكبديةِ تلك والخلية الأخرى. القانون سادرٌ، ولا بد أن يظل سادرًا، وأنا لا خلَقتُ تخصصي أو اختياري، ولا أستطيع أن أغير نوعيًّا أو عضويًّا نفسي، كل ما أستطيعه أن أعمل في اتجاهي بكل موجاتي، وأن أوسع دائرة الوجود من حولي؛ دائرةِ وجودي، وليس ضروريًّا أن أجيب الديب من ديله، أو أبنيَ هرمًا رابعًا! لعل السرَّ الذي خلقني، كائنٌ في أني ذات يوم سأقول كلمة تصل إلى إنسانٍ ما في مكانٍ ما، وتلتحم موجتي على شكل الكلمة بموجاته، الْتِحامًا ينشط آلاف وملايين ومليارات الموجات، ويتفجَّر الشيء الذي لم يكن قد خطَر على قلب البشر، فأنا قطعًا موجود بوظيفة ولأداء وظيفة، وكوني قلت لا مجرد تمرُّد كخبط الرأس في الحائط، يكفي أنه أوصلني — وأنا على حافةِ أن أموتَ سكوتًا — أن أكتشفَ أن سر الوجود هو الحركة، وسر وجودي الشخصي أن أتحرك، وبمطلقٍ وبمنتهى وبأعظم ما أستطيع، أُطلِق الموجاتِ تِلوَ الموجات، وأستقبل الموجات تلوَ الموجات، وأنا أخبط رأسي ليس في الحائط هذه المرة، ولكن بكفِّي نافضًا عن نفسي كلَّ ما اخترَعَته تلك النفس؛ لتحتجَّ على سوء توزيع دَورها سكوتًا؛ فهذا هو بالضبط طريقُ الموت.

والموت ليس ضروريًّا أن يكون صاعقًا مفاجئًا كالذِّبْحة، إنه كأضرار التدخين أضعَفها وأوهنها، وبريء تمامًا براءتَها، أو هكذا يبدو! إنه الموت الأخطر والأبشع، الموت حياةً كحياة الموتى، الموت سُكونًا وسكوتًا وصامتًا، الموت تمردًا وقتيًّا عاليَ الضجيج؛ فشديد الضجة يُصِم كشديد السكون، الحياة! ليس مجردها وإنما خلقها خلقًا، ويوميًّا خلقها خلقًا، تُعْدي الآخرين بها، تنشرها كالوباء صحة، تبثُّها موجاتٍ إثرَ موجات؛ موجات صحيحة كالجنين الجميل القابل للتشكيل حسَبما تريد. الحياة سامية شامخة بشرفٍ، وبلا مُساوَمة أو إزعاجِ ضمير، الحياة الحلوة حقًّا ليس دفعًا بالأكتاف، ولا عُدوانًا على الآخرين، ولا استِغلالًا لحاجتهم. ما أروع أن تصحُوَ من نومك اليوم، وتختارَ أي عمل طيب بسيطٍ تفعله، حتى لو كان زيارةً لسرير مريض مجهول، لا أمل له ولا أهل، إذا كنتَ فقيرًا أعطِه كلمةً طيبة وبرتقالة، وإذا كنت غنيًّا وقادرًا ابنِ له مستشفًى.

•••

يَموت الزَّمار وأصابعه تلعب؛ فالعزف شكَّل موجاتِ وجوده، وحتمًا يظل يعزف ويعزف إلى آخر الرَّمَق، فالمسألة ليست هزلًا؛ إن لها قانونًا، وهكذا بدلًا من الموت كفًّا وكفرًا بأداء الدور. أليس الأروع أن تظَلَّ تعزف؟! مهما بدا عزفُك نشازًا وشاحبًا؛ فحتمًا سيأتي اليوم الذي يَعلو، ويُجبَر الناس مِن صدقِه على السمع، أو حتى إذا لم يأت اليوم!

فماذا تفعل؟

إنه وجودك، لا فَكاك منه.

فشمس الشموسة قد طلعت.

وما أجملَه من صباح!

سأجعله أسعَدَ صباحٍ عشتُه في حياتي.

وسأقول لنفسي كل يوم: سأجعل مِن هذا اليوم أروعَ أيام حياتي.

ولن أدع شيئًا أبدًا أو شخصًا، يُحيلُه إلى يومٍ قبيح.

الأمر صدر من إشعاعات الشمس الطازَجة، التي لا يَزيد عمرها عن ثماني دقائق: قم وافعل شيئًا تفخر به أمام نفسك وأولادك، ويَفخر به أحفادك؛ فأنت أعظم مخلوق في هذا الكون الفسيح، الذي لا تُصدَّق أبعادُه.

أنت أروعُ ما فيه.

أنت الكائن الوحيد القادرُ أن يكون إنسانًا.

أتعرف ما هو الإنسان؟!

•••

ملحوظة: رغم كل وأيِّ أدوية أو عقاقير، شُفِيَت الجلطة من تِلْقاء نفسها!

الآن فقط متأكد أنها شُفيت تمامًا.

ولكن المشكلة، بعدُ، قائمة.

فما أزال حبيسَ قدَري وموجاتي، مهما صرَختُ أو تَحايَيتُ أو تَماوتُّ أو متُّ، أيمكن أن يكون الحبيسُ سعيدًا؟!

حتى لو كانت حياتُه في سَجنِه!

أممكنٌ أن يكون الحبيس سعيدًا؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤