الفصل الأول

من صور الحياة

وسط في ثقافته وعقله، وسط في خلقه، ولكن آتاه الله بسطة في المال، وقوة في الجاه، وحظًّا في مباهج الحياة، له المزارع الواسعة بحيواناتها وآلاتها، تغل عليه خيراتها، وله القصر الفخم على البحر يتخذه مصيفًا، وعلى حافة الصحراء يتخذه مشتى؛ ما اشتهى شيئًا إلا كان لديه حاضرًا، فالمال لا يعز عليه شيء، كل الناس مسخرة له، تنفذ إشاراته وتمجد إرادته، سواء منهم من انتفع بغناه ومن لم ينتفع، طلبه نافذ بين رجال الحكومة لجاهه، وفي بلده لماله، وعند من لم يعرفه لمنظره الفخم ورنة صوته التي توحي بالعظمة والسلطان، استطاع المال أن يجعل منه «باشا»، وأن يتخذ منه عضوًا في البرلمان، على اختلاف الحكومات في ألوانها ومذاهبها، تُخالف قوانين الري لسقي أرضه، وتُعطل اللوائح لتحقيق غرضه، ويقف تنفيذ الأحكام عليه خوفًا من بطشه.

لم تستطع رغباته الكثيرة، ولا مطالبه الوفيرة، ولا نفقاته الواسعة أن تنقص شيئًا من ماله، بل كل سنة يشتري أرضًا جديدة وأسهمًا في الشركات جديدة.

ولم يذق يومًا طعم الحاجة ولا ألم الدَّين، ولا تمنى شيئًا ثم لم يجد من المال ما يسعفه، بل إن حق له أن يشكو شيئًا فهو أنه يأكل في الحياة من مائدة فخمة دائمًا ليس فيها توابل، وينعم دائمًا نعمة لم يلونها الشقاء.

ثم تزوج فسعد في زواجه سعادته في ماله، ضم بزواجه مالًا إلى مال، وجاهًا إلى جاه، ونعيمًا إلى نعيم، ورأى في زوجته ما يتمنى من جمال ومن خُلُق ومن ذوق.

تكشفت له الدنيا عن صورتها الجميلة، وحجبت عنه كل نواحيها السيئة، فكان يعجب من شكوى الناس ومن ذم الدنيا، ويقيس كل شيء بمقياسه، فيرى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان؛ ويعلل شكوى الناس بسوء طباعهم؛ وفقرهم بقلة عقلهم، وألمهم بضيق نظرهم.

•••

لم يرزق من الدنيا إلا ابنًا واحدًا وضع فيه كل أمله، ومنحه كل عنايته ورعايته، حتى شب كأحسن ما يكون الشباب صحة وثقافة وخلقًا.

أخذته الحمى فارتفعت حرارته، وذبل جسمه، واصفر وجهه، وغاب عقله، وبذل الأب كل ما يستطيع لنجاته؛ هؤلاء أشهر الأطباء، وهذا أعز الدواء، وهؤلاء الممرضات ينفذن التعاليم في دقة وإحكام، وهذا كل ما يستطاع وما لا يستطاع لإنقاذه.

وينظر الأب إلى مزارعه الفسيحة ودنياه العريضة فيراها أضيق من سم الخياط.

يتمنى أن لو جُرد من كل ثروته، ومن كل صحته، ومن عينيه يبصر بهما، وأذنيه يسمع بهما، ليبرأ ابنه من المرض، وينجو من الموت، ويرجو أن يكون سائلًا يتكفف الناس، ومعدمًا لا يجد قوت يومه، ومسكينًا لا يملك من الدنيا إلا ثوبه المهلهل يستر جسمه، ثم يُشفى ابنه.

ويود أن لو كانت الصحة تُوهب فيهبها له، والحياة تُمنح فيخلعها عليه، ويتشهى أن يفقد كل نعم الدنيا لينعم — فقط — بابنه صحيحًا بجانبه.

كان يؤمن بالطب فدعا الأطباء، وكان يكفر بالرقى والتعاويذ ودعوة الصالحين فآمن بها وتشفع بأهلها، وكان لا يذكر الله في سرائه فذكره في ضرائه، وحشد لشفاء ابنه كل ما يستطيع من قوى مادية وقوى روحانية.

ولكن غلب القدر فمات الولد.

•••

لقد انقلب برنامج حياته رأسًا على عقب، شكا الدنيا كما كان يشكو الناس، ولم يستطعم لذائذ الحياة كما كان يستطعمها من قبل، ما قيمة المزارع الواسعة والقصور المشيدة والمال الكثير إذا لم تكن نفس تتذوقها ورغبة تتشربها؟ وما جمال الدنيا إذا لم تكن عين تبصرها؟ وما الموسيقى الرائعة إذا لم تكن أذن تسمعها؟ إن النفس المرحة التي لم تصب بكارثة تجتاحها تستطيع أن تخلق من العدم وجودًا، ومن الألم لذة، أما النفس التي براها الحزن فلا تستطيع أن تجد في الجنة متاعًا، والروح التي أظلمتها الكوارث لا تضيئها الشمس.

لقد وجد في الدين عزاءه الوحيد فتدين، أدرك فشل المال والجاه في دفع المرض فآمن بسلطان القدر، ورأى عجز الطب والعلم والدواء فلجأ إلى من لا يعجز، وفهم أن الإلحاد يدعو إلى اليأس ويقرر فناء الميت فكفر بذلك كله، ورأى الإيمان يقول بحياة بعد هذه الحياة، وتلاق بعد الفراق، وفناء الجسم وحياة الروح، فطبق ذلك على ابنه وعلى نفسه، فبعث عنده الأمل وأحيا فيه الرجاء، وقرأ أن العمل الصالح يُقربه إلى بغيته ويجعل الحياة الأخرى أسعد وأهنأ فأكثر من الصلاة والزكاة، وشارك في أعمال البر، وكان يقرأ القرآن ويقف كثيرًا عند آيات الجنة ونعيمها، فيتلهف شوقًا إلى أن يجمعه الله وابنه فيها، كان يُناجي ربه «أن قد مات قلبي بموت ابني فأحيه بك، وقد انطفأت شعلتي فأمدها بنورك، إني فقير إليك فألهمني الصبر، لقد كنت في حلم فتبدد، وفي سعادة فزالت، وكنت معتمدًا على مالي وجاهي فإذا هما هباء، فلا ألجأ الآن إلا إليك، ولا أسألك الآن سعادة فقد مللتها، ولا شيئًا من متع الدنيا فقد زهدتها؛ وإنما أسالك أن ألمس قوتك لأستعين بها على حمل عبئي، وأن أمس رحمتك لألطف بها حرارة الحمى في كبدي، وأن أسبح في بحرك الواسع أطهر فيه نفسي من يأسي، وأن تنيلني قبسًا من حكمتك أدرك به الدنيا على حقيقتها، فلا أجزع لمصايبها، ولا أخدع بزخارفها.

أي ربي: اغفر لي جهلي بك، وغروري بمالي، واعتزازي بجاهي، فلا عز إلا بك، ولا أمل إلا فيك، ولا اعتماد إلا عليك.

أي ربي: اسكن قلبي فقد صار هواءً، وآنس وحشتي فقد فزعت من كل شيء حولي، واطو الحياة طيًّا حتى ألقى وجهك ووجه ابني».

•••

كان يقرأ الجرائد فأهم ما يلفت نظره أخبار الوفيات، ومصادمة السيارات، وحوادث الحريق، وخروج القطار والترام عن الطريق، ثم يعقد مقارنة دقيقة سريعة بين مصاب الناس ومصيبته، ثم يقرأ أخبار الحرب فيسليه إحصاء القتلى والجرحى وغرق السفن بمن فيها، وشن الغارات، وكثرة ضحايا الطائرات، ويقف عند ذلك طويلًا يفكر ويوازن، فإذا وقع نظره على حفلة عرس أو خبر خطبة مر بها سريعًا، وعلق عليها بأن السرور ظل زائل، والسعادة حلم نائم.

وأخذ يتذوق الأدب، ولكن لم يعجب فيه بشيء إعجابه بقصائد الرثاء ولزوميات أبي العلاء، سمع الثناء على قصيدتي ابن الرومي في الرثاء فما زال يرددهما حتى حفظهما، وتخير من اللزوميات أنكاها في شكوى الزمان وحقارة الدنيا وفساد العالم.

ولم يعجبه من المجتمعات إلا عزاء في ميت أو حديث وعظ في مسجد – ودلوه على كتاب مخطوط في دار الكتب للسيوطي اسمه «فضل الجلد عند فقد الولد» فذهب ونسخه بيده.

•••

ما الدنيا إذا كانت تذهب في لحظة؟ وما النعيم يضيع في لمحة؟ وما كل شيء في الدنيا بجانب الحياة؟

الحياة عرض، ونعيمها وشقاؤها عرض العرض.

موجة سارت إلى شاطئ ثم اختفت، ولفافة تحللت إلى دخان، ثم تحلل الدخان في اللانهاية.

كلمة لفظ بها ثم انتهت.

لم يسلم أحد من لطمة القدر لعلل لم ندرك أسرارها ولا الغرض منها، والحياة طريق مملوء بالأشواك لا يسلم مار من أن يشاك بها، ومهما اختلفت المسالك فستنتهي بالنتيجة المحتومة، بالموت، إليه ينتهي كل سالك من ملك وصعلوك، وبه تتحلل كل كمية من اللذة والألم إلى صفر.

ثم إن هذا الطريق — طريق الحياة — امتحان شاق للسالكين؛ فمنهم من يجتازه في خوف وضعف، كلما مسته شوكة صرخ وتحطمت نفسه وسقط من الإعياء؛ ومنهم من يجتازه في شجاعة وقوة واحتمال، فمهما أصابه فإنه يركن إلى ركن ركين من قوة نفسه وحكمته وروحانيته.

لا شيء يضيء هذا الطريق الشائك المظلم إلا طهارة النفس ونور القلب وسمو الروح؛ إن أضاء القلب بدد ضوءه ضباب الطريق، وإن طهرت النفس انسجمت مع العالم، وإن سمت الروح لم تعد المادة إلا جسم الشمعة لا نورها، وغمد السيف لا نصله، وجذع الشجرة لا ثمرتها ولا زهرتها، فلا يأبه كثيرًا بالحوادث، ولا تُحطمه الكوارث، إن مسه الخير فليس منوعًا، وإن أصابه الشر فليس جزوعًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤