من أقواله

(١) ذكريات من كتاب «مذكرات صيني ثائر»

منذ سنة ١٨٨٥ — أي من عهد الهزيمة في حربنا مع فرنسا — وضعت نصب عيني خلع أسرة تاي تسنج وتأسيس حكومة جمهورية على أنقاضها، وابتدأت باختيار الكلية التي أدرس فيها لنشر دعوتي، ناظرًا إلى صناعة الطب كأنها العمة الرءوم التي تقود إلى طريق السياسة العامة.

ومضت عشر سنوات كيوم واحد، وكنت في كلية كانتون الطبية قد صادقت شن شي ليانج الذي كان على اتصال واسع بمعارف كثيرين لهم علم حسن ببلاد الصين، فلما فاتحته في شأن الثورة وأمثلتها العليا وجدت منه موافقة وصارحني باستعداده للاشتراك في الحزب الذي يعمل لها على شريطة أن أتولى أنا قيادته، ونمى إليَّ بعد سنة في كلية كانتون الطبية أن مدرسة طبية إنجليزية ذات برنامج أوسع من برنامج مدرسة كانتون قد افتتحت في هونج كونج، فذهبت إليها يستهويني خاطر العمل على نشر الدعوة في نطاق أوسع مع إتمام تعليمي، وقضيت أربع سنوات عاكفًا على نشر الدعوة طوال الوقت الذي أفرغ فيه من دروسي، متنقلًا ما بين هونج كونج وأموي، ولم يكن لي يومئذ أعوان غير ثلاثة مقيمين في هونج كونج هم: شن شاوبو ويو شاو شي ويانج هولين، ورجل واحد مقيم بشنغهاي هو لوكو تنج، واجتنبني الآخرون؛ لأنني ثائر متمرد كاجتنابهم من يخافون من عدوى الطاعون.

وكنت مع أصحابي شن ويو ويانج نعيش معًا في هونج كونج ولا نكف عن حديث الثورة، وتشبثت أفكارنا بموضوعات الثورة في الصين، فعكفنا على قراءة تواريخ الثورات وأصبحنا ولا سرور لنا في غير التحدث بهذه الموضوعات. ومضت سنوات عُرفنا خلالها بين أصحابها باسم الأوغاد الكبار المتلازمين، وكانت بالنسبة إليَّ فترة مباحثة وتدريب.

وحصرت عنايتي بعد التخرج من المدرسة بمكانين هما أموي ويانج شن لمزاولة الطب ظاهرًا ونشر الدعوة الثورية في الواقع، وكان شن شي ليانج في الوقت نفسه يجمع الأعضاء للحزب، ثم خرجت أنا ولوكو تنج إلى الشمال قاصدين بكين وتينتسن لنروز قوة الأسرة المالكة، ثم قصدنا إلى وشانج كي نتفقد الأحوال هناك.

وسنحت لنا فرصة حسنة سنة ١٨٩٤ فقصدنا إلى الفيليبين لتأسيس جماعة تجديد الصين على أمل الارتباط بالجالية الصينية، ونلقى المساعدة منها، وغاب عنا أن الوقت لم ينضج للثورة فلم تسفر دعوتنا في الفيليبين إلا عن عشرة استجابوا لها بعاطفتهم لم يقبل منهم غير اثنين أخوين أن يضطلعا بشيء من التضحية في سبيل القضية العامة.

حدث هذا والجيوش الإمبراطورية تنهزم في معركة بعد أخرى، وهيبة المانشو تتضاءل بعد ضياع كورية ولا يخامرنا الشك في انحلال أسرة المانشو وتداعيها، وقد كتب إلينا زميلنا بشنغهاي سن يويه لو يلح علينا وجوب العودة، فعدت أنا وتن ين نان وثلاثة من الزعماء إلى موطننا على نية تنظيم الثورة بكانتون والاستيلاء عليها.

وكانت جماعتنا في هونج كونج وفرع منها في يانج شن، وكان في الجماعة تن ين يان ويانج تسوي ين وهون ين شان وشن شاوبو وآخرون يدأبون على التحريض، وكان لوكو تنج وشن شي ليانج في فرع يان شي مدربين من أمريكا وبعض القادة، وجعلت أنا أتردد بين كانتون وهونج كونج، وكانت مهمتنا وقتئذ محدودة واضحة الخطوط والاستعداد تجري على قدم وساق، وقد اجتمعت لنا قوة لا بأس بها وفي استطاعتها بضربة واحدة أن تحدث حدثًا ذا بال.

إلا أن السلطات، في ذلك الوقت، كانت قد علمت بأمر تهريب السلاح إلى الداخل (خمسمائة مسدس) وقضت على عضو من أمثل زملائنا بالموت وهو لوكو تنج، فكان ذلك أول ضحية لنا على مذبح الثورة الصينية، وحدث في الوقت نفسه ضبط تسي هسي وشو جوي والقضاء عليهما بالموت، وضبط نحو سبعين آخرين من بينهم الأميرال سن كوي جوان.

وحلت بنا أول هزيمة ثورية في اعتقادي تاسع سبتمبر سنة ١٨٩٥، وكنت لا أزال بكانتون بعد هذه الهزيمة بثلاثة أيام، ولكني اضطررت إلى اللياذ بهونج كونج بعدها بعشرة أيام من الطرق الجانبية، ثم برحتها إلى اليابان مع زملائي شن شي ليانج وشن شاربو قاصدين النزول بمدينة يكهاما، وقصصت ضفيرتي واتخذت الملابس الأوروبية؛ لأن موعد عودتنا إلى الصين غير معروف، ثم برحت اليابان إلى الفيليبين وقفل زميلي شن شي ليانج إلى الصين كي يعيد الأمور إلى ما كانت عليه قبل هزيمتنا، وبقي شن شاو بو باليابان لدرس الأحوال السياسية، وكنت قد اتصلت يومئذ بسوني وميازاكي من الجمعية اليابانية، فكان هذا بدء الاتصال بين الثوريين الصينيين واليابانيين.

وأخذت بعد وصولي إلى الفيليبين أضم الزملاء إلى حركة تجديد الصين … ولكن زملاءنا أنفسهم لم يكتموا يأسهم بعدما حل بنا من الهزيمة، وتنكر غيرهم لمبادئنا، وأعوزتنا العوامل التي تساعد على تطور النزعة الثورية فتراخى العمل فيها بعض حين، ولم أجد من البواعث ما يستبقيني بالفيليبين، فاعتزمت السفر إلى أمريكا لربط العلاقات بيننا وبين المهاجرين من أبناء وطننا هناك.

وصادفني في أمريكا جو أمعن في الهجوم من جو الفيليبين، وقطعت القارة من سان فرنسسكو إلى نيويورك، وتريثت أيامًا خلال الطريق لا تزيد في مكان على عشرة أيام، وطفقت حيث نزلت أنادي بإسقاط أسرة المانشو لإنقاذ الصين من الدمار، وأهيب بكل صيني أن يسهم في بناء وطنه على أساس ديمقراطي جديد.

ولم يكن مقامي بأمريكا ذا بال في تقدم الثورة الصينية، ولكنه على هذا أثار الخوف والتوجس عند الحكومة الإمبراطورية، فما وضعت قدمي بلندن حتى الفيتني في براثن السفارة الصينية، ولم ينقذني من خطر الموت غير أستاذي الدكتور جيمس جنتلي.

فلما نجوت من لندن قصدت أوروبة لدراسة نظمها السياسية، والتعرف إلى هيئات المعارضة والمقاومة، وفي أوروبة علمت أن الدول الأوروبية على نجاحها في أسباب القوة ومبادئ الحكم القومي لم تنجح في توفير أسباب السعادة والرضا لرعاياها، ولهذا اتجهت مساعي الثوريين الأوروبيين إلى الثورة الاجتماعية، ونبتت عندي فكرة الجمع في وقت واحد بين حل مشكلات الاقتصاد والاستقلال والحرية الشعبية، ومن هنا كانت نشأة اﻟ «سان مين شو آي» أو الديمقراطية القائمة على دعائمها الثلاث.

إن الثورة هي رسالتي الكبرى في الحياة، فاعتزمت التعجيل بإنهاء عملي في القارة الأوروبية حرصًا على الوقت اللازم لتحقيق الثورة أن يضيع سدى. وأقلعت إلى اليابان معتقدًا أننا نستطيع على مقربة من الصين أن نواصل جهودنا الثورية، فلقيني في يكهاما اثنان من زعماء الحزب القومي اليابانيين، ثم التقينا بعد ذلك في طوكيو أصدقاء قدماء وتناولنا البحث فيما له علاقة بالصين على أتم ما يكون من الصراحة، واتفق في ذلك الحين أن الحزب القومي تولى الوزارة واختير أكوما وزيرًا للخارجية، فقدمت إليه وإلى الساسة اليابانيين الآخرين، وكان ذلك بدء اتصالنا بالدوائر اليابانية الحاكمة، ثم التقيت بسوزيما وغيره من ممثلي المعارضة اليابانية.

وكان المهاجرون الصينيون باليابان يبلغون عشرة آلاف، يسودهم جو فتور وخمود وتفزعهم خواطر الثورة شأنهم في ذلك شأن المهاجرين إلى الأقطار الأخرى، وجاهد زملاؤنا بينهم سنوات فكان قصارى ما صنعوه أنهم ضموا نحو مائة إلى حركة الثورة وهم نحو واحد في المائة من جملة المهاجرين.

وإذا كانت مهمة الدعوة الثورية بين المهاجرين على هذه الحال من العسر وقلة الشكر، فقد كانت الدعوة أعسر من ذلك وأقل شكرًا بين الصينيين في صميم بلادهم، فمن لم تصدهم فكرة خلع المانشو وانضموا إلينا كانت مداركهم قاصرة وكانت الأواصر بينهم واهية ولم يكن لهم يقين متين بشيء من الأشياء، وغاية نفعهم أنهم وسيلة سلبية لا يعتمد عليهم بحال من الأحوال في العمل الجدي لأغراض الثورة.

مضى من سنة ١٨٩٥، أي من عهد هزيمتنا الأولى، إلى سنة ١٩٠٠ خمس سنوات كانت كلها فترة مشقة وعناء للحركة الثورية الصينية، وانهار ما بنيناه خلال عشر سنوات سواء نظرنا إليه من وجهة أعمالنا الفردية أو وجهة الدعوة العامة، ولم تفلح الدعوة الخارجية إلا قليلًا، وحدث كذلك أن المنظمات الملكية نمت ونشطت خلال هذه الفترة، وأوشكت آمالنا أن تتقوض لولا وفاء زملائنا الذين طردوا اليأس عن نفوسهم ونظروا إلى المستقبل قدمًا في ثقة وشجاعة.

أرسلت شن شاو بو إلى هونج كونج لإصدار صحيفة تنشر الأفكار الثورية، وبعثت بلي كيانج جو إلى مقاطعة شكيانج لتنظيم القوات فيها، ووضعت التعليمات لشن شي ليانج ليشخص إلى هونج كونج وينشئ فيها مكتبًا يتولى تجنيد أعضاء جدد للحزب، ولم يلبث جماعة تجديد الصين أن اندمجوا في هيئة واحدة مع المنظمات التي تأسست في إقليم كوانتنج وغيرها من أقاليم وادي اليانجزي.

واتفق كذلك أن ظهرت في ذلك الحين جماعة الملاكمين «البوكسر» بإيحاء من أسرة المانشو، فأنفذت ثماني دول جنودها إلى الصين وباشروا حملاتهم العسكرية، وقررت ألا تضيع الفرص السانحة، فأمرت شن شي ليانج بمغادرة هونج كونج إلى هوشو لتنظيم حركة عصيان فيها، وأنفذت لي كيانج جو إلى يانشن للغرض نفسه، وذهبت أنا إلى هونج كونج مع بعض الضباط الأجانب.

بينما كان هذا الاستعداد يجري مجراه قاصدًا أن أصل بحرًا إلى موطني للإشراف بنفسي على قوات الأمة الموثوق بها، وتنظيم جيش مدرب ينقذ الصين من مصيرها إلى الخراب، ولكني لم ألبث أن فوجئت بوغد يعترضني ويغري السلطات بتفتيشي وحجزي عن النزول، فلم يتسن لي المضي في خطتي الأولى وعهدت بالتبعة كلها إلى شن شي ليانج في هوشو، وأرسلت إليه ريانج تسويا وين لي تسي وشن شاوبو وغيرهم لمساعدته. وعدت إلى اليابان ثم ذهبت منها إلى فرموزا على نية الاحتيال على دخول الصين، وكان حاكم فرموزا يومئذ (قدامة) ممن يعطفون عطفًا شديدًا على الفكرة الثورية لاعتقاده أن الفوضى شائعة في ذلك الحين بين بلاد الشمال، فعهد إلى أحد أعوانه في مفاوضتي ووعد في حالة وقوع الاضطراب الخطير أن يمدني بالمعونة.

ووسعت خطتنا الأولى بزيادة الضباط الخبراء؛ إذ كان حزبنا إلى تلك اللحظة قليل الأعضاء من الخبراء العسكريين ذوي الفكرة السياسية، ثم أمرت شن شي ليانج في الوقت نفسه بالعدول عن الخطة الأولى التي كان من مقتضاها البدء بالهجوم على المدينة الكبرى بالإقليم، والتمكن من المواقع البحرية بدلًا من ذلك وتركيز قواتنا هناك ثم البدء بعد ذلك بالهجوم. وبادر شن شي ليانج بتنفيذ تعليماتي وأغار بفرقة أكثرها من الفلاحين على جنود الإمبراطورية بسنيانج وشن شوان، وجردها من سلاحها ثم هجم على لونجان وتانشوي يانهو وغيرهما موفقًا، حيث كان مما جعل جنود الإمبراطورية تتشتت كلما اقتربت منها طلائعه، ونجح بعد ذلك في احتلال المواقع البحرية من سنيانج إلى هوشو وانتظر هنالك وصولي مع أعواننا ووصول المدد من السلاح والذخيرة.

ولكن حدث على غرة بعد ابتداء حركتنا بعشرة أيام تغيير في الحكومة اليابانية، واتخذ رئيس الوزارة خطة نحو الصين على نقيض الخطة التي سار عليها سلفه، وحال دون كل اتصال بين حاكم فرموزا والثوار الصينيين، كما منع تصدير السلاح والإذن للضباط اليابانيين باللحاق بجنود الثورة، وقد أخل هذا الطارئ بجميع خططي فأنفذت يامادا وبعض الزملاء إلى معسكر شن شي ليانج لإبلاغه ما حدث كي يتصرف على حسب الظروف، فوصلوا إلى معسكره بعد ثلاثين يومًا من بدء الحركة، وكان هنالك جيش من عشرة آلاف قد تجمع وانتظر في لهفة ما يرد إليه من السلاح وكبار الضباط، فلما علموا برسالة يامادا قرروا حل الجيش وعاد شن شي ليانج إلى هونج كونج مع مئات من الزملاء، وضل يامادا طريقه فوقع في أيدي جنود الإمبراطورية وأعدم فكان أول أجنبي فقد حياته ضحية للثورة الصينية.

وبينما كان شن شي ليانج في وقدة القتال حاول لي كيانج جو في كانتون أن يساعده بغير جدوى، فقرر أن يلقي بقذيفة على مكتب حاكم مقاطعتي كوان فلم تنفجر وقُبض عليه وأُعدم، فكان البطل الثاني من الضحايا الذين هلكوا على مذبح الثورة.

وكانت قصة سنة ١٩٠٠ هي الهزيمة الثانية للحركة الثورية، بيد أن الشعب الصيني غَيَّر موقفه منا بعد الهزيمة تغييرًا عظيمًا، فقد كانوا بعد الهزيمة الأولى ينظرون إلينا نظرتهم إلى شرذمة من المشاغبين وقطاع الطريق يقترفون ما لا يجوز، وكانوا يهيلون علينا اللعنات والشتائم ويحسبوننا من الأفاعي السامة ويعزفون عن معرفتنا، فلما أصبنا بالهزيمة سنة ١٩٠٠ لم تنقطع أصوات اللعنة الأولى عن الصياح بنا كما كانت تصيح من قبل، ولكننا وجدنا أناسًا كثيرين من الأذكياء يأسفون لإخفاقنا ويعربون عن عطفهم على حركتنا، وذلك ولا ريب فارق عظيم عند المقابلة بينه وبين الحالة فيما مضى، وزملاؤنا الذين أحسوه قد خامرهم الفرح بهذه العلامة من علامات اليقظة في البلاد، وخدمت ضجة الأسرة المالكة حين دخلت جنود الدول الثمان إلى بكين ظافرة، ولاذ وكلاء القصر الإمبراطوري بأذيال الفرار وأذعنوا بعد الهدنة لشروط الغرامة وقدرها مائة مليون، وازدادت حالة الأمة الصينية سوءًا على سوء ولم تزل نذر الخطر تغشاها على الدوام، وأجمع أذكياء الصين على أنها تنزلق وشيكًا إلى الخراب فجاشت من ذلك الحين موجة جديدة من الثورة والهياج.

وكانت الأقاليم جميعًا في ذلك الحين قد دأبت على إرسال الطلبة منها إلى اليابان لتلقي العلوم الحديثة بمدارسها، ووفد على اليابان من هؤلاء الطلبة زرافات من ذوي الرءوس الفتية النيرة، فأقبلوا توًّا على التزود من خواطر الثورة واشتركوا في الحركة الثورية، وكانت مناقشاتهم وآراؤهم كلها تدور على مسائل الثورة، وقد ألقى لو شن يوي خطابًا فعالًا على اجتماعهم الذي عقدوه لمناسبة رأس السنة وضح فيه ضرورة الثورة لخلع أسرة المانشو، ففصلته الجامعة تلبية لطلب السفير الإمبراطوري بطوكيو، وراح طلاب آخرون … ينشرون الصحف لترويج الخواطر الثورية.

وشقت هذه الدعوة بين الطلاب طريقها إلى الصين، فلجأ شانج تي يانج ووويوهوي وشوشانج من طلاب شنغهاي إلى استخدام الصحف المسيحية لبث الدعوة الثورية، فاحتجت السلطات الإمبراطورية على تصرفهم ونجم من احتجاجها اعتقالهم في المنطقة الأجنبية، فاحتال أحدهم على الهرب وتلت ذلك أول قضية من نوعها: وهي شكوى الحكومة الصينية أحد رعاياها أمام محكمة أجنبية، فصدر الحكم بسجن شو شانج سنتين.

اشتدت الحركة خلال ذلك فرحب المهاجرون بكتاب شو شانج عن جيش الثورة الذي أنحى فيه أشد الإنحاء على الأسرة المالكة، وكان له أثر ضخم بين الصينيين والمهاجرين، وأحسب أن هذه الفترة كانت فاتحة عهد التطور الواسع في الحركة الثورية، فانضوى المهاجرون شيئًا فشيئًا إلى جانب الثورة وتلقفوا دعوة الطلبة والنهضة العامة في البلاد، وأعربوا لي عن مؤازرتهم حيثما التقيت بهم في طوافي باليابان.

وفي سنة ١٩٠٥ وصلت إلى أوروبة مرة أخرى، ووجدت معظم الطلبة مؤيدين لقضية الثورة، وكانوا قد وصلوا إلى أوروبة حديثًا من اليابان والصين فملكتهم فكرة الثورة وتقدموا من المناقشة فيها إلى توجيه أعمالها، فأبرزت يومئذ برنامجي الذي ضمنته بث الديمقراطية على مبادئها الثلاثة وتفصيل الدستور الخماسي عسى أن نتمكن من خلق نظام ثوري على هذا الأساس، وانعقد اجتماعنا الأول بمدينة بروسل فانضوى إلى رابطتنا ثلاثون عضوًا ثم انضوى إليها عشرون في الاجتماع الثاني ببرلين، وكان الاجتماع الثالث بباريس حيث انضوى إلينا عشرة آخرون، ولكننا لم نعقد اجتماعنا الرابع بطوكيو حتى بلغ المنضوون إلينا عدة مئات، وكانت الصين كلها ممثلة في رابطتنا ما عدا كانسوه التي لم يكن منها أحد يطلب العلم بمدارس اليابان.

على أن كلمة الثورة لم تزل مرهوبة إلى ذلك الحين، فاكتفينا بإطلاق اسم الرابطة المتحدة على رابطتنا واحتفظت بهذا الاسم بعد ذلك بزمن غير قصير.

واعتقدت بعد قيام هذه الرابطة أن طورًا جديدًا من أطوار الثورة في مستهله، فقبل ذلك ما تجشمت المصاعب وتعرضت للزراية والسخرية، ومنيت بالهزيمة غير مرة فصبرت وتقدمت، ولا أخفي أنني لم أكن أحلم يومئذ ببلوغ المقصود من خلع أسرة المانشو وأنا بقيد الحياة، فلما تألفت الرابطة خريف سنة ١٩٠٥ داخلني الرجاء في إنجاز المقصد الأكبر من الثورة خلال حياتي، واعتزمت إذن أن أعلن شعار الجمهورية وأبشر به جميع أعضاء الحزب كي يرجع كل منهم إلى بلده وهو على أهبة الثورة تمهيدًا لإقامة الجمهورية.

ولم تكد تمضي سنة واحدة حتى ارتفع عدد أعضاء الرابطة إلى عشرة آلاف، وتشعبت فروعها على وجه التقريب في كل إقليم، فانطلقت الحركة في طريقها بخطوات فساح، وجاوز تطورها ما كنت أتوقع.

وكنا منذ تأسيس الرابطة قد أصدرنا الصحف التي تذيع خواطر الثورة في أوسع مجال وتنادي بالديمقراطية على مبادئها الثلاثة١ واتجاهها نحو الدستور الخماسي، وطافت بالصين موجة ثورية ارتفعت إلى الذروة عندما بدأنا في إصدار الصحف، وانضم إلينا في هذه المرحلة أبطال من أمثال هسوسي لن وسن يين تسي وتسو تسن وغيرهم.

وبدأت ثورة بنلي مستقلة سنة ١٩٠٧ معتمدة على قواتها؛ إذ كان جيشها قد جند من أعضاء فرع الرابطة المتحدة فيها، وبينما كان هذا الجيش يصطدم بالجيش الإمبراطوري في حرب الحياة والموت كان أعضاء الرابطة بطوكيو يحاصرون مكتبنا ويلحون في طلب السفر إلى الميدان، ومنهم من بكى كالأطفال حين تعذر عليه السفر.

وقد وصلت إلينا أنباء ثورة بنلي متأخرة لسوء الحظ فلم نستطع تدبير العدة الملائمة، فخسرنا المعركة ووقع لو تاويي ونين تياوبي ويوان هن يين وغيرهم من الزملاء في أيدي جنود الإمبراطورية، فحكم على بعضهم بالموت وعلى آخرين بالسجن، وكانت هذه هي «المعمودية» الأولى للرابطة في ميدان القتال، وأمكننا أن نعتقد بعد هذه المعركة أن الدعوة الثورية استولت على البلاد في مجال من السعة والقوة لم يسبق له نظير، ولم يكن في وسع أعضاء الرابطة بطوكيو أن ينظروا إلى هذه الحال قانعين بالفرجة والسكوت، فالتمست الحكومة الإمبراطورية من حكومة اليابان أن تخرجهم من بلادها، فخرجت من اليابان ومعي هان ين وشينج وي ميممين شطر أنام لتنظيم فرعنا بهانوي وإعلان عصيان آخر، وثرنا في شاوشو وانهزمت جنود هوان كان فابتلينا ثم بالهزيمة الثالثة.

ثم نشبت ثورة في مركزي ليان وشيان من جراء الإضراب عن أداء الضريبة وأرسلت الحكومة الإمبراطورية أربعة آلاف جندي بقيادة كوجين شانج لقمع الفتنة، فأمرت هوانج كاي تسيانج وهويي شين بالذهاب إلى معسكراتهم وإقناعها بتأييد الثوار، فوعد كلاهما بالانضمام إلى الثورة إذا نهضت بها قوة جدية.

ولم نكن قبل تأليف الرابطة نتلقى من المعونة المالية غير القليل، وأكثر المتبرعين من تربطهم بي صلات شخصية، ولم يجسر غيرهم على التبرع، فلما تألفت الرابطة أخذت الإعانات تتوارد علينا من الخارج. وأذكر ممن أعانونا يومئذ شانج تسين سيانج الذي باع مصنعه بباريس وأعطانا ستين أو سبعين ألف ريال، وأذكر منهم هوانج تسين نان من أنام وقد أعطانا جميع مدخراته التي تبلغ بضعة آلاف ريال، وأذكر منهم كذلك بعض أثرياء أنام أمثال لي شو فونج وتسنج هسي شو وماي بي شن الذين تبرعوا بنحو عشرة آلاف ريال.

ولم يسعني بعد الهزائم المتوالية في قتالنا مع جيوش الإمبراطورية أن أبقى مطلق الحرية في اليابان أو هونج كونج أو أنام أو أي مكان على مقربة من الصين، وكاد العمل على مقربة من وطني أن يصبح إحدى المستحيلات، فعهدت بالقيادة إلى الزميلين هوانج كاي سيانج وهوهان مين ومضيت في جولة حول العالم لجمع التبرعات.

وعلى أثر ذلك أنشأ هوانج سيانج وهو هان مين لجنة رئيسية بهونج كونج للإشراف على شئون الجنوب، واجتمعوا مع شاوبو سيانج وني يانج شين وشوشي سين فأضرموا الثورة معتمدين على الفرق العسكرية الحديثة التدريب، وكانت فكرة هذه الثورة سديدة فارتفعت راية العصيان سنة ١٩١٠.

وبرحت أمريكا إلى الشرق خلال هذه الفترة، فعلمت بالثورة عند وصولي إلى سان فرنسيسكو، وأقلعت على الأثر قاصدًا إلى الفيليبين ثم اليابان للعودة من ثم إلى الصين، ولكن الجواسيس عرفوني بيكاهاما فتعذر عليَّ المقام بها ويممت الجنوب حيث اعتزمت الاجتماع بهوانج كي سيانج وهوهان مين للتشاور في خطط المستقبل، وكانت الكآبة ترين على الزملاء حينئذ بعد توالي الهزيمة وخسارة المواقع الصالحة واضطرار كثير من الزملاء إلى الفرار والمهاجرة، وأعوزتنا القدرة على إعادة الكرة من جديد.

ألفيت الزملاء على حالة سيئة من التشاؤم، وانطلقت منهم آهات الأسف والأسى عندما هممنا بالبحث فيما ينبغي أن نصنع، وانحرف بعضهم عن بعض بنظره، وانفردت بالكلام فذكرتهم أن هزائمنا الماضية كانت أفدح وأصعب من هزائمنا الأخيرة، وأن عدتنا اليوم قد تكون قليلة، ولكن موجة السخط تعلو وتتسع يومًا بعد يوم وتشتد معها الروح المعنوية بين أبناء الأمة، فإذا عقدنا عزائمنا على الخطة التي أرسمها فإنني كفيل بتدبير المورد اللازم … قالوا: إذا كنا لا نصيب حاجتنا للنفقة على أنفسنا، فكيف ترانا نصيب الموارد اللازمة للمضي بالثورة؟

فأكدت مرة أخرى أنني سأجد المورد اللازم. عندئذ قال الزميل پو: إننا إذا اعتزمنا حقًّا أن نعيد الكرة وجب علينا أن نبعث بأحد الزملاء مزودًا ببضعة آلاف ريال إلى إقليم زشوان لتثبيت الإخوان هناك وصرفهم عن نية التفرق، وحل الجماعة، وبهذا دون غيره يحق لنا أن نأمل في تأليف لجنة جديدة واستئناف الصراع. قال الزميل پو: وعلينا حتمًا أن نرجع إلى هونج كونج لمعاودة البحث وأن نمد زشوان توًّا بخمسة آلاف ريال، فإذا انتوينا المثابرة على الكفاح كان لزامًا علينا أن نحصل على عدة آلاف من الريالات.

فأرسلت في طلب المهاجرين الصينيين الذين يشعرون مثل شعورنا، وأسفر الاجتماع عن التبرع بثمانية آلاف ريال، والاتفاق على إيفاد الرسل إلى الأقاليم والجهات المختلفة لجمع ما نحتاج إليه، فاجتمع لنا خلال أيام مبلغ يتراوح بين ستين ألف وسبعين ألف ريال.

فوضعنا خطة العمل، وبدأت أنا فسافرت إلى المنطقة الهولندية فلم يُؤذن لي بالنزول ولا بالذهاب من ثم إلى المنطقة الإنجليزية، فلم يبقَ لي معدى أن أحول وجهتي إلى أوروبة أو أمريكا، فقصدت أمريكا وجعلت انتقل خلالها من ركن إلى ركن؛ أثير حمية المهاجرين الصينيين وأحضهم على المساعدة بالمال لتأدية قضية الثورة، فلقيت أفواجًا كثيرين من المؤيدين أثناء هذه الرحلة.

وكانت الثورة قد نشبت في ودشانج عند وصولي إلى كولومبيا، وقبل ذلك بعشرة أيام تلقيت برقية من هوان كاي سيانج بهونج كونج لم أفسرها؛ لأن الجفر كان في حقيبتي، ولم أعرف فحواها إلا بعد نزولي بإحدى المدن من ولاية كولمبيا، فعلمت منها أن تسوي شن وصل إلى هونج كونج وأبلغهم أن المدد المالي مطلوب عاجلًا لإمداد حركة الجنود الحديثة التدريب، وإذ كنت ساعتها لا أملك مالًا خطر لي أن أبرق إليهم بإرجاء الحركة، ولكن الليل أدركني وأثقلني تعب الرحلة فأجلت الإبراق إليهم حتى الصباح عسى أن ينفسح الوقت مع ذلك لتقليب المسألة على جميع الوجوه.

وبكرت لتناول طعام الإفطار فلم أكد أصل إلى المطعم حتى رأيت ثمة صحيفة صباحية فتحتها فإذا هي تروي بلسان البرق خبرًا عن استيلاء جنود الثورة على ووشانج، فبادرت بالإبراق إلى هوان كاي سيانج موضحًا له سبب سكوتي، وكان من الميسور أن أصل إلى شنغهاي بعد عشرين يومًا للمشاركة في الثورة؛ لولا أن الجبهة الدبلوماسية كانت في تلك اللحظة أهم حتى من النشاط العسكري، فصممت العزم على متابعة المسائل الدبلوماسية وألا أعود إلى الوطن حتى نستقر من هذه المسائل على قرار.

كان الموقف السياسي يومئذ كما يلي: أمريكا أعلنت فيما يتعلق بالصين سياسة الباب المفتوح والمحافظة على سيادتها، ولكنها لم تتخذ موقفًا محدودًا من ناحية الثورة، إلا أن الرأي العام الأمريكي كان مؤازرًا لحركتنا.

أما الموقف من جانب الحكومة الفرنسية والشعب الفرنسي فهو موقف عطف على الحركة.

أما في إنجلترا فقد كان الشعب معنا وكانت الحكومة تعارض الثورة، ووضح لنا أن ألمانيا وروسيا كانتا تناصران أسرة تاي تسنج، والعلاقة بين ثوارنا وشعبهما واهية لا تتيح لنا أن نستعين بهما على توجيه سياسة الحكومتين. وبقيت اليابان القريبة منا وبين خير أبنائها أناس ناصرونا وبذلوا حياتهم فدى لقضية الثورة، إلا أن سياسة الحكومة اليابانية لم تكن جلية، وقد نرى قياسًا على الماضي أنها تسلك منها مسألة المعارضة، فقد نفتني مرة وحظرت نزولي إلى أرضها مرة أخرى.

وابتداء من سنة ١٩٠٠ تقرر ألا تعمل دولة من الدول على انفراد في شئون الصين، وكان عدد الدول التي تهتم بالصين ستًّا في ذلك الحين، اثنتان منها — وهما أمريكا وفرنسا — إلى جانب الثورة، واثنتان — وهما ألمانيا وروسيا — تعارضانها، ولم تعين إنجلترا سياستها، ولكن الشعب الإنجليزي أبدى دلائل العطف عليها، وأيدها شعور الأمة اليابانية مع جنوح الحكومة اليابانية إلى معارضتها.

وكذلك كانت مسألة المسلك الدولي مسألة مهمة في حساب الثورة الصينية، وأهمه عندنا حينئذ مسلك إنجلترا؛ لأننا قدرنا أنها إذا سلكت قبل الثورة مسلكًا لم تلبث اليابان أن تحذو حذوها، فانتويت من أجل هذا الشخوص إلى إنجلترا.

وبينا أنا في الطريق قرأت في الصحف خبرًا فحواه أن الثورة نشبت بووشانج وأن سن ياتسن سيتقلد رئاسة الجمهورية المنتظرة، فرأيت اجتناب الصحفيين؛ إذ بدا لي أن الإشاعات تسبق الوقائع.

وتابعت السفر ومعي زميلي شوشو وين في رحلتنا الطويلة إلى البلاد الإنجليزية، وعلمت عند بلوغي نيويورك أن الزملاء يهاجمون كانتون فأبرقت إلى الحاكم شانج ني أيس أنصح له بتسليم المدينة اتقاء لسفك الدماء، وأمرت الزملاء أن يؤمنوه على حياته، وهو ما حدث بعد ذلك.

وعمدت عقب نزولي بإنجلترا إلى مفاوضة الاتحاد المصرفي للدول الأربع لأحذره من إمداد أسرة المانشو بالقروض، وكان الاتحاد قد رضي فعلًا أن يقرضها مائة مليون بضمان سكة حديد شوان هانج، ثم زاد القرض مائة مليون أخرى، ودفع قسط من أحد هذه القروض ولم تصدر الأسناد في القروض الأخرى مع توقيع الاتفاق، وأردت وقف الأقساط من القرض الذي بدئ بدفعه ومنع صدور الأسناد من القروض الأخرى، وتبينت أن هذه التسوية رهينة بمشيئة وزارة الخارجية فأمرت مدير دار الصناعة (وي هاي وي) أن يفاوض الحكومة البريطانية على مسائل ثلاث أصررت على تسويتها: «أولها» وقف جميع القروض الممنوحة لأسرة تاي شنج، والمسألة الثانية ثني اليابان عن التدخل، والمسألة الثالثة إلغاء جميع الأوامر التي تحظر نزولي بالمناطق البريطانية، كي يتيسر لي الوصول إلى الصين بغير مشقة.

فلما تلقيت الجواب المرضي عن هذه المسائل من الحكومة البريطانية تحولت إلى الاتحاد المصرفي للحصول على قرض للحكومة الثورية، فجاءني الرد من مديره قائلًا:

إنه لما كان الاتحاد قد وقف دفع القروض للأسرة المالكة فالاتحاد لا ينوي ألا يمنح هذه القروض إلا حكومة ثابتة معترفًا بها، ويرى الاتحاد في الظروف الحاضرة أن ينفذ مندوبًا معك يبدأ المفاوضات عند الاعتراف الرسمي بحكومتك.

كان هذا كل ما استطعته خلال مقامي بالبلاد الإنجليزية، فلما بلغت باريس لقيت أحزاب المعارضة وتلقيت منها جميعًا عبارات التأييد وبخاصة من الرئيس كليمنصو.

وبلغت شنغهاي بعد ثلاثين يومًا من مبارحتي باريس، وكان مؤتمر الصلح بين الشمال والجنوب منعقدًا في ذلك الحين، ولكن دستور الجمهورية المنتظرة لم يتقرر بعد، وراحت الصحف قبل اقترابي من شنغهاي تذيع أنني أعود إلى الوطن محتقبًا المال الكثير لمساعدة الثورة، ووجدتهم — زملائي ومندوبي الصحف الأجنبية والوطنية — يترقبون ذلك فأجبتهم عند سؤالي أنني لم أحضر معي فلسًا واحدًا وأن كل ما أحضرته معي روح الثورة وأنه — إلى أن يتحقق الهدف — لا وجه للكلام في مؤتمرات الصلح، فأقبل المندوبون من أرجاء الصين بعد هذا التصريح على الأثر متقاطرين إلى مدينة نانكين، وانتُخبت رئيسًا للجمهورية الصينية.

وتوليت عملي (سنة ١٩١٢) آمرًا بإعلان الجمهورية الصينية وتنقيح التقويم القمري، واعتبار تلك السنة أول سنة للجمهورية.

وكذلك انقضت ثلاثون سنة كاليوم الواحد، وبعد انقضائها فقط بلغت الهدف، هدف حياتي: وهو إنشاء جمهورية الصين.

(٢) من تاريخ الثورة بيان المؤتمر الوطني الأول سنة ١٩٢٤

بدأت فكرة الثورة بعد الحرب الصينية اليابانية، وبلغت أشدها سنة ١٩٠٠ ونجحت سنة ١٩١١ حين سقطت الحكومة الملكية.

بيد أن الثورة لا تطرأ دفعة واحدة، فمنذ احتلت أسرة المانشو الصين جاشت النفوس بالسخط زمنًا طويلًا، ثم افتتحت البلاد للتجارة الدولية فاندفع الاستعمار الأجنبي إليها كالسيل الغاضب، وهبط بها الاستغلال المسلح والضغط الاقتصادي إلى مركز سياسي كمركز البلاد المستعمرة، وضاع من ثم استقلالها، ولم تكن حكومة المانشو عاجزة عن صد الغارة الأجنبية، بل كان من همها الإصرار على إذلال «العبيد» وكسب رضى الدول الأجنبية بهذه الخطة، فاتفق الرأي بين فئة من جماعتنا بقيادة سن ياتسن على أن الأمل في تجديد بناء الصين عبث ضائع ما لم تذهب حكومة المانشو، فنهضوا في الطليعة وحمدوا النضال حتى تحققت مهمة الخلاص من سلطان المغير.

إلا أن مقاصد الثورة لا تقف عند هذه النهاية، وإنما وجب إسقاط المانشو للبدء بالعمل المنشود، أو بعبارة أخرى أن إسقاط المانشو من الوجهة القومية خروج من ربقة قوم أجنبيين للدخول في وحدة وطنية مؤلفة من أقوام الصين على قاعدة المساواة، وهو من الوجهة السياسية خروج من نظام الدكتاتورية إلى نظام سيادة الأمة، ومن الوجهة الاقتصادية خروج من عهد الصناعة البدائية بالأيدي إلى عهد الصناعة الكبرى صناعة الآلات الحديثة، وعلينا إذا أردنا المضي في طريقنا أن نرتقي بالصين من درجة المستعمرة إلى درجة الأمة المستقلة التي تحتل مكانها اللائق بها بين أمم العالم.

على أن وقائع هذه الأيام قد جاءت على خلاف ما توقعنا، ولئن قيل إن الثورة نجحت لقد كان غاية ما حققته هو الخلاص من سلطان الأسرة الأجنبية، واضطرت بعد قليل إلى المساومة والتفاهم من قوى الحكومة المطلقة، ومن جراء هذا التفاهم حبطت الثورة حبوطها الأول؛ لأنه كان بمثابة التسليم غير المباشر للاستعمار.

كان ممثل السلطان المطلق لذلك العهد (يوان شي كاي) وكانت السلطة التي ملكها أول الأمر لا تخرج على المألوف، ولم يشأ الزملاء أن يقمعوه رغبة صادقة منهم في اجتناب التمادي في الحرب الأهلية، مع حاجتهم إلى حزب منظم يرسم غايته ويدرك رسالته، ولو كان حزب كهذا موجودًا لأمكنه أن يقابل مكيدة يوان شي كاي بما يردها عليه.

ولم يتحسن موقف الثورة بعد وفاته؛ إذ كان العسكريون قد أقاموا أنفسهم من الشعب مقام الجلادين من ضحاياهم، وتعذر الشروع في أي عمل سياسي على قاعدة السيادة القومية، ثم أحس العسكريون عجزهم عن التفرد بالحكم فربطوا علاقاتهم بالدول الأجنبية، وكانت الحكومة التي تسمى بالحكومة الجمهورية نفسها بين أصابع هؤلاء العسكريين، فسخروها في تمكين مراكزهم بتمليق المستعمرين، وراح المستعمرون من جانبهم يسخرونهم لمآربهم، ويمدونهم بالقروض التي تملي لهم في منازعاتهم وتتيح لهم الصيد في الماء العكر. وهذه الفوضى كان لها أثرها الطبيعي فأخرت النهضة الصناعية فلم تقو على منافسة الصناعة الأجنبية في أسواقنا الداخلية، وأفلس من جراء ذلك صغار التجار وانتشرت البطالة بين الصناع فتشردوا أو لحقوا بعصابات السطو والإجرام، وعجز الفلاحون عن حرث أرضهم فباعوا محصولهم بأبخس الأثمان لغلاء الحاجيات وثقل الضريبة.

أين المخرج إذن من هذه المآزق؟ إن الآراء تختلف ويعم اختلافها من يقيمون بيننا من الغرباء.

فهناك «أولًا» المدرسة الدستورية، وعندها أن متاعب الصين كلها راجعة إلى غياب القانون، فإذا أمكن توحيد الأمة في ظل الدستور عولجت هذه الفوضى وتيسر دواؤها.

ولا يخفى أن نفاذ الدستور يتوقف على تأييد الأمة، وبغير هذا التأييد لا يجدي السواد والبياض على الورق شيئًا في ضمان الحقوق وحمايتها من عدوان العسكريين.

لقد كان لدينا دستور موقوت منذ السنة الأولى للجمهورية، فلم يحل دون فساد الحكم على أيدي العسكريين والسياسيين، فالدستور ورقة مهملة ما دام هؤلاء موجودين، وقد تمكن «تساوكون» من شراء منصب الرئاسة في ظل دستور أو خيال دستور، ولكنه لم يعمل إلا ما يناقض الدستور.

فقبل الدستور ينبغي أن تكون الأمة قادرة على حمايته، ولا فائدة من وضع العربة أمام الحصان، ونزيد على ذلك أن الدستور لا ينفع الأمة وهي مفككة الأوصال، ولو لم يكن ثمة من يسيء استخدامه من العسكريين، فسوف يظل حروفًا ميتة في هذه الحال.

وتأتي بعد مدرسة الدستوريين مدرسة الاتحاديين «الفدراليين» وعندها أن فوضى الصين راجعة إلى الغلو في المركزية وجمع السلطة كلها بين أيدي حكام العاصمة، فمن المصلحة توزيع هذه السلطة بين حكومات الأقاليم والولايات، فلا تقوى الحكومة المركزية على ارتكاب الأخطاء متى آل الحكم إلى إقليم أو ولاية.

وينسى دعاة هذه المدرسة أن سلطان بكين لم تفوضه الأمة بنص من نصوص القانون، ولكن القادة الكبار قد اغتصبوه لتوسيع سلطانهم المسلح، وكأنما يريد دعاة هذه المدرسة باقتراحهم أن يستعدوا صغار القادة من حكام الأقاليم عن كبار القادة في العاصمة، ويبقى هؤلاء القادة الكبار حيث هم ليضيفوا إلى جرائمهم الأولى جرائم جديدة، فأين وجه الصواب في هذا الاقتراح.

إن النتيجة المحتومة هي قيام حكومات منعزلة في الأقاليم جنبًا إلى جنب مع حكومة القادة الكبار في العاصمة، تتوخى كل منها منافعها من حيث تتمزق الأمة وتضطرب، ولن يرجى النظام ولا الحكم الذاتي في مثل هذه الحال.

ولا ريب أن الحكم الذاتي الصحيح هو الخير الأمثل الذي يطابق مصالح الأمة الصينية كما يطابق آدابها الروحية، إلا أن هذا الحكم لا يستقر قبل تمام وحدة الأمة وألفتها، فلا حرية للأقاليم والولايات حتى تتم الحرية للصين.

وثالث المدارس مدارس المؤتمرات التي تسمى بمؤتمرات السلام، ولا ريب أن شقاء الأمة بطول الحرب الأهلية قد أوحى بهذه الفكرة إلى ذوي الرأي من الصينيين والأجانب على السواء، فإذا صح أن السلام يأتي من هذه الطريق فليس أحب إلينا منها ولا أجمل. ولكن هذا الاقتراح يبطل نفسه؛ لأن الحرب الأهلية هي جريرة المطامع التي تحيك في نفوس القادة، فهم في تنازعهم عليها لا تتمهد بينهم سبيل للوفاق، وكل وفاق بينهم لا يراد به وجه الأمة، ونتيجة هذه المؤتمرات لن تختلف من نتائج أمثالها في أوروبة؛ إذ تضيع مصالح الأمم الصغار مرضاة للدول الكبار.

ورابع المدارس مدرسة تقترح أن يتولى الحكم أناس من زمرة التجار، فهل لنا أن نقول: إن زمرة التجار تمثل الأمة؛ إذ كان القادة والسياسيون قد استحقوا بغضها؛ لأنهم لا يمثلونها؟ إن الصواب هو أن تنظم الأمة حكومة تنوب عن أبناء الصين أجمعين ولا تنحصر نيابتها في تمثيل مصالح التجار، وخليق بحكومة كهذه أن تستند إلى مشيئة الأمة بأسرها ولا تلتمس العون من قوة خارجية.

(٣) برنامج الثورة من خطابه في الاحتفال بمضي ثماني سنوات على الجمهورية (سنة ١٩٢٠)

أعتقد أن خلق الثورة ينبغي أن يجري على نهج التقدم العصري، وأن ننتفع فيه بتجارب الأمم الأخرى، مجتنبين خطأها مهتدين بعوامل نجاحها؛ إذ لا سبيل إلى الأمل في تقويم خطط الثورة بغير دراسة ناضجة لتجارب الثورات في الدول الأخرى بين الأقوام المختلفة.

وأمامي ثلاثة أدوار للثورة: أولها حكومة عسكرية، وثانيها تمهيد وتحضير وثالثها بناء دستوري.

فالدور الأول يستغرق فترة الهدم ويقترح فيه استخدام الأحكام العرفية، ولا بد للجنود الثائرة في أثنائه من تحطيم الدولة التي أقامتها أسرة «تاي تسنج» وطرد موظفيها المفسدين واستئصال التقاليد الباليه والقضاء على الرق وتطهير البلاد من سم الأفيون وسائر سموم الوهم والسحر والخرافة والتنجيم وإلغاء المكوس الداخلية بين الأقاليم الوطنية.

والدور الثاني — وهو دور التمهيد والتحضير — تشتمل مهمته على إنشاء الحكومة الذاتية المحلية في الأقاليم وتيسير تضامن الأمة وجعل الأمة وحدة من حكومات محلية مقسمة إلى قرى ومراكز.

وكل أمة خرج الأجنبي من بلادها وانتهى فيها الحكم العرفي فالواجب عليها أن تنشئ دستورًا يقرر لأبنائها حقوقهم وواجباتهم، كما يقرر حقوق الحكومة الثورية.

وإذا مضت فترة سنوات ثلاث كان على أفراد الأمة أن ينتخبوا سلطتها.

فإذا أفلحت الأمة في استئصال جذور الفساد كما تقدم ودان نصف الشعب بمبادئ الديمقراطية الثلاثة والولاء للجمهورية، ففي وسع السلطة أن تحصي أبناء الوطن، وأن تقرر ضريبة البيوت وتنظم الشرطة وتشرف على الصحة العامة ووسائل المواصلات وفاقًا للأحكام الدستورية.

ومتى انتخبت الأمة سلطتها وأصبحت وحدة مستقلة بحكمها حق لها أن تعول على النية الحسنة من حكومة الثورة، وأن تعترف لها هذه الحكومة بجميع حقوقها الدستورية في ظل الدستور الموقوت.

وإذا استقرت الأمور بعد ست سنوات في جانب البلاد كان على كل إقليم حاكم لنفسه أن يندب عنه نائبًا لتأليف الجمعية الوطنية العظمى، ومهمة هذه الجمعية أن تنشئ خمسة مجالس على هدي دستور الهيئات الخمس لتنظيم عمل الحكومة: وهي الهيئة الإدارية والهيئة التشريعية والهيئة القضائية، والهيئة الاختبارية، وهيئة الرقابة والإشراف العام.

وينتخب المواطنون بعد قيام الدستور بطريق الاقتراع العام رئيسًا لإنشاء مجلس الإدارة ونوابًا لتكوين الجمعية التشريعية، أما المجالس الثلاثة الأخرى، فيعينها الرئيس بالتعاون مع الجمعية التشريعية، وهذه المجالس جميعًا لا تكون مسئولة أمام الرئيس بل أمام الجمعية الوطنية، ولا تقبل استقالة أحد منها إلا بعد إدانته في الجمعية الوطنية بناء على اتهام هيئة الرقابة والإشراف العام، أما أعضاء هيئة الرقابة والإشراف العام فيعزلون بعد اتهامهم بقرار من الجمعية الوطنية.

وتشمل سلطات الجمعية الوطنية وواجباتها مباشرة الإشراف على تطبيق الدستور وتطهير الأداة الحكومية من الموظفين غير الصالحين، وتنظر الهيئة الاختبارية في المؤهلات التي ترشح صاحبها لعضوية الجمعية الوطنية والمجالس المختلفة.

وبعد إقرار الدستور وانتخاب الرئيس وانتخاب المجالس تسلم حكومة الثورة مقاليد السلطة للرئيس، وتعتبر مرحلة التمهيد والتحضير منتهية منذ تلك اللحظة.

والمرحلة الثالثة أو الدور الثالث هو دور إتمام الثورة، وفيه تتحقق الحكومة الدستورية، وفيه تبدأ حكومات الأقاليم الذاتية مباشرة حقوقها المدنية، ويتولى المواطنون سلطة الراشدين في تدبير شئون بلادهم وحل مشكلاتها السياسية وعزل الموظفين الحكوميين.

هذه هي الأدوار الدستورية، أو بعبارة أخرى هذه هي الفترة التي يتم فيها بناء الثورة، وهذه هي الخطوط التي أوثرها وأزكيها.

وبعد فما هي مشكلات البناء الثوري أو بناء الثورة؟

إن البناء الثوري هو بناء الطوارئ أو هو بعبارة أخرى بناء العجلة، ومن هنا وجب أن ينظر إلى وسائل الدوام وأن ينهج على منهج العوامل الاجتماعية الطبيعية؛ إذ كان البناء الذي توحي به دواعي الساعة غير كفيل في جميع الأحوال بموافقة مهام الثورة.

إن الثورة لها عملها الطارئ الذي تسقط به الملكية وتقضي على النظام الإمبراطوري، ولكنها إلى جانب الهدم الطارئ لا بد لها من البناء الطارئ، وكلاهما كالقدمين أو كالجناحين لا غنى لأحدهما عن الآخر، ومنذ الساعة التي أقيمت فيها الجمهورية قد جاوزنا دور الهدم الطارئ، ولكننا لم ندخل في دور البناء الذي لا بد أن يلازمه، وهذا هو مصدر جميع النكبات التي انصبت علينا: سلطان الموظفين العنيف ومنازعات الساسة وما إلى هذا وذاك، ولم يكن للصينيين وسيلة لمنع ما حدث، ففي زمن الطوارئ لا غنى عن بناء الطوارئ، ولا سبيل بغير هذا إلى تعويد الشعب أن يألف واجباته الجديدة، وإن ذلك لمهم إلى الغاية من الأهمية في خطط الثورة.

ولقد مضت حتى الآن ثماني سنوات منذ إنشاء الجمهورية الصينية، وقد استفاد أعضاء الحزب ذخيرة واسعة من التجربة والمعرفة، ولعلهم اليوم يذكرون دعوتي إلى تعليم الجماهير وتدريبها ويفهمون مغزاها دون أن يعتبروها من «الطوبيات» أو المطامح التي لا تقبل النفاذ.

لقد عاشت الصين آلاف السنين تحت نير العروش الرجعية، ودرج أهلها على احتمال الطغيان والحرمان من السيادة، وها هي ذي قد أنشأت منذ فجر الثورة حكومتها الجمهورية الدستورية، فعليها إذن أن تمر بدور من أدوار التدريب، وإلا تعذر عليها بلوغ غايتها.

إن أمتنا الصينية قد طال عليها عهد السيادة الملكية، وقد تركت (خلائق الرق) أثرًا عميقًا في روحها لا يتأتى محوه قبل العبور بها في دور من أدوار التدريب، وعلى الصينيين أن يعملوا كثيرًا على تهذيب أنفسهم قبل إزالة هذه الأقذار المتجمعة من بقايا الماضي والاشتراك في حياة الحرية والمساواة.

إن عصبة الثورة حين أخذت أول الأمر في تنظيم الثورة الصينية كان من همنا بداءة أن ننشر آراءها بأسلوب الدعوة، وأن نجمع كل من صحت عزيمتهم على خدمة الأمة الصينية وتعاهدوا على تحقيق الديمقراطية القائمة على مبادئها الثلاثة لبلوغ مقصدنا الشامل وهو الجمهورية الصينية.

فهؤلاء الذين نقضوا ذلك العهد لا نحسبهم في زمرة الثوريين، ومنهم من ينظر إلى ذلك العهد كأنه بعض المظاهر الرسمية، ولكن قوة الكومنتانج قد نمت نموًّا كبيرًا وتوطد نظامها؛ لأننا بالعهد الذي تعاهدنا عليه قد خلقنا للحزب قلبًا واحدًا، وإذا كان هذا شأن الحزب فهو شأن يصدق كذلك على الدولة.

وكثيرًا ما قيل عن الأمة الصينية: إنها كالرمل المتناثر هنا وهناك، فإذا نحن أردنا أن نجمع هذه الملايين الأربعمائة من حبات الرمل لنخلق منها دولة متحدة قوية في اتحادها، فليس في وسعنا أن نتخلى عن فكرة القسم، وهكذا يحدث في جميع بلدان الحضارة المتقدمة، فإنهم يوجبون عند تغيير الجنسية أن يقسم المرء يمين الولاء والاحترام للدولة التي ينضوي إليها، وأن يعرب عن اعترافه بدستورها والتزامه لكل ما يفرضه عليه من الواجبات ولا يحسب في زمرة المواطنين قبل هذا القسم، بل يقضي حياته بين قومه ولا يزال معدودًا بينهم من الغرباء الذين حرمت عليهم حقوق الوطنية.

وعندي أن الموظفين وأعضاء المجالس لا يؤدون عملهم قبل أداء هذا القسم، ومن حق الحكومة الجديدة حيث يتبدل نظام الحكم أن تطلب عهد الولاء من جميع المواطنين، وأن تعتبر من يرفض أداءه عدوًّا يطرد من حظيرة الدولة.

على أن زملائي في الحزب حسبوا أن مسألة القسم مسألة ثانوية، ووصفوني من أجل هذا بالنزعة النظرية، ولا أزال منذ إنشاء الحزب أصر على القسم، وأرى أن انقطاع مراسم اليمين — أساس القانون — هو أحد الأسباب الكبرى التي جرت إلى خيبة البناء الثوري، ولو لم يهمل زملائي كلماتي عقب تطور الجمهورية لتم في تكوين الدولة ما تم في تكوين الحزب، وكان على كل موظف أن يقسم يمين الولاء للجمهورية وأن يؤيدها ويذود عن حقوق الأمة، ويعزز مواردها، ولا يصح أن يستمتع بالحقوق القومية قبل ذلك بل يحسب من خدام أسرة «تاي تسنج» وأعوانها.

وكل إساءة إلى الجمهورية يعاقب فاعلها بعد حلف اليمين بحكم القانون.

إن الدولة سفينة تجمع قلوب رعاياها، وليست سياسة الدولة إلا صورة لعوامل الأمة النفسانية، فإن أردنا أن نجعل من رعايا الإمبراطور مواطنين مخلصين للجمهورية، فمن الواجب أن نطالبهم بيمين الولاء. ولم يستطع الكومنتانج عند إقامة الحكومة الجمهورية أن يحقق ذلك فكان من ثمة أن الحزب تجمعت له في دور الهدم ذخيرة هائلة من القوى الروحية ثم فقدها بعد إقامة الجمهورية ولم تتيسر له مهمة البناية الثورية.

وتقع التبعة في خيبة الثورة الصينية على جميع المواطنين الصينيين ذوي الفهم والمعرفة الذين لم يبذلوا دماءهم في صفوف الثورة الأولى، وليست هذه التبعة مقصورة على الذين قاموا بالثورة وحدهم، فإن ذوي الفهم والمعرفة جميعًا هم مدد الثورة الذين وجب عليهم أن يخفوا لتأييد الطليعة من الثوار.

أبناء الصين! انهضوا نهضة قلب واحد حبًّا لوطنكم، وهبوا يدًا واحدة لنبذ القديم وخلق الجديد، ورددوا بالنية الصادقة يمين الولاء للجمهورية الذي أردده الآن.

أنا سن ياتسن، بنية صادقة خالصة أقسم لأنبذن من هذه اللحظة القديم وأبنين الجديد، وأن أقاتل في سبيل استقلال الأمة وأصرف قوتي كلها إلى تمكين الجمهورية الصينية وتحقيق الديمقراطية على مبادئها الثلاثة، وإنفاذ الدستور بهيئاته الخماسية لترقية الحكومة الصالحة وتوفير سعادة الشعب وأمانه، وتوطيد دعائم الدولة باسم السلام في العالم أجمع.

(٤) الثوار من بيان عن الحل الصالح لمشكلة الصين (سنة ١٩٠٤)

إن الصينيين الذين يجنحون إلى مبادئ الثورة ينقسمون على وجه التقريب إلى ثلاثة أقسام:
  • أولها: وأكثرها عددًا، أولئك الذين عجزوا عن تحصيل القوت من جراء مظالم الموظفين واغتصاباتهم.
  • وثانيها: أولئك الذين تثيرهم الكراهية القومية لأسرة المانشو.
  • وثالثها: أولئك الذين يستوحون الأفكار النبيلة والأمثلة العليا.

وهذه الطوائف الثلاث تستطيع أن تبلغ الغاية المطلوبة بالتعاون بينها في وجهات مختلفة وبالقوة والسرعة اللتين تنموان يومًا بعد يوم.

ومن المحقق إذن أن سقوط حكومة المانشو إنما هو مسألة زمن، وتشبه أسرة المانشو في هذه الحالة منزلًا متداعيًا سرى الوهن إلى أساسه جميعًا، فهل في وسع أحد أن يمنع سقوط هذا المنزل بأسناد توضع على خارج الجدران هنا وهناك؟

لعل هذا التدعيم نفسه خليق أن يعجل بتقويضه. وقد بدا من تواريخ الأسر المالكة في الصين أن أدوار حياتها كأدوار حياة الفرد بين المولد والنمو والنضج والشيخوخة والفناء، وهذا الحكم التتري القائم اليوم قد أخذ في الهرم منذ أوائل القرن الماضي فهو يمضي إلى فنائه على عجل، وأصبح واضحًا جد الوضوح أن استبدال حكومة مستنيرة متقدمة بهذا الحكم التتري أمر لا محيص عنه.

إن في الأمة كثيرًا من الأكفاء المتعلمين قادرون على النهوض بحكومة جديدة، والبرامج مهيأة لتحويل الحكومة التترية إلى جمهورية صينية، وهذه الجماهير من الشعب على استعداد للترحيب بالنظام الجديد وعلى أمل في حالة أفضل من حالتهم ترفعهم من وهدة هذه المعيشة المحزنة.

إن الصين اليوم مقبلة على حركة قوية عظيمة، وإن شرارة واحدة لكافية لإشعال النار في الغابة الكثيفة وطرد التتر من بلادنا، وإن مهمتنا لعظيمة ولكنها ليست بالمستحيلة.

(٥) مبادئ الأمة الثلاثة، من خطاب في اللجنة التنفيذية لحزب الكومنتانج (٦ مارس ١٩٢١)

بلغت ثورتنا العاشرة، ولكننا لا نستطيع أن نزعم أننا بلغنا الهدف منها فمهمتنا لم تتم، وعلينا أن نمضي قدمًا في كفاحنا.

إن حزبنا مختلف كل الاختلاف من أحزاب الصين الأخرى؛ إذ كان من تلك الأحزاب من عقد النية على خلع أسرة تسنج وإقامة أسرة أخرى — وهي أسرة منج — في مكانها، وغني عن القول أن مبادئ هذا الحزب مناقضة لمبادئنا، فإننا في السنوات العشر الأخيرة من عهد أسرة تسنج ألفينا أنفسنا مكرهين على النزول بمدينة طوكيو، فقررنا يومئذ مبادئنا الثلاثة: وهي القومية والديمقراطية والاشتراكية، وكانت السيطرة يومئذ لا تزال في أيدي المانشو والثورة لا تزال عند مبدئها الأول وهو القومية، غير متمكنة من إقرار مبدأيها الآخرين.

إن مبادئ الرئيس لنكولن تطابق مبادئي، فقد كان ينشد حكومة من الأمة تنتخبها الأمة لخدمة الأمة، وهي مبادئ صورت غاية المسعى في عرف الأوروبيين والأمريكيين على السواء، ومن السهل أن نجد كلمات مثلها لسياسة الصين، فقد ترجمتها بالقومية والديمقراطية والاشتراكية، وأحسب أنها لا تعني شيئًا غير هذا.

وأريد الآن أن أتكلم عن القومية:

فما هو المعنى الذي نريده بالقومية؟ لقد بقيت الأمة منذ قيام أسرة المانشو خانعة لنيرها الثقيل أكثر من مائتي سنة، وها هي ذي أسرة المانشو قد ذهبت ولاح أن الأمة خليقة أن تستمتع بحريتها الكاملة، فهل تستمتع الأمة الصينية اليوم بنعم الحرية الكاملة؟ كلا، فما هي العلة؟ وما بال حزبنا لا يزال بعيدًا من تحقيق غايته لم ينجز منها إلا ناحيتها السلبية دون أن يتقدم شيئًا في ناحيتها الإيجابية؟

بعد خلع الأسرة وإنشاء النظام الجمهوري في الأقطار التي تسكنها القوميات الخمس — ونعني بها الصينيين والمنشوريين والمغول والتتار وأهل التيبت — برزت لنا عناصر جمة من أنصار الرجعية السياسية والدينية، وهنا تكمن جذور الشر كله.

فمن جهة العدد يأتي ترتيب هذه القوميات على هذا النسق، ملايين عدة من أهل التيبت، وأقل من مليون من المغول، ونحو عشرة ملايين من التتار، وعدد ضئيل من المنشوريين، أما من الوجهة السياسية فهم موزعون على النحو الآتي: فالمنشوريون يقيمون في دائرة نفوذ اليابان، والمغول على حسب الأنباء الأخيرة يقيمون في دائرة نفوذ الروس، والتيبت غنيمة بريطانيا العظمى، وهذه القوميات لا تملك من القوة ما يكفي لاعتمادها على نفسها في دفاعها، ولكنها تستطيع أن تتحد مع الصين لتكوين دولة واحدة.

وفي الصين أربعمائة مليون، فإن عجزوا عن تكوين أمة واحدة متحدة فتلك مسبتهم، وفيها عدا ذلك دليل على أننا لم نحقق مبدأنا الأول وأننا مضطرون إلى الكفاح طويلًا لإتمام عملنا على أوفاه، وإنما توطد الجمهورية المتحدة كي يتألف من جميع القوميات أمة واحدة قوية، وعلى سبيل المثال أشير إلى أمة الولايات المتحدة الأمريكية التي تجتمع منه وحدة متفقة وهي في الواقع تتألف من قوميات شتى، كالألمان والهولنديين والإنجليز والفرنسيين … إلخ، فالولايات المتحدة مثال للأمة المتحدة، وتكوين أمة كهذه مستطاع، ولا بد أن نستطيعه.

أو خذوا مثالًا آخر للأمة المتحدة من أقوام مختلفة بلاد سويسرة، فإنها تقع في قلب القارة الأوروبية، على حدودها من أحد جوانبها فرنسا، وعلى الحدود الأخرى ألمانيا، وعلى الجانب الثالث إيطاليا، وهم لا يتكلمون لغة واحدة ولكنهم مع هذا أمة واحدة، وإنما توحد بينهم الثقافة الحكيمة والنظام السياسي الرشيد، فتجمع من هذه الأجناس المتفرقة أمة متحدة متماسكة، ومصدر هذه القوة أن رعايا الجمهورية متساوون في حقوق الانتخاب المباشر، وهي إذا نظرنا إليها من الوجهة الدولية أول أمة ساوت بين رعاياها في تلك الحقوق، وهذه قدوة مثلى في الوطنية.

فلنفرض الآن أن قبائل الصين جميعًا تمت وحدتها وخرجت منها أمة متماسكة، فليس هذا كافيًا لتحقيق الغاية المنشودة؛ إذ لا تزال ثمة شعوب تعاني الإجحاف في المعاملة، ومن واجب أبناء الصين أن يتكلفوا برفع هذا الإجحاف وبسط يد المعونة إلى تلك الشعوب لضمها إلى الراية الوطنية الشاملة، وجدير بالإنصاف أن نتيح لهم فرصة الشعور بمساواة الإنسان للإنسان، وبالموقف العادل من الوجهة الدولية كما عبر عنه الرئيس ويلسون فيما سماه تقرير المصير، وما لم نبلغ بأمتنا هذا المبلغ لا نعتبر مهمتنا منجزة. فكل من أراد الانتماء إلى الصين وجب أن يحسب من صميم الصينيين، وذلك هو معنى الوطنية أو القومية، فهي القومية الإيجابية وينبغي أن نؤكدها بهذا المعنى.

أما الديمقراطية، فقد ذكرت الساعة أن الديمقراطية قد استوفت طورها الأعلى في سويسرة، إلا أنني أبادر فأقول: إن نظام التمثيل هناك لا يطابق الديمقراطية على أصحها، وإنما تصح الديمقراطية بحق الفرد المباشر. وقد نشبت ثورات عدة في فرنسا وأمريكا وإنجلترا تولد منها نظام التمثيل القائم بين تلك الأمم، ولكنه مع هذا لا يعني الحق المباشر على السواء لجميع المواطنين كما نعنيه ونجاهد في سبيله، وإنما الجوهري من هذه الحقوق جميعًا حق الانتخاب لكل مواطن وحق العزل الذي يخول الشعب بعد انتخاب موظفيه أن ينحيهم عن العمل حين يشاء، وحق الاستفتاء الذي يخول الشعب أن يرفض كل قانون تصدره الهيئة التشريعية مخالفًا لرغباته، وحق الاقتراح الذي يخوله أن يقدم إلى الهيئة التشريعية مسودات من القوانين يستحسن إصدارها.

فهذه الحقوق الأساسية الأربعة هي قوام ما أسميه بالحق الانتخابي المباشر.

ونتناول الكلام على الاشتراكية أخيرًا وهي فكرة عرفت بين الصينيين في الأزمنة الأخيرة، ومعظم دعاتها يقصرون معرفتهم بها على بضع كلمات جوفاء لا تعبر عن برنامج محدود، ولكنني قد انتهيت من دراستها إلى جوهرها وهو حل مشكلة الأرض ورأس المال.

ونلخص ما تقدم ونضيف إليه بعض التفصيل فنقول: إننا منذ خلع الأسرة المالكة لم ننجز من مبدأ القومية غير جزء من عهودنا، فقد حققنا الجانب السلبي ولم نعمل شيئًا من جانب الإيجاب، وعلينا أن نرفع كرامة الأمة الصينية، ونؤلف بين جميع الشعوب التي تستوطن الصين لتصبح في آسيا الشرقية أمة واحدة تُسمى دولة الصين القومية.

ولإدراك هذه الغاية يلزمنا أولًا أن نقرر الأصول الأربعة التي تدور عليها الحقوق الانتخابية الأربعة: وهي الاقتراع العام، والاستفتاء، والاقتراح، والعزل.

أما الاشتراكية فبرنامجي لها ما يأتي:

«أولًا» تقسيم الأرض على أساس النسبية.

وقد حاولت أيام مقامي بنانكنج؛ إذ كنت أتولى الرئاسة المؤقتة أن أنفذ هذا البرنامج فلم أستطيع؛ لأنني لم أفهم.

إن المشكلات الاجتماعية تنشأ من التفاوت بين الغني والفقير، فماذا نعني بالتفاوت أو قلة المساواة؟

لقد كان الفارق موجودًا بين الغني والفقير في الأزمنة الغابرة، ولكنه لم يكن فارقًا حاسمًا كما نراه اليوم؛ إذ يملك الغني الأرض كلها ولا يبقى للفقير حتى القليل منها، وعلة هذا التفاوت اختلاف أساليب الإنتاج، فقد كان قاطع الخشب مثلًا يستخدم الفئوس والمدى وما إليها، ولكن المكنات تحل محل هذه الأدوات في العصر الحاضر ويستطاع الحصول على محصول كبير بعمل بدني قليل.

ولنضرب مثلًا آخر من أعمال الزراعة، ففي الأزمنة الغابرة كان المعول كله في هذا المجال على الجهود الإنسانية، ثم نشأت المحاريث التي تجرها الخيل والبقر فزادت سرعة العمل وقلت الجهود البدنية، ثم استخدمت القوى الآلية اليوم في أوروبة وأمريكا فأصبح من المستطاع حرث ألف فدان وزيادة في اليوم الواحد وأمكن الاستغناء عن الخيل والبقر، فنجم من هذه الحالة فارق هائل يعبر عنه بنسبة ألف إلى واحد، فإذا انتقلنا من هذه الأمثلة إلى وسائل المواصلات رأينا أن الوسائل الحديثة كالبواخر والسكك الحديدية قد جعلت النسبة أكثر من ألف إلى واحد، عند المقارنة بين هذه القوى والقوة الإنسانية.

ولنتكلم أولًا عن اشتراكية الأرض، فنظام الأرض مختلف بين أوروبة وأمريكا، ولا يزال نظام الإقطاع قائمًا في إنجلترا من حيث أصبحت الأرض مملوكة للآحاد في الولايات المتحدة.

إلا أن برنامجي يدعو إلى التقسيم النسبي اتقاء لشرور المستقبل التي بدرت اليوم بوادرها.

ولنضرب مثلًا بما حدث تحت أعيننا منذ أنشئ المجلس البلدي في مدينة كانتون، فإن المواصلات تقدمت وأخذت أثمان الأرض على الجسر وعند مزدحم السكان ترتفع ويباع «المو» الواحد بعشرات الألوف من الريالات، وهذه كلها يملكها آحاد يعيشون بجهود الآخرين.

إن نظام الأرض القديم في الصين يوافق بعض الموافقة نظام التقسيمات النسبية، فإذا أردنا أن نطبق هذا النظام وجبت ملاحظة هذه الشروط! وهي فرض الضريبة على حسب قيمة الأرض، والتعويض على حسب القيمة العرفية.

وقد اتبع التقسيم على ثلاث درجات إلى اليوم في البلاد الصينية، ولكن قيمة الأرض لم تكن فيما مضى بهذا الارتفاع لنقص وسائل المواصلات وأدوات الصناعة، فلما تقدمت المواصلات والأدوات الصناعية مع بقاء التقسيمات العتيقة نجم من ذلك ارتفاع غير متناسب مع قيمة الأرض، فأصبح ثمن المو في بعض المواقع ألفي دولار وفي بعض المواقع الأخرى عشرين ألفًا، وتراوحت بين هاتين القيمتين قيم متفاوتة، فإذا بقيت الضرائب كما كانت راج الغش والفساد بين دافعي الضرائب ومحصليها.

وعلى هذا ينبغي إذا أردنا اتقاء شرور هذه الحالة أن نفرض الضرائب بنسبة واحد في المائة من قيمة الأرض، فمن كان يملك أرضًا بألفي ريال فعليه ضريبة عشرين ريالًا، وتطرد الزيادة باطراد الارتفاع في القيمة، ومتى استولت الدولة على الأرض فينبغي أن يكون استيلاؤها على قيمة مقدرة بهذا الحساب.

أما مسألة رأس المال، فقد نشرت أخيرًا كتابًا عن تنمية الصين الدولية بحثت فيه مسائل الاستعانة برءوس الأموال الأجنبية لترقية صناعة الصين وتجارتها.

فانظروا مثلًا إلى خطوط بكين هنكاو، وبكين مكدن وتينتسن بكاو التي مدت برءوس الأموال الأجنبية وهي تدر الآن مقادير جمة من الربح الجزيل.

إن خطوط السكك الحديدية اليوم تبلغ في الصين من خمسة آلاف إلى ستة آلاف ميل، تقدر أرباحها بما يترواح بين سبعين وثمانين ميلًا تزيد على قيمة الضرائب، فإذا امتدت الخطوط فبلغت خمسين أو ستين ألف ميل تضاعفت الأرباح عدة أضعاف.

وبرنامجي في الاستعانة بالأموال الأجنبية أن جميع الموارد التي تدر الربح عند إدارتها على أي نحو مقبول لا تزال في انتظار الأموال الأجنبية، ومن أمثلتها موارد المناجم والتعدين.

ومتى ذكرت القروض في هذا الصدد فإنما أعني الحصول على المكنات والأدوات الضرورية لاستغلال هذه الموارد، وقد كانت أرباح السكة الحديدية من بكين إلى هنكاو عظيمة، وكان الأجانب على استعداد لتسليمها مع إمكان الربح منها في المستقبل، وبلغ من وفرة هذا الربح أنه كان يكفي لمد الخط من بكين إلى كاجلان، وهو الخط الذي يصل اليوم إلى سونيانج.

ونوجز فنقول: إن الحصول على القروض من رءوس الأموال الأجنبية ميسور، ولكن السؤال هو: كيف ننفقها؟ وهل نستفيد من إنفاقها أو لا نستفيد.

وعلينا أن نسلم أن الضحايا الضرورية للثورة الاجتماعية أكبر من الضحايا اللازمة للثورة السياسية، وقد صح بعض الصحة مبدأ القومية منذ خلعت أسرة المانشو بعد ثورة سنة ١٩١١، ولكن مبدأ الديمقراطية ومبدأ الاشتراكية لم يتركا لهما أي أثر، فلا مناص لنا إذن من السعي جهدنا كي نحقق غاية حزبنا ونحقق كذلك ما يعتبر في عرف العصر الحاضر غاية الجميع، ونعني به الديمقراطية، وهي أيضًا إحدى غاياتنا.

ولا شك في تقدم إنجلترا وأمريكا في الحياة السياسية، ولكن السلطان السياسي لا يزال هناك في قبضة حزب لا في قبضة الأمة كلها. وقد أعلن الرئيس ويلسون خلال الحرب الأوروبية الكبرى نداء تقرير المصير وهو يقابل مبدأ القومية من برنامجنا، وقد تألفت بعد مؤتمر فرساي جمهوريات صغيرة ولكنها مستقلة تعيش معًا بغير رابطة تجمعها، فجدير بكم أن تفطنوا من هذا للاتجاه الغالب على حياة الأمم العصرية.

لقد حان الحين لتحقيق مبادئنا الثلاثة جميعًا؛ أي تحقيق القومية والديمقراطية والاشتراكية، وإنما يتاح العيش والحرية لأمتنا حين تتحقق هذه المبادئ على أوفاها، ويتوقف تفصيلها وتطبيقها على ما تبدونه من القوة وما تودعونه دعوتكم من النشاط والهمة.

(٦) مبدأ الوطنية (أو القومية) من محاضرات كانتون سنة ١٩٢٤

ما هو مبدأ الوطنية؟

إذا رجعنا إلى تاريخ الصين في حياتها الاجتماعية وعاداتها الموروثة جاز لنا أن نقول: إن مبدأ الوطنية مرادف لفكرة الدولة.

فالأمة الصينية قد ألفت الولاء للأسرة والقبيلة حتى بما فيها شعور القرابة وعصبية القبيلة ولم ينمُ فيها شعور الوطنية.

وقد كانت الأسرة والقبيلة من القوى الموحدة، وحدث كثيرًا أن الصيني ضحى بنفسه وبأسرته وحياته دفاعًا عن قبيلته، أما عن الوطن فلم يعهد قط عمل عظيم من أعمال التضحية الجلية، فوقفت وحدة الصين عند القبيلة ولم تتقدم إلى وحدة الأمة.

فقولي: إن مبدأ الوطنية مرادف لفكرة الدولة يصدق على أحوال الصين ولا يصدق على الأحوال في الغرب؛ إذ يميز الغربيون بين الأمة والدولة، والكلمة التي يقابل بها الإنجليز كلمتنا «من تسو» هي كلمة الأمة، وهي ذات معنيين لا اختلاط بينهما.

نعم إن الدولة والأمة متصلتان ولا تبدو الضرورة للفصل بينهما، ولكن معناهما مختلف ولا بد من فهم معنى كل منهما على حدة.

فلماذا يصدق التوافق بين معناهما على الصين وحدها؟ يصدق ذلك على الصين وحدهما؛ لأن الصين منذ قامت فيها أسرة شين وأسرة هان تنشئ دولة واحدة من سلالة واحدة حيث كانت البلاد الأجنبية تنشئ حكومات متعددة في جنس واحد وتضم عدة قوميات إلى فرد حكومة.

ونضرب المثل بإنجلترا التي تُعد اليوم أقوى دول العالم، فإنها ضمت إلى الجنس الأبيض أناسًا من السمر والسود وغيرهم لتكوين الإمبراطورية البريطانية، فلا يصدق عليها أن الجنس والدولة شيء واحد، وهذه هونج كونج — وهي مقاطعة بريطانية — تؤوي عشرات الألوف من الصينيين فلا يصح أن يقال عنها: إن حكومة هونج كونج تعني أمة بريطانية.

أو انظروا إلى الهند — وهي اليوم مستعمرة بريطانية — تجدوا ثمة ثلاثمائة وخمسين مليونًا من الهنود، فإذا قلنا: إن حكومة الهند والأمة البريطانية شيء واحد فنحن في زيغ من الحقيقة، ونحن جميعًا نعلم أن أبناء إنجلترا الأصلاء من الأنجلوسكسون، ولكنهم غير محصورين في البلاد الإنجليزية، بل يوجد في الولايات المتحدة أيضًا طوائف كبيرة من هذه السلالة، فلا يتأتى لنا حين ننظر إلى البلدان الأخرى أن نوحد بين معنى الدولة ومعنى الأمة، فبين المعنيين خط فاصل يميز بينهما.

فكيف يتسنى لنا التمييز الواضح بين هذين المعنيين؟ خير منهج ننهجه للتمييز بينهما أن ندرس العوامل التي مزجتهما، ونبسط العبارة، فنقول: إن الجنسية أو القومية تنمو بالعوامل الطبيعية، أما الدولة فتنمو بقوة السلاح، ونستعين بشاهد من تاريخ الصين السياسي فنذكر أن الصينيين تعودوا أن يقولوا: إن «وانج تاو» هي الطريق السلطانية وطريق الحقيقة، فالجماعة التي تتألف على الطريقة السلطانية هي السلالة أو القومية، أما القوة المسلحة فهي «باتاو» أو طريق الغلبة، فالجماعة التي تتألف على هذه الطريقة هي الدولة.

ونمعن النظر في قوانين البقاء كما عملت في السلالات القديمة والحديثة، فيبدو لنا أننا لا نستطيع أن ننقذ الصين ونحفظ سلالتها إلا بتنمية بواعث القومية، وعلينا أن نفهمها جيدًا قبل أن نجعلها عاملًا واضحًا من عوامل الخلاص والسلامة.

إن أهل الصين يبلغون أربعمائة مليون، لا تختلط السلالة فيهم إلا في بضعة ملايين من المغول، وفي نحو مليون من المنشو، وفي ملايين قليلة من أبناء التيبت، وفي مليون من الترك المسلمين، فلا تزيد عدتهم جميعًا على عشرة ملايين، ويتحد الصينيون ما عداهم في سلالة هان بدم واحد ولغة واحدة وديانة واحدة وعادات متشابهة: سلالة واحدة صافية.

ما هو موقف الصين من العالم بأسره؟ إننا بالقياس إلى الأمم الأخرى أكبرها عددًا وأعرقها حضارة؛ لأنها حضارة دامت أربعة آلاف سنة، ولكننا على هذا نعد بين أفقر الأمم وأضعفها وننزل أسفل المنازل في الشئون الدولية، فنحن السمكة واللحمة وغيرنا من أبناء آدم هم الصفحة والسكين، وموضعنا اليوم على أشد الخطر ما لم نستمسك بعوامل الوطنية ونجمع بين الملايين الأربعمائة في أمة قوية؛ إذ نحن نواجه الكارثة ونستهدف لضياع بلادنا وفناء قوميتنا، ولن ندفع هذه الكارثة بغير الشعور الوطني والاعتماد على النخوة الوطنية لإنقاذ بلادنا.

إن الوطنية هي القنية النفيسة التي تهيئ للدولة أن تتطلع إلى التقدم وللأمة أن تطيل وجودها.

وقد ضيعت الصين اليوم هذه القنية النفيسة، ويتراءى لي أنها ضيعتها قرونًا ولم تضيعها يومًا وحسب، وما عليكم إلا أن تنظروا إلى الموضوعات التي تحارب الثورة وتندس إلينا من الخارج، وكلها تعارض الوطنية!

لقد كانت الوطنية ميتة خلال مئات السنين من تاريخ الصين، وهذه الموضوعات التي راجت في زماننا لا تعرض لنا نغمة واحدة من نغمات النخوة الوطنية ولا تني شادية بالثناء على فضائل المانشو ورحمتهم ومآثر سخائهم العميم، ونكاد نسمع منذ نشوب الثورة أولئك الأعلام المتطوعين للتغني بما كان للمانشو من المناقب والسجايا، ولم يقنع هؤلاء الأعلام باصطياد العبارات التي تستبقي ذكرى المانشو بل جاوزوا ذلك إلى تأليف جماعتهم المسماة «باو هوانج تانج» للدفاع عن إمبراطور المانشو وسحق النوازع الوطنية في ضمائر أمة الصين.

واجعلوا بالكم إلى هؤلاء الملكيين … إنهم لم يكونوا من المانشو، بل كانوا من صميم أهل الصين ووجدوا الرعاية والترحيب بين الصينيين المقيمين في الخارج! فلما ازدهرت دعوة الثورة تحول هؤلاء المهاجرون شيئًا فشيئًا إلى تأييدها وتضاعفت الجماعات الثورية من ثم وراء البحار.

ومن هؤلاء فئة «هنج مين سان هوهوي» أو كما يسمون أحيانًا باﻟ «شيه كنج تانج»؛ الذين كانوا يحاربون المانشو ليأتوا بأسرة «منج» في مكانها، وكانوا ينطوون على حماسة وطنية قوية، ثم ظهرت الدعوة الملكية فأصبحوا ملكيين لا يبالون بغير «النقاء الطاهر» وهو الشعار الذي اتخذته الدعوة المانشوية لإعادة عاهلها إلى عرشه، وكفى بهذه النكسة دليلًا على ما فقدته الصين من نخوتها الوطنية.

إننا خليقون أن نعرف إثارة من تاريخ هذه الجماعات الخفية حين نتكلم عنها، فقد بلغت غاية القوة خلال حكم العاهل المانشوي كانج هسي (١٦٦١–١٧٢٢) وهب الموالون لأسرة منج يعارضون شان شي حين قضى على هذه الأسرة واستولى على زمام السلطان في أرجاء الصين بأسرها، واستمرت المقاومة إلى عهد كانج هسي فلم تذعن الصين كل الإذعان للمانشويين حتى ذل العهد، ولم تنطفئ شعلة المقاومة حتى يئس الجيل القائم بها من تدبير القوة الكافية للانتقاض فلجأ إلى الجماعات السرية.

وكان بقيتهم أناسًا ذوي أصالة ونظر وخبرة بالمجتمع، فدأبوا على تنظيم الجماعات السرية إلى أن وضع العاهل المانشوي نظام الامتحان للمناصب فدخل في شبكته كثيرون من أساتذة عهد «منج» وعلم القائمون بحركة المقاومة أن الطائفة المتعلمة لا يعتمد عليها … يومئذ انقلبوا إلى طبقات المجتمع الدنيا: إلى المشردين على ضفاف الأنهار والبحيرات، وراحوا يجمعونهم وينظمونهم ويبثون فيهم روح الغيرة الوطنية كي يتصل العمل بعدهم، ولكن هذه الطوائف لجهلها وسقوط بيئتها وجلافة تعبيرها وخشونة مسلكها لم تلق آذانًا صاغية عند الطوائف المهذبة، ولا يمنع هذا أن حكماء أسرة منج أبانوا في عملهم عن دراية وحصانة حين لجأوا إلى تنظيم تلك الجماعات السرية لاستبقاء النزعة القومية، فلم يقو طغيان المانشو خلال القرنين الأخيرين على محو تلك النزعة وتوارث مصطلحاتها وتقاليدها طبقة بعد طبقة في تلك الجماعات السرية.

وظلت جذوة الوطنية حية منذ بدأت أسرة المانشو حكمها، ثم أخذ «تسو تسنجتانج» بناصية التنين الأعظم وعلم بخفايا الجماعات السرية، فحطم قيادتها الحربية وشتت شملها، فلما كانت الثورة الأخيرة لم نجد هيئة منظمة نعتمد عليها، فقد كانت جماعة اﻟ «هنج مين» آلة مسخرة وآل الأمر بنخوة الصين الوطنية إلى الضياع.

إن الأمة إذا سادت أمة أخرى لم تسمح لها باستقلال التفكير، وهذه اليابان مثلًا تسيطر على كورية وتعمل على توجيه أذهان الكوريين حيث تريد، فمحت مادة الوطنية من المدارس، ويوشك بعد ثلاثين سنة أن يكبر الأطفال الكوريون وهم لا يعلمون أنهم كوريون وأن هناك وطنًا كان يسمى كورية، وقد مضى زمن كانت منشورية تحاول فيه معنا هذه المحاولة؛ إذ كان من دأب الأمة الغالبة أن تتلف هذه القنية النفيسة في ضمائر الأمة المغلوبة، وبهذه النية جعل المانشويون يحتالون شتى الحيل ويبتدعون مختلف الأساليب، فحرم كانج هسي بعض الكتب وجاء شيان لنج فكان أدهى منه في سحق الروح القومية، كان كانج هسي ينادي بأنه مختار السماء لولاية أمر الصين، فليس من التقوى أن يتمرد المتمردون على المشيئة السماوية، فلما قام شيان لنج بالأمر أزال كل فارق بين الصيني والمانشوي حتى أصبح المثقفون وقد خلت نفوسهم من وعي الوطنية، وانتقل هذا الوعي منهم إلى الطبقة السفلى، فكانوا يؤمنون بوجوب مكافحة التتار، ولكنهم لا يعلمون فيم يكافحونهم، وبهذه المثابة ضمرت روح الوطنية الصينية مئات السنين من جراء تدبير المانشويين.

ويصعب علينا أن نوضح كيف تم هذا التدبير وكيف تخلف منه ضمور الروح الوطنية، فلعل ذلك يتضح لنا من قصة شهدتها بنفسي في هونج كونج تفيد في تقريب ما أعنيه، وخلاصة هذه القصة أن أجيرًا كان يعمل في حمل البضائع من البواخر ولا معول له في هذه الصناعة على غير حبله وعموده، وكانت أجرة الحمل كافية لمؤونة يومه، ثم ادخر على مر الزمن عشرة ريالات فاشترى بها ورقة نصيب ووضعها في جوف عموده وحفظ رقمها لكيلا يحتاج إلى إخراجها من حين إلى حين لينظر فيها، ثم جاء يوم السحب فعلم من كشف اليانصيب أن ورقته ربحت الجائزة الأولى وقدرها مائة ألف ريال … فكاد أن يجن من فرحته وألقى بالعمود والحبلين إلى الماء لأنه أراد أن يستقبل حياة الثراء، وأن يطمئن إلى استغنائه عن حمل البضائع مدى الحياة.

إن عمود الحمال قد يشبه بالوطنية التي تعين الأمة على البقاء، وقد تشبه الجائزة المكسوبة بالعصر الذهبي الذي أقبلت عليه الصين حين اتسعت أطرافها وشملت العالم كله في نظر أبنائها، فليس للسماء غير شمس واحدة وليس للأمة غير ملك واحد، وما من أمة على الأرض إلا وهي تسجد أمام تاجه ولآلئه، فلن يعرف العالم بعد إلا السلام والوئام وأداء الجزية لملك الأنام، فقذفت الأمة بوطنيتها إلى البحر كما قذف الأجير بعموده وحبليه، ثم ابتليت بحكم المانشو فلن يكن قصاراها أنها عجزت عن سيادة العالم بل ساءت بها الحال حتى عجزت عن حماية حدودها، لقد ضاعت الوطنية كما ضاع العمود في الماء!

ولو أن أسلافنا حفظوا العمود لأخذوا الجائزة الأولى، ولكنهم قذفوا به ونسوا أن الورقة مخبوءة فيه، وحبذا لو استطعنا أن نعود إلى عمودنا أو نعيده إلينا، فما علينا إذن من ضير إن تجهمت لنا القوة الأجنبية وتنكرت لنا فرص العيش، فإننا لنصمد لكل ما نلقاه.

إن السماء قد وضعت على عواتقنا نحن أبناء الصين تبعات جسامًا، وإننا لخارجون عن مشيئة السماء إن لم نحبب نفوسنا، وها قد حان الوقت الذي يشعر فيه كل صيني بالتبعة على عاتقه، فإن كانت السماء لا تبغي القضاء علينا فهي تدخرنا لصلاح العالم وارتقائه، وإذا هلكت الصين فسوف تهلك على أيدي الدول العظمى، وسوف تقيم هذه الدول العقبات في سبيل العالم.

وبالأمس قال لي أحد الروسيين: ما بال لينين عرضة للهجمة عليه من كل دولة؟ إنه عرضة لهجماتها؛ لأنه اجترأ على أن يقول: إن أبناء العالم قسمان: ألف ومائتان وخمسون مليونًا في جانب، ومائتان وخمسون مليونًا في الجانب الآخر، والأولون مسخرون للآخرين … وهؤلاء الذين يسخرونهم لا يمشون مع الطبيعة بل يعارضونها ويناجزونها، وإنما نمشي مع الطبيعة حين نتصدى للقوة ونكبحها.

ونحن إذا أردنا أن نتصدى للقوة ونكبحها فلنبدأ أولًا بتوحيد صفوفنا ولنكن صفًّا واحدًا مع الألف والمائتين والخمسين من الملايين المسخرين، لنبدأ بإحياء الوطنية في قلوبنا ولنحقق أول الأمر وحدتنا، ولنعمل من ثم على عون الضعفاء وتمكينهم من الصمود للأقوياء، ولنجتمع لإعلان الحق في وجه القوة، حتى إذا انهزمت هذه القوة واندحرت سطوة الجشع والأنانية فهنالك يحق لنا أن نتحدث عن الوحدة الإنسانية.

إن الوحدة الإنسانية حديث اليوم في أوروبة، ولكنها كانت حديث أهل الصين قبل ألفي سنة، وما استطاع الأوروبيون بعد أن يدركوا عراقة حضارتنا، وأن الملايين الأربعمائة من أهل الصين مخلصون لمبادئ الأخلاق العالمية، وأنهم لقصورهم عن حفظ وطنيتهم قد عز عليهم الإعراب عن أنفسهم، ويوشك أن يحيق بهم البوار والزوال.

على أن الوحدة الإنسانية التي يتحدث بها الأوروبيون اليوم قائمة على قوة لا إنصاف معها، وشعار الإنجليزي الذي يقول إن الحق مع القوة إنما يعني أن الكفاح للغلبة والاستيلاء عدل وإنصاف، أما العقل الصيني فما اعتقد قط أن الغلبة بالحرب حق، وما وصف القهر بالعدوان قط إلا بوصف الهمجية والبربرية، وهذه الخلائق السلمية هي جوهر الآداب العالمية، فعلى أي أساس نبني هذه الآداب؟ نبنيها على أساس الوطنية، فالملايين المائة والخمسون في روسيا أساس العالمية الأوروبية، والملايين الأربعمائة في الصين أساس العالمية الآسيوية، وما من بناء يقوم على غير أساس، فلتكن الوطنية إذن أساسنا الذي نبني عليه، ومن شاء أن يبسط السلام على العالم فليبسطه قبل ذلك على وطنه، وليكن همنا أن نحيي الوطنية في جوانحنا وأن نجلوها ساطعة متألقة، فيومئذ يسوغ لنا أن نحمل علم الوحدة العالمية.

ثم نتساءل: ما الوسيلة التي نلجأ إليها لإحياء وطنيتنا؟ هناك وسيلتان: إحداهما أن ننبه الملايين الأربعمائة إلى حالتهم، فهم في المأزق الذي يضطرهم إلى الهرب من البؤس وابتغاء السعادة، أو إلى الهرب من الموت وابتغاء الحياة.

لقد جهلت الصين من قبل أنها تنحدر فهلكت، ولو أنها أحست ما ينتظرها لما حق عليها الهلاك.

وإذا تساءلنا عن القوارع التي تهددنا ومن أين تعرض لنا، فالجواب أنها تعرض لنا من الدول العظمى، وأنها هي «أولًا» الغصب السياسي و«ثانيًا» الغصب الاقتصادي و«ثالثًا» الزيادة السريعة في عدد السكان بين الدول العظمى.

هذه القوارع الثلاث من الخارج قد رانت على رءوسنا وجعلت أمتنا على خطر داهم، فالقضاء على الأمة من طريق الغصب السياسي قد يحدث بين عشية وضحاها، ووقوع الصين تحت نير الدول قد يحطمها في أية لحظة فلا طمأنينة لنا من نهار إلى نهار، وقد يأتي الدمار من القوة العسكرية كما يأتي من المناورات السياسية، وربما كان بين الدول اليوم في الصين توازن هو ملاذ العصمة لنا، ولكن الذين يتكلمون على تنافس الدول ويحسبونها متنافسة على الدوام ولا يحسبون حساب اتحادها واتفاقها؛ يخطئون السداد ويصدق عليهم المثل الذي يُضرب لمن يتعلق بالفضاء ويراهن عليه، وتلك هي السلامة التي نعلقها على غيرنا ولا نعلقها على أنفسنا، وليس الرجم بالغيب سلامة نطمئن إليها.

والغصب الاقتصادي يسلبنا كل سنة ألفي مليون ريال لا تزال أبدًا في ازدياد، وقد كان ميزان التجارة منذ عشر سنوات مائتي مليون ريال، فبلغ اليوم خمسمائة مليون؛ أي بمعدل مائتين وخمسين في المائة كل عشر سنوات، فإذا انقضت عشر سنوات أخرى ألفينا أنفسنا ونحن فاقدون ثلاثة آلاف مليون ريال كل سنة، يخص الرأس منا سبعة ريالات ونصف ريال، وكأنما يؤدي كل فرد منا سبعة ريالات ونصف جزية عن رأسه للأجانب كلما دار الحول، وإذا حسبنا النساء اللائي لا يؤدين هذه الجزية عن أنفسهن في الوقت الحاضر فالجزية خمسة عشر ريالًا على كل فرد من الذكور ومنهم الشيوخ والصغار الذين لا يسهمون في الكسب، فلا جرم ترتفع الجزية على الرأس الواحد إلى خمسة وأربعين ريالًا في العام.

أليست هذه بالصورة المفزعة لوقائع الأمور؟ وإنها في هذا لتتفاقم ولا تهبط، فلو فرضنا أن السياسة الأجنبية تنام عنا ولا ترهقنا بأعباء مضاعفة علينا فنحن هالكون في مدى عشر سنوات، وكيف الحال بنا بعد ذلك والصين اليوم فقيرة مستنزفة؟ أتراها قادرة على البقاء إذا تفاقم الخطب عليها عما قريب؟

ثم المشكلة الثالثة وهي مشكلة النمو الطبيعي، فإن الصين لم تزد خلال القرن الأخير، ولن تزيد خلال القرن المقبل إن لم تعمل ما يبتعث فيها عوامل النمو.

لقد أصبح عدد الولايات المتحدة عشرة أضعافه في مائة سنة، وأصبح عدد الروس أربعة أضعافه، وعدد الإنجليز واليابانيين ثلاثة أضعافه، وعدد الألمان ضعفين ونصفًا، وعدد الفرنسيين أضيف إليه ربعه وهو أقل الزيادات.

ومع ازديادهم تركد الصين فلا تزيد بل تنقص، فلو نظرنا إلى تاريخنا علمنا أن زيادتنا في العصور الماضية كفلت لنا البقاء وأزالت أبناء الصين البدائيين من عشائر المياسو والياؤس واللاؤس والتنج وغيرهم، وقد كان العكس هو الخليق أن يصيبنا لو كانت الزيادة في جانبهم والنقص في جانبنا، فلا ضمان لوجودنا بهذه الحالة إذا دامت سيادة الأجانب علينا ودام الضغط عليهم من زيادة النسل على مدى الأجيال.

هذه القوارع عالقة على رءوسنا وعلينا أن نفهم الأمر الواقع وندرك الخطر الداهم، وأن نذيع بيانه حتى لا يبقى من يجهله ومن يخفى عليه ما يهدد الصين وما يعترض سلامتها من المصاعب، وحري بالسائلين وقد علموها أن يسألوا: وماذا عسى أن نصنع؟ والجواب أن الحيوان المحرج تبقى فيه بقية للنضال، ونحن فينا هذه البقية للنضال، وسنقوى عليه يوم نعلم أنها معركة موت وحياة وأنه مهرب واحد لا مهرب لنا سواه، وإنما نقوى على النضال كلما حومت على رءوسنا مخاطر الفناء.

يقول الأجانب: إن الصين صفحة رمل محلول … وقولهم في وجهة الشعور الوطني صحيح، فما كانت لنا قط وحدة وطنية، فهل ترانا نعوذ بوحدة أخرى؟ نعم، لدينا أواصر الأسرة ووشائج القبيلة، وإنها من طبائعنا لفي قرار عميق، فإذا اتسع نطاق العصبية في القبيلة حلت عصبية الوطن محل عصبية الغيرة، وحنين الصيني إلى مولده ومسقط رأسه شعور مكين يقام عليه صرح شامخ من شعور الوطنية على أوسع نطاق …

… هذا الجانب الإيجابي هو أحد الجانبين اللذين يعتمد عليهما في مقاومة القوة الأجنبية، وفحواه إيقاظ الروح الوطنية وحل مشكلات الحرية والمعيشة، وهناك الجانب السلبي الذي نعتمد عليه في هذه المقاومة، فلا تعاون مع الأجنبي ولا وناء عن المقاومة السلبية، وتلك هي أسلحتنا لإضعاف الاستعمار والذود عن الديار واتقاء الدمار والبوار.

وسوف تسعد أمتنا وتبقى كلما تضافرت جهودها على هذا المسعى، فأما إذا تخلفت عنه فلا أمان ولا نجاة.

(٧) مبدأ الديمقراطية من محاضرات كانتون سنة ١٩٢٤

ما هي سيادة الأمة؟ لأجل تعريف هذه السيادة ينبغي أن نعرف قبل ذلك ما هي الأمة، فكل جماعة إنسانية متحدة منتظمة تسمى أمة، أما السيادة فهي سلطان ينبسط على أرض الحكومة.

والحكومات صاحبة القوة العظمى في العصر الحاضر يسميها الصينيون بالحكومات القوية، وتسمى في اللغات الأجنبية بالدول Powers.

والقوى الآلية يسميها الصينيون بقوة الحصان، وتسمى في اللغات الأجنبية بطاقة الحصان، فالقوة والطاقة مترادفتان.

والقوة التي تتمكن من تنفيذ الأوامر وتنظيم الشئون العامة هي السيادة، فإذا اقترنت السيادة والأمة فتلك هي قوة الأمة السياسية.

ونوجز فنقول: إن الحكم شيء من الأمة وبواسطة الأمة، وهو ضبط شئون الأمة، والقدرة على هذا الضبط هو السيادة السياسية، ونحن نتكلم عن سيادة الأمة حين تتولى الأمة ضبط شئون حكومتها.

وننظر إلى العصر الحاضر أو نعود إلى الماضي فنرى أن القوة الإنسانية قد استخدمت — إذا توخينا بساطة التعبير — لحفظ النوع الإنساني؛ لأن النوع الإنساني يتطلب لبقائه وقاية ومئونة ويشعر بالحاجة إلى الحماية والمئونة كل يوم.

إن الوقاية للفرد أو للجماعة دفاع عن النفس، والقدرة على الدفاع عن النفس ضرورة من ضرورات الوجود، أما المئونة فهي تحصيل الطعام، وبغير وقاية ومئونة لا يحافظ النوع الإنساني على وجوده.

وقد ينقسم جهاد النوع الإنساني إلى عدة أدوار، وتقسيمه إلى هذه الأدوار يساعدنا على تتبع أصول الديمقراطية.

فالدور الأول من جهاده كان نزاعًا بينه وبين الحيوان، وكان يستخدم في هذا النزاع قوته البدنية دون كل قوة أخرى.

والدور الثاني من جهاده كانت الحرب فيه بينه وبين الطبيعة، وكان يستعين في هذه الحرب بالقوة الإلهية.

والدور الثالث تنازع فيه الإنسان والإنسان، ووقع فيه الخصام بين الحكومات والأقوام ونشأت السيطرة المستبدة.

ثم يأتي الدور الرابع حيث يقع الخصام في الحكومة الواحدة وتحارب الرعية رعاتها وملوكها، ومحور هذا الخصام الخلاف بين الخير والشر وبين الحق والقوة، ولنا أن نسميه دور سيادة الأمة أو عصر الديمقراطية نظرًا لاطراد التقدم في قوة الأمة.

إنه عصر جديد، وإنما بدأناه قريبًا لإسقاط الحكم المطلق الذي تخلف من العصور الغابرة.

والسؤال الجوهري هو: هل الصين اليوم ناضجة للحكومة الديمقراطية؟ إن بين الناس من يقول إن مستوى الأمة الصينية أقل من ذاك، وإنها لم تستعد بعد للحكومة القومية، ومن أجل هذا حدث لما همَّ يوان شي كاي بتنصيب نفسه عاهلًا على الصين أن أستاذًا أمريكيًّا — اسمه جدناو Goodnow — أوصى باختيار النظام الملكي مع أنه ينتمي إلى أمة ديمقراطية … لاعتقاده أن تفكير الصينيين لا يطرد على سنن التقدم، وأنهم متأخرون عن الأوروبيين والأمريكيين فلا يحق لهم أن يحاولوا تجربة الديمقراطية، وقد اتكأ يوان شي كاي على هذه الوصية ونادى بنفسه إمبراطورًا على الصين، فإذا كنا اليوم بسياق الدعوة إلى الديمقراطية فعلينا أن نفهمها على غاية الجلاء والوضوح.

لقد جهر كنفشيوس ومنشيوس بحقوق الأمة قبل ألفي سنة، فقال كنفيشيوس: إن كل من تحت السماء سيعمل للصالح العام يوم تسود الفكرة الكبرى، وكانت دعوته إلى عالم حر يسوده الإخاء ويؤول حكمه إلى الأمة.

ومنشيوس كان يقول: إن القيمة الكبرى للشعب ثم للأرواح التي تتولى الزرع والغلة ثم يليهم جميعًا الأمراء، ومن كلامه أن السماء ترى ما يراه الشعب، وتسمع ما يسمعه.

فالصين قد أدركت معنى الديمقراطية قبل ألفي سنة، وإن لم تقدر يومئذ على تطبيقها، ولكنها كانت يومئذ بمثابة الطوبى في اصطلاح الغربيين: مثلًا أعلى لا يتيسر تطبيقه على الأثر.

وكلما قرأنا تاريخ الصين تبين لنا أنها تقدمت إلى دراسة الديمقراطية قبل الأوروبيين والأمريكيين بألوف السنين، نعم إنها دراسة نظرية لم تأخذ مأخذ العمل والتطبيق، فاليوم وقد أخذ الأوروبيون والأمريكيون بالنظام الجمهوري، ومضى عليه بينهم نحو مائة وخمسين سنة فنحن الذين حكم آباؤهم بهذه الأفكار خلقاء أن نمضي في أثرهم وأن نستخدم قوة الأمة إذا رجونا لحكومتنا البقاء ورجونا للشعب السعادة والرخاء.

ولكن النهضة الديمقراطية بالقياس إلى غيرها من النظم متأخرة، ولا تزال حكومات كثيرة مصطبغة بصبغة الحكم المطلق ولا تزال تجارب الديمقراطية محفوفة بمعقبات الخيبة والإخفاق، وهذه الدراسة التي جرى البحث فيها بين أهل الصين قبل ألفي سنة لم توضع موضع التنفيذ إلا منذ مائة وخمسين سنة، وكأنما تنتشر في أرجاء العالم على أجنحة الرياح.

لقد عزمنا منذ ثلاث عشرة سنة — نحن الثائرين — أن ندين بالديمقراطية إذا طلبنا القوة للصين والنجاح للثورة، وكأنما تجري هذه الدفعة العالمية كنهر اليانجزي في مجراه: تارة هنا وتارة هناك وتارة إلى الوراء، ولكن المصب إلى الشرق في النهاية، فلن يصده عنه عائق آخر المطاف.

وإذا كانت الديمقراطية قد وجدت أكثر من قرن في الغرب فإنما جاءت في تاريخها تابعة لجهاد الحرية، فكانت الدماء تفيض فيضًا في سبيل هذه الحرية، وكان العارفون من أبناء أوروبة وأمريكا يومئذ يتخذون من الحرية علمًا يرفعونه كما نرفع اليوم علم المبادئ الثلاثة، ويخلص لنا من ثم أن جهاد الغرب كان في طلب الحرية، فلما بلغ الحرية جاء علماؤهم فأطلقوا عليها اسم الديمقراطية.

ولما سرت نوازع الثورة إلى الصين أخيرًا خرج الطلاب الناشئون وطائفة كبيرة من العلماء الجادين ينادون بالحرية، وخطر لهم أنه ما دامت الثورات الأوروبية — كالثورة الفرنسية — قد كانت تجاهد للحرية فليكن جهادنا نحن أيضًا للحرية، وليس هذا إلا من قبيل ما يُقال بغير فطنة لمعنى المقال، فما ألقى هؤلاء بالهم إلى سوابق تاريخ الديمقراطية والحرية لينفذوا إلى الحقيقة من ورائها، ونحن إنما وضعنا لحزبنا الثوري غاية من المبادئ الثلاثة؛ لأننا قصدنا بهذه الغاية دلالة عميقة ولم نرسلها جزافًا.

إن الثورة الأمريكية كان شعارها الاستقلال، وثورتنا نحن شعارها المبادئ الثلاثة، فنحن لا نردد شعار الآخرين ولا نحاكي أصداءهم، وما انتهينا إلى ذلك الشعار إلا بعد وقت طويل في التفكير والتقدير.

إن سيادة الأمة — مين شوان — هي الكلمة الثانية في شعارنا الثوري، وهي تقابل كلمة المساواة في شعار الثورة الفرنسية.

وقد انتشرت الحضارة الأوروبية شرقًا فانتشرت معها المذاهب السياسية والاقتصادية والعلمية إلى الصين، وتعوَّد الصينيون كلما نقلوا شيئًا عن أوروبة أن ينسخوه كلمة كلمة بغير تعديل، فإذا كانت الثورة الأوروبية منذ قرنين أو ثلاثة قرون قد كافحت من أجل الحرية فليكافح الصينيون كذلك، وإذا كان الأوروبيون قد حاربوا في سبيل المساواة فالمساواة هي التي يحارب الصينيون أيضًا في سبيلها، ولكن ضعف الصين الآن لا يرجع إلى قلة الحرية والمساواة، فإذا نحن صرفنا الجهد إلى استنهاض عزائم الشعب بصيحة الحرية والمساواة فقد ركبنا شططًا وابتعدنا كثيرًا من الوجهة المثلى؛ لأن شعبنا لم تلعجه هذه المسائل، وليس في حسه انتباه شديد إليها، فهو لا ينضوي إلى رايتنا إذا ناديناه بأسمائها.

إن حزبنا الثوري لا يهيب بالشعب إلى المعركة من أجل الحرية والمساواة، بل من أجل المبادئ الثلاثة، وهي التي تعطينا الحرية والمساواة إذا أخرجناها إلى حيز الفعل من حيز القوة.

إذ الحرية والمساواة تقومان على الديمقراطية وتستندان إليها، فلا يطول بقاء الحرية والمساواة إلا حيث تزدهر الحرية، وما من وسيلة تفلح في حفظهما إن ضاعت سيادة الأمة، فلهذا نظر الحزب الثوري في الصين إلى وجهة الحرية والمساواة، ولكنه جعل الديمقراطية — أو سيادة الشعب — قوام الدعوة وشعارها، فلن يستمتع شعبنا بنعم الحرية والمساواة ما لم يدرك الديمقراطية، وهذه النعم داخلة في حسابنا منطوية في السيادة القومية.

وكثيرون منا يحسبون أن الديمقراطية إذا بلغت في الصين مبلغها في الأقطار الغربية تكون قد بلغت أهدافها، وتعتبر الصين إذن في طليعة أمم التقدم والحضارة، بيد أن المسافة بعيدة بين الديمقراطية الغربية كما نقرؤها في الكتب والديمقراطية الغربية كما نراها في الواقع.

انظروا مثلًا إلى رواد الديمقراطية الغربية من أمثال الولايات المتحدة وفرنسا التي نشبت ثورتها منذ أكثر من مائة سنة، فكم من الحقوق السياسية أدركها الشعب هنالك فعلًا؟ إن المؤمن بالديمقراطية على حقيقتها يبدو له أنه لم يدرك منها غير القليل، وقد خطر للذين نافحوا الاستبداد طلبًا لحقوق الشعب أنهم بالغون غاية الديمقراطية دفعة واحدة، فضحوا بكل شيء وحصروا جهودهم كافة في معركة حياة وموت، فلما ظفروا بالنصر إذا هم يتبينون أنهم لم يكسبوا من القوة إلا القليل مما علقوا به الآمال أثناء الثورة، وأنهم لما ينتهوا إلى الديمقراطية الوافية.

ومنذ رأى بعض الصينيين أن الولايات المتحدة تقدمت إلى مركزها الحاضر غنى وقوة على نهج الدساتير الاتحادية التي تترك الشئون المحلية لسلطان الحكومة، إذا بأولئك الصينيين المثقفين يتخيلون أن الصين تنال الغنى والقوة بالدساتير الاتحادية، ولم يشغلوا أنفسهم وهم يحاولون علاج مشاكل الصين بأن يعقدوا المقارنة بينها وبين الولايات المتحدة، وكان قياسهم المنطقي أن الدساتير الاتحادية هي الطريق إلى الغنى والقوة ما دمنا نريدهما وما دامت الولايات المتحدة قد حصلت عليهما من هذه الطريق، ونسوا أن هذا النظام إنما قام هناك؛ لأنه كان قائمًا فعلًا في كل ولاية وكان لكل ولاية فعلًا دستور وحكومة، فنحن إذا أردنا محاكاته وجب أن تهيئ كل ولاية من ولاياتنا دستورها وحكومتها المحلية، ثم تجتمع الولايات أخيرًا للاتفاق على دستور الأمة قاطبة، أو بعبارة أخرى نعمد إلى الصين المتحدة فنقسمها كما كانت الولايات الأمريكية مقسمة منذ قرن مضى، ثم ندمجها جميعًا في حكومة واحدة، وأنه لتفكير ولا شك منحرف عن الصواب، وكأنما نحن ببغاوات تردد الكلمات وعيونها مغمضة عما حولها.

وهؤلاء أصحاب هذه الفكرة يسوغون تقسيم الولايات في بلادنا بقيام الولايات الأمريكية على هذه القاعدة، وقلما يخطر لهم أن يرجعوا إلى الحالة التي كانت عليها الولايات الأمريكية عند إعلان استقلالها، فهل يذكرون لم كانت هذه الولايات تتغنى بالوحدة بعد خروجها من سلطان بريطانيا العظمى؟ إنها فعلت ذلك؛ لأنها كانت متفرقة ولم تكن قط جماعة منتظمة في إدارة واحدة، فرأت أن تجتمع لتصبح أمة متحدة.

والصين في هذا الصدد ما شأنها؟ لقد كانت الصين ظاهرًا منقسمة إلى ثماني عشرة ولاية تضاف إليها ولايات منشوريا وسنكيانج فهي أربع وعشرون، وتضاف إليها كذلك جيهول وسويوان وككنور وولايات شتى ذات وضع خاص بها عدا منغوليا والتيبت. وكل هذه الأقاليم كانت تابعة لحكومة المانشو المركزية خلال مائتي سنة، وكانت قبل ذلك على عهد أسرة منج متحدة، بل كانت مع أقطار آسيا وأوروبة دولة واحدة في عهد أسرة يوان، فإذا رجعنا إلى أسرة سانج وجدنا الولايات على رباط وثيق ووجدنا الأقاليم كذلك بعد عبور نهر اليانجزي إلى الجنوب، وقد كانت على أيام أسرة تانج وأسرة هان على رباط كهذا الرباط، فلا معنى لتجزئة الصين مع أنها لم تكن أجزاء متفرقة في تاريخها القديم.

إن هذا الشتات الذي منيت به الصين في الوقت الحاضر إنما هو ظاهرة عارضة، جر إليها استيلاء القادة العسكريين على أجزائها، وهي حالة لا بد أن نعمل للخلاص منها، ولا يصح لأي سبب من الأسباب بعد اليوم أن نتصايح بالدعوة الاتحادية «الفدرالية» كأنما نمهد بذلك لاستقرار كل قائد من أولئك القادة العسكريين في البلد الذي استولى عليه، فلن تصبح الصين أمة ذات قوة ووفر إذا نجح القادة كل منهم في تسويغ سيطرته على الإقليم الذي هو فيه.

وكل من يتصايح بتلك الدعوة فحقيقة الأمر فيه أنه طامع يمهد لاغتصاب مطمعه، فهذا تانج شيياو قابض على يونان، وهذا شاو هنجتانج قابض على هونان، وهذا لوينجتنج قابض على كوانجزي، وهذا شن شيونج منج قابض على كوانتنج … وإنها لفدرالية عسكرية هذه التي تسيطر هنا وهناك … ليست هي فدرالية شعب يحكم بأمره، وما في هذه الفدرالية نفع للصين، بل هي مأرب من مآرب الطامعين العسكريين.

ونعود فنقول: إن الديمقراطية التي هي مبدأ من المبادئ الثلاثة في برنامج حزب الكومنتانج لبناء الصين هي شيء غير الديمقراطية الغربية، وليس المقصود من دراسة تاريخ الغرب أن ننقل نسخة منه ونقفوا أثره ونحن مغمضون، بل نحن نستخدم مبدأ السيادة القومية حيث نعيد بناء الصين أمة لا سلطان عليها لغير الأمة، وعلينا أن نفتح لأنفسنا طريقًا جديدًا ولا نقتدي بغيرنا عميًا عن وجوه الاختلاف، فنجني على وطننا، ونضر بحياة قومنا، فللغرب مجتمعه ولنا نحن مجتمعنا، وما عندهم من العادات والعواطف لا يشبه العادات والعواطف التي عندنا، وما من أمل لنا في إصلاح مجتمعنا وترقية شعبنا ما لم نقتبس الجديد، متوخين في اقتباسه ما يوافقنا ويلائم أحوالنا …

… ونحن دعونا إلى تطبيق الديمقراطية حين رفعنا علم الثورة، وفكرت في الطريقة التي نحل بها المشكلة، وهي طريقة أحسبها رأيًا جديدًا في المذاهب السياسية وأحسب أنها حل أساسي للمشكلة كلها، وأوضح ما أعنيه فأعرض أولًا ما أعنيه بطبقات المجتمع الإنساني.

فعلى أي شيء أقيم أقسام المجتمع الإنساني؟ على نصيب الفرد من الفطنة والكفاية، وبهذا ينقسم الناس إلى طوائف ثلاث:
  • الطائفة الأولى: هي التي ترى مبتدئة بالرأي، وهي صاحبة الفطنة الفائقة التي تتضح لها المسائل المتشابكة من نظرة، وتلقي بالها إلى الكلمة فتتبعها بالعمل العظيم، ومن ثاقب نظرها إلى المستقبل وجليل عملها في الحضارة تتقدم الحضارة الإنسانية، هؤلاء هم الرواد الكشافون ذوو البداهة والبصيرة النافذة.
  • والطائفة الثانية: هي التي تتلوها في النظر والفطنة، وليس في طاقتها أن تبتدئ وتبتدع، بل هي تحاكي وتتبع وتستفيد مما عمله السابقون لها إلى الرأي والرؤية.
  • والطائفة الثالثة: هي التي لا تدرك ولا تعلم وإن حاول الآخرون تعليمها، ولكنها تعمل وتثابر على العمل، أو بعبارة أخرى، إن الطائفة الأولى هي طائفة الكشافين المستطلعين، والطائفة الثانية هي طائفة المتولين المساعدين، و الطائفة الثالثة هي طائفة المنفذين المشتغلين، ويتوقف تقدم العالم على هذه الطوائف جميعًا، فلا يصح نقصان واحدة منها. وكل أمة تشرع في تطبيق الديمقراطية يجب أن تكل إلى كل فرد من أفرادها حصة: إلى الرجل الذي يبتدئ بالرأي، والرجل الذي يتبعه ويساعده، والرجل الذي لا يرى لنفسه ولكنه يعمل ويشتغل.

وعلينا أن نفهم أن الديمقراطية السياسية ليست منحة الطبيعة ولكنها اختراع الإنسان، ويلزمنا أن نخلق الديمقراطية ونعطيها الشعب ولا نتريث حتى يحارب الشعب من أجلها ويأخذها.

والأمم الغربية طبقت الديمقراطية وحدث بعد تطبيقها أن الشعب تربى فيه شعور العداء للحكومة، وعز عليه أن يفرق بين حق السيادة وحق الكفاية، فإن فاتنا أن نتنبه لهذا فنحن منساقون وراء الغرب على غير هداية.

وينبغي أن يكون التمييز بين السيادة والكفاية سهلًا على الصين؛ لأننا نفهمهما من عبارة «آه تو» وعبارة «شوكوليانج».

وخلاصة العبارتين أن الحكومة إذا صلحت فنحن الملايين الأربعمائة نجعلها «شوكوليانج» لنا ونخولها كل حقوق الدولة، وأنها إذا فسدت فنحن الملايين الأربعمائة نتقلد حقوق الملك ونطردها ونسترد السيادة إلى أيدينا.

ونحن اليوم نعرف طريقة للانتفاع بالديمقراطية وطريقة لتحويل موقف الرعية منها، ولكن الأكثرين من الرعية لا يفقهون، فمن خصتهم أمانة الفقه مسئولون أن يقودوا الرعية إلى الطريق الأقوم حذرًا من عاقبة التجربة في البلاد الغربية.

وقد انتهى علماء الغرب إلى أن موقف الشعوب من الحكومة خطأ وأن تغييره واجب، ولكنهم لم يبصروا بعد كيف يكون التغيير.

وهذا الذي اهتدينا إليه، فلا مناص من التمييز بين حقوق السيادة وحقوق الكفاية والقدرة، فيقوم أساس الحكم في الأمة على حقوق الأمة، أما إدارة الحكومة فتعهد إلى خبرائها، ولا يقف منا أولئك الخبراء موقف الأبهة والرئاسة وفخامة المناصب، بل حكمهم عندنا حكم السواقين أو حراس الأبواب أو الطهاة أو الأطباء أو النجارين أو من نحسب من ضروب العاملين، وما دام موقفهم هذا الموقف فالحكومة تنتظم والشعب يتقدم.

وما هي خير الوسائل لتطبيق الديمقراطية؟

إن الانتخاب هو الوسيلة التي تعم البلاد المعروفة بالبلاد الديمقراطية، فهل هو وسيلة كافية لانتظام الحكومة؟ كلا؛ لأنه أشبه شيء بالآلات القديمة التي كانت عند اختراعها تستطيع أن تتقدم، ولكنها لا تستطيع أن ترجع، وإنما يتم تركيب الأداة بالقدرة على الرجوع، والوسيلة التالية لتلك الوسيلة الأولى هي التي تيسر للشعب أن يدير الأداة إلى الوراء، وأن يعزل الحكومة التي اختارها، وهاتان الوسيلتان — وهما الانتخاب والعزل — تحفظان سيطرة الشعب على حكومته وموظفيها فيبقيهم أو يخرجهم حين يشاء، ولا غنى لأداة الحكومة عن الجهاز الذي يدفعها قدمًا أو يردها ويثنيها إلى حيث يريد.

ومسألة القانون مهمة للحكومة الديمقراطية كمهمة الموظفين، فإذا وجد من يحكم فلا بد أن توجد مع قاعدة لحكمه، ومن حق الأمة إذا ارتضت قاعدة للحكم أن تجعلها قانونًا وتوحي إلى الحكومة بتنفيذها، وهو ما يسمى بحث اقتراح القوانين، ونعتبره الركن الثالث من أركان الديمقراطية، فإذا اتفقت الآراء على استنكار قانون غير نافع للشعب فمن اللازم إذن أن يملك الشعب الوسيلة التي تكفل له تعديله واتخاذ البديل الصالح منه، ويطلقون كلمة الاستفتاء على هذا الحق أو هذا الركن الرابع للديمقراطية.

وليس يجوز لنا أن نقول عن أمة إنها تنعم بالديمقراطية الوافية ما لم تكن هذه الحقوق الأربعة نافذة فعلًا، وما لم يكن تطبيقها مرعيًّا بوسائله المقررة، ويومئذ تتقرر السيادة الشعبية المباشرة.

إن السيطرة المباشرة على الحكومة لا تستقر حتى يتولى الشعب هذه الحقوق الأربعة «الانتخاب والعزل والاقتراح والاستفتاء» ويومئذ يصح القول باشتراك الشعب كله في حكم نفسه، ومعنى ذلك عندنا أن الملك هو الملايين الأربعمائة، يباشرون حقوقهم الملكية ويسيطرون على مسائل الدولة العظمى، ويرجع الأمر في كل شيء إلى هذه الحقوق الديمقراطية الأربعة.

(٨) مبدأ المعيشة من محاضرات كانتون سنة ١٩٢٤

«مينج شنج شوي» هي مبدأ معيشة الشعب.

و«مينج شنج» هي كلمة طالما طرقت الأسماع في الصين، ونحن نتكلم عن الرخاء القومي ومعيشة الشعب من أطراف الشفاه ولا نعني بفهم المقصود منها، ولست أرى أنها تعبر لنا عن معنى كثير، ولكننا إذا حملناها في هذا العصر — عصر العلم — إلى دائرة البحوث العلمية لدراسة مدلولها من الوجهة الاجتماعية والوجهة الاقتصادية وجدنا لها مرمى كبير الدلالة.

فالمينج شنج ترمي إلى تدبير مئونة الشعب، وكيان المجتمع ورخاء الأمة وحياة الجماهير، وإني لمستخدم هذه العبارة الآن للدلالة على مشكلة من أكبر المشكلات التي نجمت في الغرب خلال القرن الماضي، وهي الاشتراكية.

فمسألة المعيشة هي الاشتراكية، وهي الشيوعية، وهي الطوبى.

والعوامل التي تضافرت على خلق هذه المسألة هي بالإيجاز تقدم الحضارة المادية السريع، وتطور الصناعة العظيم، والزيادة المفاجئة في القدرة البشرية على الإنتاج.

فاستخدمت القوى الطبيعية كالبخار والحرارة وتيارات الماء والكهرباء بديلًا من الطاقة الإنسانية، واستخدم النحاس والحديد بديلًا من عضل الإنسان وعظامه، وصار في وسع رجل واحد بمكنة واحدة أن يعمل عمل مائة أو ألف، واتسعت المسافة جدًّا بين طاقة الإنسان وطاقة المكنات، وهو ما يسميه الغربيون بالثورة الصناعية.

وهم يطلقون هناك كلمة الاشتراكية وكلمة الشيوعية كأنهما مترادفتان، وقد تشملهما كلمة الاشتراكية على ما بينهما من اختلاف.

وغرضي من إطلاق مبدأ المعيشة بدلًا من الاشتراكية أن أصل إلى جذور المسألة وأكشف عن حقيقتها وأيسر فهمها لمجرد سماعها.

فهل مبدأ المعيشة حقًّا مخالف للاشتراكية؟ إن أهم ما تشتغل به الاشتراكية هو مسائل المجتمع الاقتصادية، أو مسائل المعيشة. ومنذ تقدمت الصناعة أصبح كثير من العمال قد نزعت منهم أعمالهم وتعسر عليهم كسب أرزاقهم، وجاءت الاشتراكية تحاول علاج هذه الحالة فتلاقت مسائل المجتمع ومسائل الاقتصاد ودخلت كلتاهما في نطاق مسألة المعيشة وهي محور الاشتراكية.

إلا أن الأمم اليوم تختلف في مذاهبها الاشتراكية وفي مقترحاتها لحل مشكلاتها، فهل نحسب إذن أن الاشتراكية وجه من وجوه مسألة المعيشة، أو أن مسألة المعيشة وجه من وجوه الاشتراكية؟

إن دعاة الاشتراكية الأولين كانوا على الأغلب دعاة أخلاق وكان أتباعهم أصحاب ضمائر وآداب، ولم يكن أحد يقاوم الاشتراكية غير أصحاب الأموال الذين رانت على نفوسهم الأثرة فلم يكترثوا لما يصيب الجماهير، وإذا كانت المشكلة الاجتماعية تدور على توفير الرزق للعديد الجم من بني آدم كان ذوو النظر والصلاح القائمين بالدعوة الاشتراكية أهلًا للعطف والتأييد من الكثيرين، ثم راج المذهب فأخذت الأحزاب الاشتراكية في الظهور، واطرد نموها وانتظامها وسرت دعوتها إلى كل أمة.

غير أن الاشتراكيين الأوائل كانوا جميعًا طوبيين يطمحون إلى بناء دنيا مثالية يظللها السلم والسعادة ولا تسمع فيها شكاية، ولم يصفوا للناس طريقة فعالة لمنع الشكاية والشقاء.

وهنا جاء ماركس فصرف عقله وذكاءه ومعارفه وتجاربه إلى تمحيص هذه الأمور ودراستها، وبنى آراءه الجديدة جميعًا على القواعد الاقتصادية، وأنحى على الاشتراكيين السالفين لتعويلهم على ضمير الفرد وشعور الجماعة في حل مشاكل الاقتصاد التي لا تجدي الأخلاق ولا تجدي العواطف في حلها، وقال: إن المهم قبل كل شيء هو درس أطوار الاجتماع، وصدر في مبادئه عن رعاية مطلقة للوقائع دون النظريات والأمثلة العليا.

ثم تشعبت المذاهب الاشتراكية بعد ماركس إلى شعبتين: شعبة الطوبيين وشعبة العلميين، وهؤلاء ينادون باستخدام الأساليب العلمية لعلاج المشكلات الاجتماعية، فكل دراسة في هذا العصر الذي تتقدم فيه الحضارة المادية على عجل وتتعاظم فيه قوة العلم ينبغي أن تقام على القواعد العلمية كي تثمر وتفيد، ولا يحق لنا أن نترقب حلًّا لمشكلة من المشكلات قبل تناولها بالبحوث العلمية.

إن ماركس يؤكد الجانب المادي في دراسته لمسائل المجتمع، ومتى تناولت القوى المادية فأنت مواجه مسألة الإنتاج قبل كل شيء … وحيث لا يوجد إفراط في الإنتاج لا توجد بالبداهة ثورة صناعية، وعلى هذا يحل الإنتاج المحل الأول من الأهمية في علم الاقتصاد الحديث، فإذا شئت أن تفهم أحوال الاقتصاد الحديثة فلا معدى لك عن فهم الوقائع التي تتعلق بالإنتاج.

وقد أصبح الإنتاج على نطاق واسع ميسورًا في العصر الحديث بالعمل والمكنة، أو باشتراك رأس المال والمكنات واستخدام الأيدي العاملة، وتذهب أرباح هذا الإنتاج في نطاقه الواسع على الأكثر إلى أصحاب الأموال فلا يجني العمال منها غير قسط ضئيل.

ولهذا تصطدم مصالح أصحاب الأموال ومصالح العمال على الدوام، وتنفجر حرب الطبقات حين لا يوجد الحل المرضي بين الفريقين، ويعتقد ماركس أن حرب الطبقات لم تأت تبعًا للثورة الصناعية، بل كان التاريخ الماضي كله قصة حرب بين الطبقات: أو بين السادة والعبيد، أو بين أصحاب الأرض والأكارين، أو بين النبلاء والعامة، أو بالإيجاز بين كل غاصب وكل مغصوب، ولن تكف هذه الحرب حتى تبلغ الثورة الصناعية مداها من النجاح.

وواضح من ذلك أن ماركس يعتبر حرب الطبقات ضرورة من ضرورات التقدم الاجتماعي، وأنها في الواقع هي القوة الدافعة لذلك التقدم، فحرب الطبقات هي السبب والتقدم الاجتماعي هو النتيجة.

على أن التوفيق بين معظم المصالح الاقتصادية في المجتمع إذا أمكن فمعظم الناس ينتفعون بهذا التوفيق والمجتمع يتقدم، ونحن لا نحاول التوفيق بينها إلا لعلاج هذه المشكلة: مشكلة المعيشة وتوفير المئونة.

ومن قديم الزمن بذل الإنسان جهده لحفظ كيانه، وكان صراع الإنسان لاستدامة وجوده باعثًا للتطور الذي لا ينقطع في أحوال المجتمع، وذلك هو قانون التطور الاجتماعي، فليست حرب الطبقات باعث التقدم الاجتماعي، بل هي داء يتعرض له المجتمع أثناء التطور، وعلة الداء هي العجز عن توفير الرزق، والحرب هي نتيجة هذا الداء.

وكل ما استفاده ماركس من بحوثه أنه علم بالأدوات التي يتعرض لها المجتمع أثناء تطوره، فهو مشخص أمراض Pathologist ولا نستطيع أن نقول عنه إنه فزيولوجي مشرح لوظائف البنية، وقد وجد خلال درسه لمشكلات المجتمع علة واحدة من علله، فلم ينكشف له قانون التقدم الاجتماعي ولا القوة الرئيسية في مجرى التاريخ.

وقد استقر حزب الكومنتانج منذ زمن على طريقتين لتنفيذ مبدأ المعيشة القومية: إحداهما التسوية بين ملاك الأرض، والأخرى تنظيم رءوس الأموال، وهما كفيلتان بحل مشكلة المئونة في الصين.

ومن البديهي أن أمم العالم المختلفة مضطرة إلى اتباع طرق مختلفة لحل هذه المشكلة حسب اختلاف الأحوال فيها.

وكثير من أساتذة الصين الذين استوعبوا معارف الغرب قد حسبوا أننا نعالج مشاكلنا مقتدين في العلاج بغيرنا، ولم يلتفتوا إلى الخلاف الذي قام ولا يزال قائمًا بين أحزاب الأمم الغربية حول مشكلات بلادهم، فالماركسيون يحلون جميع المشكلات الاجتماعية بالدكتاتورية العمالية وجميع مشكلات الاقتصاد والسياسة بالثورة، وهم فريق التطرف الأقصى وغيرهم من الاشتراكيين يميلون إلى الأساليب السلمية واستخدام العمل السياسي والتفاهم بالمفاوضة والمساجلة، وبين الفريقين خصام شديد في أوروبة وأمريكا، ينحو فيه كل فريق منحاه.

وعند المقارنة بين هذا المنحى وذلك نرى أن ماركس يحل العقدة بقطعها، وأن الآخرين يفكون عقدتها برفق وتؤدة، فهل نريد نحن أن نحل عقدتنا بحد السكين أو الرفق والتؤدة؟

ينبغي أن نذكر أن مبدأ المعيشة الذي يدعو إليه الكومنتانج ليس المطمح المثالي، بل هو القوة الدافعة في المجتمع، وهو المحور الذي تدور عليه جميع الحركات التاريخية، والفرق بين الشيوعية ومبدأ المعيشة أن الشيوعية غاية مثالية للمعيشة، ولكن مبدأ المعيشة هو الشيوعية الواقعية، فليس بين المذهبين فرق أصيل، وإنما الفرق في أساليب التطبيق.

وبين هذه الأحوال التي تعانيها الصين نسأل: أية الوسائل هي التي نختارها لعلاج مسألة المعيشة؟

لن تكون هذه الوسائل نظريات فارغة، بل وقائع ماثلة، ولن تكون وقائع ماثلة في البلاد الأجنبية، بل في صميم بلادنا، فلا اهتداء إلى خطة قديمة ما لم نكن على علم بالوقائع الصحيحة، فما هي الوقائع الأساسية عندنا؟

لنعلم أننا جميعًا أصحاب حصة في هذه الفاقة التي تبتلى بها الأمة الصينية، فليس عندنا طبقة غنية خاصة، بل هناك فاقة عامة، وهذا التفاوت بين الغني والفقير إنما هو اختلاف في طبقة واحدة، أو اختلاف في درجة الفاقة.

والواقع أن صاحب رأس المال الصيني بالقياس إلى نظرائه الغربيين فقير ومن عداه من أبناء الشعب فقراء مدقعون، وإذا كان أغنياؤنا فقراء في العالم الواسع فالأمة الصينية أمة فقراء، وليس بينها غني كبير، وكل ما فيها فقر محتمل وفقر لا يُطاق، فكيف السبيل إلى التسوية بينهم وإلى الخلاص من براثن الفقر الشديد؟

إن التغير الاجتماعي والتطورات في رأس المال تبدأ عادة من مالك الأرض إلى التاجر إلى صاحب المال، وقد نشأ ملاك الأرض من عهد الإقطاع، ويمكن أن يقال: إن أوروبة لم تملك بعد حريتها من النظم الإقطاعية في حين أن الصين قضت على نظام الإقطاع فيها من عهد أسرة شين.

وكان النبلاء الذين يحوزون الأرض هم الأغنياء حين كان عهد الإقطاع قائمًا، ومن لم يكن في حوزتهم أرض فهم فقراء، وقد مضى نحو ألفي سنة على انتهاء عهد الإقطاع في الصين، ولا تزال الحالة باقية كما كانت لقلة التقدم في أساليب الصناعة والتجارة. وخلت الصين من كبار الملاك، ولكنها لم تخل من الملاك الصغار، وسارت العلاقات في سلام بين الملاك الصغار وآحاد الشعب، إلى أن سرت تيارات الحياة الغربية إلى الصين في الزمن الأخير فسرى التغيير إلى كثير من النظم، وكانت مسألة الأرض أول ما أصابه التغيير من جراء اتصالنا بالبلاد الغربية، فشاعت المقامرة والمضاربة بالأرض وارتفعت هذه المضاربات بأثمان الأرض ارتفاعًا لا يُطمأن إليه.

إن الغربيين لم يهتدوا إلى طريقة يعالجون بها هذه الشرور التي تتعلق بالأرض، فإذا أردنا حل هذه المشكلة فلنبدأ الآن ولا ننتظر حتى يتقدم تطور التجارة والصناعة فلا يسلس لنا مقادها بعد ذاك.

واليوم والمؤثرات الغربية تتوالى وأحوال الصناعة والتجارة تدخل أطوارها المتجددة، ننظر حولنا فنرى التفاوت يتباعد بين ملاك الأرض كما يتباعد بين ذوي الأموال والفقراء، ووجهتنا من دعوة الكومنتانج هي التقريب والتسوية بين موارد الرزق في المجتمع، فهي غاية كفاية الاشتراكية أو غاية الشيوعية، ولكن طريقة التطبيق هي موضع الاختلاف.

وخطوتنا الأولى هي علاج مشكلة الأرض، ونصف المشكلة كلها محلول إذا وفقنا في هذا العلاج، فأصحاب رءوس الأموال في الصين لا يزالون ملاك أرض لا ملاك مكنات ومصانع، وينبغي من هنا أن يسهل علينا العمل على التسوية بين الملاك وتنظيم رأس المال وأن نلتمس لنا مخرجًا من مشكلة الملكية.

ولا يكفي تنظيم رأس المال إذا أردنا أن نحل مشكلة المعيشة وأن نستريح طويلًا بعمل حاسم، فقد كان فرض الضرائب على الدخل إحدى الوسائل التي لجأ إليها الغربيون لتنظيم رأس المال، فهل ترونهم حلوا مشكلة المعيشة؟

إن الصين لا تشبه غيرها من الأمم، ولا يغنينا هنا أن نعمل على تنظيم رأس المال.

فالأمم الأخرى غنية والصين فقيرة، والأمم الأخرى يفيض إنتاجها عن حاجتها والصين لا تنتج ما يكفيها، فلا يكفي الصين تدبير رءوس الأموال الخاصة، بل عليها أن تدبر للدولة كلها رأس مالها، وما العمل والأمة اليوم ممزقة الأطراف؟ وكيف السبيل إلى تدبير رأس مال للدولة؟

يُخيل إلينا أنه ما من سبيل إلى وجهة صالحة، أو يخيل إلينا أنه ما من أمل في ارتقابها بعد حين.

مصانع الدولة: ويومئذ يتسنى لنا أن نجتهد لتحقيق رجاء كنفشيوس في الأسرة القومية الكبرى.

وكل كلام عن مبدأ المعيشة فحواه أن يحصل الملايين الأربعمائة على طعامهم بالثمن القليل، فلا تعتبر مشكلة المعيشة محلولة حتى يتوافر الطعام الصالح بثمن ميسور.

من أمثلة الصين: «سبعة أشياء تشغل بالك حين تفتح بابك في الصباح: الوقود والأرز والزيت والملح والفول والخل والشاي!»

وقد كانت الصين من أقدم العصور أمة زراعية صناعتها الكبرى لتحصيل القوت هي الزراعة، وقوام الزراعة هم الفلاحون الذين ينهكهم العمل وتتوقف على حمايتهم بقوة القانون جودة المحصول ووفرة الأرزاق، ومن قسمة الصين أنها خلت من كبار الملاك ولا يزال تسعة أعشار أبنائها بغير أرض يملكونها، فأكثر الأرض يملكها أناس لا يزرعونها بأنفسهم، ومن العدل أن يزرع الفلاح أرضًا يملكها وينتفع بمحصولها، إلا أن الفلاحين اليوم يزرعون لغيرهم ويذهب من محصولهم أكثر من نصفه إلى أيدي الملاك، وبحل هذه المشكلة يرتبط حل مشكلة المعيشة كلها، فقد دلت الإحصاءات الأخيرة على أن الزارع لا يحصل من أرضه على أكثر من أربعين في المائة، ويذهب سائره إلى المالك الذي لا يزرع.

وليس يكفي عند تناول مسألة الإنتاج الزراعي أن نجتهد لتحرير الفلاح، بل علينا مع هذا أن نجتهد لمضاعفة الإنتاج بالوسائل العلمية، وخلاصتها استخدام المكنات والاستعانة بالأسمدة والمخصبات ومناوبة الغلات والمحاصيل واستئصال الآفات وتنظيم المعامل والتصدير واتقاء الأزمات.

وعلينا أن نسأل: هل تعتبر مشكلة المعيشة محلولة إذا تحققت جميع هذه الجهود؟

أبادر فأقول: كلا، إذ ليست يسرة الإنتاج مغنية عن تنظيم التوزيع والتقسيم، ويتعذر الإنصاف في التوزيع والتقسيم مع عدم الاتحاد.

إلا أننا نتعزى بأن المحنة التي نحن فيها عارض زائل ونؤمن باتحادنا في المستقبل، وأننا سنحل مشكلة المئونة بتنمية رأس المال وترقية الصناعة، فنبدأ من المواصلات من سكك حديدية وطرق نهرية، ثم نفتح المناجم التي تخفيها الأرض مع الأسف على وفرتها في أرض الصين، ثم نلاحق ذلك ببناء المصانع والمعامل، وعندنا وفرة من الأيدي العاملة، ولكننا لقلة المكنات لا نقوى على منافسة الأمم الأخرى، والسلع التي تستنفدها الصين تصنعها الأمم الأخرى وتتولى تصديرها إلينا لحسابها، فلا جرم تستنزف حقوقنا الاقتصادية ومرافقنا وتمتصها شيئًا فشيئًا، ولا نستطيع نحن أن نوقف هذا الدم المنزوف ونسترد حقوقنا ومرافقنا إلا إذا سخرنا قوى الدولة لترقية الصناعة، واستخدام المكنات في الإنتاج وتوفير العمل لجميع الأيدي الصالحة له في الأمة، ومتى اشتغل العمال جميعًا وأتقنوا إدارة المكنات والآلات لإنتاج السلع تجدد للصين ينبوع عظيم للثروة، ولا محيص من ولاية الدولة لهذا العمل؛ لأن الإشكال فيه على الأمراء والوطنيين والأجانب يوشك أن يسفر عن طبقة مفرطة في الغنى يعقبها التفاوت البعيد بين حظوظ الناس من الغنى.

لا محيص إذن من حصول الدولة على رأس مال، وما معنى ذلك؟ معناه البسيط إنشاء الصناعة القومية، وعلى الدولة أن تعطي القدوة في مشروعات الأعمال الكبرى، وأن تدير أنواعًا من المكنات المنتجة التي تدخل في ملك الدولة، وهي إذا تمكنت من تنمية رأس المال القومي ونفع الأمة بثمراته فقد أمكنها أن تتجنب خصومات رأس المال.

وسيكون دخلنا عظيمًا من الصناعات الثلاث! صناعة المواصلات وصناعة المناجم وصناعة المعامل، وستكون مزاياها ومنافعها مشاعة بين الأمة قاطبة، وسيحصل كل صيني على حصة من أرباح رأس المال فلا يضيره رأس المال كما يضير أناسًا من أبناء البلاد الأجنبية التي ينحصر القسط الكبير من رءوس أموالها بين الأيدي الخاصة.

ونعود فنقول: إن مبادئنا الثلاثة تفيد لأجل هذا حكم الشعب بالشعب لأجل الشعب، وإن الدولة ملك الشعب؛ لأن الشعب كله يشرف عليها ويجني ثمرات أعمالها، وبهذا تصبح للشعب حصة في كل شيء ولا يكون قصارى الأمر أنه صاحب حصة فيما تنتجه الملكية الخاصة، ونعني بها ملكية رأس المال؛ لأن الإنتاج ينظر إلى هدف واحد في هذه الحالة: وهو الربح.

ومتى كان الربح هو الغاية فنجاحنا في تخفيض سعر الأقوات يتحول إلى طلب الربح من وراء التصدير إلى الخارج حيث ترتفع أثمان الطعام، وحسب صاحب المال الخاص أن ينظر إلى الربح ليحفزه الطمع إلى التصدير ولو كانت المجاعة تفني الكثيرين.

هذا النظام من نظم التوزيع لن يحل مشكلة المعيشة، فتحقيق اﻟ «مينج شنج» مستحيل ما لم نشفع تدبير مسألة الإنتاج بتدبير مسألة التوزيع، وما لم نجعل القبلة توفير الطعام لا توفير الأرباح.

فالقضاء على نظام رأس المال حتم لا هوادة فيه، ونحن نعلم أن موارد الصين كافية لإطعام أهلها في الوقت الحاضر، ولكننا نرى الموارد تنقص عامًا بعد عام؛ لأن الطعام يتسرب إلى الخارج حيث يجلب الربح الجزيل لفئة قليلة من أصحاب الأموال.

ومدار المبدأ الذي يتصل بمعيشة الأمة أن يحصل الناس على أقواتهم لا أن تمتلئ الخزائن بالأرباح، ويضطرنا هذا إلى خزن الفائض سنة قبل المحصول الجديد فلا نسمح بالتصدير حتى نضمن الكفاية بعد العام القابل …

فالحد الفاصل بين نظام مبدأ المعيشة ونظام رأس المال أن رأس المال يجعل الربح غايته، وأن مبدأ المعيشة يجعل الغاية تيسير القوت لجميع أبناء الأمة، ومثل هذا المبدأ قمين أن يقضي على شرور النظم الاجتماعية القديمة.

ولطالما ردد الاقتصاديون أن مطالب المعيشة ثلاثة: غذاء وكساء ومأوى، وتجاربي الطويلة تدفعني إلى إضافة مطلب رابع كبير الخطر في هذا الصدد، وهو المواصلات السهلة، وحل المشكلة — مشكلة المعيشة — يستلزم أن يتمكن الناس جميعًا من تحصيل هذه المطالب الأربعة ولا يغنيهم عن ذلك تخفيض أسعارها … وحيث يراد أن تتضافر المساعي على إبداع (دنيا جديدة) لا يجوز أن يوجد أحد يعوزه مطلب من هذه المطالب الأربعة.

والحكومة هي التي تتولى حتمًا تزويد الشعب بهذه المطالب، ويجب أن يكون من حق كل أحد أن يحاسبها على تقصيرها، فعلى عاتقها يقع عبء العمل لتزويد الشعب بضروراته المعيشية.

وعلى الشعب ولا شك تبعات قبل الحكومة واضحة الحدود، فعلى الفلاح أن ينتج مواد الغذاء، وعلى الصانع أن ينتج الأدوات والآلات، وعلى رجل الأشغال أن يوازن الكفتين بين العرض والطلب، وعلى العالم أن يفرغ للعلم ذكاءه ودرايته، وعلى كل بالإجمال أن يعرف واجبه ويقوم بأدائه على الوجه الأمثل.

والهيئة السياسية أو القوة السياسية، لازمة لإنجاز هذه المهام من تدبير المئونة واتقاء خطر المنافسة الأجنبية، ولكن الصين اليوم — وهي أسيرة المعاهدات — لم تفقد سياستها وحسب، ولم تعجز عن حماية صناعتها وكفى، بل هي قائمة بحماية الصناعة الأجنبية، وقد حدث هذا من جراء التمدد والتوسع في رءوس الأموال، كما حدث من جراء التقدم الصناعي ومن تفوق الأجانب علينا في ميادين الاقتصاد، وكل هذه المزايا تسندها من ورائها قوى الدول السياسية.

وإنهم اليوم ليعاملون الصين كأنها سوق مستعمرة ويقبضون بأيديهم على حقوق السيادة الصينية وعلى شئونها المالية، فلا يسعنا وهذه حالهم وحالنا أن نتفرد بعلاج مبدأ المعيشة، وعلينا أن نستولي على الجانب السياسي ونلغي المعاهدات الجائرة ونسترد مكوس الموانئ من الأيدي الأجنبية، ونستطيع بعد ذلك أن نزيد المكوس وأن نتبع خطط الحماية الجمركية، وأن ندفع سيل الواردات المتدفق على بلادنا كي يتسع المجال أمام صناعتنا للتطور والانتشار.

وعلى الصين أن تأخذ بناصر السلع الوطنية وتقاطع السلع الأجنبية، ولطالما أثرنا الثائرة حول هذه المسألة ولم نظفر بمعاونة من الأمة؛ فأخفقت الحملة وحبط السعي، وهذا مع صعوبة النجاح حتى في حالة التعاون بيننا وبين الأمة، لضعف حكومتنا وقصور مساعيها السياسية.

فليس في طاقتنا أن نسيطر على مكوسنا البحرية وهي بين الأيدي الأجنبية، وليس في طاقتنا أن نزيد مكسًا من المكوس، وليس في طاقتنا من أجل هذا أن نرفع ثمن المنسوجات الأجنبية ونهبط بتكاليف المنسوجات الوطنية، وما دامت المنسوجات التي ترد من الخارج أقل ثمنًا من منسوجاتنا فليس في طاقتنا أن نحول الشعب من شراء الصنف الأجنبي إلى شراء الصنف الوطني بأكثر من ثمنه، وغير مجد أن نهيب بالناس أن يجتنبوا الأكسية الأوروبية ولو بذلك ينقض قواعد الاقتصاد في حياة كل فرد من عامة الأفراد.

لا مناص إذن من الاعتماد على القوة السياسية لتدبير الكساء وتعويد الأمة أن تلبس من منسوجات بلادها وتجتنب المنسوجات الواردة من البلاد الخارجية.

(٩) لوازم المعيشة من كتاب تنمية الصين الدولية The International Development of China

في البرامج الأربعة السابقة حصرت القول في إنشاء الصناعات الأساسية التي تعتبر مفاتيح الصناعة.

وفي هذا البرنامج سأحصر القول في طائفات من الصناعات الأصلية التي تحتاج إلى المعونة الأجنبية، وأعني بالصناعات الأصلية تلك الصناعات التي تزود كل فرد وكل أسرة بضرورات العيش ومرفهاته.

وغني عن القول أن قيام الصناعات الأساسية أو مفاتيح الصناعة سيتبعه من تلقاء نفسه نشوء الصناعات المختلفة الأخرى خلال أجزاء البلاد في فترة قصيرة، فقد حدث مثل ذلك في أوروبة وأمريكا بعد الثورة الصناعية.

ولا شك أن قيام الصناعات الأساسية يتكفل بتدبير العمل الكثير من الأيدي ويرفع مستوى المعيشة بين العمال، وعند ارتفاع الأجور ترتفع كذلك أثمان الضرورات والمرفهات، ومقصدنا من هذا البرنامج هو المساعدة على خفض تكاليف المعيشة في الصين أثناء نشأتها الدولية، بحيث يحصل الشعب على الضرورات والمرفهات وعلى الأجور الحسنة في وقت واحد.

من المتداول بين الناس أن الصين أرخص البلاد وأقلها كلفة، وهو سوء فهم يرجع إلى تعود الناس أن يقيسوا كل شيء بقيمة العملة، ولكننا حين نقيس تكاليف المعيشة بما يلزمها من العمل نرى أن الصين أغلى البلاد وأعظمها كلفة بالنسبة إلى العامل، فإن العامل اليدوي يقضي في عمله من أربع عشرة إلى ست عشرة ساعة كل يوم ليكسب قوته، وليس في وسع كاتب الدكان أو معلم المدرسة أن يكسب أكثر من مائة دولار في السنة، ويحتاج الزارع لسداد الضريبة والإيجار أن يعيش عيشة الكفاف من يده إلى فمه كما يقال.

إن العمل رخيص جدًّا وكثير جدًّا، ولكن مطالب المعيشة لا تعدو الكفاية العاجلة كل سنة، فإذا وقعت الأزمة في إحدى السنوات وقع كثيرون في الضنك والجوع، وهذه الحالة التعسة التي يعانيها فقراء الصين نتيجة محتومة لنقص التطور وسذاجة الوسائل وتبديد الجهود العاملة.

وتعالج هذه الحالة علاجًا حاسمًا بالاستعانة برءوس الأموال الأجنبية وبالخبرة الفنية من الخارج لمنفعة الأمة الصينية كافة؛ إذ كانت أوروبة وأمريكا قد سبقتانا إلى التطور الصناعي بنحو مائة سنة، فإذا أردنا اللحاق بهما في وقت قصير وجب علينا أن نستعين بما عندهما من الأموال والآلات، وإذا تعذر الحصول على رأس المال الأجنبي فمن الواجب على الأقل أن نحصل على الخبراء والمخترعين الذين يصنعون لنا آلاتنا، فلا مناص لنا بأية حال من الاعتماد على الآلات لمساعدة قوانا اليدوية الهائلة على تنمية مواردنا التي لا تُحصى.

وتتلخص ضرورات المعيشة العصرية في خمسة مطالب هي:
  • (١)

    صناعة الأطعمة.

  • (٢)

    صناعة الملابس.

  • (٣)

    صناعة المساكن.

  • (٤)

    صناعة المتحركات والناقلات.

  • (٥)

    صناعة الطباعة.

(٩-١) صناعة الأطعمة

فصناعة الأطعمة تندرج تحت هذه العناوين: وهي (١) إنتاج الطعام و(٢) تخزينه ونقله و(٣) إعداد الغذاء وحفظه و(٤) توزيعه وتصدير فائضه.

فالطعام الإنساني يأتي من الأرض والهواء، وأهمه وأكبره غذاء الهواء وقوامه الأوكسجين، وهو غذاء تدبره الطبيعة ولا يحتاج منا إلى تدبير إلا ما كان من قبيل تدبير الهواء للطيار والغواص، فهو غذاء مباح لكل طالب ولا يلزمنا أن نبحثه في هذا المقام.

والغذاء من الماء — وقد ألمعت إليه عند الكلام على إنشاء موانئ الصيد وسفنه — موضوع لا نتعرض له هنا اكتفاء بالكلام على الصناعات التي تتوقف على المعونة الأجنبية.

إن الصين بلاد زراعية، أربعة أخماسها على وجه التقريب مشتغلون بإنتاج الطعام، وقد عُرف الزارع الصيني بالمهارة في استخراج المحصول، وفي وسعه أن يحصل من الأرض على أكثر ما تعطيه، ولكن الصين تتخللها أراض واسعة في الأماكن المعمورة متروكة بورًا لسبب من الأسباب، فمنها ما يترك لقلة الماء، ومنها ما يترك لكثرته، ومنها ما يترك عمدًا لتمكين المحتالين من المغالاة بالأجور والأثمان، وأن الأقاليم الثمانية عشر وحدها لتقوم اليوم بمعيشة أربعمائة مليون.

إلا أن مجال الزيادة والتنمية متسع إذا استطلحت الأرض البور وحسنت وسائل الإنتاج في الأرض المزروعة، وينبغي أن نحمي الزراع ونشجعهم بالقوانين الحرة التي تكفل لهم أن يجنوا ثمرات عملهم، وينبغي مع ذلك أن نتوفر على خطة نافعة في الوقت نفسه لنشأة الصين الدولية فيما يتعلق بإنتاج الطعام، وهذه الخطة النافعة تقوم على مساحة الأرض وإقامة المصانع لإخراج أدوات الزراعة الحديثة.

فالصين لم تمسح قط مساحة علمية ولم تعمل لها قط خريطة وافية، فكانت إدارة الأرض فوضى وتقرير الضرائب عليها جزافًا بغير ضابط، مما يزيد المصاعب على الفلاحين والزراع المساكين، ومن ثم كانت مساحة الأرض كيفما كانت الأمور أول ما تشرع فيه الحكومة، وهو عمل لا يتم بغير المعونة الأجنبية لحاجته إلى الأموال والخبراء، ولهذا نقترح أن تتولى هذا العمل منظمة دولية تجمع نفقاتها من قرض يعقد ويعين على تنفيذ المشروع بما يلزمه من الخبراء والأدوات، وندع للمختصين أن يقرروا تكاليف المشروع وموعد إنجازه ونطاق معداته واستخدام الطيارات له أو غيرها من الوسائل والأساليب.

فيحفظ الطعام تارة بمعالجته بالملح وتارة بحرارة الشمس، ويندر أن تستخدم العلب والمصانع لهذا الغرض، ورأيي أن تبنى سلسلة من معامل الأرز في جميع الحواضر الكبرى بوادي اليانجزي والصين الجنوبية حيث قوام الغذاء من الأرز، ويحسن أن تبنى أربعة معامل في كل مدينة إلى شمال وادي اليانجزي حيث قوام الغذاء من القمح والشوفان وبعض الحبوب الأخرى، وتجعل هذه المعامل جميعًا في كفالة إدارة واحدة للتوفر على التدبير والقصد في النفقة، ويوكل إلى المختصين تقدير الأموال الضرورية لهذا المشروع بالتفصيل.

ومن اللازم حفظ الأغذية من الفاكهة واللحم والسمك بوسائل التبريد والتعليب، وسيكثر الطلب على القصدير عند إنشاء صناعة التعليب، وهي صناعة ضرورية ومربحة، ويحسن أن تقام معاملها إلى جوار مناجم الحديد والقصدير، ففي الصين أماكن شتى يوجد فيها الفحم والحديد والقصدير على مقربة، ويتهيأ من ثم تحضير المواد والخامات للمعامل، ويحسن أيضًا أن تجمع معامل التعليب ومعامل القصدير في صناعة واحدة لتيسير النفقة والتنظيم.

التوزيع والتصدير

والمعروف عن الصين أنها لا تعدم الغذاء في السنوات الطيبة، ومن أمثلتها الشائعة أن الحرث سنة يدبر الحاجة ثلاث سنوات، وقد تعوَّد الناس في الأقاليم الغنية أن يخزنوا الأطعمة ثلاث سنوات وأربعًا من قبيل الحيطة للسنوات المجدبة.

ولكن التنظيم المقترح خليق متى تم أن يغني الشعب عن الحيطة لأكثر من سنة واحدة، وأن يسمح له بتصدير الفائض إلى البلاد الخارجية، ويحسن أن يوضع التوزيع والتصدير مع الحفظ والتخزين في رعاية إدارة واحدة، فينقل الفائض إلى مخازن المدن الكبرى ويدخر منه ما يكفي لسنة واحدة، ويباع الطعام بتكاليف إنتاجه لأفراد الشعب، ثم يرسل الفائض إلى البلاد الخارجية حيث يطلبون ويبذلون فيه الأثمان العالية، وبهذه المثابة ينتفع بالطعام الفائض بدلًا من إضاعته سدى جريًا على المتبع في نظام الحجر على التصدير، ولا شك أن هذا المورد خليق أن يعتمد.

وتجري مع مساحة الأرض بحوث جيولوجية في وقت واحد للقصد في النفقة، ومتى تمت المساحة وتمت البحوث ووضعت الخرائط الدقيقة لكل إقليم فمن المستطاع يومئذ أن نصحح تقدير الضرائب على الأرض المزروعة والأرض المستصلحة، وأن نقرر ما تصلح على الأرض البور من أغراض الزراعة أو المرعى أو غرس الغابات وحفر المناجم، وأن نؤجر كلا منها لاستغلاله في أحسن الأغراض التي يصلح لها، ونخصص الفائض من محصول الضرائب لسداد القروض الأجنبية.

ولدينا عدا الثماني العشرة الأقاليم أراض واسعة للزرع والمرعى بمنشورية ومنغولية وسنكيانج، فضلًا عن أراضي المرعى الواسعة في التيبت وكوكونور، ويمكن تثميرها على سعة بأسلوب التقسيم الجماعي الذي أشرت إليه في برنامجي الأول.

أما إقامة المعامل لصنع آلات الزراعة وأدواتها، فإن الحاجة إليها تعظم كلما مضى العمل في الزراعة والاستصلاح، وأيسر لنا أن نصنعها في بلادنا من استيرادها من البلاد الخارجية، لكثرة الأيدي العاملة عندنا ووفرة الحديد والفحم في أرضنا، ولا بد لذلك من تخصيص مقادير كبيرة من رءوس الأموال تنفق على المصانع التي يحسن أن تقام في مراكز الصناعة أو على مقربة من مناجم الحديد والفحم، حيث توجد الأيدي العاملة وتوجد الخامات.

التخزين والتصدير

والحبوب أهم مواد الغذاء التي تُخزن وتُصدر وهي اليوم تخزن بمقادير قليلة؛ لأنها إذا خزنت بمقادير عظيمة تعرضت للسوس والتلف والآفات الجوية، فلا تخزين إلا إذا قل المقدار وتعهدته العناية الدائمة مدة من الزمن.

وتصديرها كذلك باهظ النفقة؛ لأنها تنقل على الأكثر محمولة على الأكتاف، ثم تتعاورها وسائل النقل التي لا نظام لها متى وصلت إلى البحار.

فإذا أحسنت أساليب التخزين والتصدير توفرت لنا ثروة كبيرة، ورأيي في هذه المسألة أن تبنى خلال الديار سلسلة من مخازن الحبوب، وأن يصنع لها أسطول خاص في المياه المختلفة تتولى بناءه مصلحة التنمية الدولية، ويعهد إلى المختصين بتقدير رأس المال اللازم لهذه المشروعات وتعيين مواضع التخزين …

إعداد الغذاء وحفظه

وإلى اليوم يجري إعداد الغذاء وحفظه على الأساليب البدائية القليلة، لسداد أقساط الديون وفوائدها.

وغير ميسور لنا أن نتمم صناعات الأطعمة دون أن نُعنَى عناية خاصة بمحصول الشاي وفول الصوية، فإن شراب الشاي معروف جدًّا بين الأمم المتحضرة، وفول الصوية آخذ في الاشتهار بمزاياه الغذائية بين الباحثين العلميين وخبراء الحكومات المنوط بهم تدبير الطعام، والشاي أصح الأشربة وأطيبها للناس ينتج من الصين وتقوم على زرعه وتحضيره صناعة من أهم الصناعات الوطنية، وقد مضى زمن كانت فيه الصين مصدره الوحيد في أنحاء العالم، ثم نازعتها إياه اليابان والهند.

ولكن الشاي الصيني لا تزال له ميزته على محصولات البلاد الأخرى؛ إذ الشاي الهندي مفرط في الحموضة والشاي الياباني تعوزه النكهة الشهية، فأفضل أصناف الشاي ما يخرج من الصين منبته الأول، ولم تخسر تجارة الشاي الصينية إلا من جراء غلاء التكاليف اللازمة لإنتاجه ومنها الضرائب المحلية وضرائب التصدير ونقص وسائل الزراعة، وليس أيسر من استرداد مكاسب هذه التجارة متى رُفعت الضرائب واتبعت الوسائل الحديثة في زرعه، ورأيي أن تُبنى في أقاليم الشاي معامل حديثة لتحضير الشاي بالآلات بدلًا من تحضيره بالأيدي كما يحصل الآن، وبهذا تقل التكاليف وتزداد الجودة، وإذا كان إقبال العالم على الشاي في ازدياد ولا سيما بعد تحريم الخمر في الولايات المتحدة فالمشروع الذي يقوم على تحسين الصنف وتيسير ثمنه مشروع جزيل الربح بغير مراء.

وقد عرف الصينيون قديمًا مزية فول الصوية بديلًا من غذاء اللحم وعول عليه الصينيون واليابانيون قوامًا للتغذية منذ ألوف السنين، وأزمة اللحوم تحس اليوم في البلاد التي تعول عليها فلا بد من حل لعلاج هذه الأزمة، ولهذا اقترح في برنامج التنمية الدولية أن نصدر هذا اللحم الصناعي ومعه مستخرجات اللبن الصناعي والزبدة الصناعية لتصديرها إلى أوروبة وأمريكا، وأن نستعد لتصدير هذه الأصناف بإقامة المعامل التي تخرج للغرب الأغذية النتروجينية الرخيصة، وأن نستبدل هذه المعامل بالصناعات اليدوية تجديدًا للصنف وإقلالًا للتكاليف.

(٩-٢) صناعة الملابس

إن المواد الأصيلة لصنع الملابس هي الحرير والكتان والقطن والصوف وجلد الحيوان، وسأتناول الكلام عنها بعناوينها.
  • الحرير: فالحرير من مكتشفات الصين، استعمل للكساء عدة آلاف من السنين قبل الميلاد، وهو صناعة من أهم الصناعات الوطنية في الصين، كانت الصين إلى زمن قريب تنفرد بتصديره إلى أنحاء العالم، ولكن اليابان وإيطاليا وفرنسا أخذت هذه الصناعة لاعتمادها على الوسائل العلمية في المزروعات والمصنوعات؛ إذ لا تزال الصين معتمدة على وسائلها العتيقة كما كانت قبل آلاف السنين.

    ولما كان الإقبال على الحرير يزداد في أنحاء العالم فتحسين الزراعة والصناعة فيما يتعلق به عمل مربح جدًّا، وينبغي أن ينشأ في كل مركز من مراكز الصناعة الحريرية مكتب علمي يتولى إرشاد الزراع وتعليمهم تربية الديدان الصحيحة، وينبغي أن تكون هذه المكاتب تابعة لإدارة مركزية، وأن يكون من عملها جمع اللوزات لتمكين الزارع من الحصول على ثمن مناسب، ولا بد من إقامة المعامل الحديثة لتحضير خيوط الحرير للصناعة الداخلية والصناعة الخارجية على السواء، ويقترن إنشاء هذه المعامل بإنشاء معامل للمنسوجات الحريرية تباع في الأسواق الوطنية والأسواق الأجنبية، وتضم جميع هذه الصناعات إلى رقابة قومية واحدة تمولها رءوس الأموال الأجنبية ويتعهدها الخبراء المختصون لتوفير أحسن المحاصيل الاقتصادية وإخراج أرخص الأصناف وأجودها.

  • الكتان: والكتان أيضًا صناعة وطنية قديمة، ومن مصنوعات الصين الجنوبية صنف من التيل الجميل اشتهر باسم حشيش الصين، ويمكن أن يضارع الحرير في نعومته وزهوه إذا عولج بالوسائل الحديثة، ولكن الصين على ما أعلم لم توجد فيها بعد أمثال هذه الوسائل لنسج التيل، ويصنع التيل الصيني في الأنوال اليدوية، فمن الواجب أن نستورد الآلات اللازمة لهذه الصناعة، وأن ننشر مراكزها في الجنوب حيث تتوافر الخامات والأيدي العاملة.
  • القطن: والقطن محصول أجنبي دخل الصين منذ قرون، وأصبح صناعة وطنية مهمة في عهود الأنسجة اليدوية، ولكن ورود المنسوجات القطنية من الخارج قتل هذه الصناعة، وأصبحنا نصدر إلى الخارج مقادير كبيرة من القطن ونستورد مقادير كبيرة من المنسوجات القطنية، فما أعجب هذا عندما نفكر في وفرة الأيدي العاملة الرخيصة بيننا!

    على أن المعامل القطنية قد أنشئت أخيرًا في موانئ المعاهدات، وجنت أرباحًا عظيمة من صناعتها، وقيل: إن بعضها وزع في السنوات الأخيرة أرباحًا تضارع مائة في المائة، وترتفع أحيانًا إلى مائتين، والطلب يزداد على سلع القطن، ولكن المعروض قليل، فلا بد من توفير المعامل وإنشاء سلسلة من المراكز تضمها رقابة واحدة تعمل على تحسين الصناعة وتيسير الحصول عليها بالثمن الرخيص.

  • الصوف: إن شمال الصين كله — أي نحو ثلثي البلاد جميعًا — أرض مرعى، ولكن صناعة الصوف لم تستوف قط عندنا؛ إذ تخرج من الصين كل سنة مقادير عظيمة من الخامات وتدخلها مقادير عظيمة من المنسوجات الصوفية، فإذا نظرنا إلى إحصاء الوارد والصادر تبين لنا أن الصناعة الصوفية جديرة أن تفيد فائدة كبيرة، وينبغي أن نسخر الوسائل العلمية لتربية الغنم وعلاج الصوف لتحسين الصنف وزيادة المقدار، وأن نقيم المعامل الحديثة في الشمال لصنع جميع السلع الصوفية؛ إذ نحن نملك الخامات والمعمل الرخيص والسوق الواسعة، وكل ما نطلبه هو رأس المال الأجنبي والخبرة … وسيكون هذا المورد جديدًا فلا يتعرض للمنافسة.
  • الجلود: وصناعة الجلود أيضًا ستكون من صناعاتنا الجديدة، على الرغم من وجود بعض المدابغ في موانئ المعاهدات، ولا يزال تصدير الجلود وتوريد المصنوعات منها آخذين في الازدياد عامًا بعد عام، فمن المنتظر أن نحصل على فوائد جمة من إنشاء المدابغ والمعامل التي تخرج المصنوعات الجلدية والأحذية.
  • آلات الكساء: والصين محتاجة جدًّا إلى الآلات التي تصنع الأكسية، ويقال: إن طلبات الآلات القطنية قد استغرقت لمدة ثلاث سنوات من أوروبة وأمريكا، فإذا تمت نشأة الصين وتنميتها على حسب برامجي كان الطلب عليها أضعاف أضعاف ذلك، وقصرت موارد أوروبة وأمريكا عن تلبيتها، فإقامة المعامل إذن لإخراج هذه الآلات مشروع نافع فضلًا عن لزومه وضرورته، ويحسن أن تقام على مقربة من مراكز الحديد والصلب للإقلال من تكاليف نقل الآلات الضخام، وللخبراء أن يقرروا ما يتطلبه هذا المشروع من التكاليف.

(٩-٣) المساكن

بين الملايين الأربعمائة من أهل الصين يسكن الفقراء في الخصاص والأكواخ ويسكن فقراء الشمال في الكهوف، أما الأغنياء والأوساط فيسكنون الهياكل، وكل ما يسمى المنازل ما عدا المبني منها على الطراز الحديث في موانئ المعاهدات فهو مقام على طراز الهيكل.

وإذا بنى الصيني بيتًا فحساب الموتى مقدم لديه على حساب الأحياء، وأول ما يهمه محراب الأسلاف الذي يشاد في وسط الدار وتضاف إليه سائر حجراتها وجوانبها، ولا تُبنى المساكن للراحة بل للمراسم والشعائر، أو ما يسمونه في الصين بمسائل الأحمر والأبيض، ويعنون بالأحمر حفلات الزواج وبالأبيض حفلات الحداد.

وإلى جانب محراب الأسلاف محاريب أخرى للأرباب البيتية، فهي أهم من الإنسان وأولى منه بالعناية، فليس في الصين منزل لوحظت فيه راحة الإنسان وموافقة معيشته. فإذا وضعنا خطة السكن في برامج تنمية الصين فنحن نضع الخطة لسكنى أبناء الصين أجمعين، ويقول قائل: أتريد أن تبني بيوتًا لأربعمائة مليون؟ إنه مستحيل، وإنه لأضخم شغلة خطرت لإنسان على بال!

إلا أن الصين — إن كانت على عزيمتها أن تنبذ التقاليد الحمقاء والعادات النخرة — فتعديل نظام السكن أمر لا محيص منه على عمد أو على غير عمد. وهذه حضارة الأمم الغربية التي أدركتها تبدو لنا غير مقصودة؛ لأن العلوم الاجتماعية والاقتصادية لم تكن معروفة قبل الآن، ونحن نأمل في خلال خمسين سنة من تطورنا الصناعي أن تصبح مساكن الصين جميعًا مستوفاة من وجهة الراحة والموافقة، أليس بناء المساكن في الصين وفاقًا لترسيم العلم أفضل وأجدى من تركها بغير ترسيم؟ إنني لأحسب أن بناء ألف منزل مرة واحدة أقل نفقة من بنائها منزلًا منزلًا متفرقات، وكلما ازداد عدد المساكن نقصت التكاليف، فهو قانون اقتصادي واضح، ولا ضرر فيه إلا من جانب الإفراط والزيادة على الحاجة، فهذا هو العائق الوحيد في جميع الأعمال الكبرى. ومنذ قامت الثورة الصناعية في أوروبة وأمريكا لم تأت الأزمات إلا من طريق الإفراط في الإنتاج، ولدينا في الصين أربعمائة مليون راغب يتطلعون إلى المساكن، فلا أقل من خمسين مليون مسكن تدعو إليها الحاجة في الخمسين سنة المقبلة، ومليون منزل هو متوسط الطلب في كل سنة.

إن المساكن عامل هام في الحضارة، وهي تعطي الناس من المتعة والرفاهة ما لا يجدونه في الغذاء والكساء، وأكبر من نصف الصناعات البشرية تدور على مطالب السكنى، وستصبح صناعة البيوت أعظم ما نشرع فيه من خطط التعمير كما ستكون أربحها وأنفعها، وكل غايتي من هذه الصناعة أن نهيئ السكن الرخيص للدهماء، وقد يتسنى بناء منزل كالذي يبنى الآن في موانئ المعاهدات بعشرة آلاف ريال ولا تزيد تكاليفه على ألف ريال، وإنما يتسنى هذا بالاستيراد والنقل والتوزيع، ومتى تم بناء البيت وجب تزويده بالأثاث، وكل هذا يدخل في نطاق صناعة السكن على الوجه الآتي:
  • (أ)

    إنتاج مواد البناء واستيرادها.

  • (ب)

    إجراء البناء.

  • (جـ)

    صناعة الأثاث.

  • (د)

    تدبير المرافق المنزلية.

فأما مواد البناء فهي الآجر والقرميد والخشب والحديد والحجر والإسمنت والملاط، وكل مادة من هذه المواد تؤخذ من الخامات، فلا بد من الأفران لصنع الآجر والقرميد، ولا بد من المعامل لتحضير الأخشاب والحدائد، ولا بد من المحاجر لاستخراج الإسمنت والملاط والحجارة، ولا بد من وضع هذه المعامل جميعًا حيث يسهل إمدادها والوصول إليها، وأن تضم كلها إلى مصلحة واحدة تخرج منها كل صنف على حسب الحاجة إليه، وتنقل المواد بطريق المواصلات المائية أو المركبات الخاصة على السكك الحديدية، وتتولى مصلحة السفن ومصلحة المركبات إعداد وسائل النقل من المعامل إلى الأسواق.

والمباني التي تنشأ في الصين تشتمل على مساكن عامة ومساكن خاصة، ويناط بناء المساكن العامة بمصلحة حكومية؛ لأنها لا تأتي بأجرة تعوض تكاليفها، أما المساكن الخاصة فلا تبنى إلا لغرض من غرضين؛ أحدها تيسير السكن للشعب، والآخر تحصيل الربح لخدمة هذه الصناعة. وتتبع الأساليب المرسومة في بناء المساكن، ومنها أسلوب البيت الذي تسكنه أسرة واحدة وأسلوب البيت الذي تسكنه أكثر من أسرة، فالبيت على الأسلوب الأول يقسم إلى ثماني حجرات أو عشر حجرات أو اثنتي عشرة حجرة، والبيت على الأسلوب الآخر يقسم إلى مساكن عشر أسر أو مائة أسرة أو ألف أسرة، لكل أسرة منها أربع حجرات أو ست حجرات، ويجب تقسيم المساكن في الريف على حسب أعمال السكان مع إلحاق الحظائر والجرن بمساكن الفلاحين. وتلاحظ في تخطيط البيوت راحة الإنسان فتعهد مهمة التخطيط إلى مصلحة تدرس عادات الطوائف المختلفة ومطالبها ويدخل عليها التحسين الضروري حينًا بعد حين، ويتم البناء بالآلات المستعجلة التي تقتصد في الجهد إنجازًا للعمل وإقلالًا من نفقاته.

أما الأثاث فإن ضرورة تغيير أساليب البناء تستلزم تغيير الأدوات وصنعها على الطراز الحديث، ومنها أدوات للمكتبة وأدوات لحجرة الاستقبال وأخرى للمخدع أو للمطبخ أو للحمام أو للمراحيض، وتخصص لكل نوع معامل مستقلة تحت إشراف مؤسسة الإنشاء والتعمير.

ومرافق البيوت تشتمل على الماء والنور والحرارة والوقود والتلفون، ولا توجد في غير موانئ المعاهد موارد مائية، بل تخلو بعض هذه الموانئ من موارد الماء حتى الآن. ويستقي الناس في المدن الكبرى من الأنهار التي تنوب كذلك عن المجاري والمصارف. ومن هنا كانت موارد الماء في الصين غير صالحة، فمن المطالب العاجلة توفير موارد الماء في المدن بغير إبطاء، ولا بد لذلك من المعامل التي تصنع فيها الأدوات الضرورية، أما الإنارة فلا بد كذلك من تعميمها وإنشاء المعامل التي تخرج أدواتها.

ومن أعظم المطالب كلفة على الصين وقود الطعام، فالريفي يخصص عشر أرباحه لشرائه، والحضري يخصص لشرائه ضعفي هذه القيمة، ومن ثم كانت مسألة الوقود مضيعة لكثير من الجهد والثروة، ويجب استبدال الفحم بالعشب والحطب في بلاد الريف، وأن يستبدل به الغاز والكهرباء في الحواضر والعواصم، ولا غنى عن الأجهزة اللازمة لتحضير الفحم والغاز والكهرباء، وعلى مؤسسة الإنشاء والتعمير أن تعنى بهذا العمل، وعليها كذلك أن تيسر استخدام التلفون للريفيين والحضريين على السواء، وأن تنشئ المصانع التي تخرج الأجهزة والأدوات ميسرة بالثمن المستطاع.

(٩-٤) المحركات

الصينيون شعب ساكن، فخر الرجل فيهم من قديم الزمن أنه يعكف على منزله ولا يُعنى بغير شأنه، ومن أقوال لاوتسي معاصر كنفشيوس: إن الجيرة الصالحة تقيم على مقربة حيث يسمع الجار من بيت جيرانه صياح الديكة ونباح الكلب ولا يغشى أحدهم دار غيره مدى حياته، وطالما تردد هذا القول وصفًا للعصر الذهبي في الأمة الصينية.

إلا أن الأمور قد تغيرت في الأزمنة الحديثة، وأصبحت الحركة هنا وهناك شغل الإنسان في حياته، وإنما بالحركة تتقدم الحضارة، وعلى الصين أن تتحرك إذا أرادت أن تدرك ركب الحضارة، فحركة الفرد جزء جوهري من نشاط الأمة، ومن حقه أن يتحرك حيث شاء ومتى شاء في يسر وسرعة، ولكن الصين في الوقت الحاضر تعوزها الوسائل التي تيسر الانتقال لمن يريده، فإن الطرق القديمة مخربة والسيارة لم تعرف بعد في أنحائها، وهذه السيارة وسيلة مستحدثة لا غنى عنها للحركة السريعة، فإذا أردنا أن نتحرك ونعمل فعلينا أن نستعين بالسيارة، ولا سبيل إلى الاستعانة بها قبل تمهيد الطرق لمسيرها، وقد بينت في هذه البرامج أننا محتاجون إلى إنشاء مليون ميل من الطرق المنتظمة، نلاحظ في بنائها نسبة السكان والمواقع، وفي أقاليم الصين الثمانية عشرة ألف محلة، فإذا كانت الصين على نية تعميم النظام المتبع في توزيع هذه المحلات وصل عددها إلى أربعة آلاف، وخص كل محلة مائتان وخمسون ميلًا من الطرق، إلا أن السكان في كل محلة يزيدون تارة وينقصون تارة، ولا تتساوى المحلات جميعًا في عدد السكان، فإذا قسمنا مليون ميل على أربعمائة مليون ساكن كان على كل أربعمائة ساكن بناء ميل واحد وهو عمل غير عسير، فإذا قبلته الأمة وقبلت معه أن يكون تمهيد الطرق شرطًا للحكومة المحلية وجدنا أمامنا مليون ميل من الطرق كأنها امتدت بسحر ساحر، ومتى شرعت الأمة في تمهيد الطرق أمكن إنشاء المعامل لصنع السيارات قليلًا قليلًا ثم تزداد على حسب ازدياد الطلب حتى تفي بحاجة الملايين الأربعمائة. يجب أن تصنع السيارات لأغراض متعددة بحيث تصلح للزارع والصانع والتاجر والمسافر والمتنقل … إلخ إلخ. وكلما كثر المصنوع منها قلت تكاليفه وتيسر ثمنه لمن يطلبه، ولا يكفي تيسير الحصول على السيارة دون تيسير الحصول على وقودها، فمن الواجب أن تقترن صناعة السيارات بالتنقيب عن منابع زيت النفط، وهو ما نفصل القول فيه عند الكلام على صناعة المناجم والتعدين.

(٩-٥) الطباعة

هذه الصناعة — صناعة الطباعة — تيسر للإنسان غذاء فكره، وهي ضرورة من ضرورات الحياة العصرية لا يتم التقدم بغيرها.

إن نشاط النوع الإنساني محفوظ مسجل، ومعارفه جميعًا مخزونة في المطبوعات، فالطباعة عامل عظيم من عوامل الحضارة، بحيث تقاس حظوظ الأمة من التقدم أحيانًا كثيرة بمقياس مطبوعاتها في كل سنة.

والصين متخلفة في هذا المجال مع سبقها إلى اختراع الطباعة، ولكنها إذا اتبعت مناهج التقدم التي نبسطها هنا تعاظمت مطالب ملايينها الأربعمائة من المطبوعات وأصبح لزامًا لتلبية هذه المطالب أن نؤسس شبكة من المطابع في أنحاء البلاد لإخراج المطبوعات المختلفة من الصحف إلى الموسوعات، ووجب أن تترجم نخبة الكتب في جميع اللغات إلى اللغة الصينية وتباع بالأثمان المستطاعة، وينبغي أن تلخص دور النشر جميعًا بإدارة واحدة لتحقيق أفضل النتائج الاقتصادية.

وتيسير أثمان المطبوعات يستدعي العناية بصناعات شتى أولها صناعة الورق، وهو في الحاضر يُستورد من الخارج لطبع الصحف ويزداد الطلب عليه يومًا بعد آخر، على أن الخامات التي يصنع منها الورق موفورة في الصين، ومنها الغابات في شمالها الغربي وأنواع القصب في نهر يانجتزي والمستنقعات التي بجواره، وهي كفيلة أن تزود مصانع الورق بأحسن عجينة صالحة لصنعه، ويحسن إنشاء المعامل الكبيرة لهذا الغرض في المواقع الملائمة، وأن تنشأ معها معامل المداد والمسابك والأدوات المطبعية وكل ما هو ضروري لإدارة النشر والطباعة.

(١٠) الحرب والسلم من كتاب تنمية الصين الدولية

إن الحرب العالمية ليست إلا السطو المسلح على نطاق واسع يأسف له كل فكر مستقيم.

ولما اشتركت الولايات المتحدة في النزاع الأخير فجعلتها بذلك حربًا عالمية (١٩١٤–١٩١٨) كان أبناء الولايات المتحدة بلسان رجل واحد يريدون أن يجعلوها حربًا للقضاء على الحروب، وحلق رجاء الأمم عاليًا حتى خيل إلينا نحن أبناء الصين أن التاتنج Tatung (أي: العصر الذهبي) مقبل لا محالة.

غير أن الولايات المتحدة قد أخفقت في السلم للأسف الشديد بعد نجاحها في ميادين القتال، فنكصت الدنيا إلى حالة كالتي كانت عليها قبل الحرب العالمية، وسينطلقون من جديد في السباق إلى ضم البلاد والتنازع على مواد الغذاء والتطاحن على الخامات، وبدلًا من نزع السلاح سوف يتضاعف عدد الجيوش والأسلحة البحرية استعدادًا للحرب المقبلة بين أولئك الذين كانوا من قبل حلفاء، وستكون الصين أغنى البلاد بالموارد والسكان غنيمة النصر في تلك الحرب المقبلة.

لقد كانت الدول جانحة منذ سنوات إلى تقسيم الصين وتقدمت روسيا القيصرية فعلًا لاستعمار منشوريا، فإذا باليابان — ذات الحمية والنخوة — تتصدى لها وتنجو الصين بهذه المثابة من خطر التقسيم.

لكن سياسة اليابان العسكرية في الوقت الحاضر متطلعة إلى ابتلاع الصين، فمصير الصين إذا هي ظلت معلقة بمراحم الدول العسكرية أن تمزق بين هذه الدول أو تبتلعها واحدة منها.

ويبدو أن الأحوال آخذة في التغير، فهذه الصين التي لبثت هاجعة عدة قرون قد تيقظت وعلمت أن اللحاق بركب العالم المتقدم ضرورة لا محيد عنها، وها نحن أولاء في مفترق الطريق، فهل نعد أنفسنا للسلام؟

إن العسكريين والرجعيين منا يؤثرون الاستعداد للقتال ويحاولون أن يصبغوا الصين بالصبغة اليابانية، وأن يتحينوا الفرص لإعلان حرب كحرب الملاكمين (البوكسر) تتحدى عالم الحضارة.

ولكنني باسم الجمهورية التي أسستها أود أن تجمع الصين عدتها للسلام، وأثوب إلى القلم — وهو في اعتقادي أقوى من السيف الذي جردته للقضاء على أسرة المانشو — فأخط هنا تفاصيل البرنامج الذي تستعد به الصين لخدمة السلام.

إن الدول — إذا هي صدقت النية على التعاون لتحصيل المنافع المتبادلة — خليقة أن تتقي أخطار الصراع على المغانم المادية التي تتطلع إليها في الصين، فإن مغانمها من طريق التعاون أوفر وأجدى من مغانم الصراع والقتال.

على أن العسكريين اليابانيين لا يزالون يحسبون أن الحرب أنفع المساعي الوطنية، ولا يزال أركان حربهم يرسمون الخطط للحرب المقبلة خلال عشر سنوات، وقد أكبر هذا الوهم في رءوسهم أن غزوتهم للصين سنة ١٨٩٤ كانت موفورة الربح على قصرها وسهولتها، وأن حربهم مع روسيا سنة ١٩٠٤ كانت كذلك نجاحًا لليابان وكانت ثمراتها كبيرة بالنصر كبيرة بالقيمة، وأن إعلانها الحرب على ألمانيا سنة ١٩١٤ لم يكلفها بعض ما تكلفه المقاتلون من الرجال والأموال، ولكنها على هذا ربحت من ورائه إقليم شانتنج وهو في سعة رومانيا قبل الحرب يسكنه أناس في عدد سكان البلاد الفرنسية.

لا جرم إذن، مع هذه المغانم من كل حرب، أن تستمرئ اليابان مغبة الحروب ويخيل إليها أنها أربح التجارات في هذا العالم، ولكن الصين اليوم يقظى لما حولها، فكل عدوان من قبل اليابان ستصده الصين ولا شك بعزيمة صادقة.

إن الحرب التجارية، أو التنافس على الأسواق هي صراع بين أصحاب الأموال، وهذه الحرب التجارية لا تتحرى مصلحة قومية، بل تنشب بين أصحاب الأموال في الوطن الواحد عنيفة قاسية كما تنشب بينهم في الأوطان المتعددة، وسلاحها الماضي أن تتسابق إلى البيع الرخيص للقضاء على المنافس الضعيف ثم الاستبداد بالسوق وإملاء الشروط على المستنفدين إلى أمد طويل.

وعاقبة الحرب الاقتصادية لا تقل عن الحرب المسلحة في إضرارها بالمنهزم وشدة وطأتها عليه، وقد تفاقمت ضراوة هذه الحرب بعد اتخاذ المكنات لإنتاج المصنوعات، وكان بعض خبراء الاقتصاد من مدرسة آدم سميث يحسبون التنافس عاملًا طيبًا ونظامًا صحيحًا سليم العاقبة، ثم انكشف للخبراء المحدثين أنه على نقيض ذلك مضيعة للجهود ومدعاة للخراب، وجنحت آراؤهم إلى الوجهة المقابلة: أي إلى وجهة التركيز والتكافل بدلًا من التفرق والتنافس.

ولهذا تزدهر الشركات المؤتلفة في أمريكا على الرغم من تحريم القوانين لها وميل الجمهور إلى مكافحتها؛ لأن الشركات المؤتلفة تستطيع الإنتاج بتكاليف أقل من تكاليف الأفراد لقصدها في النفقة وتوفيرها للجهود المبددة، وهكذا تخلص الشركات المؤتلفة من المنافسين كلما دخلت ميدانًا من ميادين الصناعة ويسرت للمستنفد سلعًا أرخص من أمثالها، وجدير بهذه المزية أن تكون خيرًا وبركة على المستنفدين لولا أن الشركات المؤتلفة في الأيدي الخاصة التي تتحرى مضاعفة الكسب جهد المستطاع، فما هو إلا أن تخلص من المزاحمين حتى تستبد بالسوق، وتغالي برفع الأسعار، وتضطهد جمهرة الناس، وإنما تعالج هذه الآفة علاجها الأمثل باستيلاء الشعب كله على الشركات المؤتلفة، وبرنامجي في تنمية الصين أن تجعل صناعاتها القومية جميعًا شركة مؤتلفة كبرى تملكها الأمة وتنفق عليها من رءوس الأموال الأجنبية لتبادل المنفعة، فنقضي بذلك دفعة واحدة على الحرب التجارية في أكبر الأسواق العالمية.

(١١) دستور الهيئات الخمس من خطاب أُلقي في سنة ١٩٢١ وأذاعته مصلحة النشر في اللجنة التنفيذية

نحن جادون كي نجعل الصين دولة قوية مجيدة، فكيف نبلغ بها ما نصبو إليه؟ إخال أن الطريق ينبغي ألا يكون وعرًا، وأرى أنه هو طريق الدستور ذي الهيئات الخماسية.

مضى اليوم أكثر من عشرين سنة منذ تكلمت لأول مرة عن هذا الموضوع في الذكرى السنوية للمين پاو بمدينة طوكيو … ولا يزال أعوان هذا الدستور جد قليل، وعلينا إذن أن نرحب بكل رغبة في زيادة العلم بكنه هذا الموضوع.

في تاريخ الحياة السياسية وجهتان: وجهة الحرية ووجهة النظام، وفحوى هذا أن السياسة تعمل فيها قوتان كالقوتين اللتين تعملان في الطبيعة، وهما القوة الدافعة من المركز والقوة الجاذبة إليه، فالقوة الدافعة تتجه إلى الامتداد خارجًا والقوة الجاذبة تتجه إلى التجميع حول المركز، فإذا كانت القوة الدافعة أقوى من كل عامل آخر تطاير الجسم بدادًا، وإذا كانت القوة الجاذبة هي الأقوى تكاثف الجسم وصغر، ويلزم من ثم أن تتعادل هاتان القوتان.

وينطبق هذا على وجهتي الحرية والنظام، فامتداد الحرية قد يفضي إلى الفوضى، والغلو في حفظ النظام قد يفضي إلى الحكم المطلق. وما كانت الأطوار السياسية خلال آلاف السنين الأخيرة إلا أثرًا من آثار الصراع بين هذين الاتجاهين.

نعم، وهذان الاتجاهان في التاريخ السياسي بين السلطان المطلق والحرية هما موضع الاختلاف بين الصين والبلاد الأوروبية، ولكن التاريخ السياسي فيه غير ذلك طائفتان من الناس: طائفة الحاكمين وطائفة المحكومين، أو كما عبر عن ذلك أحد الحكماء حيث قال: «إن من الناس من يعمل لرياضة عقله ومنهم من يعمل لرياضة جسده، والأوائل حاكمون، والأواخر هم المحكومون.»

ولا بد لمن يحكم من المعرفة، ولا بد للمحكوم من فرصة لكسب المعرفة، وقد كان أبناء الأزمنة الغابرة كالأطفال ينتظرون القيادة من غيرهم، فانقضى عهد الطفولة السياسية وأصبح الناس وهم يشعرون أن هذا الفاصل بين الحاكم والمحكوم خليق أن يزول، وقد طرح الأوروبيون عنهم نير الأنظمة الملكية في القرون الأخيرة، ونعم الناس بقسط من الحرية أكبر وأرقى، ونهجنا نحن لهدم ذلك الفاصل منهج الهيئات الخماسية عسى أن نتأدى منه إلى مبادئ الديمقراطية الصحيحة.

ولقد ناديت عند بدء الثورة بالمبادئ الثلاثة وهي القومية والديمقراطية والاشتراكية، وهذه هي الأغراض التي عناها رئيس الولايات المتحدة لنكولن حينما دعا إلى حكومة الشعب بالشعب ولأجل الشعب، فلا بد للناس أن يحكموا أنفسهم ليرضوا عن حكمهم، فلا رضى للناس مع عجزهم عن ولاية الأمور.

ولا ننس إذ نعالج سيطرة الذين راضوا عقولهم على الجماهير التي لم تشغل بغير أجسادها أن المشيئة الإنسانية قد تعمل حتى في مواجهة السماء.

ولننظر إلى الديمقراطية وهي أداة الشعب التي يطير بها أو يغدو أو يسبح أو يمضي حيث شاء بين الأرض والسماء، فما هي هذه الأداة؟ هي الدستور: هي الدستور الذي يضع الحدود لسلطان التشريع وسلطان القضاء وسلطان الإدارة وسلطان الاختبار وسلطان الرقابة والإشراف.

ذلك هو الدستور الخماسي الذي نبغيه، وهو سيارتنا أو غواصتنا أو طائرتنا، نسير به حيث نريد؛ لأنه يسلك بنا حيث توضع القوانين أو حيث تنفذ أو حيث تدار الأعمال الحكومية أو حيث يختبر الموظفون وحيث يراقبون.

ويقوم الرئيس على رأس الإدارة، ويقوم البرلمان على رأس التشريع، ويقوم القضاة على منصة الأحكام.

وكم من أناس أولي كفاية لم يعرف لهم فضلهم؛ لأنهم لم يوضعوا قط موضع الاختبار، لقد حدث كثيرًا أن أناسًا من الجهلة أشباه الأميين ارتفعوا إلى مناصب الحكم فغرسوا في النفوس شرور النقمة والبغضاء، وليس أصلح لعلاج هذه الآفة من اختبار المرشحين لوظائف الدولة واختيارهم من ذوي الفضل والدراية، فبغير هؤلاء النخبة المختارين يمضي الركب بغير سائق، وبهذه الوسيلة نحصل على الكفاة المدربين على الخدمة العامة.

لقد جرى الإنجليز على هذه الخطة منذ زمن غير قصير، وجرى عليها الأمريكيون منذ عشرين أو ثلاثين سنة، وكلهم مسبوقون إليها في الصين، فإن النظام الصيني أصلح الأنظمة، وبلاد العالم تستعيره منا اليوم.

ولما كنت في نانكنج رجوت مجلس الشيوخ أن يقتبس نظام الهيئات الخماسية فلم يفطنوا لمقصدي؛ لأنه يقطع عليهم مدى نظراتهم الشخصية، لكن هذا الدستور الخماسي — ثمرة جهودي وتجاربي — أداة ضخمة، فمن كان عليه أن يقطع مئات الأميال في غير بطء ولا وناء فلا غنى له عن سيارة أو طيارة يحكم آلاتها، ومن كان عليه أن يسير بالأمة على نهج الفلاح فلا غنى له عن الآلة الحكومية التي تضبط حركاتها.

تلك هي الآلة التي تدار بها شئون البلاد، ولدينا عدا هذا الدستور الخماسي مبدأ جوهري لاشتراك المواطنين المباشر في الحكومة المحلية، فهذا الاشتراك المباشر هو الخلاصة الصادقة لحقوق الإنسان، قوامه الانتخاب والعزل والاقتراح والاستفتاء، فإذا شبهنا الدستور الخماسي بالأداة فالحق المباشر هو مفتاح هذه الأداة، ويحق لمن يملك الانتخاب أن يملك عزل من أساء، ومن علم بشريعة صالحة فمن حقه أن يقترحها وأن يرجع إليه لسؤاله عنها، وذلك هو نظام الاستفتاء.

(١٢) قبس من صلاة على ضريح عميد الأسرة الصينية القديمة «منج» توجه به الزعيم إلى روح العاهل «الخالد» بعد نجاح الثورة (١٩١٢)

وهنت أسرة «سنج» قديمًا فاغتنم التتار ومغول أسرة «يوين» هذه الثغرة ليشيعوا الفوضى في هذه الديار، وباءوا بغضب الناس والأرباب.

عندئذ ثبت يا صاحب الجلالة، يا رافع دعامتنا، تصد ذلك الغول، وخرجت من خفائك تعيد ذلك التراث القديم.

وما هي إلا سنوات اثنتي عشرة حتى جمعت أشتات الدولة وطهرت الديار من لوثة التتار الصاخبين.

ولطالما حدث في تاريخ أمتنا النبيلة أن أغار عليها برابرة الشمال فاستعبدوها لأمرائهم الصغار، فلم ينتصر عليهم أحد قط كنصرتك المؤزرة يا صاحب الجلالة، ولكنه مجد لم تقوَ ذريتك على حفظه، وأمانة عهدوا بها إلى أناس أساءوا الرأي ونظروا إلى أمد قريب، فأطمعوا فيهم همج التتار من المشرق ومهدوا لهم أسباب القوة والجرأة، فما عتموا أن تمرد المتمردون هنا وثم حتى انقضوا على مدينتك المقدسة فأخذوها، ثم انحدروا من قمتهم الخسيسة إلى أرجاء هذه التربة الطاهرة فدنسوا أنهارها وأوديتها وأعملوا في الرقاب فأس الجلاد وسيف الفاتك المنتقم.

ونشط الأكرمون الغيورون من رعاياك فاجتازوا الجبال إلى كانتون والجنوب الأقصى، وساورهم الرجاء أن ينقذوا بقايا التراث فلا يطبق عليه الخراب، وتتابعت الضحايا وهلك من هلك راضيًا في هذا الجهاد، فلم يسكن غضب السماء ولم تنفع حيلة أبناء الفناء، وكأنما هي صفحة محزنة ضُمت إلى سجل سيرتك يا صاحب الجلالة، ولا شيء!

واشتدت وطأة الشريعة الواغلة وضاقت شباكها، فيا للحسرة المرة على أمتنا المسكينة وهي قابعة في الأركان تصغي ولا تنطق ولا ينطلق لها لسان، وكأنما ألصقت ألسنتهم بالغراء بين أفواههم حيث سدت أمامهم أبواب الفرج والنجاة.

وراح الآخرون يسبغون صفات الزيف على المكارم الباطلة والأمان الكاذب، ومن ورائها حكمة تداس وآداب تهدر ووصايا تبتذل، ودعواهم أنهم يوقرون حكماءها المقدسين وأئمتها الملهمين.

كظموا أنفاس الناس ليكرهوهم على الطاعة، وغلبت السيطرة المانشوية بالغيلة والحيلة فلم يعسر عليهم أن يبسطوا بأسهم ويطلبوه ثم انفجرت الثورة على الرغم من كل هذا الطغيان، وتعاقب الثوار في كل مكان … وآل أمرها نعم إلى الهزيمة، ولكنها أعلنت صوت الأمة وكشفت عن مشيئتها فتسايرت بها الركبان.

ثم لاحت أشعة فجرنا، وآذنت شمسنا بالطلوع، وبث نفحات الحياة في أمة الصين أنها تعارفت على حقوقها وأحست كرامتها، وخارت قوى المانشويين أنفسهم فلم يقدروا على حماية حوزتهم، وزحف العداة الأقوياء على الأرض فنزل المانشويون عن خيراتها ليشبعوا مطامع جيرانها. ولئن كان أبناء الصين اليوم في نكسة لقد كانوا منذ القدم سلالة الأبطال الأشداء، فكيف بهم يصبرون على أرواح عظمائهم الذاهبين أن تلقى هذا الهوان وتنصب عليها سياط البلاء!

يومئذ هب حماة الوطن كالعاصفة أو كالسحابة التي تبرز فجاءة في أفق السماء، فاستهلت من كانتون ثم روعت بكين بقذيفة وويوية،٢ وانطلقت رصاصة هسوهسلين إلى أحشاء طاغية المانشو قبل عام، ورفع هسونج شنج لي علم الحرية على نهر اليانجزي، فتعاقبت الوثبة بعد الوثبة خلال الديار، وعلم وصي العرش بما أعده له المجاهدون خفية فكشفت الثورة عن نفسها في كانتون، وارتاعت العاصمة فنكلت بطائفة بعد طائفة، وتقدم إلى مكانهم صف بعد صف، حتى انجلت الغاشية عن دولة جديدة وسلطان جديد …

… قيل قديمًا: إن طغيان البرابرة على بلادنا لم يكتب له قط أن يطول بعد مائة عام، ولكن هؤلاء المانشويين قد طال بهم الزمن مائتين وثلاث مئات، وعلم القضاء بالساعة الموعودة وإنها في النهاية آتية لا ريب فيها. وها نحن أولاء نفتتح في آسيا الشرقية تجربة الحكومة الجمهورية، وما زال العاملون من قديم موعودين بالنجاح القريب أو البعيد، وما من ريب في عقبى الصالحين بعد حين، فما لنا نجزع اليوم وقد طال انتظار النصر المبين؟

وسمعنا كثيرًا بالذين صعدوا إلى هذه القمة العليا يستلهمون وحيها عسى أن تساعدهم على الخلاص، ولطالما ذرفوا الدمع السخين كلما نظروا إلى ما تحتهم من الأنهار والأودية فرأوها جاثية تحت أقدام الأجنبي الغريب، فاليوم يتبدلون بالحزن سرورًا ويطوون صدورهم على الغبطة بعد القنوط.

لقد ثابت إلينا نفحة الروح من ضريحك في نانكين، وها هو ذا التنين رابض في جلاله القديم، وها هو النمر يجيل بصره في ملكه المعهود، وكل ما حوله ساكن قرير.

إن جنودك قائمون صفًّا صفًّا على مقربة من الضريح، وإنهم لينصتون ويترقبون، وها هو ذا شعبك يحج إليك ليرفع إليك أنباء نصره، وعلى مثواك حيث يستقر رفاتك الأقدس بريق جديد من نور المجد والبهاء، جعله الله هاديًا لذريتك فيما يلي من أيامها، وسلام أيها الروح … تقبل منا هذا القربان.

(١٣) عوارض الانحلال من خطابه لأول جماعة ألفها لإنقاذ الصين سنة ١٨٩٤

إن الأمور تسير في الصين على ضلال: فضائلنا الموروثة وآدابنا العتيقة تفسد كل يوم، وجيراننا الأقوياء ينظرون إلينا من عل ويحتقروننا لاختلاف أهوائنا وتفرق قلوبنا، وأبناء قومنا واثبون على مطامع الأنانية والمغانم العاجلة، غافلون عن حالتهم في جملتها، لا يخطر لهم على بال أن الصين إذا تمزقت بين الأقوام الأخرى شب أولادهم وأحفادهم عبيدًا مسخرين وضاعت أسراتهم بلا وزر ولا حماية. ما كانت الأثرة قط أشد إمعانًا في الأثرة، وما تبلبلت المقاصد قط كما تبلبلت اليوم في الأمة بأسرها، فكيف النجاة إذن من الكارثة؟ إننا إن لم نثبت لنتساند وننهض بأنفسنا قبل فوات الحين فهذه الألوف من السنين التي سلفت لنا في السمعة والحضارة، وهذه الأجيال التي تعاقبت على السنن المأثورة ذاهبة لا محالة، صائرة إلى الدمار لا مراء، من المسئول عن هذا المصير؟ من عساه أن يكون غير الصالحين العارفين بهذا المصير؟

(١٤) لا أمل في الرجعية من كلامه عن الحل الصحيح (سنة ١٩٠٤)

منذ فتنة الملاكمين (البوكسر) تخيل الكثيرون أن حكومة المانشو أخذت تلمح علامات الزمن وتصلح من شأنها لتحسين أحوال البلاد، واغتروا بمنشوراتها ومراسيمها التي تُذاع من حين إلى حين وفاتهم أنها حروف ميتة لا يُراد بها غير تهدئة النفوس الثائرة، وأن إخلاص المانشو في نية الإصلاح مستحيل؛ لأن الإصلاح يقضي عليها ويستوعبها في بنية الأمة فتخسر كل ما في يديها الآن من الحقوق والمزايا، وأن أحلك الجوانب من حكومة المانشو لخليق أن ينكشف بعد اليوم حين تبدو صحائف الدواوين وأسرارها في الضياء، فإن أصحاب هذه الدواوين المتجرة المتعفنة تعرف كيف تزدلف إلى أسرة المانشو وترشوها لتبقى في مكانها وتنعم بتجارة الغش والاختلاس.

(١٥) من دستور الكومنتانج

كل شخص راغب في العمل بمبادئ الحزب، والسعي في تنفيذ قراراته، مستعد لإطاعة أصوله وتعليماته، يجوز أن ينتظم في عضويته بناء على طلبه وموافقة الحزب، بغير تمييز بين الجنسين.

ويشتمل الحزب على طائفتين من الأعضاء: طائفة الأعضاء المثبتين، وهي تتألف من كل شخص جاوز العشرين ومضى عليه سنة على الأقل عضوًا تحضيريًّا في الحزب، بعد تزكيته من لجنة التنظيم وامتحانه أمام اللجنة التنفيذية، ومراجعة اللجنة المركزية في البلد أو الجهة المختصة، وتصديق اللجنة المركزية في الإقليم.

وطائفة الأعضاء التحضيريين، وهي تتألف من كل شخص جاوز ست عشرة سنة يقدم طلبه وفقًا للإجراءات المقررة، ويزكيه عضوان مثبتان تقبل تزكيتهما في اجتماع عام للجنة التنظيم، ويجري امتحانه أمام اللجنة التنفيذية.

والأعضاء المثبتون لهم حق إبداء الرأي والاقتراع والاشتراك في انتخاب ذوي المراكز الإدارية في الحزب، كما يحق لهم أن ينتخبوا لتلك المراكز. والأعضاء التحضيريون لهم حق إبداء الرأي.

وعلى كل عضو في الحزب مراعاة النظام الآتي:
  • (أ)

    إطاعة دستور الحزب وتعليماته وقبول مبادئه.

  • (ب)

    مناقشة المسائل بحرية تامة، إلى أن يصدر الحزب قرارًا فيها فيجب في هذه الحالة تسليمه بغير خلاف.

  • (جـ)

    المحافظة على أسرار الحزب.

  • (د)

    ألا يهاجم عضوًا في الحزب أو هيئة من هيئاته خارج مؤسساته.

  • (هـ)

    ألا يشترك في هيئة سياسية أخرى.

  • (و)

    ألا يشترك في تأليف هيئة منشقة داخل مؤسساته.

وللحزب رسالة تاريخية يؤديها، وهي السعي في الوحدة والاستقلال وسلام الوطن، وكلها تتوقف على نتائج جهاده، كما تتوقف نتائج جهاده على اتباع النظام التام فيه، وعلى الأعضاء أن يستقصوا غاية جهدهم لإنجاز هذه الرسالة.

كل منظمة حزبية تشمل موقعًا من المواقع لها حق الإشراف على المنظمات في أجزاء ذلك الموقع.

وجميع المنظمات تدين بالولاء لجماعة الحزب القومية ولغيرها من الجماعات والوكلاء والمؤتمرات الذين يمثلون موقعًا تنتمي إليه، وتشترك المؤتمرات المحلية والوكلاء المحليون في انتخاب الهيئة التنفيذية التي تباشر أعمال الحزب.

والهيئة العليا للحزب هي جماعة الوكلاء القومية التي تجتمع في الأحوال العادية مرة كل سنتين، وتدعى للاجتماع في الأحوال الاستثنائية كلما رأت اللجنة التنفيذية المركزية ضرورة لذلك، أو كلما اتفقت على ضرورة اجتماعها كثرة اللجان الإقليمية واللجان التي في طبقتها، وتتولى اللجنة التنفيذية المركزية وضع الإجراءات الخاصة بتنظيم أعمال الجماعة وانتخاب وكلائها ونسبة النيابة فيها.

وتناط الواجبات التالية باللجنة التنفيذية المركزية:
  • (أ)

    تمثيل الحزب في علاقاته الخارجية.

  • (ب)

    تنفيذ قرارات الجماعة القومية.

  • (جـ)

    تنظيم وإدارة الهيئات الحزبية التابعة.

  • (د)

    تنظيم إدارات اللجنة التنفيذية.

  • (هـ)

    الإشراف على مالية الحزب وأمانة صندوقه.

(١٦) نشيد الحزب: سان مين شو آي

هدف جماعتنا
نوطد أركان الجمهورية
ونعقد أواصر الأخوة العامة
تقدموا يا رفاق
يا طليعة الأمة
لا وهن ولا مهل
بل جهاد متصل في سبيل مبادئنا
ثابروا على الهمة، واثبتوا على الأقدام
ثابروا على الصدق، واثبتوا على الولاء
وبقلب واحد، وبرأس واحد
سيروا إلى النهاية

(١٧) الوصية

منذ أربعين سنة وقفت نفسي لقضية الثورة القومية التي تتكفل للصين بمركز بين الأمم على أساس الاستقلال والمساواة، وقد أقنعتني جملة تجاربي في هذه السنين بأن بلوغ هذا المقصد رهين بإيقاظ الجماهير من أبناء أمتنا والتعاون مع كل أمة من أمم العالم تعاملنا على سنة المساواة في الكفاح المشترك بيننا.

ولم تتحقق الثورة بعد، فلينظر زملائي جميعًا فيما دونته عن خطط التعمير القومي والقواعد الأساسية التي يقوم عليها ذلك التعمير، وفي البلاغ الذي صدر من مؤتمر الحزب الأول، وليعملوا بلا وناء لتحقيق جميع هذه الغايات، وينبغي قبل كل شيء عقد مؤتمر قومي وإلغاء جميع المعاهدات المجحفة كما بينت أخيرًا، وأن يتم ذلك بأقل ما في الطاقة من التأخير.

هذه وصيتي، وهذه رسالتي.

(١٨) الكلمة الأخيرة

انتهينا من هذه الصفحات إلى التعريف ببطل من أعظم أبطال الشرق في العصر الحديث، ولا نهاية لسيرة هذا البطل إذا أردنا أن نستقصي آثارها بعد حياة صاحبها، ولكننا نستطيع أن نجتزئ من السيرة بالقدر الذي انتهينا إليه، فإن التعريف ببطولة الرجل لا يتوقف على الإحاطة بما حدث بعده، فهي بقية متجددة لا نهاية لها من الزمان.

والحقيقة التي لا مراء فيها أن تاريخ الصين الحديث لا ينفصل بعد اليوم عن تاريخ سن ياتسن، وما كان المشيعون له من قادة الصين مبالغين؛ إذ قالوا: إنه أحد رجلين لم تعرف بلادهم اسمًا أقدس من اسميهما ولا عملًا أخلد من عمليهما، وهما كنفشيوس في التاريخ القديم، وسن ياتسن في التاريخ الحديث.

ولم يشيعه أهل الصين تشييع زعيم من زعماء السياسة في عصر ينقضي بانقضاء جيله، بل شيعوه تشييع الخالدين، وشادوا له ضريحًا٣ أعظم من ضريح كعبتهم الوطنية في نانكين؛ وهو ضريح عميد آل «منج» الذي حج إليه سن ياتسن بعد إعلان الجمهورية يشهده على أمانة الوطن لعهد الأسلاف والأعقاب.

ومن عادة أهل الصين أن يدلوا على تعظيمهم للدفين بتعظيمهم لنعشه، فلما نقل رفات الدفين المحبوب إلى ضريح نانكين — بعد إعداده في خمس سنوات — تقسم أجزاء النعش مائة وخمسون من أقوياء الجنود، وحملته السفينة الحربية إلى ميناء نانكين، ثم أبى مشيعوه من علية القوم إلا أن يترجلوا طول الطريق، والقيظ في أشد أيامه، ومن المرسى إلى أكمة الضريح خمسة أميال.

ودخلت ذكرى «الأب الكبير» في عداد الصلوات والعبادات، فخصصت لذكراه ساعة من صباح الإثنين في كل أسبوع، ينحني الحاضرون فيها ثلاثًا أمام صورته، رمزًا إلى مبادئه الثلاثة، ويرتلون نشيد الصين الوطني ويستمعون إلى وصيته ويصمتون دقائق دقائق ثلاثًا في خشوع وسكون، ثم ينصرفون.

ولما ظهر بعد وفاته أول دليل من أدلة الأعلام والمشاهير، لم يكن اسم سن ياتسن بين أسمائه، فأوشكت أن تكون فتنة وأن يهجم الشبان الغاضبون على دار الدليل سخطًا على المكتب الموكل بجمعه، فما ينبغي أن يحذف اسم الزعيم الخالد من سجل الأحياء، وهو واهب الحياة للصين جمعاء.

وقد استحق الرجل ولا ريب هذا الوفاء من قومه، فإنه قد نسي نفسه ليذكرهم، ونسي — وهو الطبيب — أنه مريض محطم الجسد ليصحح أبدانهم ونفوسهم، وفارق الدنيا وليس له من ميراث غير مكتبته ومسكنه، ومعه ميراث آخر هو الذي استحق به ذلك الوفاء، وهو ميراث أربعمائة مليون عمل لهم ما لم يكونوا قادرين على عمله لأنفسهم، وقلما يساويه ميراث عظيم من عظماء الأوطان.

وآية العظمة في موازين الإنصاف أن يعمل الإنسان عملًا لم يقدر عليه الملايين من قبله.

ليست آية العظمة أن يعمل كل شيء، ولا أن يعمل كل ما أراد، ولو قيست عظمة الأبطال الأفذاذ بمقياس كهذا المقياس لما بقي في التاريخ عظيم واحد، فما من بطل يعفي الناس من العمل بعده، وما من بطل ولا غير بطل حقق أمنيته كلها في حياته، وإنما البطولة أن ينهض فرد بأعباء الألوف، وأن ينسى نفسه ليذكر الناسين وينبه الغافلين، وبهذا المقياس يرتقي سن ياتسن إلى الذروة العليا بين أبطال الوطنية وأبطال الإنسانية، ويستحق حقه من أمته وغير أمته، وقد يكون حقه من أمته متصلًا بالمنفعة والأثرة، أما حقه من غيرها فهو حق الأمانة لنفسه ولأبناء نوعه، ما دامت الثقة بالطبيعة الإنسانية شيئًا يعنيه.

وهذه الثقة — في رأينا — هي أنفس ما نقتنيه من تراجم العظماء، فكل تراجم العظماء عبث إذا كانت خلاصتهم أن العظماء ليسوا بعظماء، وأننا نترجم لهم لنفضح عيوبهم ونقائصهم ونخرج منها بعزاء واحد لا يغتبط به محب لأبناء نوعه، وهو عزاء الخسة بتلويث كل عظيم.

قال لي فتى ممن يسمون أنفسهم بالنقدة الممحصين: إنك تكتب عن العظماء قصائد الثناء، يعني أنني أحفل بجوانب عظمتهم ولا أحفل بما فيهم من العيب والنقيصة.

ويصح ما قاله الفتى لو أنني أثني على العظماء لخصلة ليست فيهم، أو أثني عليهم ولا أبين دواعي الثناء في أخلاقهم وأفعالهم، ولكنني أعود فأقول على فرض صحته: إنني أؤثر أن تكون تراجم العظماء قصائد ثناء، على أن تكون قصائد هجاء بافتراء أو بغير افتراء.

وفي هذه السيرة بذاتها أنكر أسلوب الترجمة للتعظيم ودفع الملام لو أن قارئًا من قرائها يخرج منها وهو يرى أن سن ياتسن معظم لغير سبب، ومعذور بغير عذر، وموصوف بالخلائق أو المناقب التي لا تميزه من غيره، ولا تفرده بملامحه بين خدام الأوطان خاصة في كل أمة وملة. فإن كان القارئ لا يرى هذا ويرى على نقيض هذا أن صاحب السيرة موصوف للتعريف به والتمييز بينه وبين أمثاله، فليسم السيرة إن شاء قصيدة ثناء.

هي قصيدة ثناء، وكل ما نكتبه عن العظماء هو على هذا الأسلوب قصائد ثناء.

١  الاستقلال من الحكم الأجنبي وسيادة الشعب وتيسير المعيشة.
٢  حادثة وقعت سنة ١٩٠٥.
٣  دُفن ياتسن في ضريحه ١٩٢٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤