اقتلها

الحياة التي يحياها الآن كأنما هي بالضبط ما أراده طولَ الوقت، دون أن يعيَ، والكرسي الذي يجلس عليه، والمنضدة الكائنة في الركن؛ ركنه المفضل، والكمُّ الذي يَجْرَعه من كوب الماء المثلج المضبَّب البارد، هو بالضبط ما أراده، بلا زيادة أو أقلِّ نقصان، كل نزوة تعنُّ له حتى، ولو تجاه امرأة يُحيلها إلى نظرةٍ فخُطَّة، حتما تنتهي حسَبما أراد لها! كانت مشكلته دائمًا أن يُحقِّق، ومن أجل أن يحقق أصبح عليه الآن أن يقتنع. لا إيمان مطلَق، لا تسليم. التحقيق هو الحياة، والعمر يمتد مسطحًا أمامه أملَس كالزجاج، يدحرج البلية، ويأمرها أن تقف، بالضبط حيث كان واقفًا، عند الخشبة الثالثة بعد المكسورة من السور، بالضبط هنا قِفي أيتها البلية، وحذارِ أن تتحركي، فمن الممكن وباستطاعتي أن أهدم الكونَ فوق رأسك.

في العادة حين نتذكر الشيءَ أو الحدث، نلتزم بالخط الواحد، مذ لم يكن الحدثُ قد كان، إلى أن كان، وبعد أن كان. هكذا تصنع بنا ذاكرتنا، فوهي تجذب الماضيَ وتضمُّه لحظاتٍ معًا — غيرَ قادرة على التشتُّت، إلا إذا كنا قد جُنِنا — إما أن تَتشتَّت وهي أعقلُ ما تكون وأثبتُ ما تكون، وإما أن ترتدَّ عيناك لتُصبحا ليستا نقطتين، ترى بهما ما أمامك، وإنما هي شريطٌ بصري دائري يحيط بكل رأسك، وترى به أقصى زوايا الكون، وبأذنيك وقد امتدَّتا وتفرَّعَتا ملايين «الإيريالات»، حتى ليُسمِعانِك نبضَ الكون الأعمق، إذا عنَّ لقلبِ الكون أن يَنبِض، إذا استعَدتَ الزمان والصوت والمكان — وبلا حدود — واستحضرتَ الحدث بلا ذرةٍ تتساقط منه وأنت تستعيدُه، وكل شيء وكأنه لا يتجمع الآن، ولكنه بقوةٍ عظمى خافية يتَّحِد، ويشكِّل من الماضي حاضرًا في قلب الحاضر الدائر، بل ولأصبح باستطاعتك أن توقف أو تُبطئ من دوَرانِ أيهما؛ الماضي أو الحاضر، والإسراع بالآخر لتصنع من الزمن عجينة، لها ما شئت من سُمْك، ومن المكان مساحة لها ما شئتَ من حيِّز، الذرَّة فيها في حجم المجموعة الشمسية، والمجرَّة فيها تستطيع أن تُصغِّرها بأصبعيك إلى أقل جُزَيء ممكن.

حين تصنع هذا كله، أو يمكنك صناعته، فإما أن عقلك انتهى تمامًا، وإما أن عقلًا آخر فيك بدأ يَبرز، عقلك الأكبر، وويلك إذا انتهى عقلك وبقيتَ حيًّا! وويلٌ وويلُك إذا بدأ العقل الأكبر، وأنت لا تَزال سجينَ وجودك الأصغر! وفي الحالين أنت في لحظة جحيم، واسمع سيدي.

وقبل أن تسمع سيِّدي، اكبَرْ أيها الحجم! وتضَخَّمْ أيها المكان! واقترِبْ أيها الزمان! لا ليس عامًا، بل شهرًا، بل عدةَ أيام أريدك. اقتربي أيتها اللحظة، ليس كما خططتُ يومها لكِ، ولكن فاجِئيني وكُوني طويلةً طولَ العمر؛ فأنت حقًّا تساوين عُمرًا بطوله، أصبِحْ أيها الحدثُ في قرب وجهها ذي النمش الخفيف. ذلك الوجه، اقترِبْ، ولو عذبتَني أكثر.

عذبك يا مصطفى ذلك الوجه؛ الرموش البنية الغامقة انغرَسَت طويلًا وكثيرًا في حَبابي عينيك، وأنت مُستعذِب ذلك العمى البنيَّ المدبب! أفِعلًا أحببتَ ذلك الوجه؟ أفعلًا كانت صاحبتُه تحبك؟ أم هو السجن والجسد الفائر، والشبَق الموضوع قسرًا في زنازينَ من أقفاصٍ صُلبة لا تَلين ولا تنكسر؟ اقتربي كثيرًا يا لحظاتٍ عشتُها وعاشَتْني؛ فأنتم أنا، ولكنه لأنا المستحيل — أعرف هذا جيدًا — التجمع والتكوُّن والعودة للوجود، فلا أنا انتهى عقلي الأصغر، ولا نبَتَ لي ذلك الأكبر المهول بعد.

المسافة قائمة وباقية بينهم في «الدور» الثالث، وبينه على «البسطة» الأولى للسُّلم الحلزوني الصاعد في قلب العنبر، والوقت طال وطال، والصبر نَفِد. فحين تكون في السجن لا تَستعذِب أبدًا أيَّ صبر؛ فأنت دائمًا في انتظار اللحظة التالية، ولو لم تحمل لك أي خير أو حدث. فمن يدري؟ لعلها تحمل! لعلَّ شيئًا خارقًا يحدث! أنت تتصورها وتحشوها بالاحتمالات، وتبتهل؛ عساها تأتي مُثْقَلة، كان معهم مع الكبار — حيث كانوا، ولا يزالون — في الزنزانة الواسعة بالدور الثالث. دخل عليهم ثم بدا من نظراتهم المتبادَلة، أنهم يطلبون منه الانصراف. أكان اجتماعًا مدبَّرًا وجاء هو ليُفسِدَه؟ أما كان التدبير هو تلك الأسئلةَ الغريبة التي انهالت عليه، ثم كفَّت فجأة؟ وبدأ تبادُل النظرات، حتى أحس مِن التيار المرسَل والمستقبَل بين العيون، أن ثمَّة كلمةً ضوئية تُصاغ، أو بالأصح أمرًا: قم، وانتظر!

وقام.

ولم يطلب منه أحد أن ينتظر، فجعل بينه وبينهم ثلاثة أدوار، وجلس؛ فقد كانت الكلمة لا تزال في أذنه: لا تبتعِدْ كثيرًا يا بني!

لقد سبقهم إلى السجن، هذا صحيح رغم أنه الأصغر، فقد جاء متهمًا في جريمة قنبلة، ألقاها في ملهَى شارع الهرم، لم يَمُت بها أحدٌ، هذا صحيح، ولكنها جَعلت منه كبيرًا وبطلًا دخل السجن. وكم عضَّ أصابعَ يديه العشَرةَ ندمًا؛ فقد كانت رُعونته هي السببَ! كان واجبًا أن ينتظر إلى أن يعد خمسة ثم يقذفها بقوة، ولكنه استعجل وقذفها وهو يعد الثالثة؛ خوفًا أن تنفجر في يده، وبظهورها بلونها الأحمر الغريب المثير المرعب، انكفَأ الكلُّ على وجوههم، وكل ما ناله ليلتَها قطعةٌ من فخذ الراقصة الدهني الذي جُرح، ظلت لاصقة بين ياقة قميصه وجلد رقبته، وكلما حاول استخراجها ضربوه؛ مخافة أن تكون ثمة حركةٌ مباغتة أو بدايةُ عدوان، وهو يُحس بها قطعةً من نار الجحيم اللصاقة، قد غرزَت كاوِيةً جلدَه، حارقةً لحمَه حتى نخاع النخاع. وفقط عند مطلع الفجر ينجح في انتزاعها، ينتزعها هي، ولكن أثرها لا يمحى! يكاد يكون إلى الآن باقيًا.

مصيره معروف، إنه يدرك هذا! معروفٌ له وللقاضي، وحتى للشحاذ الذي يدعو له كلَّما لمحَه هابطًا من عربة السجن إلى المحكمة؛ الإعدام!

فليكن! أبدًا لم يُفكر أنَّ هناك موتًا بمعناه الذي تعارَف عليه الناس، ولا خاف مِثلُهم منه، لكَم أحبَّه قبل الحادث وابتغاه في أثنائه وبعده. كلما غور ببصره في أعماق رحلة الخلد، التي سوف يقطعها به إذا استشهد، أحسَّ أن الناس لا بد مجانينُ؛ لتمسكهم بحياةٍ هي خرقة بالية! وستَبْلى أكثر، مليئةٌ بالأوحال والأقذار، لا تصلح حتى لتلميع حذاء! وأعظمُ شيء يصنعه الإنسان بها، هو أن يقذفها بأطرافِ أطراف أصابعه، بعيدًا بعيدًا؛ كي يُزيحَها عنه، وعن الطريق إلى الخلود.

بل هو حتى أصبح يَضيق بتلك المعاملة الخاصة، التي تُعامِله بها جماعته؛ المئات منهم الذين جاءوا بعده، ولأسبابٍ مختلفة حين جاء أحدُهم مرة، وهمس في أذنه، يسأله: من أين هو؟ وإلى أي أمير ينتمي؟ لم يُخبره. وحين تَكشَّف في السجن، وبالسجن كلَّ شيء، وعرَف السلسالَ من أوله لآخره لم يفرح، بل ولا غيَّر مِن نظرته إلى غيرها، فالدين دينُ الكل، وهو فقط ضدُّ الخارجين ومع كل الداخلين، قابلَه مرةً وكيلُ وزارة الداخلية، يحمل له عفوًا، وقائمة بأسماءٍ كثيرة، الغريب أنها كانت صحيحةً تمامًا ودقيقة جدًّا، وكأنه هو شخصيًّا الذي كتبَها، وحمَل الورقة في يده، ورأسه — رأسك يا مصطفى — في اليد الأخرى، ومجردُ توقيعٍ يُنقِذ هذا الرأس؛ توقيعٌ صغير منك يا مصطفى، يصنع هذا العملَ الكبير! ابتسم للرجل في طيبةٍ واحتقار، ودعا له أن يَغفر له المولى ذنبه، وأن لا يأخذ ذريته بخطاياه. ومضى.

وأحس بيدٍ توضَع — أو بالأصح — تُبارِك كتفه، رأسه ارتفع؛ الشيخ الجليل هناك، مَهيبٌ في وقفته على السُّلمة الأعلى، ابتسامته نقية وكأنما عليها آثارٌ لا تزال طازَجةً من مياه زمزم، وقد خفَض الشيخُ يدَه من كتفه إلى كوعه واصطحَبه، وسارا، وخُيِّل إليه أن السير في الفِناء قد طال، والشيخُ صامتٌ لا يقول شيئًا، وحين تكلم سأله إن كان يريد دخولَ الجنة، سؤالَ مَن هو متأكد مما سوف يكون عليه الجواب؛ ولهذا لم يأتِه الجواب، وإنما فرَّت من عينِ مصطفى دمعةٌ، وانحنى على كفِّ الرجل وقبَّلَها.

– لا، لا، لا تفعل، لا كلام بيننا الآن، لقد أعدَدْنا لكل شيءٍ عُدَّته، وسآتي الليلةَ لأبيت عندكم في زنزانتكم، وستَعرف كلَّ شيء بإذن الله.

كان مصطفى معجَبًا بهذا النظام الصارم الدقيق؛ فكل شيء يتمُّ بالضبط كما يجب أن يتم؛ ولهذا فالكلمة هنا ليست كلمةً، ولكن في سبيلها يحارب المرءُ الجيوش، أما حارس الليل فقد تولاه زكريا، أما رقيب النهار فقد احتاج إلى مائة جنيه، تسلمَتْها زوجته بالضبط في الميعاد.

والليل، والزنزانة، والهمس، وانبلَج السرُّ الأكبر.

إن معهم في المعتقَل — نفسِ السجن — شُيوعيِّين وشيوعيات، وللنساء موعدُ فسحتهن وللرجال موعد، بل هي مواعيدُ أربعة، موعد لحرماتهم مِن المسجونات، وموعدٌ للشُّيوعيات، ثم للرجال منهم، ثم للشيوعيِّين الرجال؛ يدخل هؤلاء لِيَخرج إلى الفِناء هؤلاء. وكانت الجماعة، حتى قبل أن يُلاحِظ مصطفى، قد لاحظَت أن شيوعيةً معينة تتلكَّأ دائمًا، لتكون آخِرَ مَن تدخل قِسمَهن، وبتَتبُّعِهم الحذِر الذكيِّ إلى حيث تتجه عيونُ المتلكِّئة حدَّدوا الهدف.

مصطفى، ذلك الذي يرتدي جلبابًا بلديًّا أبيض، حليقَ الشارب والذقَن، رغم إيغاله في الإيمان بكل ما تؤمن به الجماعة، الصعيديُّ الأفندي الوسيم الذي ترتعش له قلوبُ العذارى؛ أيِّ عذارى، مِن هاواي أو من الحبشة، من لوس أنجيلوس أو الأنفوشي! شاب ذكَر، يكاد يكون مصنوعًا كله من مادةٍ رِجاليَّة خالِصة، وهو وحدَه الذي لا يعرف، بينما كلُّ البنات والسيدات، وحتى الشُّبان والرجال يَعرفون، ويوقنون، ودائمًا كلمة: يا خسارة على شبابه، تَلمَحُها أذنه وأحيانًا عيناه، صاعدًا عربةَ السجن أو هابطًا منها؛ في يده الحديدُ، أو خاليًا من الحديد، قريبًا من قفص المتهمين، أو همسةً تأتيه عاليةً مِن بعيد. حتى القاضي، أحسَّ مرةً أنه يَنظر إليه نظرةَ حسرة، وكأنما حسدًا لأبٍ له كل هذا الابن! وقلب سوزان يدق، وما أغربَ هذا القلبَ وهو يدق! فكأنما لا مبادئ ولا عقائد، ولا نيرانَ تَحول بينه وبين الدق، إذا أراد أن يدق، حتى وهو يتعمد ألا يراها، ولم يرفَعْ عينه عن الأرض، طوالَ الأسبوع الأول كان يدرك أن قلبها كل مرة كان يزداد دقًّا.

ولكن خافضًا بصره أو رافعه، كان لا بد أن تلتقيَ العينُ بالعين مرة، وهذه المرة دقَّ قلبان؛ قلب من فولاذٍ عمره ما دق، وقلب مِن الوَجْد كان قد ذاب، حتى تحول إلى عِهْنٍ منفوش! شيوعيَّة رَقْطاء، ولكن سبحانك ربِّي! توزع الملامح على مَن تشاء بغير حساب، لكَأنَّها من بناتِ حُور العِين. حكمتك! تؤتي الملك مَن تشاء، وتمنح عيونًا ما وقَع عليها وجهٌ إلا وخر صريعًا لمن تشاء! أنت الخالق ولكل خلقٍ لك حكمة، ولا بد لخلقها هذا مِن حكمة، ولكنها أبدًا لا يمكن أن تكون حكمةَ أن يدق لها قلبُك يا مصطفى! مستحيل.

عيناه اللَّتان سمَّرَهما في الأرض، يشدهما إلى أعلى مِغناطيسٌ أعتى مِن كل جاذبية، يشدهما في الوقت المناسب تمامًا، وفي اللحظة المناسبة لتستمرَّ الومضة، وأمام عينيها تسترخِيان، تثقل أجفانُهما يتنوَّمان، يُسلَبان الإرادة، يَظلان مُسمَّرَين.

وإذا كان الشيء بالشيء يُذكَر، فالشيءُ بالشيء، حتى الشيء يُحسُّ بالشيء، فما بالُك والشباب شبابُ مصطفى، والطرَف الآخر صاحبةُ هذا القوام والوجه والعيون؛ سوزان! كل هفَّةِ ثوب منها تخاريفُ مجانين، صواعق مستأنَسة، ومستأنسة وترعش الجبال! ما بالك وقوة أعظم من السجن والمتريولوزات المصوَّبة، والسور العظيم الذي يَفصل بين فِناء الرجال وفناء النساء، واستعجال الشاويشية والشاويشات، والصفافير، واختلاف المذاهب وعداء المذاهب، وكل ما يستطيع الكونُ أن يتآمر به؛ ليُبعِد كائنَين أو شيئَين أو قوَّتَين … كلها قد جُرِّبَت وفَشِلت، تساقطَت واحدةً إثر الأخرى وفي الحال؛ فعبْرَ السور العظيم كانت قوةُ الجذب أعتى مِن كل القوى، كأنَّ حدثًا كونيًّا قد أوقَف كلَّ شيء، ولخص الزمنَ والأيامَ في لحظةٍ تتجمع فيها كلُّ لحظاته، وتَلتقي مُتسائلة محمومة محيِّرة، لا خِيَرةَ لها في أمرها، أربع عيون كأنها قد تحوَّلَت إلى أطرافٍ أربعة لكائنٍ أرقى واحد، كائنٍ سيظل باقيًا ما بَقِيَت الحياةُ على سطح الأرض.

أربع عيون وكلُّ ما سواها عدَم، كل شيء، حتى نفسَيْهما أصبَحا عدمًا، وإرادتهما عدمًا، فالموجود الوحيد صانعُ الحدث الصاعق، هو رَعْد اللقاء وبَرقُه، والجذب! الجذب الذي أبدًا لا يُقاوَم؛ لتبدأ المرة الأولى الخَجْلى، بصباح الخير، تَهمِسها سوزان، والوقفةُ الأولى المرتعِشة وقفة مصطفى عند ثالث خشبة من بعد الخشبة المكسورة، في السور الفاصل بين العالَمَين! الأرض ترتعش، الأيدي المتشبِّثة بالخشب ترتعش، وحين جُنَّت مرةً وتماسَكَت الأيدي، ارتعشت هي والأرضُ والخشب والحديد، ووصلَت الرِّعشة عَنانَ السماء، بل وكادت أرجُل الشاويش المنتظَرة والشاويشة المسئولة تَضحك ارتعاشًا هي الأخرى؛ فقد تاه الولدُ في البنت، وتاهت البنتُ في الولد.

وأصبح الحدثُ هو الحديثَ الوحيد الدائرَ بين جانِبَيِ السور.

وفي اليوم الرابع بعد الحدث، استدعَوْه، أو هكذا خُيِّل إليه أنه هو الذي ذهَب وحده إلى الطابَق الثالث.

ولم يَنزِل!

لأيامٍ ثلاثة طويلة طويلة مضَت، حتى اختنق.

وفي اليوم الرابع هبط الفِناء لأول مرة.

وكانت هناك، لكأنها مُذْ ترَكها آخرَ مرة لم تُغادِر المكان مرة، لكأنها ماتت وعادَت تحيا هناك.

والْتقَيا.

ويدُه عبر السور امتدَّت.

وقلبُها عبرَ يدها امتد.

واستماتَت اليدُ على القلب.

واستمات القلبُ على اليد.

ولولا خوفُهما أن يُجازى الشاويش والشاويشة، وقد طال تَغاضيهما عن الموقف، ما افترَقا.

•••

– توكَّلْ يا ولَدي على المولى؛ فلقد قتَلتُ فيك كلَّ ما كان فيك يا مصطفى، وهي بسبيلها الآن لتأخذ منك كلَّ ما تبقى لنا فيك؛ لتقتلنا هذه المرةَ كلنا، إنها عدوَّة؛ عدوتُك وعدوتنا، ولا حياةَ لك أو لنا لِدَعوتنا إلا مَقتلُها! لقد جاءوا بها خصوصًا لِيَطعنونا من خلالك، وليَصرَعونا بعد هذا؛ الشابَّ تِلوَ الشاب، ولقد كانت البدايةُ بك، فلا بد أن تكون البدايةُ بها. اقتُلها يا بني، اقتلها وتوكَّل!

كانت الكلماتُ ثابتةً، هامسة، كلُّ كلمة منها كفيلةٌ بخرق القائم بين الدنيا والآخرة، وبين أيِّ موتٍ وأي حياة، وليس في المسائل نقاش، ولكنَّ أمرًا كهذا لا بد أن يُناقَش، وبدأ مصطفى — بعدَما انصعَق سبع مراتٍ — في مرة يفتح فمه، فإذا بصفعةٍ صوتيَّة تأتيه من خلفه، من عملاقٍ صِنْديد لا تَرحم نظراتُه، كان واقفًا خلفه: ألم أقل لك يا مولانا؟ لقد سحَرَته، الشيطانة ركِبَته! قال الشيخ بنفسِ هَمسِه الباتر الذي لا ذَرَّة هوادةٍ فيه: أتَعرف معنى هذا يا مصطفى؟

– ما معناه يا سيدي وأميري؟

– ما دامت الشيطانةُ قد رَكِبَتك فقد حلَّ دمك أنت قبل أن يحل دمُها هي، فإرادتنا من إرادته، وأمرُنا من أمره، ومَن يَعصِينا يَعصيه، ويُصبحُ أشدَّ عداوةً لنا من كل أعدائنا.

– ولكني لم أعصِ.

– فلْتُطِع إذن؛ فالتردُّد عصيانٌ قادم.

– لست مترددًا.

– اقتلها إذن! تقتلها؟ أليس كذلك يا مصطفى؟

من سابع بئر في قراره جاء صوتُه: اقتلها!

– غدًا إن شاء الله يا مصطفى.

– غدًا إن شاء الله.

– في نفس موعدِ لقائكما.

– في نفس موعدِه.

– على برَكة الله يا بني، اذهب.

وكانت الخُطة أن يُطيل قدْرَ ما أمكَن في عملية القتل؛ لينشغل الجميعُ في الحادث، فقد تم ترتيب أن يهرب سبعةٌ هامُّون من الكبار، في اثناء انشغال الكلِّ بالقتل، وضرب عصفورين بحجر.

عصفورين!

أم سوزان وأنت يا مصطفى!

•••

حتى السؤال الذي ظل يُلح على شيخه به، وكان سرًّا بينه وبينه: ولماذا هي؛ هي بالذات؟

– لأنها الأجمل!

– ولكن الجمال …

– جمال العدو قوةٌ له وضَعف لنا.

– ولماذا أنا بالذات؟

– لأنك المطمَع؛ نقطة قوتنا، وأيضًا نقطة ضعفنا.

– ألا يمكن لأحد؟ …

– لا يمكن!

•••

النصف الثاني للفسحة يبدأ بعد الذَّهاب إلى الدورات، السير فيه بطيء دائري في فِناءٍ ضيق، أناسٌ يَبْدون كالمجانين؛ ذابَت ملابسهم، وبَلِيَت أحذيتهم، ونَمَت منهم اللِّحى. شبابٌ وشيوخ، وجماعاتٌ وملحدون، أنت يا مصطفى لن تفعَل في اللحظة المناسبة، أكثرَ من أنك ستَكسِر عظامَ حُنجرة، عظام، مُجرد عظام، سوزان الجميلة هي السِّحر الذي دوَّخَك.

إذ الحقيقة فليس هناك سوى عظمة؛ مجرد عظمةٍ هشَّة هي التي أصبحَت تَحول بينك وبين بداية الخُلد.

أدخلَتْ كلَّ يد من يدَيها في ثَغرةٍ بين عمودَين، أطبقَت بيدَيها على رأسه من الخلف في تساؤلٍ ملهوف. جذَبَت الرأسَ إلى أمامٍ فجأة، فاقشعرَّ بدنُه رعبًا، وبرَزَت جبهتُه من ناحيتها. مدَّت ومطَّت شفتَيْها ولمسَت بهما جبهتَه؛ لتعرف إن كان محمومًا؛ فقد كان أصفرَ شاحب الوجه تمامًا، ويرتجف، ضغَطَت بشفتَيها بكلِّ ما تملك من قوةٍ فوق الجبين، حتى شَحَبَت من الضغط أيضًا شَفتاها، ولم تعرف إن كانت ما أحسَّت به حُمًّى كانت عنده، أم حمًّى وَلَّدها ضغطُ الشفَتين، عيناه مفتوحتان إلى آخِرِهما، ومُوجَّهتان تمامًا إلى وجهها، ولكن لا يراها، أوقفَ السمع والبصر.

بارتجافةٍ أمسَكَها من كتفيها، ووسَط البحر العميق قذَف مرةً واحدة بنفسه؛ الْتفَّت كلُّ يدٍ حول رقبتها النحيلة وأطبقت عليها، ذَهِلَت يَداه، انتظر انتفاضةَ انزِعاج، إشاحةَ احتجاج، ولكن الرقبة بقِيَت ساكنةً وديعة بين يديه، بل مالَت الرقبةُ إلى ناحيةٍ، كي تَلمس الساحرةُ بخدِّها يدَه، كما تفعل القِطة حين تطمئنُّ إلى اليد التي تَربتُ عليها.

غَضِب، كما لم يَغضب في حياته غَضب، احمرَّت الدنيا، أنْزفَها من فرط غيظه كلَّ دم الظهيرة الحمراء، فالشراسة حين لا تَرتطم بما يُغذِّيها تفزع، وفي فزَعِها تغضب، وكأنما تُلاقي أعتى الأعداء؛ فعَدوُّها — عدوُّ الشراسة — ليس الشراسةَ، عدوُّها الأكبر والأوحد هو الوَداعة! كأنها كل الشجاعة، الأقوى مِن الشجاعة، أعتى أعداء الشجاعة.

ولكن فورًا تموتين الآن يا ساحرة؛ فهذا غدر، أنت تأخذينني على حين غِرَّة، أنا مجهز نفسي لمذبحةٍ، فإذا بي أُواجَه بالوداعة! كل الوداعة. اقتلها يا مصطفى قبل أن تَغدِر بك غدرًا آخر، وتعود تَسحَرك. بكل ما تملك من قوةٍ في يديكَ اضغَط واضغط، ولا تتركها إلا جثة! حنان؛ أنهارٌ من الحنان الدافق تَنْسال من الخد الجميل المائل، وتَسْري في قبضته.

أيقظَ كلَّ الوحش الكامن وخنَق، فعلًا خنَق، تحت أصابعه الغليظة رقبتها تختَلِج اختلاجةَ العارفة التي أدركَت.

وهذه المرة فتحَ عينيه ورآها، اتسعت عيناها اتِّساعَ غيرِ المصدِّقة أولَ الأمر، ثم المرعوبة لِهُنيهةٍ بالكاد لا تصدق، ثم … ثم الساكتة الراغبة التي أسلَمَت لحبيبها المصير؛ كلَّ المصير، مرةً واحدة وإلى الأبد، كل شيء تَحفِل به مَلامحُها إلا الخوف، لمحةَ خوفٍ أو رعب أخرى لم يلمَحْها، حتى حين ازْرقَّ الوجه، وبدأت العينانِ جُحوظهما وانقطَع التنفُّس، لا عضلةُ رقبةٍ تختلج بالرعب، ولا عينٌ تدمع، ولا لمحةٌ من ملامحها تستعطف أو تستغيث، بل شِبْه ابتسامة بالِغَة الوَهن، ابتسامة يُرعِب أنها ابتسامةُ سعادة؛ سعادة مَن يُزاول حبيبُه الحبَّ معه، ويُعطيه أخيرًا كلَّ ذاته ونفسه. وجسَدُه هو الذي أصبح يختلج بالرعب، وكأنَّ الخانق أصبحَ المخنوق! نظراتٌ، يا إلهي، تطلب الموت، ترجوه، تتمنَّاه يديه وعلى يديه هو بالذات، والدنيا نِهايتُها تَحُل، والسعادة كلُّها تَغمُر ملامِحَها، سعادةُ الحبِّ موتًا والموتِ حبًّا تغمر كلَّ الملامح.

وكان الحوشان قد امتَلآ على الجانِبَين، وبحرٌ مِن البشر مِن هنا يَدفع، وبحرٌ من الناحية الأخرى يَجذِب لِيُبعِد.

والسعادة كلُّها من بشَرتِها التي تورَّدَت زُرقةً تُشرق، سعادةُ مَن أخيرًا نالَت كلَّ ما تتمنى، لا تزال تتوهَّج وتَنهمِر، سعادةٌ ليس سببُها أنه أبقى على حياتها، وإنما سعادةُ أن إحساسها بمَلمسِه وهو يخنقها، صنَع ما لم تصنَعْه مئاتُ الكتب والتعاليم، وحوَّل القاتلَ الحبيبَ من إنسانٍ إلى مبدأ، أصبح هو ولو لِلَحظةٍ خاطفة كلَّ مَبدئها! ومرحبًا بالموت يأتي — ولو في الحال — حينما على يدَيْه ومبدَئه يأتي، حتى ولو لم يكن يُحبها يجيء، فما عاد الحبُّ نفسُه يُهمها.

ومن بين أحراشه وغاباته بدأ — شيئًا فشيئًا رُغمًا عنه ثم برِضاه — يَنبت، ويَصعد، ويكبَر، ويعلو، بدا شيئًا آخرَ غير عقله، حكيمًا جدًّا يَحبو، عجوزًا جدًّا يُولَد، ولكنْ له قلبٌ أكبرُ من كل قلوب الكون، وأقوى وأعظم، ومِن مرتفَعِه مضى يَرقُب الحشْدَين الصاخِبَين، اللَّذَين يتبادلان القتل عيونًا ووعيدًا، والغضب الفتَّاك تأجَّج والصفافير تستغيث، ومَدافع السجن قد صُوِّبت إلى الداخل، والقيامة أوشكَت، بل قامت تُرعب مَن لا في حياته ذاق الرعبَ مرة.

ولكن الآخَر قد تربَّع وانتهى الأمر، وانتهَت القبضةُ وتراخَت الخنقة، ورغم الحشد الهائل، فالحقيقة الحقيقة لم يَعُد هناك سِواهما، حتى السورُ العظيم وبالذات عند خشَبتِه بعدَ الثالثة المكسورة، كان قد أصبَح الملاذ، والأيدي الأربع مضمومةٌ في تعانقٍ متشبِّث مجنون لا ينتهي.

كان، وكان كتابٌ آخر يكتب كتابهما، وشاهدٌ عليه يا إلهي! نفس ذلك السور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤