الفصل الثالث

فلَّاحنا

«حياته ونفسيته»

قد يكون الفلَّاح في أممٍ أخرى أشقى من فلَّاحنا حالًا، وأتعس منه عيشًا، وأكثر منه شكوى، وأرفع منه أنينًا، وأحرَّ منه دموعًا، وأشدَّ منه لوعةً وأسًى، على حياةٍ كلها جدب وفقر وبؤس وبلاء، وجور واعتساف وضغط وحرمان.

ولكن فلَّاحنا المصري يُخيَّل لي أنه يكاد يكون أتعس فلَّاح في العالم إذا قيست أمَّته بالأمم الأخرى، ورُوعي التناسب في حالات الحضارة والمدنية والنهوض. ولقد نكون خطَونا حقًّا خطواتٍ واسعات موفَّقات مكلَّلات بالفوز والنجاح في نواحٍ كثيرة من نواحي النشاط الاجتماعي والإنتاج القومي والسعي الإصلاحي، ولقد نكون بلَغنا في نهضتنا القومية الكبرى حقًّا شوطًا مظفَّرًا مُنتجًا محمودًا، جعل اسم «مصر» يتردَّد ويعلو ويُذكَر في الساحات الدولية والهيئات العالمية، كأمَّة لها من ماضيها الخالد ومجدها التالد وحضارتها الأولى بين حضارات العالم قاطبةً، ومن حاضرها الفاخر وبعثها الأكبر وإحيائها الشامل وجهادها المشكور الحي، ومن آمالها في المستقبل الزاهر الجدير بماضيها العظيم وبتاريخها القديم، الخليق بحيوات الشعوب الجديدة، والأمم الناهضة الحية الشاعرة بوجودها وبكرامتها وبحرياتها وذاتيتها، كأمَّة لها من ماضيها وحاضرها ومستقبلها ما يهيِّئ لها أن تكون أمَّة الحكمة والحضارة والقوة والعظمة والخصب؛ أمَّة «السر» المُستكن في جُدران الأهرام، المغيَّب في رأس أبي الهول ورمال الصحراء العظمى!

أقول قد نكون قد خطَونا هذه الخطوات الواسعة المشكورة في جهادنا القومي وفي نهضتنا الكبرى، وقد نكون حقَّقنا جانبًا من مُثُلنا العُليا ونهضنا ببعض من أسس الإصلاح ودعامات الإنتاج، ولكن بكل أسف وبكل خجل يَنْدى جبيننا ويُوصِم فَخارنا القومي وكبرياءنا المصري، أقول بكل أسف إننا أبقينا فلَّاحنا المصري حيث أبقاه الماضي السحيق العريق في القِدَم، حيث أبقته العصور المُظلمة السوداء وصنوف الحكم التي تقلَّبت عليه من رومان ومن عرب ومن فُرس ومن مماليك، وارتضينا له المَنزلة التي اختارها له قياصرة الرومان ودهاقنة الفُرس وحكام العرب وسلاطين آل عثمان، في عصور الجبروت وعهود التعسُّف ودول الاستبداد!

فلقد نهجنا في حياتنا الخاصة والعامة الداخلية والخارجية منهج الغربيِّين، وغيَّرنا في أساليبنا التفكيرية، وفي مناهج بحثنا، وألوان كتابتنا، وطُرُق حديثنا، وفي معاملاتنا الخاصة، وفي حياتنا المعيشية، وفي وجهات نظرنا المختلفة إلى الحياة وإلى العالم وإلى الإنسانية جميعًا، وغدَونا نرفض اليومَ ما كنَّا نطمح إليه بالأمس، ونأمل في حياةٍ جديدة وفي عصرٍ جديد خليق بتفكيرنا وطموحنا ورُقيِّنا ونهوضنا، بماضينا وبحاضرنا وبمستقبلنا أيضًا، وأصبحت لنا مُثلٌ عُليا تختلف عن أخواتها في الماضي باختلاف العصور وباختلاف الاستعداد، وأصبحت لنا حرياتٌ مقدَّسة اكتسَبْناها بدماء شبابنا وبحكمة شيوخنا، وسوَّرناها بمُهَجنا وأرواحنا وقلوبنا، وأنزلناها منَّا مَنزلةَ الدم في عروقنا، والروح لجسمنا، وغدَونا نستمتع بعض الاستمتاع بحريتنا التفكيرية المقدَّسة السامية!

ولكن! ولا بد لنا في هذا المقام من «ولكن»! ولكننا تركنا ريفنا وفلَّاحنا. تركنا هذه الناحية الكبرى من حياتنا في خمودها وفي رُقادها بين رمال الماضي يأتي على نشاطها وعلى حياتها. تركناها ليد الزمن تعبث بها كيف تشاء وأنَّى تشاء. تركنا الفلَّاح المصري، فخر مصر وسيِّدها، في جهله وفي حرمانه من الاستمتاع بالوجود والشعور بالحياة، وفي ألوان استبداده وصنوف تعسُّفه؛ يُعاني من كل هذا جميعًا شرَّ ما يُعانيه إنسان تألَّبَ عليه الوجود كله، وحرمه حقوق الإنسان! وإنه ليُخيَّل لي أن العِلَّة الأولى من تعس فلَّاحنا، لا في سبب تأخُّرنا كشعب وكأمَّة عن الأمم الأخرى، وفي سبب الحياة التي نحياها الآن، والتي نذوق مرارتها، ونتجرَّع غصبًا وإكراهًا صابها وعلقمها، إنما هي «الجهل»، إنما هي هذا الظلام الذي يشمل كل وجودنا، وينشر من فوقه ومن تحته ومن يمينه ومن يساره طبقاتٍ بعضها فوق بعض، فلا نُبصر شيئًا ولا نشعر بشيء، إنما هي هذه القيود والأغلال والأصفاد التي في أيدينا وفي أرجُلنا وفي أعناقنا؛ فلا نتحرَّك إلا في أبعادٍ مخصوصة وفي أوقاتٍ معيَّنة وتعاليم محدودة.

هذه العِلَّة هي مصيبة مصائبنا، ونكبة نكباتنا، هي السر فيما نحن فيه الآن وفيما نتحمَّل من ذلِّ الاستعباد ونير الاضطهاد ومرارة الفاقة والحاجة ومَسكنة الضعف، هي التي تَقِفنا الآن مكبَّلين بقيودنا مكمَّمين بكماماتنا، أذلَّاء خانعين أمام من يتحكم فينا ويستبدُّ بنا ويسوقنا إلى ما يريد، هي التي تجعلنا الآن عالةً على العالم جميعًا حتى في بصيص النور الشائع للأمم قاطبةً؛ فلا نزال وسوف نَبقى طويلًا في حاجة إلى الغرب، نَنْهل من موارده العلمية، ونتهافت تهافُت الفراش على مدارسه وعلى جامعاته، نُحصل فيها ما نَعجِز عن أن نُحصله في معاهدنا وفي جامعتنا، وإلى أن ينقطع هذا السَّيل الجارف، وإلى أن نستغنيَ عن هذا الاستجداء، فسنَبقى عبيدًا للغرب وللمُستعمِر، وإن منحنا واستُردَّت إلينا حرياتنا وحقوقنا المسلوبة المغصوبة، وإلى أن تأخذ حياتنا التعليمية كلها الصبغة «المصرية» والطابَع القومي الإقليمي، فسنَحني رءوسنا ذلةً وخضوعًا كلما ذُكِر لنا اسم «الغرب» أو الحضارة الأوروبية! واليوم الذي يَغترف فيه كل مصري من هذا «النور» الزاهي الشائع، والذي يتأقلم فيه العلم عندنا ويتَّخذ صبغة القومية؛ في هذا اليوم نشعر حقًّا ونؤمن حقًّا بأننا أمَّةٌ محترمة مَهيبة لها مجد ولها فَخار ولها طابَعٌ خاص، ونؤمن بأن لنا مَقامًا عالميًّا وصبغةً دولية يُحسَب حسابهما في الهيئات الدولية، وفي الجهات العالمية، وبين الشعوب المحترمة!

لشَدَّ ما يستدرجني فلَّاحنا المِسكين! حرَمته الحكومات المُتعاقبة التي لا تُعنى إلا بأُبَّهتها وبعظمتها وبجاهها وبكراسيِّها، وحرَمه الأغنياء القابضون على أموالهم بأيدٍ من فولاذ ومن صُلْب، وحرَمته العصور الماضية السوداء، عصور الحكم الاستبدادي في عهد المماليك والأتراك ومن إليهم من مُستعمِرين ومن مُستبِدِّين، كل هؤلاء جميعًا تألَّبوا عليه وحرَموه حقَّه من النور الشائع الذي وهبه الله للعالم جميعًا، للإنسان الذي خلقه فسوَّاه وفضَّله على الخلق قاطبةً، حرَموه هذا الحقَّ المُباح، واتخذوا من أنفُسهم آلهةً له يتصرفون فيه وبه كيف يشاءون وحيث يريدون، يُعطونه حين ترى إراداتهم العُليا أن تُعطي، ويَحرمونه حين تشاء هذه الإرادات أن تَحرم!

وسنُحاول منذ الآن في السطور التالية تصوير حياة هذا الفلَّاح تصويرًا جهد المُستطاع، إن لم يكُن صادقًا كله فلا شكَّ أن فيه ناحيةً كبيرة من الصدق، وجانبًا عظيمًا من الحق. وسنكون في هذا التصوير على خير وأضبط وأدق ما تقضيه الأمانة علينا، ونستمدُّ هذه الألوان لتصويرنا مما شاهدناه ونُشاهده، لا مما سمعناه أو نقلناه حتى نُرضيَ ضميرنا والحق وحدهما!

يَسكُن فلَّاحنا في دارٍ صغيرة من الطوب الأخضر النيِّئ غالبًا؛ حيث لا يمرُّ عليها شتاءٌ غزير حتى تتشقَّق جدرانها وتتصدَّع أركانها وتميل جوانبها. وسقف هذه الدار أو هذا الكوخ من القش أو من البُوص في الغالب؛ ولذلك فهو مهدَّد في داره بالموت من جرَّاء هذا التهدُّم والتصدُّع، وهذا الأساس الواهي الضعيف للبناء، وأولاده أيضًا مهدَّدون بالسقوط من علٍ في أي وقت، وجميع أفراد العائلة مهدَّدون في فصل الشتاء بوابلِ المطر؛ حيث ترى فسحة الدار كأنها مَجمع أوحال أو كأنها بُحيرة، فالماء وسط الدار وفي داخل الغُرَف أحيانًا، ويتساقط مِدرارًا من السقف، بل ومن كل مكان، ويلجأ المساكين إلى الأفران يَصْطلون ويَستدفئون والسقف واكفٌ، والسماء مُمطرة، والطبيعة غَضْبى، والوجود ثائر.

ودارُ الفلَّاحِ تتكوَّن من حُجرتَين، أو من حجرةٍ واحدة، أو من ثلاثٍ على الأكثر إذا كان عدد أفراد العائلة كبيرًا أو عدد المواشي كثيرًا، وأحيانًا تضيق به رحبات الدار. وفي هذه الحال تجده لا يرى مضاضة في أن يتَّخذ مَضجعه هو وزوجه وأولاده بجوار مواشيه وحميره. وقد يدفعه ويُلجِئه أيضًا إلى الاضطجاع بجوار مواشيه خوفُه عليها من السرقة؛ فلا يستريح ويهنأ حتى ينام بجانبها وتحت أرجُلها أحيانًا؛ وذلك لأنه مهدَّد دائمًا من خصومه بالسرقة.

وهذه الدار للفلَّاح المصري، فخر مصر وسيِّدها، تُبْنى على أحطِّ قواعد الصحة، فكأنه ليس ثَمة من حكومةٍ تُشرِف على صحة أبنائها، فلا عهد ولا وفاء ولا رقابة ولا عناية بهذا الإنسان المِسكين الذي يحمل هذا الاسم الكريم، وليس له من مفهومه أو دلالته قليل ولا كثير؛ ففي بعض الدُّور تكاد لا تجد نوافذ للدار، وإن وُجدت فهي من الضِّيق بحيث لا يَنفُذ منها جانبٌ كبير من الهواء الطَّلْق، الذي يصرف ما في الدار من عَطَن ومن هواءٍ فاسد ومن رائحةٍ كريهة، وارتفاع الجُدران واطئ جدًّا، وكذلك سعة الحجرات، ثم من المؤلِم، بل من المُخجِل، بل من المُبكي، أن نومه وأكله ومتاعه وفُرنه واستحمامه يكاد يكون أحيانًا في حجرةٍ واحدة؛ فترى الرجل ينام بجوار زوجه، وبجوارهما أولادهما، وقد يكونون أحيانًا في سنٍّ كبيرة، وإذا كان الصيف تُغطَّى معظم أسطحة الدُّور في القرية بالنائمين وبالنائمات على القش أو الحطب.

أما ماؤه الذي يشرب منه، فحَسبُك منه الماء الراكد في التُّرع القذرة المليئة أحيانًا بجِيَف الحمير والكلاب والقطط وما إليها، بل لست أجد غضاضة في القول، بل ولا مُبالَغة وغُلوًّا، إذا قلتُ إن مواضع شربه أحيانًا هي نفس مواضع شرب مواشيه، وقد تكون مواضعَ تبوُّله في بعض الأوقات وفي بعض الأمكنة، وذلك دون أن يشعر أو يعرف. يُلجِئني إلى تقرير هذه الحقيقة وهذا اللون من الوصف ومن التصوير، حِرصي على أن أصوِّر ريفنا وفلَّاحنا كما نُشاهده وكما نعرفه؛ حتى يتشخَّص لنا الداء ليَسهل علينا بعد ذلك الدواء، وحتى يعرف مَن لا يعرف فلَّاحنا المصري أن هذا الفلَّاح غريبٌ كل الغُربة عن الحياة الإنسانية المحترمة الموفورة، وعن الحقوق المُباحة الموهوبة الممنوحة له من خالقه. وهذا الواجب الذي أخذته على عاتقي، والذي اضطلعت بحمله هو الذي يضطرُّني ويدفعني إلى أن أكون أمينًا في التصوير، وإنْ أغضبَ هذا اللونُ من التصوير بعضَ المُكابرين الذين لا يريدون أن نصوِّر عيوبنا وحالاتنا الحقيقية ونقائصها ركوبًا للرأس، وتعلُّقًا بالغرور الكاذب والأنَفة الجوفاء. ولقد حان الحين بأن نتدرَّع بالصراحة وبالشجاعة في الرأي وفي القول وفي التفكير في كل عمل من أعمالنا، وفي كل ناحية من حياتنا، تارِكِين الجبن والخوف لمَن لا يعرف لنفسه قدرها، ولا يحترم عقله ولا يُعزُّ وجوده، تارِكِين للمُزوِّر وللغاضب وللمُكابر أن يركب رأسه وأن يسلك أي مسلك يشاء؛ فلن نُؤثِر سخطه على رضاء الضمير، ولن نُلغي عقولنا ونخون الحق إرضاءً لأنَفةٍ كاذبة ولمُكابرةٍ باطلة! هذه الحياة النَّكداء الوبيئة المُهمَلة القذرة هي السر أو هي العلة في تفشِّي الأمراض بين فلَّاحنا المسكين، وقديمًا قالوا: إن الوقاية خير من العلاج. فإذا كان كذلك ففلَّاحنا أو أُولو أمره هم المسئولون إلى حدٍّ ما عن كثرة هذه الأمراض التي تَفتِك بصحته، بل باليد العاملة النَّشِطة المُنتجة في هذا البلد؛ ففضلًا عن عدم قدرته أو عن عدم رضائه في أوقاتٍ كثيرة للتطبُّب وللعلاج، فإنه لا يعرف بل يستهين ويحتقر الوقاية وصنوفها، وعلة ذلك كما قلنا قبل الآن هي جهله وعدم عناية أحد به، وحَسبُك بأمراضه الكثيرة هذا العدد العديد من العُميان في القُرى، ومن الذين تهدِّدهم صنوف الحُمَّى المختلفة والملاريا والتيفوس والزلال والبلهارسيا والأنكلستوما، وهذان الأخيران لا يكادان يُفارقان أحدًا في ريفنا بمقدارٍ يختلف قلةً وكثرةً، وقوةً وضعفًا.

وهو إذا مَرِض ألقاه أهله في الدار أو في القاعة، ثم يجتمعون حوالَيه ويُضايقونه بكثرة أنفاسهم وشدة لجبهم، ويُعطونه كل أنواع الطعام الميسَّر لهم؛ خوفًا من أن يُحرَم لذةَ هذا الطعام، فيدعو عليهم ويغضب منهم.

هذا ولو اشتدَّ به المرض وثقل عليه، فكثير منهم لا يُفكرون في طبيبٍ يُعالجه، أو على الأقل يقول كلمة الطب فيه؛ فالطبيب كما لاحظتُ هو أعدى أعداء فلَّاحنا، والطب عنده يكاد يكون أمرًا نُكرًا، وغاية سعيهم وجهدهم أن يَكِلوا أمره إلى قَدَر الله المحتوم، «وهو وبَخْته».

وهذا الاعتقاد الأعمى البالغ أقصى حدود العماية، والجهل بمعنى القضاء والقدر، يكاد يكون علةَ مرضنا الاجتماعي وانحطاطنا المجموعي، وخصوصًا عند فلَّاحنا.

فإذا سألتَه: ما بالُك لا تفعل هذا؟ يُبادرك بالجواب: «اللي مكتوب عالجبين حايكون.» فكأنهم يريدون من القدرة العُليا المقدَّسة أن تحلَّ لهم وتربط كل شيء، وأن تُقدم لهم كل مَرافق حياتهم وهم جالسون ناعمون فارغون على مصاطبهم وفي ساحات قاعاتهم، وعلى جوانب تُرَعهم وفي حقولهم!

هذه «الاتكالية» العَمياء التي ليست من الدين الحق في شيء، ولا من العلم في شيء، تكاد تكون سِرَّ انحطاطنا إلى الآن، والعلة الأولى في تأخُّرنا في كل نواحي الحياة المحترمة الموفورة الكاملة؛ في تأخُّرنا عن الأمم التي تعدو وتجري ونحن لا زِلنا وراءها نزحف ونحبو. يعتقد الفلَّاح والجاهل، والذي لا يعرف لدِينه حُرمة، ولا لعقله مَنزلة، أنهم غير مُجبَرين على العمل وراء أرزاقهم ووراء رفاهتهم، ويعتقدون أن الله قد قضى فيهم قضاءه يومَ ظهروا إلى هذا الوجود، بل قبل أن يظهروا؛ فمن العبث وإضاعة الوقت ومجاهدة المستحيل، بل من الخروج على الدين وعلى صاحبه، أن يعملوا في الحياة بما يُوسع لهم من الرزق، وبأن يغيِّروا هم وجهات حياتهم بأنفُسهم بحسب أعمالهم وبقدر جهودهم.

قال الله تعالى في كتابه الكريم: إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ. وقال أيضًا: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ. فترى هنا أن الإنسان مسئول عن عمله، وأنه بنفسه يوجِّه نفسه، بل ويكيِّف نفسه.

نعم! كل شيء في الوجود وفي الكون، وكل ما على الأرض وما تحت السماء وما في جوف البِحار، يُذعِن لأمر الله، ولا يَحدُث ولا يتغيَّر إلا بإرادته تعالى، ولكن هذا لا يُنافي مُطلَقًا ولا يتناقض ونظريةَ السَّعي والعمل والكفاح في هذه الحياة التي نَحياها، لا يتناقض وقولَ صاحبنا «نيتشه» رسول الكفاح والقوة: «لا أُوصيكم بالسِّلم بل بالنصر؛ فَلْيكن كل عملكم كفاحًا، وَلْيكن كل سِلمكم نصرًا.» أما علاقة تقدير الأرزاق بالسعي وبالعمل فليس لنا أن نبحث فيها لأنها ليست من اختصاصنا، كما يقول رجال القانون وعِلمها عند ربِّي، وكل ما في أيدينا وما في وسعنا وما يجب علينا، أن نعمل وأن نكدَّ وأن نُكافح في سبيل العيش والحياة دون أن ننظر إلى أي اعتبارات أخرى.

والله تعالى أرأفُ بعبده الإنسان من أن يخلقه في هذه الحياة آلةً أو لعبةً، لا يسأله عن عمله كالقاصر أو كالمَعتوه، بل منحه ما يُوسع حدود ذاتيَّته، وما يُعلي به كرامته، وما يُسأل به عن كل أعماله ويُحاسَب عليها حسابًا عسيرًا، وهو لا يُحاسَب هذا الحساب العسير إلا لأنه ترك له بأن يوجِّه حياته وأعماله كيف يشاء وحيث يريد.

وكل هذا يتَّفق كما نرى وأبسطَ قواعد المنطق، ويتَّفق اتفاقًا تامًّا مع المكانة المحترمة العُليا المقدَّسة، ومع الغاية التي أرادها الله صاحب الأديان جميعًا لدِينه القويم السامي. أما خلط العامة والجُهال ومن في عِدادهم هذه «الاتكالية» العَمياء بالدين، فليس هو إلا أثر ومظهر قصور عقولهم عن الفهم، وعجزهم عن تحمُّل آلام التفكير، فتمحَّكوا بالدين، شأنهم في كل شيء يجهلونه ولا يُحبون أن يُفكروا فيه. واليوم الذي لا نخلط فيه بين الدين وبين أي ظاهرة في الحياة، ونُحدد للدين حدوده التي أرادها الله له، واليوم الذي نعتزُّ فيه بعقولنا ونحترم تفكيرنا ونرى كل شيء في الوجود قد وضعه الله تحت أشعة العقل وتشريح التفكير احترامًا للعقل ميزة الإنسان الكريم؛ في هذا اليوم يبدأ شعورنا بوجودنا، ونبدأ في خطواتنا الأولى في السعي وراء الحق والكمال!

وقد تعجَّب أحيانًا لمعالجة فلَّاحينا أمراضهم بأنفُسهم، فيفعلون ما تتقزَّز منه النفس وتقشعرُّ، فماذا تقول في الكيِّ بالنار المُحرقة على الأبدان الحية، وعلى الأجسام النَّضِرة الطريَّة؟ ماذا تقول فيما يُسمونه «الخزم»؛ هذه العملية القاسية التي يُعالجون بها الحيوان والماشية، ثم لا يأنَفون أن يُعالجوا بها الإنسان أيضًا؟ وهذه العملية «الخزمية» هي خياطة الجسم بالإبرة أو ﺑ «المسلة» والجسم حي لا مخدَّر، ويُعالجون بها معظم الأمراض كرمد العيون وما إليه، ويكاد كثير منهم لا يثق بطبيب لأنه في رأيهم مُشعوذ، ولأنهم يُسيئون الظن بكل منتجات العلوم، ولا يرونها إلا بدعةً أتت بها المدنيَّة المُتحذلقة، ولأن الإنسان لديهم ليس أشرف من الحيوان الذي يُلازمهم ويُعاشرهم ويُناومهم أحيانًا!

تكلَّمنا قبل الآن عن دار الفلَّاح في الغالب، ورأينا كيف يعيش هذا المسكين هذه العيشة النَّكداء في عصرٍ نقول إنه عصر النور والعِرفان، ولكننا لم نتعرَّض للدار من الداخل، أو إن تعرَّضنا لها فلم نَعرِض لها إلا لمامًا، ولم نمرَّ بها إلا كرامًا!

إذا دخلتَ دارَ فلَّاحنا وأحببت أن تتفقد معيشته وتتعرف كيف يعيش، لا تجد لديه سوى جانبٍ قليل من الأذرة أو الشعير أو القمح إن كان واسع المعيشة قليلًا، وهو يشتري حاجاته المعيشية ببيع جزء مما عنده من غلال أو برسيم أو فول، إذا عزَّت عليه الفلوس، وكثيرًا ما تَعزُّ بل وتندُر!

أما قوته الذي يعيش عليه معظم الأيام، فلا يزيد عن البصل والمش والجبنة والجرجير والعسل الأسود وصنوف المخلَّل، أما البَيض فيَبيعه في الغالب ويضنُّ على نفسه بأكله حرصًا على تحصُّل واكتساب فلوس منه. ولا يزال للآن في القُرى من يُضيء «المِسرجة» بالزيت بدلًا من الغاز؛ حِرصًا على الاقتصاد في المعيشة البالغة أقصى مراتب الضِّيق. أما البط والفراخ والإوز فكثيرًا ما يبيعها، وقليلًا ما يأكلها؛ فإذا جاء يوم «السوق»، وهو يومٌ محترمٌ مذكور، أبصرتَ النساء على الحمير وأمامهن بطة أو فرخة أو ديك، ثم يعُدنَ بالسكر والشاي وما إليهما.

وتتَّضح لك حالة فلَّاحنا المِسكين المادية جليةً بيَّنة، وأنت تتعرَّف شعوره النفسي والابتسامة الوادعة التي تمرُّ على شفتَيه حينما تدخل عليه في داره، فيُسرِع إليك ببشاشة وطلاقة، ويُقدم إليك أجمل ما عنده من حطام وأثاث؛ حصيرة تظهر عليها الجدة! مسكينٌ فلَّاحنا! أقل شيء يُفرحه؛ لأنه فقير، ولأنه تَعِس!

ومع هذا الفقر المُدقِع، وهذه الحياة الضيِّقة التي كلها بؤس ونكد وحِرمان، مع كل هذا فإن كثيرًا من فلَّاحينا، من هذا الجيش العامل المُنتِج، يتعاطى المكيِّفات، وأكثرها انتشارًا بينهم هو الدُّخان والشاي والأفيون والحشيش، بَعيدين عن عيون الحكام، وعن رقابة رجال الضبط والمباحث، مسكينٌ أيها الفلَّاح! كل المصائب إلبٌ عليك، وكل البئوس حليفة لك!

ومن المُدهِش والعجيب أن كثيرًا منهم يُؤثِر أن يشرب الشاي أو يتعاطى الدخان أو الحشيش على أكله وأكل أولاده المساكين. ولقد تراه عُريانًا، وترى زوجه وأولاده يشكُون مرارةَ الفاقة وذلَّ العُري، ومع ذلك لا يَحرم نفسه أو مزاجه تَعاطيَ هذه المكيِّفات، مُتجاهلًا كلَّ هذه المصائب التي لا تنزل فُرادى كما يقول «شكسبير»، بل زرافاتٍ وجموعًا!

أما عن جهل فلَّاحنا فهو طامَّته الكبرى، وهو مُصيبة مصائبه والعلة الأولى في كل ما يُعاني من ذل وحِرمان وتعسُّف وإرهاق، بسيط في علمه إلى أبلغ حدود البساطة الفكرية، ولا يكاد يعرف شيئًا ما عن هذا الوجود وذلك العالم، ولا يُفرق كثيرًا بينه كإنسان له وجودٌ خاص وذاتيةٌ خاصة، وبين الكون الذي يَكنفه ويُحيط به؛ فهو في هذه الحال الشعورية كالطفل يحسب نفسه والكون والعالم شيئًا واحدًا؛ فالنفس هو الكون وهي العالم. وحواسُّه تكاد تكون معطَّلةً كلَّ التعطيل؛ وذلك لأن عصور الاستبداد التي مرَّت بفلَّاحنا، ولأن تلك القوانين الجائرة وهذا النظام الجائر الفاسد الذي يسير عليه الفلَّاح مُكرَهًا مُرغَمًا، كل هذه العوامل جميعًا حرَمته كلَّ حقٍّ يمكن أن يستمتع به كإنسان له وجود وله كرامة، وكلَّفته بكل الواجبات الجسيمة التي تقوم عليها مَرافق حياتنا وعماد ثرواتنا، ثم عطَّلت حواسَّه حتى صَدِئ عقله، وزال من عينَيه — أو كاد — بَريقُ النور والحياة والشعور، وخلقت منه كل هذه العوامل إنسانًا ساذَجًا بسيطًا، لا يعرف شيئًا في هذه الحياة إلا التسليم الأعمى للقضاء والقدر، وإلا الخضوع المَشين المُزري لرؤسائه وحكَّامه، فأصبح يحني رأسه لكل رئيس ويستذلُّ لكل سيد، ويخضع خضوعًا فاضحًا لكل ظلم يقع عليه، حتى كاد يتساوى لديه الظلم والعدل، والحق والباطل، بل النور والظلام!

وهذا الخضوع المَشين للظلم وللجبروت، وهذا الفُقدان للشعور بالنفس، وهذا الاستخذاء والذل وبيع الكرامة والجبن والخوف والرهبة، كل هذا جميعًا أفقده إرادته، وسلبه كرامته، حتى غُرِست في نفسه المذلَّة والهوان والضَّعة، فأصبح لا يشعر بكرامةٍ تُهان، ولا بعِزَّة تُجرَح، ولا بشرفٍ يُثلَب، ولا بحقٍّ يضيع، ولا بحُرمةٍ تُنتهَك.

والشعور هو كل شيء في هذا الوجود، وأكثرنا شعورًا وأدقُّنا حساسيةً هو أشدُّنا تبجيلًا وتوقيرًا، وأصحُّنا فهمًا للحياة ولما فيها من حسنات وعيوب، وأكثرنا أيضًا تعرُّضًا لآلامها ولمصائبها. وإن كان «ديكارت» قد قال: «أنا أفكِّر؛ إذن فأنا موجود.» فلقد عارَضه جوستاف لوبون بقوله: «أنا أشعر؛ إذن فأنا موجود.»

فتلك المصائب العديدة التي تنزل بفلَّاحنا، وتلك العوامل كلها في بؤسه وفي تعسه لم تكتفِ بأن حرَمته نور العلم، ولا بأن وضعته هذا الوضع الجائر القاسي، بل حرَمته أيضًا أن يشعر، بل أفسدت عليه قلبه وضميره وشعوره، وتلك هي نكبة النكبات، وتلك هي مصيبة مصائبنا حين نملك قلوبًا، وحين يكون لنا ضمائر، وحين يكون لنا أعصاب وحواس وعواطف، ثم نرى تلك القلوب مُغلَقة معطَّلة في حكم الميتة، وتلك الضمائر وهذه الأعصاب والحواس والعواطف مُهمَلة فاسدة. وهذا الذي يعتدي على قلوبنا وعلى ضمائرنا، والذي يُفسد علينا مشاعرنا، هو أكثر إجرامًا وأشدُّ خطرًا من هذا الذي يعتدي على جسومنا وأبداننا بالضرب أو بالتعذيب أو بالحبس أو ما إليها جميعًا!

كل هذه العوامل جميعًا كما قلنا ساعَدت على فُقدان فلَّاحنا شعوره بنفسه وبكرامته وبحقوقه، وربَّت فيه الجبن والخضوع والاستخذاء، وجعلته يقبِّل يد ظالمه كما يلحس الخروفُ بلسانه اليدَ التي تمتدُّ لتُريق دماءه؛ فأصبح لا يعرف إلا رئيسه والعمدة والبيك المأمور وجناب المعاون وحضرة المحضر والباشا المدير كما ينعتهم.

والحكام والرؤساء وأولو الأمر يستغلُّون فيه هذا الجهل وهذه البساطة، وهذا الفقدان للشعور، وهذا السكون الكريم والرضاء الجميل للذل وللهون، فيُنزِلون به كل ضروب الإرهاق والظلم التي تُرضي قسوتهم وتُغذي أطماعهم، ويسنُّون له ما يشاءون من قوانين المذلَّة والمهانة، وهو بعيدٌ كل البُعْد عن وضعها، سواء بالطُّرق المباشرة أو غير المباشرة؛ فالمالك يمتصُّ دمه ويهدِّده كلَّ عام بالحجز على غِلاله ومواشيه ومحصوله أو متاع داره إذا خانه الحظ — وليس له في تصاريف القدر وتوجيهات الحظ يدٌ ولا أمر — وساء محصوله أو هبط سعر القطن، والحكومة تفرض عليه الضرائب العديدة كضريبة الخفر وضريبة الأطيان وضريبة مجالس المُديريات. ولقد يَرُوعك هذا إذا علِمتَ أن مجموع هذه الضرائب التي تُفرَض على الفلَّاح تُقدَّر تقريبًا بربع قيمة ما يدفعه من الإيجار للمالك عن الفدَّان؛ فبربِّك، كم يحتمل هذا الفلَّاح المسكين كلَّ هذا الجور والإرهاق؟ إذا كان حتى مرور بعض الحكام ورحلاتهم ورياضتهم ونُزهاتهم كل ذلك يُجبى ويُحصَّل من مجهود فلَّاحنا المسكين! هذا الفلَّاح الذي يَعدُّ حتى العسكري أو الخفير في مرتبة البيك المأمور أو الباشا المدير كما يُسميهم. ولا زالت ذاكرتي تحفظ حكاية الفلَّاح مع الخديو السابق، حين خاطَب هذا الفلَّاح الطيِّب الجاهل الساذَج «أفندينا»، كما كانوا يُسمونه، وقال له: ربنا يرقِّيك ويجيبك عندنا مأمور! وهذا الفلَّاح المسكين الذي يحسب أن هذا المأمور أو ذاك المدير خلفاء الله في أرضه، لا يُعصى لهما أمر، ولا يُرفَض لهما طلب. هذا الفلَّاح لم يتصوَّر هؤلاء جميعًا هكذا، ولم ينظر إليهم هذه النظرة التي كلها خوف وإرهاب وخشوع وتهيُّب، إلا لأن جهله خيَّل إليه وأوهمه أن هؤلاء في مرتبة من الخلق أعلى من مرتبته، أو من طينةٍ غير طينته، وإلا لأن يد الاستبداد والعصور السُّود التي مرَّت على مصر في تواريخها الطافحة بفظائع الجَور وأنَّات البؤس.

وهؤلاء الحكام الطُّغاة الذين أفردت لهم اللغات في قواميسها ومعاجمها لفظة «الدكتاتورية»، والذين ابتلعوا أو استلبوا إرادات الأفراد والمجاميع، وقبضوها في يدهم التي يفخرون بأنها من فُولاذ وصُلْب وحديد، والذين يريدون أن يوجِّهوا أُمَمهم ودولهم حسبما تشاء هذه الإرادة العُليا وهذه اليد الحديدية، هؤلاء المستبِدُّون الجبابرة الأقزام الذين يطمعون في أن يسحقوا إرادة الأمَّة وكلمة الشعب وصيحة الحق؛ لِتَعلوَ إرادتهم المقهورة، وتنتصر يدهم المغلولة المشلولة، هؤلاء جميعًا استغلُّوا كما قلنا جهلَ هذا الفلَّاح المسكين، فسلبوه إرادته، وساوَموه على شرفه وعلى أنفته وكرامته، ثم فعلوا به ما أرادوا، ثم جعلوه عبدًا يُباع ويُشترى بإرادتهم، ثم عاشوا وتنزَّهوا وتنعَّموا وتقامروا وتغازلوا، وقضَوا حاجات قلوبهم ونفوسهم بما يقتطعون من لحمه ويشربون من دمه، ومن مجهود وعرق وشباب هذا الفلَّاح الشقي بجهله أبلغ مراتب الشقاوة، والمسكين التَّعِس بحكَّامه وملَّاكه أقصى مَنازل التعس!

مسكينٌ فلَّاحنا! عليه كل الغُرم، وليس له من الغُنم شيء. حرَموه نعمة العلم، وتركوه في حالٍ ليست أشرف كثيرًا من حال حيوانه، ثم استخدموا هذه الجهالة وهذا الفُقدان للشعور في تنفيذ أغراضهم وقضاء شهواتهم، حتى كاد يَرزَح بالحِمل ويسقط صريعًا، أو يتَّخذ له طريقًا أخرى يتخلَّص بها ممَّا هو فيه من حرمان ومن جهل ومن ظلم. وإني لَأكتب هذه السطور وبي من الخشية ومن الوجل ومن الاضطرار للقول بأن حاله السيئة الحاضرة البالغة أقصى ما تتصوَّر من جهالة وشقاوة واستعباد، في عصرٍ سحقت فيه كل صنوف الاستعباد والاستغلال، أخشى أن تدفعه الفاقة والحاجة إلى العدل والإصلاح، وإلى النور والحق، إلى ما انتهت إليه حركة الفلَّاح أو العامل في بلاد أوروبا، حينما أنُّوا من الشكوى، ورزَحوا تحت أحمال البؤس والفاقة والجهل والجَور. نعم! أخشى ذلك اليوم كل الخشية، وأخاف أن تُلجِئه هذه الحال السيئة إلى ما لا نُحبُّ ولا تُحبُّ الحكومة وأولو الأمر والأغنياء أن يكون!

وحُبُّنا للسلام وللهدوء وللعدالة، ووفاؤنا لمصر ولفلَّاحها وريفها، وحِرصنا على حياة الأمن والدَّعة والطمأنينة، كل ذلك يدعونا إلى الخشية والخوف من أن تذيع المبادئ المُتطرفة من الشيوعية وأبالسة البلشفية في بلدٍ آمنٍ وديع كمصر، وبين ناس يَحرصون على الحياة المُطمئنَّة الهادئة كأبناء مصر، لا سيَّما أن المُتطرفة والبلاشفة وأنصار الهدم والتخريب يبذلون جهودهم في إدخال مبادئهم وتعاليمهم وسمومهم الفتَّاكة بين أبناء هذا الوادي المُبارَك الأمين. ونحن نخشى كل الخشية في صراحة وشجاعة وإخلاصٍ أن تجد هذه النار الحامية في طريقها وقودًا تأكله، ويزيدها اندلاعًا وتوهُّجًا، نخشى أن تجد لها في مصر وبين طبقة الفلَّاحين والعُمال ومن إليهم أرضًا رحبةً تُنبِت فيها غَرْسها ونَبْتها. وهذا الخوف وهذه الخشية هما اللذان يدعُواننا إلى أن نُناديَ عاليًا، ونُناشد كلَّ من يهمُّه أمر الوطن وشئون أبنائه، أن يعملوا جميعًا على منع هذه النار التي لا تُبقي على شيء، قبل وصولها أرض مصر؛ وذلك بالعناية بشئون الفلَّاح وبحاجات العامل عنايةً تليق وما تطوَّرَ إليه العالم، وما استُحدث على مصر الحديثة في عصر النور والحق والحريات المقدَّسة. والفلَّاح والعامل هما أكثر الطبقات في كل أمم العالم، وخصوصًا في مصر، استعدادًا لقبول المبادئ المُتطرفة، والدعوات الهدَّامة، ورسالة التخريب والبطش والفتك!

وإذا نحن نادَينا وناشَدنا أحدًا، فإنما نُنادي ونُناشد الحكومة أولًا، ثم الأغنياء ثانيًا؛ لأن هؤلاء جميعًا هم المسئولون حقًّا عن شئون الفلَّاح ومطالب العامل. وكلتا الطبقتَين هما المُنتِجتان العاملتان حقًّا في حياة مصر الاقتصادية وثروتها الإنتاجية!

قد حدَّثتك عن بعض المظالم والضرائب التي تنصبُّ على رأس فلَّاحنا، سواء من المالك المستبِد أو من رجال الحكومة. ولقد أُنسيت أن أذكُر تلك المَحاضر العديدة التي يحبِّرها المُعاونون ضد هذا الفلَّاح المسكين؛ لأنه لم يُحسِن انتقاء زرعه من دودة القطن، وأيضًا عقوبات مُخالَفات الرَّي. ويا ليت هؤلاء المُعاونين ورجال الزراعة يُخلِصون لوظائفهم في مصلحة الفلَّاح، فيتفقَّدون بأنفُسهم راجلين الحقول والغيطان ليرَوا بعيونهم هم لا بعيون غيرهم، ولا بآذان وألسنة الإشاعات والأقاويل؛ ليرَوا محصول القطن ويقدِّروه تقديرًا حقًّا قائمًا على المشاهدة الحسِّية، ولكنهم يقدِّرونه ويا للأسف ويا للحسرة وهم جالسون على مكاتبهم الجميلة، وبين أوراقهم الرسمية المكدَّسة، وأمامهم كوبات الليمون وفناجين القهوة، وعلى رءوسهم وحوالَيهم المراوح الكهربائية تُذهِب عنهم هجيرَ الحر، ثم بعد ذلك يقولون إن لنا وزارة زراعة مصرية في حيٍّ من أجمل أحياء القاهرة، وفيها مكاتب ودواوين، وفيها موظَّفون ومفتِّشون ومُعاونون، ويُوهموننا أنها وزارة الفلَّاح المصري، وزارة الإنتاج والثروة، وزارة روح مصر وحياتها الاقتصادية، ويُوهموننا أنها تعمل حقًّا لإسعاد الفلَّاح ولسماع شكواه، ولزيادة الإنتاج وتجديد الصنوف النباتية الزراعية وتحسين التُّربة المصرية، وإدخال ما ينقص مصر من أنواع النبات، وما يتَّفق وتُربتَها وجوَّها!

يمرُّ العام كله تقريبًا ولا يرى الفلَّاح المصري رجال الزراعة بين الحقول والغيطان إلا ندورًا، ثم لا يلبث أن يسمع أن الجرائد نشرت تقريرًا، بل تقارير وزارة الزراعة لتقدير محصول القطن تقديرًا يُوهِم أنه حق، وليس فيه من الحق قليل ولا كثير؛ تقدير قُدِّر وكُتِب وحُبِّر وجُمِع على المكاتب لا بين الحقول، وتحت المراوح لا بين الفلَّاح!

نقول يا ليت رجال الزراعة يُخلِصون لوظائفهم في تقدير القطن كل عام، وفي سماع أنَّات الفلَّاح، كما يُخلِصون لها إخلاصًا كبيرًا في كتابة المَحاضر والمُخالَفات!

ومن أعجب العَجب أننا نعيش في عصرٍ يقولون إنه عصر الحريات المكفولة والدساتير المصونة والعدالة الإنسانية، ثم لا نزال نرى بأعيُننا الفلَّاح المصري يُرسَل عَنوةً وجبرًا وبقوة رجال الإدارة والحكومة لحفظ مياه النيل، فيذكِّرنا هذا بعصور السُّخرة وعهود الجبروت، ومع ذلك أتحسب أن الحكومة تقوم بنفقاته بضعة الأيام التي يقضيها المسكين ليقوم بهذه الرسالة؟ ولكن الموظَّف الذي يُنتدب، ولو لأتفه المسائل، تجود عليه الخزينة الغنيَّة بالجُنيهات وبالأوراق!

لقد كنَّا سَمِعنا قديمًا أن الحكومة تفكِّر في أن تكلِّف مُقاولين يقومون هم بحفظ مياه النيل عند الفيضان على نفقاتها، فتُبطِل السُّخرة، ويستريح الفلَّاح الذي لا يعرف الراحة حتى يستريح الراحة الكبرى! فأين آثار هذا التفكير؟ وإلا هل نقضي أعمارنا في بلد العجائب، فلا نسمع عن مشروعاتٍ مُستخرَجة من مَعامل القول والخُطب والوعد والتزويق، حتى نسمع عن قبرها وموتها وهي جنين في مَهدها؟ هل نقضي أعمارنا كالأطفال تضحك منَّا الحكومة التي نُقِيمها علينا بجهودنا وبدمائنا وبشبابنا، بمعسول الأمل، وبكاذب القول، وبحلاوة اللسان، وأخيرًا برَوَغان الثعلب؟

يا رجال الحكومة أيًّا تكون حكومتكم! كفى شفقةً بالفلَّاح وحدَبًا عليه! ارحموه من عدالتكم لأنها أكثر من طاقته، وأثقل من جهده؛ لأننا نخشى أن يَفْدحه الحِمل وتَبْهظه الرحمة والعدالة، فيقع صريعًا مكدودًا! من هذا الذي تُنزِلون به كلَّ يوم من الإرهاق والجَور ألوانًا، ومن الحِرمان والاسترقاق صنوفًا؟ أليس هو ذلك المسكين الذي يأكل خبزه من الحُلبة والأذرة، ويشرب الماء العطن الراكد في المجاري وحول الجِيَف، ويعيش على الزيت والمش والبصل؟ إن هذا المسكين بجهله هو الذي تأكلون وتلبسون من غَرْس يده، وتتريَّضون وتُغازلون وتُراقصون من جيبه ومن عَرقه، هو يزرع وأنتم تحصدون، ويسهر وتنامون، ويشرب الماء كدرًا وتشربون المُدام صافية والكأس مُترَعة مُتألقة، ويموت بين الجوع والعُري وأنتم بين الكأس وبنات الهوى. أليس كذلك يا رجال العدالة والرحمة والإنصاف؟! ألا تَعلَمون بأن هذا المسكين ما كان ليتحمَّل كلَّ هذه الضروب من الاعتساف والحِرمان، وهذه الحياة المُظلمة النَّكداء، لولا جهله الذي يدعه يصبر على الضَّيم ويرضى بالهوان؟ وهل تعلمون أنه لو ينال قِسطه من العلم ونصيبه من النور والعِرفان لأصبح يشعر بالظلم ويُحس بالحال، والشعور بالظلم كما تعرفون — لا الظلم — هو أساس المُطالَبة بالحرية؟!

يا ذوي الأملاك، ويا أصحاب الطين! إن أشرف ما في الحياة العدالة، وإن ذلك الذي تُنزِلونه منكم مَنزلةَ العبد الأجير أو الآلة المسيَّرة أو الحيوان المَسوق، إن صبَر على الضَّيم طويلًا، وإن قضَت ظروف العصور السُّود التي مرَّت به في عهود الماضي المنكود أن تُسكِته عن طلب الإصلاح والعلاج لحاله؛ فإنه الآن في تلك العصور المُضيئة التي أتاحت لكل إنسان أن يرى بعينَيه حتى يعرف كيف يمشي بقدمَيه، في هذه العصور التي أوشكت فيها صروح الاستبداد والاسترقاق والإقطاعية أن تندكَّ وتتبدَّد، في هذه العصور التي خرجت بالإنسانية من مَجازر التعصُّب وعماية الجهالة ووحشية التعسُّف وأسْر العبودية، إلى جلال التسامح وأضواء العالم وسُموِّ العدالة وفضاء الحرية، في تلك العصور عصور تحرير الفرد من قيود الجماعات وإرهاق الحكومات وإرادات المستبِدِّين الحاكمين بأمرهم، عصور جعل الأمة مصدر السلطات جميعًا، عصور محاولة الإنسانية إلى أن تُزيل الأحقاد والإحَن والخصومات؛ لتعيش في دعة وطمأنينة وسلام وإخاء وحب؛ حتى تُخرِج خير ثمارها وخالد آثارها!

أقول في هذه العصور وفي هذا العصر الذي نعيش فيه، من القسوة كل القسوة أن نطلب من الفلَّاح المصري، الفلَّاح المصري الذي بقي إلى الآن على ما كان عليه في عهود المماليك السُّود، رغم وجود تلك الهُوَّة السحيقة بين طبيعةِ كلٍّ من العصرَين والعهدين، وبين روح الجماعات واختلاف وجهات النظر إلى الحياة في كل مَرافقها ونواحيها؛ من القسوة أن نطلب منه ألَّا يشكوَ من هذه الحال وقد رأى نفسه عبدًا لمالكه، وآلة لحكَّامه، وفقيرًا بائسًا في حياته. فعالِجوا الداءَ قبل أن يستفحل ويعزَّ عليكم الدواء، ولاتَ مَندمة ولا ليت! وإني لأخشى أن بُذور الاستنكار المُر والشكوى الحارَّة التي أصبحت تتجاوب في كل صدر، وتتموَّج في كل نفس، وتجيش لكل خاطر، أخشى أن تجد هذه البذور لها أرضًا قابلة للنُّمو والإزهار، فيصعب اقتلاعها من جذورها أو القضاء عليها في حقلها. فإذا كنَّا أوفياء حقًّا لهذا الوطن، غَيورين حقًّا على مصالحه وراحة أبنائه، عاملين حقًّا على أن يعيشوا في طمأنينة وأمن وسلام وحب وعدالة وإخاء ومساواة، فعلينا أن نُعالج هذه البذور قبل أن تنبُت وتزدهر وتُرعى، وأن نقتل الجنين في بطن أمه قبل أن يظهر إلى الوجود ويتدرَّع بالمنعة والقوة! والخطوة الأولى في رأينا لإصلاح هذه الحال وعلاجها ولتضمد هذه الجِراحات الدامية هي التعليم؛ فعلِّموا الفلَّاح قبل كل شيء، وقبل كل خطوة في الإصلاح أو عملية في البناء؛ فإن جهله هو سبب شقوته وفقره وبؤسه واضطهاده، وهو سبب شقاء مصر جميعًا. وهذا الجهل — إذا كنتم تذكُرون — هو دعامة السياسة الكرومرية، وتُكأة الإجرام الدنلوبي. نعم، فإن أصحاب الجلاليب الزرقاء كما كان يتغنَّى بذلك السيِّد كرومر عميد قصر الدوبارة، هم الذين اتَّخذت منهم السياسة الاستعمارية وسائلها ووسائطها في البطش بالحرية وبالدستور، وفي إخماد جذوة الوطنية والحماس القومي، وفي تغيير وجهات الجهاد ونزعات ومطالب المصريين، وفي حصر كل الجهود والأعمال فيما يُسمونه الجهاد الداخلي أو السياسة الداخلية. هذه السياسة الكرومرية، المزيَّنة بمعسول القول ورخاوة اللين، لم تجد لها مَرعًى خصيبًا تنشُب فيه أظفارها، وتُنبت فيه غرسها إلا عند الفلَّاح، إلا عند أصحاب الجلاليب الزرقاء الذين اتَّخذوا من جهلهم ومن سذاجتهم شِبه دليل على أنهم يرضَون بحكمهم، لا بل أكثر! يفضِّلونه على الحكم المصري والسياسة المصرية الوطنية!

فإذا عَلِمنا أن أقدار الأمم جميعًا ونصيبها من الحياة المحترمة الموفورة الكاملة، وأن اتجاهات هذه الحياة، إنما تُقاس وتُوزَن بقدر نصيبها من هذا النور الشائع، ومن المعرفة والثقافة الإنسانية، فيكون فلَّاحنا أشقى صنوف الإنسان جميعًا إذا راعَينا هذه الفروق الكبيرة بينه وبين الطبقات الغنيَّة الأرستقراطية المُتحكمة في مصر، وإذا راعَينا العصر الذي يعيش فيه، وتلك العُزلة أو هذا الوضع الذي وضعته فيه الأقدار، أو وضعته فيه الحكومات ورجال المال والطين، وإذا راعَينا أيضًا طبيعة وروح هذا العصر الذي ينفر ويكره أيَّ لون من ألوان الظلام والاعتساف والحِرمان من الإنسان لأخيه الإنسان!

هذا ولا أُحبُّ أن أدع الآن حياة فلَّاحنا قبل أن أقول كلمة في ناحيةٍ هامة من نواحي حياته؛ تلك هي الناحية الاعتقادية، وإن كانت «بسيكلوجية» أكثر منها «بيروجرافية»، ولقد حدَّثتك قبل الآن عن اعتقاده المُفرِط في «الاتكالية»، ونسيت أن أحدِّثك عن اعتقاده الكبير أيضًا بالأولياء والصالحين المقرَّبين، ولستُ أجد عبارةً أوفى وأجلى وأوجز لتوضيح هذه الاعتقادية من أن أقول إنه يكاد يقدِّم لهم فروضَ العبادة والتقديس ويرفع إليهم الصلاة؛ فليس يتصوَّرهم ناسًا مِثلنا لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وتقلَّبوا في كل الأطوار «الجنينية» والبيولوجية مِثل ما تقلَّبنا، وإنما يقوده خياله ويصوِّر له تعصُّبه الاعتقادي أن هؤلاء السادة والأولياء ليسوا بشرًا ولا من طينة الإنسان؛ فوَيلٌ لمن يُصيب أحدَهم بكلمةٍ تؤذيه في قبره، وويلٌ لمن يظنُّهم ناسًا مِثلنا لهم عينان وقدمان ويدان، وخُلِقوا من طين، وعاشوا كما نعيش الآن على هذه الأرض التي تتمثَّل فوقها رواية الحياة، والتي ستُسدل عليها أيضًا الستار لتبدأ قصة الموت. نعم! ويل لمن يحسبهم يأكلون مِثلنا وينامون ويشربون، ويُحبون ويكرهون، ويخافون ويخجلون، وينسون ويذكرون، ويأتون أحيانًا المُنكَر، ويقضون حاجات نفوسهم مثل ما نأتي وما نقضي جميعًا!

وإذا أراد أحدهم نجاحَ عمل له نذَرَ لوليٍّ من الأولياء خروفًا أو بقرة أو عجلًا أو جديًا؛ فإن نجح هذا العمل ظنَّ بل أيقَنَ أن هذا النجاح جاء به هذا الوليُّ الكبير، وإن خاب وفشل أيقن أن هذا الولي مُغضِب عليه ناقِم منه؛ ولذلك فهو قد خيَّب مَسْعاه وأفشل أمره، وما عليه إزاء هذا الغضب وهذه النقمة إلا أن يترضَّاه بكل صنوف الترضِّي؛ فيُنفق في سبيل ذلك من المال الذي قد تكون داره وأولاده في أشدِّ الحاجات إليه، ولكن رضاء الأولياء عنده فوق كل حاجة!

يدفعني التحدُّث عن هذه الناحية الاعتقادية في فلَّاحنا إلى أن أتحدَّث قليلًا عن طبيعة عقيدته أو جوهر إيمانه. يُلخَّص هذا الإيمان فيما نُسميه «إيمان العجائز»، ويتميَّز هذا الصنف من الإيمان بالاستسلام التام وبالسكوت المُطلَق عن كل تفكير أو توجُّه أو بحث في المسائل الاعتقادية؛ فما علينا إلا أن نسير كما سار السلف، وأن نعتقد كما اعتقدوا، وأن نستسلم كما استسلموا، وأن نَقبَل كل شيء راضين مُطمئنِّين قانعين بدون بحث أو تفكير أو إجهاد أو إقناع أو جدل.

ففلَّاحنا إذن أبعَدُ الناس عن التفكير في الإلهيات، بل في كل المسائل الاعتقادية؛ ولذلك هو أشدُّ الناس سخطًا وغضبًا على كل من يُحاول أمامه في مسألةٍ تَحُوم قريبًا أو بعيدًا حول الشئون الدينية، وليس له إذا سمع هذا الذي يتحدَّث في هذه الشئون إلا أن يرميَه بالإلحاد، وإلا أن يُخرِجه من الجماعة الإسلامية. وكل هذا متَّفِق مع طبيعة حياة الفلَّاح وعقليته؛ فليس في استطاعة كل واحد أن يفهم الأديان ويتجادل فيها، ونحسب أنه لن يهضمها ويتعرَّفها ويفهمها إلا من أُوتيَ حظًّا كبيرًا من الثقافة والعلم؛ فهؤلاء حقًّا هم الذين يُدرِكون ما نُسميه بالفلسفة الدينية.

وقد يكون هذا الضرب من الإيمان (إيمان العجائز) أروَحَ للنفس التي تُحبُّ الدعة، وتَجْنح إلى الهدوء والطمأنينة إلى ما تَعلَم وتؤمن، وتكره البحث عمَّا وراء العقل الإنساني الغامض، وتخاف أن يذهب بها الشكُّ بعيدًا عن ضوء اليقين وساحة الإيمان، فتُعاني آلام التشريد وعذاب القلق؛ فما لها تفكِّر وتبحث مع الباحثين في طبيعة الإله وفي كُنْهه وقوته، وفي كونه وملكوته، وفي خلقه وعوالمه، وفي إرادته وحدودها، وفي الأديان وتعدُّدها، والرسل وتعاليمهم، والأنبياء ومذاهبهم؟ وما لها تُفكر في الوحي إذا كان صدقًا أو غير صدق، أو في هذا الرسول أو هذا النبي إذا كان قد وُجِد أو لم يكن موجودًا؟ وما لها تبحث في كيف خُلِق العالَم ومن أين جئنا، أو كيف يدبِّر الله الكون ويُدير أموره، وكيف تسيِّره قوته وتوجِّهه إرادته؟ وما لها تُجدُّ نفسها في البحث والتفكير في البعث والمعاد، وفي الثواب والعقاب؟ ما لها تكلِّف نفسها كلَّ هذا وهي مؤمنةٌ متيقِّنة بإلهٍ واحد يُدير هذا الكون الواسع، مؤمنة بأنبيائه ورسله جميعًا وباليوم الآخر إيمانًا لا تُحبُّ أن تذهب فيه مذاهب التفكير لأنها في غِنًى عنها! وخوفًا من أن يُضعف من إيمانها أو يُذبذب يقينها؟ وما يرتجي هذا الفلَّاح في حياته إلا أن يحصل له ولأولاده الرزق في حياته، ثم يعمل لآخرته بما يجعلها آخرةً محمودة ونهايةً مشكورة؛ حتى يُقابل ربَّه يومَ المعاد بصحيفةٍ بيضاء وبعملٍ مُرضٍ. ولأجل العمل لهذه الآخرة يقوم بفروض الصلاة التي أمر الله بها، متقرِّبًا بها إلى الله لتشفع له عمَّا يرتكب ويأثم في حياته. وتكاد هذه الفريضة أو هذا الصنف من المراسم التعبُّدية هو كل ما يعرفه ويفهمه فلَّاحنا نحو الدين، وأظنُّنا نقسو كثيرًا ونتطرَّف لو طلبنا منه أكثر من ذلك ونحن نعلم في أي ظلمات الجهالة يعيش!

هذا الاستسلام المُطلَق وهذه الطمأنينة الاعتقادية هما السبب الأكبر فيما نَغبِط الفلَّاح المصري عليه من قناعة النفس ورضا الضمير، اللذين نحسبهما بحقٍّ سعادةَ السعادات وتاجَ النعيم. وسنعرف حين نتحدَّث عن نفسيَّته أنَّ من أخصِّ صفاته وخُلُقه القناعةَ، وأنها العامل الأكبر فيما نحسب له من نعيم وسعادة!

والآن نُحبُّ أن نتحدَّث عن خُلُق فلَّاحنا وعن نفسيَّته حديثًا لا ننقص منه ولا نزيد، وأن نصوِّرهما تصويرًا يتَّفق والغرضَ الذي دفَعَنا إلى كتابة هذه الأحاديث ثم إذاعتها بين الناس، تصويرًا لا نُحابي فيه ولا نكذب، هو صورة ما نعتقد أنه حق، ونؤمن بأنه صدق، وحسبُنا هذا الاعتقاد شفيعًا فيما نُخطئ من تصوير، ولسنا نَبْغي من هذه الأحاديث المبثوثة في هذه الأوراق، كما قلنا قبل الآن، إلا أن نصل فلَّاحَنا المصري بالبيئات المدنية في عصرٍ اتَّصلت فيه الأمم وتعارَفت، ولم يتَّصل فيه الفلَّاح المصري بالبيئات المدنية المصرية، فضلًا عن البيئات العالمية، فلا يزال يعيش في حقله وفي داره مُنفردًا بعيدًا عن حياة المدن وحياة العالَم جميعًا تجهله ويجهلها، حتى أوشك هذا الفلَّاح المسكين أن يكون صنفًا آخر من الإنسان الذي نعرفه ونفهمه، ونستمتع بخصائصه وحقوقه وتعاريفه، في عصرٍ يجب ألَّا يكون فيه إلا صنفٌ واحد من الإنسان كما أراد الله وكما شاءت القوانين!

أول ما يخطر ببال من لا يعرف الفلَّاح المصري، أنه رجلٌ مُتوحش همجي شِرير، سفَّاك للدماء، جافُّ الطِّباع، غليظ القلب، مُنكَر الخصال، هذه الصورة الكاذبة القاسية التي تصوِّر فلَّاحنا فيها جانبٌ كبير من القسوة ومن الظلم؛ وذلك لأن ابتعادنا عن فلَّاحنا وعدم اختلاط كثير منا به، وزَهْونا وكبرياءنا عليه، وتفكيرنا واعتقادنا بأنه من أصحاب الجلاليب الزرقاء وحمَلة الفئوس، وبأنه مخلوق لا يعنينا كثيرًا بأن نبحث في حياته وفي خُلُقه وفي وجوه إصلاحه، كل هذا جعل تلك الصورة بعيدةً عن الحق وعن العدالة. ومن الأسف حقًّا، بل من المُخجِل والمُبكي معًا أن يأتيَ البعض فيُقلِّل من خطر هذا العمل الذي أخذت نفسي به، ويُصغر من شأن هذا الوجه من وجوه الإصلاح المصري الذي أقدمت عليه؛ وذلك لأني قصَرتُ جهودي واتَّخذت نصيبي من العمل والبناء، وزرعت غَرْسي في أرضٍ يحسبها ويراها هذا البعض لا تجدُر للزرع وللنماء، وليست خليقة بأن نتعهَّدها بالإصلاح والحرث والري، وفات هذا البعضَ الظالم أنه من أكبر الوصمات التي تلحق بفخارنا القومي، إذا ما ذكَرَت كلُّ أمَّة فخارَها، أن يَبقى ريفنا وفلَّاحنا في القرن العشرين وفي عصر النور والعرفان وتقرير الحريات ونصرة العدالة، كما كانَا في عصور الجبروت وعهود السُّخرة والجهالة!

مسكين أيها الفلَّاح! يظهر أن الأقدار لا يكفيها أن تعيش وتحيا هذه الحياة النَّكداء البئيسة، وتُحرَم كل حقوق الإنسان، وتُكلَّف بكل أعمال الاستثمار والإنتاج؛ فهي تَغبِطك أيضًا حتى على عينٍ تَذرِف الدمع سخينًا عليك، وعلى قلمٍ يتحرَّك حدَبًا بك! حتى أنصارك وحُماتك أيها الفلَّاح أعداء القدر!

نعم، تكاد الصورة التي يتصوَّرها كثيرٌ منا عن فلَّاحنا تتلخَّص في الهمجية وفي الشر والسفك، ونكاد لا نعرف عنه سوى جوانب الشر، أما الجوانب الأخرى البيضاء فنجهلها كل الجهل، أو لا نُحبُّ أن نعرفها ازوِرارًا وصلَفًا وعُتوًّا؛ وذلك لأن المدنيَّة الغربية غمَرَتنا عقلًا وقلبًا ووجودًا وإحساسًا، وأبعدَتنا عن الرُّكون والحنين إلى جمال البساطة، وجلال البداوة، والشفقة على الفقراء، والرحمة بالبائسين؛ فأفسدت علينا قلوبنا وحواسَّنا بما انتزعَت منَّا خيرَ ما يُشرف إنسانيتنا ويسمو بها؛ الرحمة والوفاء!

ولقد تكون العلة الأولى والباعث الأكبر في ابتعادنا عن الفلَّاح، وعن خلاطه ومعاشرته ومجالسته، واحتقار الكثير له، هو بكلِّ أسفٍ جهله وعدم تحضُّره الذي يتسبَّب عن جهله، ولكن هل هو الذي ارتضى لنفسه الجهل وعدم الحضارة؟ هل هو الذي حبس نفسه في هذا السجن المُظلم بعيدًا عن النور وعن الحق وعن الجمال؟ وبعبارةٍ أخرى، هل هو الذي اختار لنفسه أن يكون عبدًا لمالكه، أسيرًا لحكَّامه، فقيرًا بائسًا محرومًا؟ ليس المسكين هو المَلوم، وليس هو الذي يريد لنفسه عارَ الجهالة وذلةَ الغباء، ولكنهم أنكروا وجوده، وسلبوه حقوقه، وألقَوه في غيابات الجهالة؛ لئلَّا يفتح عينَيه فيرى النور، ويُبصر الحقيقة، ويعرف العالم والموجود!

ولكنَّا — في سبيل الحق وحده — لا نريد أن ندع هذه النقطة تمرُّ بدون أن نحمِّله نصيبًا من اللائمة إلى حدٍّ ما، وإن تكُ خارجةً حقًّا عن ذاتيته وإرادته المجرَّدة، فإن العصور السُّود — كما قلنا — التي مرَّ بها الفلَّاح المصري، وأخصُّها عصر المماليك المنكود، قد أورَثَته الاستكانة، وحبَّبَت إليه الإخلاد إلى الكسل بما يَقرُب من الرخاوة تجاه حقوقه ومطالبه، وأورَثته الذلة والخضوع حتى ظهر الجهل فيه بثَوب البلاهة. ولا يزال هذا الميراث يتوارثه الابن عن أبيه عن جده، حتى كأن الجهل أصبح لديه لذةً لا تَعدِله لذة، وحتى أصبح طلب العلم عند الكثير منهم أمرًا نُكرًا، ويكاد يكون إلحادًا؛ فكثيرًا ما نرى بأعيُننا أن الطفل في القُرى لا يخرج إلى الكُتاب إلا باكيًا من الضرب، وإلا مكتَّفًا أو مشدودًا حتى لا يعبث برِجلَيه من الجماح والغضب، وكثيرًا ما نرى أن الأب يُرسِل ابنه للكُتاب أو للمدرسة، فإذا ضربه الفقيه أو «الشيخ» أو المدرِّس ولو ضربًا خفيفًا لأنه لم يقُم بواجبه، ذهب الولد باكيًا مُنتحِبًا إلى أمه، شاكيًا الشيخ أو المدرِّس إليها، فتأخذ هذه الأم في لعن المدرِّس أو الشيخ، وفي استنزال الغضب والسخط على العلم الذي من أجله يُهان ابنها العزيز، وتُجرَح كرامته، وتدمع عيناه، وهنا تمنعه مُطلَقًا عن الذهاب إلى الكُتاب أو المدرسة، والأب بما أنه لا يُدرِك قيمة العلم يترك ابنه يتربَّى كما يتربَّى هو بين الحقول وعلى الأكوام خيرًا من الكتاتيب أو المدارس، وخصوصًا لأنه ينتفع منه في استخدامه معه في العمل ومساعدته، وخيرٌ له أن يرى ابنه يتدلَّل على رُكبتَيه في قذارته البالغة أقصى مراتب القذارة، من أن يُرسِله بعيدًا عنه للكُتاب أو للمدرسة، فيُحرَم رؤيته واستخدامه معه. وكم من مرة لاحظتُ في مُشاهَدتي وأنا في الريف أن الأب يُرسِل ابنه للمدرسة أو للكُتاب، فإذا حدث أن الابن مَرِض وهو في غضون الدراسة، تستدعيه الأم إليها ليَبقى بجانبها، وليلعب على رُكبتها، وتمنعه عن الذهاب إلى الكُتاب أو المدرسة التي سبَّبَت مرضَه وأبعدته عنها. وهكذا يضيع جانبٌ كبير من ثروتنا العلمية، وهكذا كم يُدفَن من دُرَر وجواهر في التراب أصبحت بفضل الإهمال أحجارًا مُبعثَرة على الأكوام، تلهو بها الصِّبية والغِلمان، كان ينقصها لأن تكون جواهرَ ودررًا تبعث النور والقوة والعظمة يدٌ تنفُض عنها ترابها، وتُخرجها من رمالها، وتتعهَّدها بالحفظ والرعاية والصَّقل والتهذيب! وهكذا يُقضَى على نبوغ عدد كبير من أطفالنا وشباننا وهم لا يزالون بعدُ في مِهاد العلم، وأُولى مراتب التثقيف والتهذيب، ما بين بلاهة الأمَّهات وغباء الآباء!

لا يمكننا أن نعرف نفسية الفلَّاح معرفةً حقَّة قائمة على الصدق إلا إذا درَسْناها درسًا عمليًّا وعاشَرْناه؛ حتى يظهر لنا الجانب الأبيض والجانب الأسود فيه، وإذا فعلنا ذلك كنَّا قُضاةً عُدولًا!

لعلَّ أبيَنَ ظاهرة خُلقية في فلَّاحنا هي «القناعة»، كما قلنا حينما تحدَّثنا عن حياته، وسنرى حين نتحدَّث عن سعادته أن هذه القناعة وهذا الاطمئنان إلى ما يعلم هما سرُّ راحة باله وإسعاد فكره أمام ما يُعاني من آلام، وما يُكابد من ضنك وحِرمان وبؤس؛ فهو يَقنَع بكل شيء قلَّ أو كثر، ويرضى بما يكتبه الله له من نصيب وقِسمة ورزق، سعادةً كانت أو شقاءً؛ فإذا كان كل شيء مَصدرُه الإله، ومَرجعه إلى الخالق، فليس علينا كعِبادٍ له مُخلِصين مؤمنين إلا أن نرضى ونخضع لإرادته فينا وحُكْمه علينا؛ فهو تعالى مَصدر الخير، ولا يصدُر منه إلا الخير، ولا يقصد بنا إلا إلى الخير؛ فمن الخير إذن أن نرضى بكل ما قسَمه لنا من نصيب في الحياة، ومن الخير أن نُحول آلامنا بأنفُسنا إلى لذَّات، وأن نجعل من الشر خيرًا، ومن المنكر معروفًا، وأكبر سعادة لنا هي أن نَقنَع بما بين أيدينا، وبما يَنزل علينا من عند الله؛ لأنه تعالى هو الذي أراد ذلك لنا؛ إذ ليس في أيدينا وسيلةٌ ما إلى تحقيق مطامحنا بأنفُسنا؛ فإذا كنَّا عاجزين هذا العجز فمن الحكمة أن نَقنَع، ومن حسن الرأي أن نرضى بمقدورنا ونخضع لمصيرنا، ولعلَّ غدَنا يكون أكثر توفيقًا ويُمنًا من يومنا، ولعل يومنا يكون أحسن حالًا من أمسِنا، ولعل الله يُحدِث بعد ذلك أمرًا، ويجعل من العُسر يُسرًا!

هذه النفسية الراضية القانعة بكل شيء في الفلَّاح هي التي تجعله دائمًا راضيًا وديعًا مُتفائلًا مُغتبطًا؛ فإن أصابه ضرٌّ أو ضيم، أو أصاب زرْعَه وبالٌ أو خُسْر، لا يتبرَّم ولا يتضجَّر؛ لأنهما يُنافيان الخضوع لكل ما يأتي به الله، ولأنه لا يُجْديه الضجر أو التأفُّف، ولكنه بدلًا من هذا يحمد الله على السرَّاء والضرَّاء، والبؤس والنُّعمى، وعلى الخير والشر على السواء؛ فإذا فُجِع في ولدٍ له عزيز عليه لم يذهب به الحزن والأسى ما يذهبان بسائر الناس من عويل ونُباح وشِبه ذُهول وضعف إيمان، وإنما يُسلِّم نفسه إلى الله ليَهَبه السلوى، ويمنحه العزاء، ويُوليَه الصبر. وإذا أصابته مصيبةٌ لا يسعه إلا أن يفوِّض أمره إلى الله، ويقول لنفسه: لعلِّي في غدي أكون أحسن توفيقًا وإسعادًا مني في يومي وأمسي، ولعل ذلك نتيجة غضب الإله عليَّ لذنبٍ اقترفتُه، أو جُرمٍ اجترمتُه، فاستحققتُ هذا الجزاء!

هذه النفسية الراضية الهادئة المُستسلِمة، كما قلنا قبل الآن، هي أحسن ما في فلَّاحنا من خُلُق، وهي التي يُحسَد عليها حقًّا، وسنرى أنها و«نعيم الجهالة» هي سر وسعادة هذا الفلَّاح سعادةً تعزُّ على الكثيرين. ولعل السبب الحق في عدم قيام هذا الفلَّاح في وجه ظالميه والخروج عليهم بالعِصيان في العصور الماضية الدابرة، هو هذه النفسية الراضية المُسالمة الناعمة القانعة المطمئنَّة راغبةً أو مُكرَهةً إلى ما تعيش، هو هذه الظاهرة الخُلقية الفذَّة التي تُهيمن على كل وجوده، وتؤثِّر في كل حياته؛ ولذلك عرَفها حُكامه ومُلاكه فاستغلُّوها واستخدموها في إذلاله وإرهاقه، وحسِبوا الرضا بلاهةً، والقناعة سذاجةً، والاستسلام مَسكنةً وذلًّا وعجزًا، والصمت والسكوت قَبولًا للذل ورضًا بالهوان!

سبق أن تحدَّثنا عن اعتقاد الفلَّاح، وسمَّينا إيمانه «إيمان العجائز»، والآن ما دُمْنا نتحدَّث عن نفسيته أو عالَمه الباطني بمعنًى أدق، فنُحبُّ أن نذكُر كلمةً عن هذه الاعتقادية، سواء أكانت دينية أم غير دينية. الفلَّاح أكثر الناس مُحافَظةً على دينه كما يتصوَّره ويفهمه، فأغلى شيءٍ يحرص عليه ويذود عنه ولو بالمُهَج والأرواح هو دينه؛ ولذلك يكره ويتعصَّب ضد كل من على غير دينه من أصحاب الأديان المنزَّلة الأخرى وغير المنزَّلة. ولعل التعصُّب من أجلى الظواهر الخُلقية المبيَّنة في خُلُقه وفي اتجاهاته، ولكن هل نطلب من نفسٍ جاهلة لم يهذِّبها العلمُ أن تخلِّص نفسها من جهالة التعصُّب لتعيش في نور التسامح؟ إذن لنَكوننَّ قُساةً ظالمين لا نفهم طبيعة الأشياء!

ولمَّا كان الدين والمحافظة عليه أكبر شاغل يَشغل الفلَّاح، كان لذلك أكثر الناس خلطًا لكل شيء ولكل مسألة بالدين، وهو يراه كل شيء في الحياة وكل ما سواه باطل وإفك. وربما يعلِّل خوفه من التعليم بهذه العلة؛ فإنه يخشى أن يُضعِف العلم من دينه أو يبدِّد يقينه؛ لأنه يسمع من بعض رجال الدين وأصحاب العمائم الكبيرة الذين سمَّاهم يومًا ما أحدُ كبار أدبائنا ﺑ «رجال الكهنوت»، والذين خَشِي المرحوم الإمام أن يقضوا على هذا الدين بجهلهم وعمايتهم، يسمع منهم كثيرًا بأن العلم والدين لا يمكن أن يتآخيَا معًا، فإذا حضر أحدهم يجب على الآخَر أن يُغادر المكان؛ لأن الأرض الواحدة لا تسعهما معًا. وإذا عَلِمت أن أمثال هؤلاء المُتعالمين كثيرٌ في ريفنا، ويعيشون وسط فلَّاحنا المِسكين، فلا تلُم هذا المسكين إذا صدَّق دعواهم واطمئنَّ إلى قولهم وكذبهم؛ لأنه يتصوَّرهم خُلفاء الله في أرضه، ويتصوَّر كلامهم من لدن عزيز حكيم، وأين تُذاع وتُصدَّق وتنجح سُبُل الاحتيال والنصب وطُرُق الخديعة والكذب في خيرٍ من رُبوع الجهالة وأمكنة السذاجة؟

وحِرص الفلَّاح على دينه ومحافظته عليه وتعصُّبه له مُلائمٌ كل المُلاءمة للبيئة التي تحُوطه، ولظروف العيش التي يعيشها؛ فهي بيئة كما رأينا هادئةٌ ساجية، فيها يبدو الكون أعظم ما يبدو، وتظهر اللانهاية على خير ما يمكن أن تظهر. وهذا الهدوء يُساعد إلى درجةٍ كبيرة على التعبُّد، وعلى التفكير في عظمة الخالق وسعة الكون وسر اللانهاية وإبداع الوجود. ونستبيح لنا أن نقول أكثر من ذلك؛ أن نقول إننا يُمكِننا أن نرى الله في الريف خيرًا مما نراه في المدن! ولسنا نُحبُّ أن نتوسَّع في هذا المعنى؛ فلقد أتينا بما فيه الكفاية على ما نظنُّ حين تحدَّثنا عن الريف، وعن صِلته بالعبادة وبالتقديس وبالحق وبالجمال!

تلك هي العقيدة الدينية للفلَّاح بوجه الإجمال، فما هي العقيدة القومية أو الوطنية له؟ يؤلمنا أن نُقرر هنا في غضون وتضاعيف هذه الرسالة حقيقةً لا يُنكِرها إلا مُكابر، وهي أن القومية المصرية لم تأخذ بعدُ شكلَها الثابت، ولم تتركَّز بعدُ في أذهان المصريين تركيزًا واضحًا منظَّمًا مدعَّمًا. وإذا كنَّا نتحدَّث عن الفلَّاح فقط فنقول إنه بحسب ظروفه وطبيعة وُجوده لا يُدرك شيئًا لمعنى «القومية» أو لمعنى «المصرية»؛ فأحيانًا يخلط بين هذه «المصرية» ﺑ «التركية»، وأحيانًا أخرى ﺑ «العربية»؛ فهو إذن يخلط الاعتبارات الدينية دائمًا بالاعتبارات القومية، ولا يزال للآن يقول لك نحن «أولاد عرب»، ولا يزال الكثير يتمسَّح بالتُّرك وﺑ «الدولة العلية» ويتعصَّب لها، ولا يزال الفلَّاح إذا سألته: ما جِنسيَّتك؟ يُجيبك: من المنوفية أو الغربية أو أسيوط. ولا يخطر بباله مُطلَقًا أنه من «مصر»، هذا القُطر المعروف بحدوده المعروفة. ولا يزال للآن يفهم أن أصله يرجع إلى «العرب»، وأن تاريخه يبدأ بتاريخهم، ولسنا ندري إلى الآن مدى تأثير هذا الخلط الذي نخشى أن يُفضيَ إلى ضياع قوميتنا وسط هذه الجهالة والعماية؟ ومن المؤلم حقًّا أن تسمع من الفلَّاح الذي ينتقل من مديرية إلى أخرى لأسباب معيشته أنَّاتِ الشكوى والحنين لوطنه الذي فارَقه، والذي يعدُّ نفسَه غريبًا في الجهة التي انتقل إليها؛ فهو إذا كان أصله ومولده في المنوفية، وعاش في البحيرة، حَسِب نفسه غريبًا عن الوطن كما يحسب المصري نفسه غريبًا في فرنسا مثلًا، ويأخذ في التألُّم والتوجُّع واسترجاع الذكريات، والحنين المُبكي أحيانًا.

هذا التخلخل في الشعور بالوطنية الحقَّة والإحساس بالمصرية العريقة الخالصة، وهذا التوزُّع المبدِّد للجنسية، يُلاحَظ بأجْلى وضوح لدى فلَّاحنا الذي لا يَفْقه معنى قومية ولا يُدرك معنى «مصرية»؛ وبالتالي لا يُقدِّر لنفسه «ذاتية» خاصة معروفة!

ونُحبُّ أن نذكُر هنا في سبيل الحق وحده أن الفلَّاح أبعد الناس عن طُرُق النفاق ووسائل الزُّلفى وأساليب الاحتيال، فما الذي يدعوه إلى النفاق والتمليق إذا كان القدر قد كتب عليه أن يكون بعيدًا كل البعد عن حكامه، ثم لماذا يرتجي منهم من الخير والمعروف، وهو يعرف حق المعرفة أنه مهما نافَق وتزلَّف فإن قلوبهم التي قُدَّت من الصخر واقتُطعت من الحديد، لن تَخفق بالشفقة عليه والرحمة به؟ وفضلًا عن ذلك فإنه قد ورث هذا الابتعاد والخوف والرهبة من الحكام والمُلاك الظالمين، وأصبح فيه كل هذا غريزةً أنْماها الزمن وقوَّتها العصور المُتعاقبة وأساليب الحكم المُتعددة، حتى أصبحت العلاقة بينه وبين حكامه وبين ملاكه علاقة نُفور وعُزلة ورهبة بدلًا من أن تصبح علاقة حب ووئام ورغبة، ونتج عن هذا النفور وهذا التباعد أن تَرْبى فيه روح الجمود والجبن والخضوع، والاعتقاد بأنه لا يُرتجى له إصلاح أو خير من حُكامه ومُلاكه، حتى أصبح لا يُقابل إشاعات الإصلاح المزعوم وكثرة مُستخرَجات مَعمل «المشاريع» إلا باسمًا ساخرًا هازئًا، بل يائسًا؛ وذلك لأن هذا الاعتقاد، أو بمعنًى أدق لأن هذا اليأس من إصلاح الحال ومن تغيير نظام معيشته أصبح جزءًا من حياته وشطرًا من وجوده، وأصبح يُهيمن عليه ويملك عليه كل أموره لدرجة أنه يكاد يتصوَّر أنه دون الناس جميعًا قد قُدِّر له البؤس والفاقة والحِرمان، وأنه كما وُلِد محرومًا مسكينًا جاهلًا، وكما يعيش مكدورًا شاكيًا بائسًا، فسيموت أيضًا فقيرًا مُهمَلًا منسيًّا؛ ولذلك فالأوفق له أن يبقى على ما هو عليه، وأن يرضى بنظام حياته، سواء أكان نظامًا محمودًا أم مذمومًا، قانعًا مُكرَهًا بذلِّه وبضَيمه وجهله.

ومن الحِرص على تقرير الحقيقة هنا أن نقول إن فلَّاحنا المصري يعيش ما يعيش غير شاعر بالحاجة إلى الإصلاح شعورًا قويًّا محدَّدًا منظَّمًا؛ فإن الظروف التي يُعانيها، والبيئة التي يعيش فيها، وشعوره الوراثي الذي ورثه عن آبائه وأجداده في عصور العسف والجبروت والظلام، كل هذا جعله لا يعرف من جوانب الحياة إلا جانبًا واحدًا هو الذي يسير فيه وعليه وبه؛ فاليأس المُستمر جعله يجهل تصوير الأمل، والجهل المُطبِق الذي يعيش في ظلماته دعاه لا يعرف تقدير العلم ولا يشعر ببَهر النور، والحكم الاستبدادي الذي عانى ويُعاني ظلمه وإرهاقه أفقده تقدير العدل، وظروف البلاد السياسية بما تخلَّلها من نير الاحتلال وبطش الاستعباد أبعدته عن الشعور بمعنى الحرية والجهاد لها، وفهم مداها وسامي غرضها، لدرجة أنه يُخيَّل إلينا أنه أصبح في هذه الحال الشعورية الغامضة المُضطرِبة المُبهَمة لا يُميز كثيرًا بين العلم والجهالة، أو بين اليأس والملل، أو بين الاستعباد والاستقلال! وليست اللائمة، كما قلنا كثيرًا في ذلك، تقع عليه هو بالذات، وإنما على الحُكام والمُلاك الذين أنكروا أو احتقروا وجود إنسان له من «حقوق الإنسان» نصيبٌ محترم لا يَقبَل التبديد أو الاستلاب، وإنما على تلك الظروف السياسية القاهرة التي نُكبت بها البلاد طول تاريخها وحياتها، وإنما أخيرًا على الروح الاجتماعي الذي تجاهل إلى الآن هذا الصنف من الإنسان، ولم تأخذه فيه عاطفةٌ إنسانية نبيلة تُحرك الشفقة عليه والرحمة به.

سيقول القائلون: أتُنكِر نصيب الفلَّاح في النهضة الكبرى وفي الثورة القومية التي برهنت أنه يقدر حقًّا — بخلاف ما تقول — معنى الحريات والاستقلال؟ وليسمع لنا هؤلاء القائلون المُستقبلون بأن نقول لهم إننا نُقرر معهم في فَخارٍ يرفع رءوسنا، وفي عزةٍ تُعلي كبرياءنا، نصيبَ الفلَّاح الأكبر في ثورتنا وفي الدفاع عن الحرية، ولكن نُقرر في سبيل الحق وحده بأنه لم يكُن اندفاعًا لدنيا بحتًا مصدره الشعور الحق، الشعور العالم المُبصِر المُقدر، لم يكُن اندفاعًا ذاتيًّا فردًا يشعر فيه كل إنسان بإحساسٍ باطني قوي يحفره إلى إدراك وتنفيذ ما يريد وما يشعر، عن فهم وحسن تقدير وتبصرة ونفاذ رأي وشعور بنقص وحاجة إلى الإصلاح، وإنما كان اندفاعًا مجموعيًّا شعبيًّا، مصدره التيَّارات الشعبية وروح الجماعات التي هي إلى التقليد أكثر منها إلى أي شيء آخَر!

لم يَدعُنا إلى هذا التقرير الذي يحسبه البعض مرًّا، والذي نعتقد فيه بحق، إلا حِرصنا الكبير في تصوير فلَّاحنا تصويرًا يُرضي الحق والضمير والواقع، وإلا حِرصنا على أن نُقرر بأن سياسة الحُكام والمُلاك في مصر وسياسة الظروف القاهرة أيضًا اشتركَتَا معًا في تكييف فلَّاحنا هذا الكيف الذي نُشاهده ونَلحظ آثاره ونتائجه، ونحن نبكي من الألم ونتحرَّق من الحسرة لحاله ولحياته التى لا يمكن أن يرضى بهما إنسانٌ يحمل هذا الاسم السامي وهذا المعنى النبيل، وتُحركه نحو أخيه الإنسان ولو أبسط عوامل الرحمة وصنوف الشفقة!

ولقد يكون من تحصيل الحاصل، كما يقولون، أن نُقرر هنا كرَمَ الفلَّاح المصري، وبذْلَ كلِّ ما في طَوقه واستطاعته لإراحة وإرضاء أضيافه. ولسنا نُذيع بدعًا أو نُبالغ في الادِّعاء لو قلنا إنه أكثر من أخيه المصري المدني نصيبًا من الجود، وقسطًا من الكرم الذي كاد يصبح غريزةً من غرائزه، وخَلَّة من خِلاله، وسِمة من سماته، ولا بدع في ذلك؛ فقِدمًا كان الكرم ولا يزال من خصائص الشرق، وبخاصةٍ الكرم المصري الذي نعتقد أنه جعل مصر نُهبة للطامعين، وتكيَّة للمُعوِزين، وملجأً للمُتشردين، والذي جعل من المصريين قومًا «طيبين» كُرماء لضيوفهم، كرمًا فهمه المُستعمِرون ورجال المطامع والأغراض ضعفًا ووداعةً وطيبةً ينفُذون منها إلى ما يريدون ويطمعون!

والجمال! ماذا يكون شأنه عند فلَّاحنا ما دُمْنا نتحدَّث عن «عالمه الباطني»؟ إذا كان الفلَّاح ما شاهَدْنا من سذاجة ومن جهل ومن فقر بالاستمتاع بالحياة، والشعور بالوجود، والحِرمان من الخضوع لسلطان الجمال القاهر، فلا ننتظر مُطلَقًا أن يكون له ذوقٌ خاصٌّ محدَّد في الجمال، أو بمعنًى آخَر أن يكون له سياسة أو ثقافة منظَّمة مُحكَمة في تقدير الجمال؛ ففلسفة الجمال لو شئنا أن نُسميها كذلك بسيطة عنده جدًّا، تكاد تقوم على الألوان لو أحبَبنا أن نحصرها ونُحدد حدودها. وهل تريد من شخص لا يعرف من الوجود إلا ظاهره، ومن العالم إلا جانبه الخارجي المرئي المحسوس، وإلا أن يحصر معرفته وشعوره في الناحية الظاهرة المحسوسة من الوجود، الناحية المادية التي ينتفع منها ويُبصرها ويعرفها وتُغذي استعداده وميوله وشهواته جميعًا؟ فالمرأة الجميلة عنده المرأة البيضاء أو السمراء، البدينة أو الهزيلة، التي لم يُخلَق جمالها في هذه الأرض وفي هذا العالم إلا لتُشبِع شهوات الناس، وتُرضيَ حاجاتهم الدنيا.

وإذا ذكَرْنا الجمال فهل يَخلُق بنا أن ننسى الحب؟ ومتى كان الجمال والحب مُنفصِلين؟ أوَليس الجمال هو أساس الحب، وأننا لا يُمكِننا مطلقًا أن نُحبَّ شيئًا ما إلا متى استجملنا فيه شيئًا يدعونا إلى الميل إليه والإعجاب به ثم بحبه؟ وإذا كان الجمال كما رأينا عند الفلَّاح، فما حال الحب لديه؟ وإذا كانت المقدمات في القضايا المنطقية يجب أن تُنتج نتائج تتَّفق وإيَّاها، فهل يكون شأن الحب عند الفلَّاح غير شأن الجمال والاثنانِ من دمٍ واحد ومن سلالةٍ واحدة؟

وإذا كان كل ما يعرفه ويفهمه ويتذوَّقه من الجمال هو الجمال الحِسي، أو بمعنًى أدقَّ «الشكلي» على حد التعبير القانوني، فهل يكون الحب لديه أيضًا غير الحب الحِسي الذي لم ينَل نصيبًا ما من «الملائكية أو السماوية»، بل كله من «الإنسانية أو الأرضية»، لو صحَّت هذه التعابير؟

وإذن فلَنا أن نتساءل: هل يُدرك الفلَّاح معنى الحب؟ تطرُّف منا ولا شك أن نطلب منه أن يفهم الحب كما نفهمه، ويقدِّره كما نقدِّره.

الحب هو سِر حياتنا، بل هو غذاؤها، بل هو لُب لُبابها، بل هو أنبَلُ ما فيها وأسمى رغم مكابرة المُكابرين وإنكار المُنكرين، وإلا فماذا تكون هذه الحياة إذا جرَّدناها من الحب؟ إنها تكون ولا شك مَهزلةُ الصِّبية ولُعبة الأطفال، بل ماذا يكون الجسم إذا انتزعنا منه القلب؟ إنه يكون خرابًا يَنعق فيه الغِربان! نحن نُحبُّ؛ ولذلك نحن نعيش ونحيا في الحب ومن الحب وبالحب! وليس الحب كما يتصوَّره بعض الفارغين الذين حُرِموا «الروحية» والملائكية، والذين عاشوا ويعيشون طوال حياتهم في المادة والنفعية، ومن أجل المادة والمنفعة وحدها، وإنما هو كما قال «تاجور»: كمال الشعور بالنفس. أو كما يقول «لا مارتين»: «لم يُخلَق الإنسان إلا للحب؛ فهو لا يشعر برجولته وإنسانيته إلا يومَ يشعر حقيقةً أنه يُحب!»

فأين للفلَّاح إذن إدراك الحب هذا الإدراك وتصوُّره هذا التصور؟! ولكن أُنسيت! هو يفهم الحب ويُدركه؛ لأنه أحيانًا يُحب، ولكن أي حب وأي شعور بالحب؟! ذلك الضرب الخبيث المُنكَر من الحب؛ الحب الذي يستقي منابعه ويستلهم وحيَه من شهوات النفس الجسدية ونزواتها الدنيئة، ذلك الصنف من الحب الساقط الذي يعيش على استمتاع الجسد وحده، وإشباع النفس وحدها بأحطِّ أغذية الهوى؛ فإذن هو يتَّخذه وسيلةً لا غايةً، ولهوًا لا مثلًا أعلى، وإشباعَ جسد لا غذاءَ روح، وقضاءَ شهوة لا فناءَ الحبيب في الحبيب، فناءَ اندماج لا فناءَ اتحادٍ فقط، ولا سعيًا وراء الكمال الإنساني وكمال الوجود من طريق الحب!

ومن الطبيعي ألَّا تنتظر أن يكون زواجه قائمًا على دعامات الحب من الطرفَين المُتعاقدين، أو يقصد به الشركة الروحية والصِّلة القُدسية الطاهرة بين الزوجَين الشريكين المُتحابَّين المُكمِّل أحدهما نقص الآخر، الفاهم المُدرِك كلٌّ منهما وظيفة وحقوق الآخَر. ولسنا نُحبُّ الآن أن نتبسَّط معك في هذه المسألة، ولكننا نُرجِئها إلى حين نُخصص الحديث عن الريفية كما أخذنا على أنفُسنا أن نتحدَّث عن الريفي!

ومما نُحبُّ أن نُقرره هنا بمناسبة هذه المسألة، أننا لا نحكم على الفلَّاح وحده هذا الحكم من حيث النظر والإدراك لمعنى الحب وتقدير الجمال، بل نُشرِك الكثير جدًّا من أبناء مصر في هذا الحكم؛ فلا يزال الكثير منا ينظر إلى الحب وإلى من يُحبون، فِتيانًا كانوا أو فتَيات، نظرةَ الفاسقين المُرتكبين أمرًا فيه عارٌ ووصمة، ولا يزال الكثير جدًّا لا ينظرون إلى الحب ولا يُدركونه إلا بقدر ما يُشبِع نفوسهم ويُغذي جسومهم ويُرضي شهواتهم الجسدية، ويقولون لمن يتحدَّث عن الحب المُخالف لذلك: إنك خيالي، أو إنك شاعر لا تعيش في الأرض بل في السماء! وكثيرٌ جدًّا منَّا أيضًا من لا يزال يلوم ويُقرع كلَّ من يجده يقرأ في كتاب أو روايةٍ تتحدث عن هذا الحب الذي نقصده بالذات، مهما سمَت معانيها ونبلتْ مراميها؛ لأن الحب عندهم محرَّم، والحديث فيه محرَّم، والذي يُحبُّ عاطل لا عمل له، وهكذا يريدون أن يعيش الناس في أديار أو صوامع، أو ينزلوا بأرواحهم من سمواتها لتعيش في أرضهم ووسط عالمهم الذي يقوم على عبادة الجسم وحده، وعلى إهمال القلب وتجاهُل الروح!

وإذا حدَّثناهم برسالة المرأة في هذا الوجود، المرأة الكاملة الجميلة المثقَّفة المُريدة، أو بقوة الحب الخالقة أو الباعثة، فما أسهل أن تجريَ على ألسنتهم: شُعراء! كأن الشعر مُستودَع الكذب ومَنبع الإفك والبهتان في هذه الحياة في هذا البلد!

•••

يسمع كثيرٌ منا في المدن عن الفلَّاح أنه شِريرٌ سفَّاك، أبعَدُ الناس عن الخير والشفقة، وأكثر الناس تعطشًا للدم وللشر. ولا شك أن في هذا الحكم جانبًا كبيرًا من الظلم على هذا المسكين، وقد يَطغى الشر على الخير، فلا يذكُر الناس إلا الشر، وينسَون أو يتناسَون الخير، والشر كثيرًا ما يُذكَر، والخير قليلًا ما يُتحدَّث عنه كما يقول العظيم شكسبير!

لا يُمكِننا مُطلَقًا أن نقول إن الفلَّاح بعيد عن الشر، فقد يكون هذا إسرافًا منَّا دونه أي إسراف، بل إنكارًا للحق دونه أي إنكار، ولكنَّا نقول إن هذه الصورة التي تُنقَل إلينا في المدن عن الفلَّاح المصري قد كبُرت ولا شك، وفيها نصيبٌ كبير من البُعد عن الحق وعن العدالة.

كلٌّ منَّا في هذا الوجود مركَّب من عُنصرَي الخير والشر، بمقدارٍ يختلف ضعفًا وقوة، وقلةً وكثرة، ولا يُمكِننا مُطلَقًا أن نعمل على مَحوِ الشر في الوجود وإلغائه من عناصر الإنسانية اللازمة؛ فهو عنصرٌ ضروري للحياة، لكمالها ولنظامها ورُقيِّها وحفظها، ولقد قال «تاجور» في هذا المعنى: «سؤالنا «لماذا كان الشر في الوجود؟» هو نفس سؤالنا «لماذا كان النقص؟» أو بمعنًى آخَر: لماذا كانت الخليقة جميعًا؟»

ثم ما لنا ننظر إلى الشر هذه النظرة القاسية الخاطئة؟ فهل كان يكون للوجود بغير جوانب مُتضادة وظاهرات مُتعاكسة وأوجُه مُتقابلة؟ إن هذا التقابل أو هذا التضاد هو السر في ضبط نظام الوجود وتوازُن الإنسانية الدقيق المُحكَم، هو النغم الرقيق الهادئ في موسيقاها الخالدة، الناتج من ضرب أوتارها العديدة المختلفة.

إذن ليس الشر إلا ظاهرة من ظاهرات الوجود الضرورية كان لا بد منها ليبقى للوجود قوته وإنتاجه وجماله وتوازنه، وليس هو من الوجهة الفلسفية البَحتة الجهةَ المُضادة للخير، كما أن النقص — كما يقول «تاجور» — ليس هو نفيَ الكمال، أو أن النهاية تُضادُّها اللانهاية، ولكنها جميعًا ليست إلا كمالًا يبدو موزَّعًا، واللانهاية تظهر في خلال حدود وتُخوم!

لا الخير ولا الشر غريزة فينا كامنة في نفوسنا من يوم أن وُلِدنا وظهرنا في هذا الوجود، وليس الإنسان طيبًا بطبعه كما يقول صاحبنا «روسو» حينما أراد أن يُبرئ أخاه الإنسان من الاستعداد للشر، ويُسند كل هذا إلى الاجتماع الذي أفسده بعد صلاح، وفي هذا ولا شك إسرافٌ أي إسراف من صاحبنا «روسو»، الذي أراد أن ينسب كل الشرور إلى المجتمع الإنساني حتى اشتطَّ في الاتهام وسوء الظن، وكاد أن يؤلِّه الإنسان ويُنزهه عن الخطايا ويعصمه من الشرور؛ ولذلك نصحه بالرُّكون إلى الطبيعة وحدها؛ ففيها النجاة من الشر ومن الرذيلة، ثم قال إننا ما صِرنا إلى ما نحن عليه الآن إلا لبُعدنا عن أمِّنا الطبيعة؛ فنحن في الأصل أخيار، والجماعة أو المجتمع هو الذي جعلنا أشرارًا!

يريد روسو منَّا أن نكون في مِثل وحدة حي بن يَقْظان أو روبنسن كروزو، فهل لو تأتَّى لنا هذا اللون من الحياة نكون سُعداء كما يُصور لنا روسو؟

وهل إذا أمكننا نحن أن نهرب من المجتمع الإنساني وأن نركن إلى الطبيعة وحدها، فهل نكون في هذه الحالة قادرين على تحقيق آمالنا وبلوغ أطماعنا؟ ليس المجتمع وحده هو الذي يُفسدنا، بل نحن شُركاء أيضًا في الجريمة، وليس المجتمع هو الذي يدعونا إليه، بل نحن الذين نسعى إليه ونُلحُّ في السعي؛ لأننا لا يُمكِننا مُطلَقًا أن نحيا حياةً راضية إنسانية محترمة بعيدين عن الاجتماع الإنساني.

يقول روسو إن عنصر الخير هو الأصل فينا، أما عنصر الشر فعارِضٌ جديد ونَزيلٌ علينا. وفي الحق حسبما نعتقد ونؤمن إننا لسنا أخيارًا في الأصل كما يقول روسو، ولا أشرارًا أيضًا كما يريد البعض أن يقول، وإننا يوم نُولَد ونظهر في هذا الوجود لا نعرف ما هو الخير ولا ما هو الشر، ولكن المسألة أننا نُولَد ومعنا غرائز تنمو معنا وتُكافح معنا الحياة كما نُكافح، وهذه الغرائز ليست إلا قُوًى نستعين بها على العيش وعلى الحياة، وهذه الغرائز دائمًا في كفاح مع بعضها وفي تفاعُل مع أخواتها، وتتنازع على البقاء كما يتنازع الأحياء جميعًا؛ فالأقوى منها يتغلَّب على القوي، والقويُّ يتغلَّب على الضعيف، وهذه الغرائز ولا شك تتكيَّف وتتوجَّه وتتلوَّن بحسب روح الجماعة، وبحسب التربية، وبحسب البيئة الزمانية والمكانية معًا. وفي كلٍّ منَّا جانب من الخير وجانب من الشر يتنازعان دائمًا الإنسان، والظَّفر أخيرًا في جانب الأقوى كما هي سنة الوجود. ويبدأ تاريخ هذا النزاع من أول مظهر للوجود الإنساني، حتى جعلت الأمم القديمة من مِصريِّين وفُرْس وغيرهم لهذين العُنصرَين المُتنازعين آلهةً؛ فعندهم إله الخير وإله الشر ضِمن آلهتهم المُتعددة!

ولقد ذكَرنا قبل الآن أننا من الوجهة الفلسفية البَحتة لا يُمكِننا أن نقول إن الخير نقيضه الشر كما نتجاوز في ذلك في التعابير اللفظية والبيانية، كما أنه لا يُمكِننا مُطلَقًا أن نقول إن الأبيض نقيضه الأسود، أو إن الفضيلة تُقابلها الرذيلة، أو إن الحب يُقابله البُغض؛ فليس كل هذا في الحق إلا تجاوزًا منَّا وتعابير اصطلاحية ورثناها أو تساهَلنا في تردُّدها. وليست كل هذه الظاهرات إلا مسائل اعتبارية نِسبية تخضع لمبدأ النسبية الذي يخضع له الوجود جميعًا، أو على الأقل الوجود الإنساني؛ فلا يُمكِننا مُطلَقًا أن نجزم بأن هذا العمل خير وذاك شر، فلا الخير خيرٌ محض ولا الشر شرٌّ بحت، وقد يكون خير في شر، وقد يكون شر في خير، وقد يكون العمل الواحد خيرًا وشرًّا معًا، وقد يكون لا إلى الخير ولا إلى الشر، وقد يكون خيرًا في عصر وغير خير في عصرٍ آخَر، وقد يكون شرًّا لك وخيرًا لي؛ مما يُثبِت أن الحياة تمنع منعًا باتًّا «الإطلاقية المحضة» Absolutisme، وأن العقل الإنساني يقوم بوظيفته في حدود النِّسبية وحدها!

ونعود الآن إلى موضوعنا: هل الفلَّاح خيِّر أو شِرير؟ وأي العنصرَين أغلب فيه على الآخر؟ وما العلة في ذلك التغليب؟

كل ما ذكَرناه إلى الآن عن نفسية الفلَّاح كانت نِسبة الخير فيه أكثر من نسبة الشر؛ أي إننا ذكرنا وشخَّصنا الناحية الخيِّرة فيه، ونُحبُّ الآن أن نتحدث عن الناحية الأخرى إتمامًا للحديث واستيفاءً للموضوع. ويُلاحَظ أننا لم نشَأ التعمُّق العلمي التحليلي في بسيكلوجية الفلَّاح وتشخيص «عالمه الباطني» في هذه الرسالة التي، كما قلنا كثيرًا، تأخذ صبغة «الأحاديث» أكثر مما تأخذ صبغة التحقيق العلمي!

يبدو لنا من ملاحظاتنا العديدة في ريفنا أن الفلَّاح فيه جانبٌ كبير من الشر قد يكون خطرًا فاتكًا حين يُساق إلى ذلك مُكرَهًا بدوافع خارجية؛ فهو في مُعظَم الأوقات هادئ مُسالِم وديع، ولكن إذا اندفع إلى الشر تكشَّفت عنه طبيعةٌ فاتكة ونفسيةٌ خَطِرة، فهو ينقاد إلى الشر لأتفه الأسباب؛ فلرُبَّما لأن جاره في الغيط اقتلع قليلًا من زرعه، أو اعتدى على مَجرى الماء الذي يصل إليه، أو لأن جاموسة جاره أو بقرته اعتدت على «جُرنه» أو على زرعه في غيطه، بل ربما لأن صبيَّ جاره اعتدى على صبيِّه وهما يلعبان في الحارة، أو لأن امرأة من نساء القرية تشاتمت أو تشاجرت مع امرأته، أو لأن غيره مَدين له ولو بخمسة غروش لم يسدِّدها، أو لأن أحدًا قد بلغ عنه يومًا وهو يسرق أو قال عنه نميمة، أو لأن أهل جاره قد سرقوا منه فرخة أو بطة.

ولقد رأيت يومًا — أستغفر الله — بل لقد سمعت أن فلَّاحًا رأى غنمَ غيره تعتدي على جُرنه حيث قمحه وشعيره، فحدَث النضال والتجاذب بالحديث، ثم أن بيَّت كلٌّ للآخَر الشرَّ وتربَّص به الأذى، وفي الساعة المحدَّدة تقابَل الخَصمان وحدث التصادم، فضرب أحدهما الآخر بالنبُّوت فشجَّ رأسه، فما كان من الثاني وهو يتضرَّج بدمائه الحارَّة التي خضَّبت وجهه إلا أن بحث عن آلة يُدافع بها المُعتدي، فلم يجد خيرًا ولا أسرع في الإجهاز على خصمه إلا فأسه الحادَّة. ولقد بلغت أيضًا بأن زوجًا أساء الظن بزوجه، فلم يجد طريقًا إلى تأديبها — إن كانت مُذنِبة — إلا أن سحب نَبُّوته وأثخن تلك الزوج ضربًا بالعصا، حتى هشم أحد ذراعَيها وأشلَّه عن الحركة وهو باسمٌ فَرِح بانتقامه الموهوم، وهو مع هذه الروح المُجرِمة لم يستطع أن يُثبِت قالة الناس فيها كما يدَّعي. ثم عَلِمت أيضًا أن امرأتَين تشاتمتا على أمرٍ يخصُّ زوجَيهما، وأذكُر أن هذا الأمر هو أن كلًّا منهما أخذت تسبُّ الثانية في عفافها، فلكَيدِها أخذت تتَّهمها أن زوجها نفسه هو الذي داس شرفها وأتى معها فعلًا غير شرعي، وبعد التشاتم بالكلام قامت كلٌّ منهما للأخرى، وسحبت النبُّوت وطحنتها به كما يفعل الرجال. فترى هنا أن الغَيرة النسائية التي هي من أخصُّ صفات النساء نُسِيت نسيانًا تامًّا في سبيل الكيد وحب التشفِّي والغلبة.

تلك الصور المُقتضَبة المُوجَزة من نفسية جانب كبير من الفلَّاحين والفلَّاحات تُعطينا فكرة ولو تقريبية — جانب الحق فيها أقوى من جانب الباطل كما نعتقد — عن انقياد الفلَّاح لعوامل الشر؛ هذا اللون الأحمر القاسي الخطر، ويُبيح لنا هذا أن نقول إن الفلَّاح إذا طاوَع الشر فعسيرٌ عليه أن يعتدل أو يترفَّق في شره بخلاف معظم إخوانه المدنيين، وحسبك أنه لا يُكافح إلا بالنبوت أو الفأس أو البندقية.

ثم هناك شيءٌ آخَر يُمكِننا أن نستنتجه من هذه الصورة الأخيرة، وهو أن العدوى الشِّريرة قد انتقلت من الرجل إلى المرأة، ومن الطبيعي كما قرَّر العلماء أن عدوى الشر أسرع خُطًى من عدوى الخير؛ فظهرت المرأة التي كنَّا نحسبها ولا نزال نحسبها ملاكَ رحمة ورسولَ لِين ونعمة، في مظهر اللَّبؤة الضارية التي لا تعتدل في البطش ولا تترفَّق في الفتك، حتى كِدنا نؤمن بأن رِقَّة المرأة ولُيونة النسائية ورخاوة الأنوثة قد استخفت في الريف بين الكثير من النساء، وغادَر البيتَ مَلاكُه وسكَنه الشيطان!

والفلَّاح إذا ما اعتزم الشر والأذى بغيره لا يهدأ له بال ولا يطمئنُّ له قرار حتى يُرضيَ شهوة انتقامه التي تُهيمن على كل شهواته؛ فكثيرًا ما يعتدي على زرع غيره تشفِّيًا وكيدًا؛ فإما أن يقتلع زرعه حتى يُيئسه من المحصول والنتاج، ويُضيع تعب عامه وعصارة دمه وما سكب فيه من عَرَق الجسم؛ وإما أن يُطلِق لماشيته عِنانها فتعبث بزرعه حتى تأتيَ عليه؛ وإما أن يُشعل النارَ في جُرنه حتى لا يبقى له محصولٌ شتوي يقوت به نفسه وأولاده، ونحن لا نجهل بأن هذا المحصول الشتوي هو تُكأة الفلَّاح وسنده في العام، منه يعيش ومنه يبيع جزءًا منه ليبتاع به حاجاته المنزلية؛ وإما أن يسمِّم ماشيته حتى يَحرِمه نفعها له في العمل واستدرار اللبن منها، ويَحرمه أيضًا قيمتها أو لحمها، وماشية الفلَّاح كما نعلم هي كل حُطامه من العيش، وثروته في الوجود، وسنده في العمل، وساعِدُه حين اشتداد الأزمات المالية أو حين تستحكم حلقات الحَجْر وأوامر «المُحضرين»؛ وإما أن يلجأ إلى السرقة فيسطو على داره أو على ماشيته أو على نورجه أو محراثه، وهذا أو أقل منه هو كل ما يملك فلَّاحنا المسكين.

ولقد شاهَدت جماعةً من الفلَّاحين أحبُّوا أن ينتقموا من خصوم لهم في قرية، فأفضى تفنُّنهم المُبدِع في الانتقام إلى أن سطَوا ليلًا على جُرن خصومهم حيث الغِلال جاهزةٌ مُتوفرة ومُعَدَّة للتخزين، فأخذوها ثم بعثروها بِددًا في الحقول التي بجوارهم؛ حتى لا يمكن بعد ذلك لخصومهم أن يستجمعوها ويُفيدوا منها، وتلك أكبر رزيئة لو يُفلِحون، وهيهات أن يُفلِحوا!

هذه الصور من الفلَّاح تُرِينا جانبه الأسود بعد أن رأينا جانبه الأبيض، وتُظهِر لنا أنه يتَّخذ كل الطُّرق للفتك بخصمه حتى ولو أدَّى الانتقام إلى الفتك بحياته نفسها.

قد يظهر ما أتينا به هنا من الصور عن فلَّاحنا لبعض القُراء تصويرًا ظالمًا أو حقيقةً مُرة كما يقولون، فما أدلَينا به يُشتمُّ منه رائحة الدم، أو يُلحَظ منه الروح الشرِّي الخطر للفلَّاح، ويعلم الله أننا لم ننتهج في هذه الرسالة إلا الحرص على الحق وعلى رضاء الضمير فقط دون أي نظر إلى اعتباراتٍ أخرى، سواء أكانت قومية أم لم تكُن؛ فإنَّا بما نأتي به من الصور لا نبغي إلا أن يكون العمل الذي أخذنا أنفُسنا به كاملًا أو قريبًا من الكمال، ولن يكون الكمال إلا إذا أرضى الحق وقدَّس الضمير!

ولكن ما الدوافع التي تدفع الفلَّاح إلى هذه الشرور؟ نحن لا نشكُّ مُطلَقًا في أن للبيئة القروية بكل محيطاتها ومؤثراتها، وللوراثة ولعدم تربيته وتعليمه، ولسوء حكم الحُكام وسياسة المُلاك، ولمرور عصور الظلم والجبروت؛ يدًا لها خطرها وأثرها في تكوين وفي تنمية هذا الروح الشري؛ فلو كان القدر يُسعِده بنعمة التعليم، ولو تُحيط به ظروفٌ خيِّرة، ولو يعيش في أوساطٍ راقية مهذَّبة مُستنيرة، ولو يهبُه الله حُكامًا ومُلاكًا يخافون الله ويعدلون ولا يظلمون ويُجرمون، إذن لَساعَد كل هذا على أن يشذِّب من شره، ويهذِّب من خُلُقه، وعلى أن يُقلل من إجرامه؛ وإذن لاستراح القُضاة وعلماء الأخلاق والاجتماع وزعماء الإصلاح من التفكير في علاج لهذا الوباء الفاشي، ولهذا الروح الإجرامي، ولكان الريف المصري مُستراح المكدودين حقًّا، الذين يطلبون الدعة والأمن والهدوء، ولأمن الناس ولو قليلًا وإلى حدٍّ ما على أرواحهم المهدَّدة بسيف الروح الانتقامي المُهيمن على كثير من فلَّاحينا، والذي يظلم بسَطوته وبرهبته سماء الريف الصافية، فلا تعود تُسبح فيها الملائكة، ولا تعود تبعث لأهل الأرض نورًا وحكمة وسرًّا يستمدُّون منها القوة على العمل، والقدرة على الكفاح، والعَون على الإيمان.

وإذن لبطَلت دعوى دُعاة الاستعمار في أن الفلَّاح المصري راضٍ عن حكمهم، مُغتبِط بعدالتهم، مهلِّل لسياستهم، مؤيِّد لاستلابهم حقَّ شعب في الحياة وفي الحرية؛ لا لسبب إلا لأن القوة تريد ذلك، ولأن النفوس الجشعة تريد أن ترتويَ وأن تأكل وتشبع، وإذن لأراحونا بذلك من اليأس في إصلاحه حتى لا نضطرَّ أن نذهب مع القائلين: اليأس إحدى الراحتَين! ولكن اليأس لن يكون وفي مصر إصلاحيُّون، وفي مصر شعبٌ كريم ينصر قضية الإصلاح وعملية التطهير والإحياء!

نعم! تَرُوعنا هذه «الشرِّية» في ريفنا؛ لأنها تجعل الحياة هناك عند الكثير غير مطمئنة، وتجعل لأولئك «الجزَّارين» واللصوص فضاءً واسعًا يمرحون فيه، وعملًا سهلًا يضمنون منه أرزاقهم بعيدين عن أيدي القضاء وانتقام العدالة. ففي الليل، وإذا ما تلفَّع الوجود بأستاره وبعباءته السوداء، وإذا ما سكن كل حي، وجلس الزوج إلى زوجه وأولاده يستمتعون بحلاوة العيش وبنعيم الحياة، تخرج جماعات السَّفَكة والمُجرِمين والجزَّارين تطلب قوتًا تأكله من أرواح الناس ومن جسومهم الطريئة الغضَّة، ومن عويل النساء وبكاء الأطفال وصراخ العجَزة، تخرج مسعورةً كالكلاب الجائعة التي يمسُّها شيءٌ صوب الرجل الذي تزعم أن لديه مالًا يملأ جيوبهم وبطونهم، ويُريحهم من عناء البحث عن العيش من طُرُق العمل الشريف؛ فإن وقف أحد في طريقها يَذُود عن حياته الغالية التي منحه إيَّاها الله، والتي لا يجوز لأحدٍ أن ينتزعها منه إلا الله، فليس أيسر لديها إزاء ذلك من البلطة يُشَج بها رأسه، أو من البندقة تخترم صدره وحُشاشة قلبه.

ولا تزال للآن هذه الجماعات الشرِّية مُنتشرةً في نواحٍ كثيرة في ريفنا، وهي منظَّمة تنظيمًا مُتقَنًا ككلِّ الجماعات المنظَّمة، فلها رئيس ولها وكيل ولها أعضاء، وقد تكون لها جمعية أو لجنةٌ تنفيذية وأخرى فرعية أو عامة، والرئيس هو الذي يُديرها، وهو الذي يوجِّهها نحو السلب والقتل، والأعضاء كلهم مُتضامنون يشعرون جميعًا بشعورٍ واحد يؤلِّف بينهم ويُجانس بين روحهم، وهم مسئولون أمام الرئيس العام الذي له حق توقيع العِقاب بمن يُخالف مبادئ الجماعة أو يخرج عليها أو يُذيع أسرارها، وليس لأي عضو إذا أمر بأمرٍ أن يتنصَّل منه أو يتنحَّى عنه، مهما جلَّ خطره وفدح شأنه. ولهذه الجماعات طُرقٌ مُدهِشة في تنفيذ مبادئها، وفي الهرب من يد الحُكام؛ فلديها أحيانًا ألبسة رجال البوليس، ولديها خيولٌ تُشبِه خيولهم، وبهذه الأردية يسخرون من البوليس ويُرهبون الناس ويتَّخذونها درعًا يَقِيهم الضبط ثم الزجَّ في السجون، ولها ضلائع أو جواسيس تُخبر الباقي عن العثور على جهاتٍ جديدة يمكن لهم أن يغنموا فيها شيئًا. ولهذه الجماعات مراكز إدارة يعقدون فيه جلساتهم؛ فإذا ما اعتزموا على شيء في ليلةٍ ما، بثُّوا رُسُلهم ونشروا جواسيسهم، وعيَّنوا رجالًا منهم يقفون في منافذ القرية، ومخارجها ومداخلها، ليقوموا بالحراسة، ثم عيَّنوا آخَرين للعملية الخطرة المَهيبة للسلب والسفك والتعذيب، بعد أن يكونوا قد ضمِنوا عيون الناس ونوم كل القرية الهادئة إلى حياتها الفطرية الطيبة؛ فإذا ما انتهت العملية، ونفَّذوا أغراضهم، واستراحت ضمائرهم — إنْ كانت لهم حقًّا ضمائر — وزَّعوا الأسلاب والغنائم لتُشبِع كل نفس ويتورَّم كل جيب وبطن.

هذه الجماعات الشرِّية المنظَّمة هذا التنظيم الذي رأينا قد تتألَّف من بعض العاطلين الذين لا عمل لهم، أو من بعض سُذَّج مساكين انخرطوا في الجماعة بدافع الإغراء والإيهام، أو من الذين اتَّخذوا السلب والقتل وانتهاك الحُرمات وترميل النساء وتيتيم الأطفال وتخريب البيوت وهدم الأُسر والعائلات، حِرفةً ومهنة لهم يتَّجرون فيها ويرتزقون منها؛ فكما يرتزق المُحامي من مهنته والطبيب من عمله والموظف من وظيفته، كذلك يرتزق هؤلاء المُجرِمون المُحترِفون من الدماء المسفوكة، والأرواح المزهوقة، والأشلاء المُبعثَرة، والأنَّات الصاعدة، والزفرات الحارَّة، والنفوس المصدورة، والعيون المُحترِقة من لهيب الأسى والفجيعة لا من قطرات الدمع الصافية! وهذا الصنف الأخير من المُجرِمين هو الأغلب والأقوى والأجلى خطرًا في هذه الجماعات الإجرامية؛ فإذا تصوَّرنا الحالة الاقتصادية للسواد الغالب في ريفنا، أمكننا بكل سهولة أن نفهم كيف يوجِّه المال هؤلاء المُجرِمين المُحترفين إلى حيث يريد؛ فإذا أردتَ أن تنتقم من خصم لك كبير انتقامًا نهائيًّا لا يعود منه إلى هذا الوجود، فليس عليك إلا أن تضع يدك في جيبك وتدسَّها في يد أحد هؤلاء المُحترِفين، الذين أصبحت عندهم صناعة القتل والسفك وقبض الأرواح سهلةً هيِّنة مُريحة، كما تصبح صناعة الكلام سهلةً للمُحامي المُقتدِر، وصناعة الكتابة سهلةً للكاتب الكبير، وإذا ما وصل المال لليد الأثيمة، ضمِنت رأس خصمك مُنتزعًا من جسمه في راحة يدك، فتفعل بها ما تشاء لك الخصومة!

هذا اللون من الإجرام وذلك الضرب من الشر الخبيث، ونقول خبيثًا لأنه قد يكون هناك شرٌّ طيِّب نافع، هذان اللونان الخَطِران من الإجرام ومن الشر يتفاوتان قوةً وضعفًا؛ فلسنا ننظر إلى السارق كما ننظر إلى القاتل، ولسنا نحكم على صاحب السرقة الكبرى بما نحكم على صاحب السرقة الطفيفة الصغرى، ولسنا ننظر إلى جريمة القتل بنظرٍ واحد؛ فأشدُّ المُجرِمين في رأينا خطرًا وأولاهم بالضرب على الأيدي وبالقِصاص والعِقاب البالغ أقصى حدود الشدة، هم أولئك الذين اتَّخذوا الإجرام «حِرفة»، واتَّخذوا أرواح الناس وحيواتهم تجارة ومُرتزَقًا، هؤلاء تُشدد عليهم النكير، ونُناشد رجال الحكم والقضاء في مصر ألا تُحركهم نحوهم عاطفةُ شفقة أو رحمة؛ لأنهم جزَّارو البشرية، وهؤلاء هم الذين نُحبُّ أن تتوجَّه إليهم جهود الإصلاحيين والمطهِّرين حقًّا، حتى يبقى للريف هدوءه وطمأنينته، وحتى تعيش مصر في دعة وأمان، وحتى يستريح الناس ويطمئنُّوا على أرواحهم وحيواتهم.

أما حوادث السرقة العديدة في الريف، فلقد يكون الباعث الأقوى على معظمها هو فقر الفلَّاح هذا الفقر المُدقِع الذي عرفناه، والذي لا يتناسب مُطلَقًا مع الغنى الواسع العريض لأصحاب الثروات والقصور والضِّياع. وقد يكون العامل النفساني عامل الأسى والنقمة والحسد والغضب والألم لتلك الظروف القاهرة التي جعلت غيره يتوسَّد الحرير، وجعلته هو يفترش المَدر والحصى، وجعلته يقضي طوال حياته في الكدِّ والشقاء واستدرار الثروة لأصحاب الأرض، وجعلت غيره هانئًا مُطمئنًّا إلى حياته الرغيدة الرافهة، وثروته العريضة الواسعة التي قد يكون لم يدفع من ثمنها دانقًا أو سحتوتًا، بل ورثها بقيَّة من بقايا «عصر الإقطاع»، عصر المَثل الأعلى في التعسُّف والاستبداد واستلاب الحقوق والعبث بالناس وبحيواتهم، هذا العصر الذي كاد أن ينقضيَ من أوروبا وتندثر معالمه، ولكن لم يستحِ أن يظهر في مصر حتى في القرن التاسع عشر؛ قرن العلم والاختراع! فإذا أضَفنا إلى كل هذا سوء سياسة الحُكام ومعاملة المُلاك له، تكشَّف لنا بعض التعليل الحق لحوادث السرقات العديدة التي يقوم بها؛ فهو يريد أن يعيش كما يعيش الناس، وبما أن أُولي الأمر حرموه أن يعيش عيشًا كريمًا شريفًا، عيش إنسان حُر يشعر بأن له حقًّا في الوجود ونصيبًا في الحياة، فقد بحث عن طريقٍ آخَر ليعيش، ولو أنه طريقٌ مُعوجٌّ إلا أنه طريق إلى الحياة، والحياة ثمينةٌ عزيزة!

ماذا يفعل ذلك الفلَّاح الذي يأتي عليه الليل فلا يجد لأولاده ما يقدِّمه لهم من العَشاء، وقد رآهم يتضوَّرون من الجوع ويشكون برح الفقر ومرارة الأسى، وهم لا يزالون بعدُ في سن الطراءة والرخاوة، ولم تعرف بعدُ عيونُهم معنى البكاء أو الدمع، وهو يعرف أن هؤلاء الأطفال الصغار أمانة في عنقه، بل فِلذة من كبده، وقطعة من نفسه، وأنه مسئول عن حياتهم أمام الله وأمام ضميره. ماذا يعمل هذا المسكين إذا سمع أنَّاتهم الموجعة، ونفثات صدورهم المكلومة، ورأى قطرات الدمع تسحُّ على خدودهم النضرة عصارةً لقلوبٍ آسية ونفوسٍ مُتألمة تطلب العيش وتستجدي الحياة؟ ماذا يعمل هذا المسكين وقد عزَّ عليه الطريق الشريف إلى العيش، وقد شحَّ عليه إخوانه، وضنَّ عليه الصديق، وتنكَّر له الزمن، وكسر المالك خاطره، وصدع قلبه، وضيَّق عليه الخناق؟ ليس لديه إذن ليعيش وليعيش أبناؤه الصغار إلا ذلك الطريق المُعوج وتلك الوسيلة الدنيئة الساقطة؛ السرقة.

وماذا يعمل ذلك الأب الذي أتى عليه العيد وألحَّ عليه أولاده الصغار في شراء ملابس جديدة لهم يتزيَّنون بها، وهم في هذه السن المرِحة اللاهية بين إخوانهم ورفاقهم؛ حتى لا يُطأطئوا رءوسهم ذلةً وانكسارًا إذا وقعت عيونهم على إخوانهم في القرية من الأطفال وهم يلبسون جلاليبهم الجديدة البيضاء والحمراء، ويَجرون ويلعبون؟

ثم أرجو أن تتصوَّر معي أيها القارئ الكريم استعداد أطفال القُرى، بل شبابها ورجالها ونسائها إلى العيد، وتصوَّرْ معي أنه يومُهم الأكبر الفرد، يوم راحتهم الوحيد من عناء العمل، ويوم يجتمع الأب والأم وحوالَيهما هؤلاء الأطفال والأبناء الأعزَّاء، وقد يعزُّ عليهم مثل هذا الاجتماع العائلي المقدَّس السعيد في الأيام الأُخَر.

ثم تصوَّرْ معي أنهم يحسبون له الأشهُر والأيَّام ليخرجوا من ديارهم في ثيابٍ جديدة وعلى وجوههم ابتسامة البِشر والتحية للعيد. وإذا فرَغت من هذا التصور ورسم هذه الصور في ذهنك وخيالك، عُدْ معي ثانيًا وتصوَّرْ أطفالًا صغارًا لم يعرفوا بعدُ معنًى للألم، ولم يتذوَّقوا بعدُ طعمًا للشقاء، وخرجوا صحيفةً بيضاء إلى الوجود تجهل ما في الكون من ألم، وما في الحياة من ضنك، وما للآباء من مسئوليات وواجبات، وما يتحمَّلون في سبيل أبنائهم من ضنك العيش وفداحة الأعباء، تصوَّرْ هؤلاء الصغار يأتون إلى أبيهم المسكين الفقير باكين شاكين لأن العيد قد أوشك أن يأتي ولم يُحضِر لهم بعدُ ثيابًا جديدة، مع أن غيرهم من رفاقهم الأطفال قد ابتاع لهم آباؤهم من السوق ما سيخرجون به يومَ العيد مرفوعي الرءوس فَرِحين مَرِحين، ثم تصوَّرْ معي أن هذا الأب الفقير ليس عنده في داره ما يأكله يوم العيد، فضلًا عما يريد أن يشتريَ به لأولاده ما يكسو جسومهم العارية، ويُرضي قلوبهم الباكية، ونفوسهم الشاكية!

من القسوة كل القسوة أن نَحكم على هذا الصنف من الناس ونحن مُستمسِكون بمبادئ الفضيلة والصدق والأمانة والشرف وما إليها جميعًا، ومن القسوة كل القسوة، بل من البُعد عن الحق وعن العدالة كل البُعد أن نكون قُضاةً بعيدين عن الحياة وعن المجتمع وعن البشر، جاهلين الظروف والعوامل والنواميس السِّرية المختلفة الغامضة التي تقود الناس إلى أعمالهم، واللصوص إلى سرقاتهم، مُضطرِّين كارهين، وإذا تجرَّد القُضاة وهم على كراسي القضاء من مبادئ الواقع والحياة وطبيعة الوجود، وتقدير نفسيات الناس وظروف الأحوال، وتصوير أن الناس ناسٌ لا ملائكة ولا آلهة، ثم استمسك القاضي بمبادئ الخيال ونظريات الفضيلة والعلماء والفلاسفة، وحبس نفسه عند نصوص القانون ومختلف الكتب والمَراجع، لم يَسلَم حكمه من البُعد عن الحق وعن العدالة وعن الروح الإنساني!

لسنا بذلك القول نشجِّع ونُذيع مبادئ «المدرسة المكيافيللية»؛ فلقد نكون أشدَّ الناس عَداءً لهذه السُّبل الوضيعة من العيش، ولكننا نبحث عن هذه البسيكلوجية الشرِّية في الفلَّاح، ونُحاول جهد استطاعتنا أن نرجعها إلى مصادرها الأولى، ونعثر على تعليلها الحق كما نعتقد وكما نؤمن، ولكننا نُحسُّ ونشعر أن «المبادئ الإنسانية» وناموس الحياة وبسيكلوجية الشِّرير واللص يجب أن يكون لها الاعتبار الأول، فإذا نظرنا إلى حادثة سرقة أو قتل، فقبْل أن ننظر فيهما يجب علينا أولًا أن ننظر إلى «الإنسان» الذي ارتكبهما؛ لأنه يهمُّنا أولًا إصلاح «الإنسان» ودراسته لنتمكَّن من إصلاح الجماعة ودراستها.

ثم ما لنا نستنكر هذه الحوادث من الفلَّاح ونقسو في الحكم عليه، وقد عرفنا جانبًا من حياته ومن ظروفه ومن تربيته ومن أوساطه! أليس الطبيب سارقًا حين يستبيح لنفسه أن يأخذ أجره من المريض وهو يعلم جِدَّ العلم بأنه لا أمل للطب في شفائه؟ أليس التاجر سارقًا حين يستبيح لنفسه أن يكسب في صنف من تِجارته ضِعف وأضعاف ثمنه، وحين يغشُّ في المكاييل والموازين سعيًا وراء الكسب الحرام الدنيء؟ أليس المعلِّم لِصًّا حين يتهاون ويفرِّط في واجبه نحو تلامذته، ثم لا يأنَف ولا يستحي من أن يقبض في آخِر الشهر مرتَّبه كاملًا موفورًا؟ أليس المُحامي لصًّا حين يعرف أن القضية لا شك خاسرة، وأنه بالدفاع فيها إنما ينصُر الباطل على الحق، والكذب على الصدق، والرذائل على الفضائل، والإلحاد على الإيمان، والعُهر على الشرف، ثم لا يأنَف ولا يستحي أن يمتصَّ دماء موكِّله؟ وما الفرق بين الفلَّاح الذي يسرق جاموسة أو بقرة ليعيش، وبين الطبيب أو التاجر أو المُحامي أو المعلِّم الذين يسرقون الرحمة والفضيلة والكمال والأمانة والوفاء؟ وأي السرقتَين أفدح مُصابًا وأضر بالعالم وبالإنسانية؛ الجاموسة أو الأمانة، البقرة أو الفضيلة؟

ألأنَّ الأول سرقته «محسوسة» وسرقة الآخرين «معنوية»، نُسمي الأول لصًّا دنيئًا، ونُسمي الآخَرين أطهارًا بَرَرة؟ ألأنَّ الأول شاء له قدره المنحوس أن يُضبَط تحت يد القانون، وأن يُزَج في الأقفاص، ولأنَّ الآخرين يهربون من الوقوع في قبضة العدالة، نسمِّي الأول من طِراز السَّفَلة، ونسمِّي الآخَرين من طِراز الشُّرفاء؟

ولكن هكذا أرادت سُنَّة الحياة! وهكذا توزَّعت الألقاب والنعوت على الناس! وهكذا شاءت الأقدار أن يكون بعض من الناس لصوصًا سَفَلة، والبعض الآخَر أطهارًا بَرَرة! إذن فَلْتكن إرادة الحياة، وَلْتكن مشيئة القدر! وَلْنسلك كما يسلك الناس!

وليس لتخفيف هذه الحوادث في ريفنا إلا العمل على تخفيف آلام الفلَّاح وإزالة شِكاياته، وضمان حياة الراحة والرغد والنور له، وتمكينه من أن يعيش حرًّا مطمئنًّا إلى العدالة، شاعرًا بالرحمة وبالحرية وبحقوقه وبواجباته، وقبل كل هذا وذاك تعليمه وتربيته؛ لأنه لا يقوم إصلاح كما نعتقد ونرى بدونهما؛ فلو فعلنا ذلك لاطمأنَّ الفلَّاح إلى عيشه الهادئ، ولعكف على واجباته راضيًا مُستريحًا عن نفسه وعن عمله، ولفهم حقَّه وواجبه ومركزه في العالم ونصيبه في الحياة، ولرأى النور نقيًّا طاهرًا لا دخل ولا ضباب ولا ظلام فيه، ولاشترك معنا في كل عمليات الإصلاح ونواحي الإنتاج والخِصب والخير!

ذكَرنا قبل الآن كلمةً أو صورًا عن الإجرامية الخطرة في فلَّاحنا، وشدَدنا النكير، وناشَدنا رجال القضاء والحكومة ليقضوا القضاء الحاسم على فئة «المُجرِمين المُحترِفين»، أو كما يُسميهم البعض «المُجرِمين العاديين»، وألَّا تأخذهم فيهم شفقة أو رحمة؛ وذلك لسلام العالم وطمأنينة مصر ورخائها وأمنها. وبهذه المناسبة نودُّ أن نقول إن معظم الجرائم في الريف يكون الباعث عليها روح الانتقام، ونحن نعلم أثر وخطورة هذا الروح الفاتك، ونعلم أنه أقوى الغرائز الإنسانية بعد غريزة حفظ النوع، ونعلم تشبُّع كثير من عائلاتنا الريفية ومن الأفراد الفلَّاحين ومن كبار العشائر والأُسَر، نعلم تشبُّعهم وخضوعهم لهذا الروح الانتقامي الفاتك الرهيب، ونعلم أنه لا يزال في ريف مصر بَحريها وصعيدها — وفي الثاني أغلب وأقوى — عامل العصبيَّات المختلفة قويًّا مَكينًا؛ فتكاد لا ترى جناية من الجنايات الريفية يخلو الباعث عليها من «العصبية»، ومن العداء العشيري، ومن الروح الانتقامي وليد الماضي السحيق، ووريث الأحقاد الدفينة والإحَن المحبوسة.

وكنَّا قد سَمِعنا أن الحكومة عيَّنت وألَّفت لجنة المُصلِحين لتُصلِح ما بين العائلات والعشائر والعصبيَّات فيما يحدُث بينهم، قبل أن يُعرَض الأمر على القضاء ليقول فيه كلمته الحاسمة؛ وذلك لتخفيف ويلات الناس وآلامهم، ولحِفظ العائلات والعشائر من أن تتمزَّق وحداتها وتنفصم عُراها، وللتوفير على المُتقاضين من مال ومن جهود ومن وقت إذا ما احتكموا للقضاء وللعمل جهد المُستطاع، وإلى حدٍّ ما على تصفية النفوس من الإحَن والعداوات القديمة والسخائم الدفينة، وتحل محلَّها الصفاء والود والوفاق والحب، فما لنا لا نرى لهذه اللجنة المزعومة ولهذه اللجان المحلية الفرعية وجودًا محسوسًا ولا صدًى مسموعًا؟ هل قُدِّر علينا طوال حياتنا — حتى في هذا العصر — أن نقضيَ أعمارنا كلها في تأليف لجان، وعمل جمعيات، وانتخاب رؤساء وأعضاء، وتحضير مواد، وتحبير أوراق، وعقد جلسات، ثم نُرهف بآذاننا أو نفتح عيوننا ونُعلي رءوسنا لنسمع عن صدى هذه اللجان والجماعات والجلسات، ولنرى آثارها وأعمالها ومدى خطواتها، فلا نسمع شيئًا ولا نُبصِر أثرًا؟ أنَقْضي أعمارنا عبيد المظاهر والأقوال والخُطب؟

لقد آنَ أن نبحث في طمأنينة الناس، وفي راحتهم الداخلية، وفي العمل على الصفاء والحب بدلًا من الضغن والكره، حتى تتآلف وحداتنا المُتنافرة وتتآزر كُتَل نشاطنا الاجتماعي على خِصب مصر وخيرها وسلامها وحريتها؛ فعسى رجال الحكومة يجدون لهذا الروح الانتقامي في ريفنا، ولهذه العصبيات ولهذه الشرِّية، علاجها ودواءها بدلًا من ضياع جهودهم وأوقاتهم في إلقاء وعود وإعداد خُطَب، وضمان حياة الرغد والرفاهة والطمأنينة لهم وحدهم!

قد يبدو ما أتينا به من الصور حين تحدَّثنا عن النفسية المُجرِمة في الفلَّاح قاسيًا مُنكَرًا، وقد يُتصوَّر للبعض أن هذه الأعمال التي يرتكبها من الوحشية بمكان، ومن الهمجية بحيث تتقزَّز منه النفس، ولكننا نقول لهؤلاء: مهلًا! ورُوَيدًا أيها اللائمون والعُذَّال!

لماذا ننظر إلى الفلَّاح المصري هذه النظرة القاسية، ولماذا نحكم عليه هذا الحكم الذي فيه من القسوة ومن الظلم كثير، ولماذا لا نحكم هذا الحكم وننظر هذه النظرة إلى الغربيين رُسُل النور والحضارة والخير والعدالة والمدنية والعلم والكمال في هذه الأرض؟

قرأت يومًا في جريدة السياسة من منذ سنتَين، لا أذكُر بطريق الجزم، أن ستة آدميِّين بشريِّين لا وحوشًا ولا همجيِّين، ستة أوروبيين مُتحضِّرين، لا أفريقيين أو آسيويين مُتوحشين في بولنده أو تشكسلوفاكيا — لا أتذكَّر — عزَّ عليهم الطعام في هذه الحياة العريضة الواسعة، وضاقت بهم الأرض على رحبها وسعة جنَباتها، فلم يجدوا غذاءهم وطعامهم، ولم يستمرئوا خيرًا من لحم بشريين مثلهم يجري فيهم دماء البشر، وتخفق بينهم قلوبٌ تُحبُّ وتُبغِض، وتميل وتحقد، ككل قلوب البشر؛ ستة من الحضر لا من البدو، من أواسط أوروبا الراقية المُتمدنة السيدة الحاكمة المُتألهة، لا من مَجاهل أفريقيا أو بلاد السنغال أو غابات الصين وأدغال الهند؛ حيث فارَقتها أنوار الحضارة، وعزَّت عليها جميعًا نعمة التعليم؛ هؤلاء الستة البِيض لا السُّود ولا الحُمْر اعتدَوا على جماعةٍ أوروبية مِثلهم بِيض أيضًا، وأكلوا لحومهم أحياءً، وتلذَّذوا بذلك اللحم البشري الطريء، وجرى هذا الدم البشري القاني الطاهر البريء حارًّا في دمائهم وفي قلوبهم وبطونهم الغَرثى الظامئة إلى الدم وإلى اللحم. ويا ليت شِعري، هل انتظروا نُضْج هذه الفرائس والضحايا وشواءها، أو هل تعجَّلوها وأبَوا أن يصبروا فالْتَهموها حيةً شاعرة طريئة مخضَّبة بالدم القاني الحي البريء؟ ويا ليت شِعري، بماذا شعروا حين عبثوا بهذه الأرواح المظلومة الحُرَّة؟ أبِلذَّة الشبع من الجوع والارتواء من الظمأ، أم بتلك اللذة الكبرى التي تُنشيهم وتُسكِرهم؛ لذة انتصار المدنية الأوروبية على البربرية الآسيوية أو الأفريقية؟

هذه «الكانيبالزم» الأوروبية، نحمد الله على أنها قد ظهرت في أجلى صورها وأبيَن مظاهرها في أواسط أوروبا المتحضِّرة، لا في مَجاهل أفريقيا المتوحِّشة، أو أدغال آسيا البربرية كما يزعمون. ونحمد الله كل الحمد على أنها اختارت لظهورها على الناس القرن العشرين قرن الحضارة الذهبية والمدنية السامية الراقية، أو قرن النور والعِرفان كما يقولون. ونحمد الله أيضًا على أنها اتَّخذت مسرحها ومشهدها في الغرب الراقي المتمدِّن، وبين الإنسان الكامل العالمي لا في الشرق المنحطِّ المتوحِّش، وبين الإنسان الجاهل الساقط كما يُرغُون ويُزبِدون!

ونحن لا نذكُرها هنا إلا لتسجيلها عليهم دون أن نُعلق عليها أو نبنيَ عليها أحكامًا، ونكتفي بأن نقول لهم وبخاصة ﻟ «رديارد كبلنج» شاعر الإمبراطورية البريطانية، صاحب القول المأثور الخالد: «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيَا.» ونقول لهذا الشاعر الكبير ولأصحابنا الغربيين الذين يتبعون قوله:

تلك دالَّتُكم علينا، وهذا وِسامنا الشريف نُعلقه في فَخار وفي كبرياء وتِيه على صدورنا الكبيرة الشريفة؛ ليدحضَا فِريتكم الباطلة وكذبتكم الشَّنعاء.

وليطامنا من رءوسكم التي تركبونها عُتوًّا وصلَفًا، ونقول لهم أخيرًا: لسنا وحوشًا ولسنا «كانيباليين» نأكل لحم البشر طريًّا، ونشرب دمه جاريًا!

نريد الآن أن نفيَ بوعدنا حيالَ القارئ الكريم حين تحدَّثنا عن هذا الصنف من السعادة الذي يشعر به الفلَّاح المصري في أطواء نفسه وفي خبايا قلبه، رغم ما يُلاقي في حياته من نكد وعنَت وفقر وشقاء وحِرمان وجَور واعتساف وعناء في عمله الطويل الشاق، ورغم بُعْده عن حياة اللهو والحضر والنور، واعتكافه في داره وفي حقله وفي قريته الهادئة المُنعزلة عن صخب الوجود وكفاح العالم وتطوُّرات الحياة.

لا يُمكِننا ونحن نأخذ على أنفُسنا القيام بالحديث عن هذا الفلَّاح المسكين، عن هذا السيِّد الحق لمصر، وبتصوير حياته ونفسيته في دائرة معلوماتنا واستطاعتنا، لا يُمكِننا ونحن نقدِّمه للبيئات المدنية المصرية والعالمية والشرقية بخاصة، لنخلق بذلك روابط الاتصال بينه وبينها حتى تزداد حياة مصر خِصبًا ونورًا وإنتاجًا وقوة، وحتى يفهم هذا الصنف المسكين من الإنسان حق الفهم، فيأخذ مجلسه الحق، وينال نصيبه العادل من «حقوق الإنسان» المكفولة الخالدة.

نقول لا يُمكِننا ونحن نقوم بهذا الواجب الذي أخذنا أنفُسنا به إرضاءً للحق وحده، واتباعًا لنداء الضمير الباطني العادل المُنصِف، وشعورًا بالمبادئ «الإنسانية» الطاهرة النزيهة الطيبة، إلا أن نُلمَّ بناحيةٍ هامة من نواحي عالمه الباطني حتى تَكمُل الصورة بعض الكمال، وتقرُب من الحق ومن العدالة.

وهذا الصنف من السعادة الذي نزعمه لفلَّاحنا، والذي هو العِلَّة الحقَّة في رضائه عن حياته النَّكِدة، وعن عيشه النَّغِص المُظلِم، وفي سَلْواه وعزائه وهدوئه وراحة سِره «كما يقولون»؛ هو في اعتقادنا «نعيم الجهالة» الذي نُحبُّ أن نختتم به هذا الفصل!

لا يزال الناس جميعًا يختلفون في أوجُه السعادات، ويتضاربون في آرائهم عن معنى «السعادة»، وسيبقى هذا الاختلاف وهذا التضارب ما بقيَ الإنسان على هذه الأرض. ومما لا شك فيه أن لكل إنسان سعادتَه الخاصة به المتَّفِقة مع تكوينه النفسي وعالمه الباطني ومزاجه الذاتي وثقافته، ومما لا شك فيه أيضًا أن بُغْية كل إنسان في حياته إنما هي الحصول على السعادة التي يطمح إليها، وتلك هي طبيعة الإرادة الإنسانية كما يقول «بوسويه»، وهذا هو الباعث لكل الناس على العمل، حتى الذين يسعَون إلى الموت كما يقول «باسكال»!

وإذا كان معنى السعادة الحق يكاد يكون كالطائر الشارد، وإذا كانت السعادات كلها على اختلاف صُنوفها وتبايُن ألوانها لا يمكن أن نعرِّفها تعريفًا ثابتًا مرسومًا، أو نُشير بأصابعنا وبأقلامنا عليها في خرائط موضوعة، أو نحصر تعاريفها ونُحددها ونحفظها كما نعمل في القواعد الرياضية والقوانين الطبيعية.

وإذا كانت «السعادة» هذا اللفظ المُبهَم، وهذا المعنى الغامض المَرِن، قد تزورنا بين حين وحين بدون أن نشعر بها أو نُحسَّ بوجودها بيننا كما يقول «الأستاذ العقاد»، وإذا كانت السعادة كما نراها نحن هي عدم التفكير في السعادة، أو هي «راحة السر» كما يقولون، فماذا تكون سعادة الفلَّاح؛ هذا الصنف من الإنسان المُنعزل عن العالم الصاخب والوجود المُكافح الحي؟

لا يُمكِننا مُطلَقًا أن نجرِّد فلَّاحنا المسكين من الشعور بصنف من صنوف السعادة، ولا يُمكِننا مُطلَقًا أن نُنكِر عليه سُوَيعاتٍ يجلس فيها إلى نفسه مطمئنًّا مُستريحًا، وقد جرَّد نفسه الظاهرة من العالم الخارجي ومن شهوات الحياة ومطامع الوجود، فعكف على نفسه ليعيش فيها ويستسلم للهدوء المُطلَق أو للفناء الحي؛ إذن فلِفلَّاحنا صنف من السعادة ولون من النعيم رغم عيشه عيشةً لا تليق بكائنٍ يحمل شارة النُّبل للمعنى النبيل السامي؛ «الإنسان».

في تلك القرية الهادئة الساذجة الحالمة في المستقبل الغامض المُريب، الخائفة من الغد المُبهَم المضبَّب، المتبرِّمة بعَسْف الحاضر وبمرارته وبصنوف شقائه وقسوته، الباكية على الماضي الدابر وعلى عهود الطفولة الناضرة، وجلالة القِدم المَهيبة وقت أن كانت الطبيعة لا تزال بِكرًا في غضارة شبابها وفي فتوَّة قوتها، وفي بَهر سِحرها وجمالها وفِتنتها، وفي تلك الحقول الخضراء المُترَعة بالخِصب وبالخير، والتي شهدت طفولة التاريخ الإنساني وشبابه وكهولته، ولم يَمحُ جمالَها وجلالها غدرُ الزمن، ولم يُضعِف من قوتها قسوةُ القدر، في تلك الحقول الشاعرة الساكرة المردِّدة أغانيَ الحب وتسبيحات القداسة الدينية، وتحت تلك الشمس الطيِّبة الخيِّرة باعثة الدفء والحرارة والنور للعالم جميعًا؛ شمس الريف المُحسنة الفاتنة الجميلة، وفي غيبوبة هذه الجهالة النائمة المُهيمِنة على ريفنا وفلَّاحنا هيمنة القوة والسلطان، وفي هذا الاستسلام المُطلَق لعسف السيِّد المالك وبطش الحاكم، والخنوع والخوف والجبن والضعف واليأس والشقاء؛ في كل هذا جميعًا، ورغم كل هذا جميعًا، يعيش فلَّاحنا كالحالم أو كالساخر مُغتبِطًا — شعر أو لم يشعر — بنعيم الجهالة التي يعيش فيها، فماذا يعنيه إذا كان العالم الفُلاني أثبت هذه الحقيقة ووصل إلى هذا الاكتشاف الجديد الذي ستتطوَّر من أجله توجُّهات العلماء، أو أن النبات يشعر كما يشعر الإنسان بل أكثر منه، أو أنه يُعاني الحالات النفسية كما يُعانيها الإنسان، وكما يقول السير جاجاديس بوز العالم النباتي الهندي الكبير، أو ماذا يعنيه هو أن يعرف وأن يقول مع القائلين بأن الأرض كُروية أو مُتحركة، فهل يحتاج إلا إلى قطعة منها يسعد بها في حياته، وإلى حفرة يُدفَن فيها بعد مماته كما يقول «جوت»؟

ليَكُن البُعد بين الأرض والقمر ما يكون، وَلْتكن الأرض أو الشمس هي المُتحركة، وَلْيكن كل الكائنات الحية من أصلٍ واحد ثم تفرَّعت، أو من عدة أصول، أو أن القرد والإنسان من أصلٍ واحد أو لم يكونا، وَلْيكن الدين يختلف مع العلم أو لم يختلف، وَلْتكن الأرواح خالدة أو فانية، وَلْيكن مُناجاة الأرواح حقيقة أو كذبًا، وَلْيكن لنا عقلٌ واحد أو عدة عقول، وَلْيكن العالم سائرًا إلى الأحسن أو إلى الأسوأ، وَلْيكن تفكير العلماء في ماهية السبرمان أو الإنسان الكامل، ولْيفكروا كما يشاءون في إصلاح النسل أو ما يُسمونه ﺑ «اليوجنية»، ولْيفكر الاقتصاديون في البحث عن تنويع الثروات وازديادها، والاجتماعيون في البحث عن إصلاح المجتمع الإنساني من الانتكاس الذي يعيش فيه، ورجال السياسة في البحث عن تقليل الحروب وربط العالم جميعًا بميثاق السِّلم وتخفيف ويلات الشعوب، ولْيخترع المُخترعون ما يشاءون من اختراع إنسان ميكانيكي يتكلم ويتحرك كما يريد، ومن اختراع طريقة علمية لتجديد الشباب أو أخرى لإطالة الحياة، ولْيبحث الباحثون في عُمْر الإنسانية كما يشاءون، وفي علاقة هذا الشعب بذلك، وهذه اللغة بتلك، وأخيرًا ليُفكر الفلاسفة كما يُفكرون، ولْيبحث علماء الاجتماع والطبيعة والجغرافيا والتاريخ وفقه اللغات وعلماء الشعوب كما يشاءون، وليَسِر نظام الوجود كما يسير، ولْتكن هناك «حقيقة» سنصل إليها يومًا أو لم تكن.

فكل هذا لا يُجْديه نفعًا ولا يؤثر في حياته النفسية الهادئة المطمئنَّة الراضية بجهالتها، القانعة بالبعد عن حياة التفكير والعلم، هل هو يأكل ويشرب؟ نعم! هل هو يتحصَّل على جلبابٍ يستر به جسمه؟ نعم. فلماذا إذن يُكدُّ عقله في التفكير، وخياله في المطامح، وهو يؤمن بأن حاله لن تتغير عمَّا هي عليه، ويؤمن بألا جدوى ولا غَناء من تعلُّل النفس بالآمال والأحلام والخيالات، ويؤمن أيضًا إيمانًا مَكينًا قويًّا بأن العلم لن يغيِّر حياته ولا نظام عيشه، ولن يُفيده قليلًا ولا كثيرًا، بل على النقيض ربما يُضعِف من إيمانه، ويزيد من شكوكه، ويجعله حائرًا مُضطربًا مُذبذبًا بينه وبين نفسه، فهل كان العالم سيبطل عن الحركة، وهل كانت الإنسانية ستقف عن سيرها، وهل كان الإنسان سيغيب في الثرى، وهل كانت القيامة تقوم، واليوم الآخِر يُعلَن، ورواية الحياة تُسدِل أستارها على الناس وعلى الوجود، لو لم تكُن الكُتب في المكاتب، ولو لم يكُن المعلِّم في الصدور وفي الرءوس وفي المدارس وفي الجامعات، ولو لم يكُن هناك علماء أو فلاسفة؟ ماذا كان يكون مصير العالم والإنسان لو لم تكُن كُتُب أو علوم أو مدارس؟ أليس الناس كانوا يعيشون في عصور ما قبل التاريخ وفي عصورنا هذه قبل نعمة الكُتب ورسالة العلم؟

وماذا يَنقُص هذا الفلَّاح الجاهل من أسباب السعادة التي يستمتع بها بعض الناس الذين نالوا نصيبًا كبيرًا من التعليم والتثقيف؟ أليس يجد لُقمةً يتبلَّغ بها وتُعِينه على العمل في نهاره، وجُرعةً يُذهِب بها ظمأه، وقطعةً من القماش يتدثَّر بها ويستر بها نفسه؟ أليس له أب أو أم أو إخوة أو زوجة أو أبناء يجلس إليهم حين يَفرغ من عمله ويُبادلهم الحب والحديث والبر والصفاء، ويجد لديهم حسن السَّلوى عن عنائه وكفاحه وفقره؟ وماذا يريد هو من المال أو من المجد وهو لا يطمع في أكثر من الحصول على قوته وقوت أولاده، وعلى ضمان راحتهم وتخفيف آلامهم، وعلى أن يخرج المحصول مُرضيًا يمكنه من سداد إيجاره للمالك أو ديونه للدائن، أو من سداد المصاريف التي بَذلها وأنفقها عليه في أوقات الغِراس والبَذر؟ هل هو يطمع في سعادةٍ أكثر من الجلوس إلى جماعة من إخوانه وأصدقائه على قارعة طريق، أو ضفة نهر، أو شاطئ بحر، أو على مصطبة، أو في «مندرة»، أو على «جُرن» الغِلال، أو في حانوت القرية، يتبادلون الأحاديث المختلفة حول المحاصيل الزراعية، وحول صنوف الوباء و«النداوي» التي تلحق بالزرع، وبخاصةٍ القطن؟

أليس عقله نقيًّا طاهرًا أجوف من اضطراب العلم وتذبذُب التفكير، غارقًا مُنغمسًا بكلياته وجزئياته في بحر الجهالة الواسع الهادئ الحالم المطمئنِّ إلى مصيره؟ أليس يعتقد أن العالم والجاهل معًا سيتقابلان في الآخرة، وسيتساويان معًا في مرتبةٍ واحدة، وسيكون الكبير كالصغير، والعظيم كالحقير، والغني كالفقير، فلن يأخذ العالم معه في قبره أكثر مما يأخذه صاحبه الجاهل معه في لَحْده، ولن يكون شأن العظيم في العالم الأُخروي أحسن حالًا من شأن الحقير، بل يكونون جميعًا كأسنان المشط لا تفاوُت ولا فروق؟

وإذا كانت الشمس تُشرِق من الغرب أو تغرُب في الشرق، أو كانت الحروب خيرًا أو شرًّا، أو كان جحيم الحرية خيرًا من فردوس العبودية أو شرًّا منه، فماذا يعود عليه هو من كل ذلك، وهل سيؤثر على نظام حياته، أو بمعنًى آخَر هل سيؤثر على أسعار القطن وارتفاع السوق؟ ليكُن العالم كله نارًا حامية وحربًا زَبونًا ما دام سينتج من هذا ارتفاع الأسعار في مزروعاته! ليتجادل العلماء كما يشاءون في نظرياتهم، ولْيُفضِ الجدل إلى الكفاح وإلى الحرب، فلن يُغنيَه فتيلًا ولن يشغل من عقله ومن نفسه وقتًا للتفكير في هذا، ما دام مطمئنًّا إلى جهالته وراضيًا بما يعلم في عُزلته النائية ومُصلَّاه الهادئة وقريته الساجية!

في هذه الجهالة السعيدة بطمأنينتها وقناعتها وكفافها، القانعة بما تعرف، الراضية بما هي فيه وبما شاءت لها الأقدار، البعيدة عن صخب الوجود وعن عراك العلم وكفاح الكتب، يعيش فلَّاحنا المصري عاكفًا على نفسه مُستمتعًا بهذه الراحة الكبرى، راحة السر، وبهدوء الضمير واطمئنان العقل ورضاء النفس، قانعًا بعيشه على كفافه وشظَفه وعُسْره، مؤمنًا مُعتقدًا بتلك الإرادة الإلهية العُليا المقدَّسة التي تدبِّر حياته وتنظِّم مصيره وتختار له مآله، مفوِّضًا أمره ومصيره إليها وحدها تُحدِث به كيف تشاء وما تريد، مُنعزلًا عن العالم وجهوده واضطرابه، وعن العلم ونظرياته وتعقيده وتفكيره وكدِّه وبُحوثه، راضيًا لنفسه بتلك القطعة من الأرض الضيِّقة، يحصر فيها جهوده الجسمية، ويُعالج فيها أعماله المعيشية في هدوء وفي وداعة وفي إيمانٍ قوي مَكين لا دخل فيه ولا ضعف؛ إيمان العبد الضعيف بإلهه القوي العظيم، إيمان الفناء بالبقاء الخالد، والجزء الأصغر بالكل الأعظم!

في هذه الجهالة السعيدة إذن، وفي هذا الكهف المُتعبد الخاشع البعيد عن شهوات الناس ومطامح العباد، يعيش فلَّاحنا سعيدًا بجهالته على الرغم من شظف عيشه وبؤس حاله. وإذا كان العلم سعادة عند بعض الناس، فالجهالة أيضًا سعادة ونعيم عند البعض الآخر، أو بعبارةٍ أخرى إذا كان للعلم سعادته فللجهالة أيضًا نعيمها، وهذه الجهالة كما قلنا هي نعيم فلَّاحنا الذي يشعر به ويستعيض به عن سعادة العلم ونعيم النور! ولعلنا بذلك قد كشفنا إلى حدٍّ ما عن هذا العالم الباطني لفلَّاحنا بحسب ما يتَّفق والحق والواقع، ولعلنا بذلك قد أرضينا ضميرنا الذي لا نعمل إلا بأمره وعلى هُداه!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤