الفصل الثالث عشر

المتنبي وسيف الدولة (١)

كان لسيف الدولة ناحية فنية قوية، لا تقل شأنًا عن ناحيته السياسية والحربية، فهو يحب الفن ويولع به، ويتذوقه ويساهم فيه.

وقد وردت في ذلك أخبار متفرقة تدل عليه.

فهو مولع بالتصوير، رغم النزعة الشائعة؛ إذ ذاك في كراهيته، فيروي صاحب اليتيمة أن سيف الدولة أمر بضرب دنانير للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل وعليه اسمه وصورته، فأمر يومًا لأبي الفرج الببغاء بعشرة منها، فقال:

نحن بجود الأمير في حرم
نرتع بين السُّعُود والنعم
أبدع من هذه الدنانير لم
يجر قديمًا في خاطر الكرم
فقد غَدَتْ باسمه وصورته
في دهرنا عُوذَةً من العدم

ولعله استوحى ذلك من صورة دنانير الروم.

وأدل على ذلك ما ذكره المتنبي في صفة خيمة لسيف الدولة، تدلنا على ذوقه وحبه للفن حقًّا، فقد ذكر المتنبي أن هذه الخيمة أو القبة التي كانت تضرب على سيف الدولة، كانت قطعة فنية رائعة.

ففيها صورة روضة بديعة لم يحكها السحاب وإنما حاكها النساج، وأغصان الأشجار ترفرف عليها طيور لا تنقص عن الطيور الطبيعية إلا بالغناء.

وفيها صور وحوش يحارب كل جنس عدوه، ولكنها سُلبت الروح فتسالمت.

وإذا ضربتها الريح ماج بعضها في بعض فكأن صور الخيل تجول، وكأن صور الأسود تختل صور الظباء لتصيدها وتدركها.

وفي ناحية من الخيمة صورة ملك الروم، وصورة سيف الدولة، وملك الروم يسجد لسيف الدولة، ويخضع له ويتذلل، ويُقبِّل بساطه؛ إذ لا يقدر على تقبيل كمه ويده لارتفاع مكانه.

وبين يدي سيف الدولة الملوك متكئين على مقابض سيوفهم من هيبته.

وفي حواشي الخيمة لآلئ من النسيج تكاد لا تختلف عن اللآلئ الحقة إلا أنها لم تنظم ولم تثقب، ففي ذلك يقول المتنبي:

عليها رياض لم تحكها سحابة
وأغصان دوحٍ لم تغن حمائمه
وفوق حواشي كل ثوب موجَّهٍ
من الدر سمط لم يثقبه ناظمه
ترى حيوان البر مصطلحًا بها
يحارب ضدٌّ ضدَّه ويُسالمه
إذا ضربته الريح ماج كأنه
تجول مذاكيه وتدأى ضراغمه
وفي صورة الرومي ذي التاج ذلة
لأبلج لا تيجان إلا عمائمه
تقبل أفواه الملوك بساطه
ويكبر عنها كمه وبراجمه
قيامًا لمن يشفى من الداء كيه
ومن بين أذني كل قرمٍ مواسمه
قبائعها تحت المرافق هيبة
وأنفذ مما في الجفون عزائمه

وهي صورة بديعة، تشهد بحب سيف الدولة للتصوير والفن.

ثم أولع بالموسيقى، فكان في قصوره الجواري المغنيات، ويروون أن الفارابي لما زاره عرض عليه سيف الدولة قيانه فأسمعنه، فأسمعه الفارابي من قانونه خيرًا مما سمع.

وأنمى من هذا وأظهر ناحية سيف الدولة الأدبية، ولم يذكر المؤرخون لنا كيف ثقف وكيف عُلِّم، إلا أنهم ذكروا أنه كان من شيوخه أبو ذر الشاعر وابن خالويه اللغوي النحوي، وأنه درس دواوين الشعر القديم، وكانت تغذي عواطفه العربية، من تمدح بالشجاعة والكرم، كما كان يعرف أيام قبيلته (تغلب) ومفاخرها.

وتدل الدلائل كلها على دقة حسه الأدبي وذوقه الفني، يقول فيه المتنبي:

عليم بأسرار الديانات واللُّغَى
له خطرات تفضح الناس

فهل نستدل بهذا على أنه كان يعرف غير اللغة العربية أيضًا؟ أظن ذلك؛ فابن خلكان يروي في ترجمة الفارابي أنه كان لسيف الدولة مماليك، وله معهم لسان خاص يحدثهم به.

ومن مظاهر حبه للأدب وسعة اطلاعه وحسن ذوقه أنه كان كثيرًا ما يتمثل بأبيات قديمة، وتعجبه أبيات يرددها، أو قافية يستملحها، أو معنى يستجيده؛ فيطلب من الشعراء أن يجيزوها أو يقولوا على قافيتها، فمرة — مثلًا— ورد على خاطره بيتان للعباس بن الأحنف:

أمِنِّي تخاف انتشار الحديث
وحظي في ستره أوفر
ولو لم أصنه لبقيا عليـ
ـك نظرت لنفسي كما تنظر

واستحسن المعنى، فأرسل رسولًا مستعجلًا لأبي الطيب ومعه رقعة فيها البيتان يسأله إجازتهما، فقال المتنبي أبياته المشهورة:

رضاك رضاي الذي أوثر
وسرك سري فما أظهر إلخ

وديوان المتنبي وغيره من الشعراء مملوء بهذه الأمثال.

ثم مجلسه الأدبي الحافل في حلب، والذي قل أن يكون له نظير؛ فالشعراء والأدباء في مجلسه يثيرون الموضوعات المتنوعة، ويساهم فيها سيف الدولة، ويحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، ويجزل العطاء لمن أجاد؛ فأحيانًا يستذكرون الشعر القديم، وأحيانًا يسألهم إجازة الشعر، وأحيانًا مسألة نحوية، وأخرى مسألة لغوية، حسبما اتفق؛ فمثلًا مرة ينشئ سيف الدولة هذا البيت:

لك جسمي تُعِلُّه
فدمي لم تُحِله

ويطلب من أبي فراس أن يجيزه، فيقول:

أنا إن كنت مالكًا
فلي الأمر كله

ومرة يسأل المتنبي أن يعيد إنشاد قصيدته:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم

وكان سيف الدولة يُحب هذه القصيدة ويستعيدها، فلما وصل إلى قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمةً
ووجهك وضاحٌ وثغرك باسم

قال سيف الدولة: قد انتقدنا عليك هذين البيتين؛ لأن الشطرين لا يلتئمان، وكان خيرًا أن تخالف بينهما فتقول:

وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم

وهو نقد دقيق، وإن كان المتنبي قد رد عليه فقال: «إن الثوب لا يعرفه البزاز معرفة الحائك».

وسأل سيف الدولة مرة من في مجلسه: هل تعلمون اسمًا ممدودًا وجمعه مقصور؟ فلم يحيروا جوابًا إلا ابن خالويه فقال: عذراء وعذارى، وصحراء وصحارى، وهكذا كان مجلسه حافلًا بالأدب والنقد.

وهو مع ذلك شاعر غير أنه مقل، فقد رويت له في كتب الأدب أشعار، وإن كان كثير منها قد نُسب لغيره في بعض دواوين الشعراء، فلعله كان يتغنى بها فيظن بعض الناس أنها له، ولكن بعضها يكاد يجمع الرواة على أنه لسيف الدولة، كقوله في جارية رومية له كان يهواها ويخشى عليها من حظاياه، فأودعها قلعة وقال:

راقبتني العيون فيك فأشفقـ
ـتُ ولم أخل قط من إشفاق
ورأيت العذول يحسدني فيـ
ـك مجدًا يا أنفس الأعلاق
فتمنيت أن تكوني بعيدًا
والذي بيننا من الود باق
رب هجر يكون من خوف هجر
وفراق يكون خوف فراق

وقال:

تجنى عليَّ الذنب والذنبُ ذنبُه
وعاتبني ظلمًا وفي شِقه العتب
وأعرض لما صار قلبي بكفه
فهلا جفاني حين كان لي القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده
تجنى له ذنبًا وإن لم يكن ذنب

سيف الدولة هذا الفنان الناقد الشاعر الملك، هو الذي اتصل به المتنبي.

كان المتنبي بعد خروجه من سجنه لدعواه النبوة، أو لما قيل من دعواه النبوة بائسًا فقيرًا ناقمًا على الزمان وأهله، يشعر بعظمته وعلو نفسه؛ ثم لا يجد لهذه العظمة منفذًا؛ فهو يتردد على من يسميهم الناس عظماء، فيمدحهم فلا يجد عندهم تقديرًا لنفسه ولا لشاعريته، حتى رووا أنه مدح علي بن منصور الحاجب بقصيدته التي مطلعها:

بأبي الشموس الجانحات
اللابسات من الحرير جلاببا

فأعطاه عليها دينارًا واحدًا فسميت القصيدة الدينارية.

وقالوا: إن أكثر ما نال على شعره قبل اتصاله بسيف الدولة كان مائة دينار، منحها له الأمير أبو محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج بالرملة.

فكان اتصاله بسيف الدولة صفحة جديدة في أدبه، وصفحة جديدة في رخاء عيشه.

كان أبو الطيب يتنقل في ربوع الشام مادحًا من يخاله كريمًا محسنًا، حتى نزل على أبي العشائر، عم سيف الدولة، وعامل أنطاكية، ومدحه بقصائد كثيرة، يقول فيها:

شاعر المجد خدنه شاعر اللفـ
ـظ كلانا رب المعاني الدقاق
لم تزل تسمع المديح ولكـ
ـن صهيل الجياد غير النهاق

وسار مع أبي العشائر سيرة مصغرة للسيرة التي سارها بعد مع سيف الدولة.

ففي شهر جمادى الآخرة من سنة ٣٣٧هـ زار سيف الدولة أنطاكية، وكان بها أبو الطيب، وكان قد سمع سيف الدولة به وبشعره، ورأى أن يُزين به بلاطه، فقدمه إليه أبو العشائر، وعرض عليه أن يكون شاعره.

كان غير أبي الطيب من الشعراء لو عُرض عليه مثل هذا العرض يطير فرحًا، ويرى أن ذلك أمنية الأماني وسعادة الدهر، ولكن أبا الطيب تردد طويلًا، وأداه تردده أن يشترط، لم يشترط مالًا يُعطاه، ولا جائزة ينالها، وهو لهذا ضامن، ولكنه اشترط ألا يُعامل معاملة سائر الشعراء؛ لأنه ليس شاعرًا فحسب، بل شاعرًا وعظيمًا، وقد سمع أن الشعراء يذلون لسيف الدولة ذلة لا يرضاها لنفسه؛ سمع أنهم يُقبلون الأرض بين يديه، وأنهم ينشدون شعرهم وهم وقوف أمامه؛ فاشترط ألا يكون شيء من ذلك، إنما يكون «ملك الشعراء يمدح ملك الناس»؛ فإذا كان سيف الدولة راكبًا مدحه المتنبي وهو راكب، وإذا كان جالسًا مدحه وهو جالس، ثم لا يظهر بمظهر الخضوع من تقبيل الأرض ونحوه.

وعرف سيف الدولة منزلته وشهرته، وأنه سيكون صوتًا مدويًا في العالم العربي يشيد بذكره فقبل شروطه.

لبث المتنبي مع سيف الدولة نحو عشر سنين من سنة ٣٣٧ إلى سنة ٣٤٦ أغلبها في حلب، وقال فيها نحو ثلث شعره كمًّا، وأجود شعره كيفًا.

لم يَجُدْ شعر المتنبي في زمن جودته أيام سيف الدولة لأسباب: أهمها أن المتنبي لم يجد ما يُغذي نفسه وعواطفه في نواحيها المختلفة كما وجدها في هذه الأيام، فالمتنبي عربي يعتز كل الاعتزاز بعربيته؛ فكان يحتقر كافورًا لأعجميته، ويسب ابن خالويه لأعجميته، ويقول في أبياته:

تُهاب سيوف الهند وهي حدائد
فكيف إذا كانت نزارية عُرْبا

وجرى ذكر ما بين العرب والأكراد من الفضل، فسأل سيف الدولة المتنبي ما تقول؟ فقال:

إن كنت عن خير الأنام سائلا
فخيرهم أكثرهم فضائلا
من كنت منهم يا همام وائلا
الطاعنين في الوغى أوائلا
والعاذلين في الندى العواذلا
قد فضلوا بفضلك القبائلا

فكان — لهذا — إذا مدح كافورًا وغيره لم يُخلص ولم يواته طبعه، وإذا مدح سيف الدولة مدح عربيًّا لا يرى غضاضة في مدحه، وانثالت عليه المعاني العربية انثيالًا.

وكان المتنبي وسيف الدولة لِدَيْن، شاء الله أن يولدا في سنة واحدة سنة ٣٠٣، واصطحبا وسنهما أعز أيام الشباب، فقضيا معا من سن ٣٤ إلى ٤٤، والعواطف تتمازج وتتحاب؛ إذا تقاربت في السن واتفقت في الشباب.

وسيف الدولة فارس والمتنبي فارس، كلاهما يعشق الخيل والضرب والطعان، فإن خرج سيف الدولة فارسًا خرج المتنبي فارسًا، وقد صحبه في عدة غزوات إلى بلاد الروم، ومنها غزوة قالوا: إنه لم ينج منها إلا سيف الدولة وستة نفر من صحبه أحدهم المتنبي، فإذا شعر المتنبي في الغزوات والقتال والشجاعة والحرب فإنما يستمد ذلك من نفسه، ومن شعوره، لا من ألفاظ حشاها في رأسه يُنظمها ولا تتصل بقلبه.

ثم ما أغدق عليه سيف الدولة من مال لم يحلم به ولم تره عينه من قبل؛ وكان المتنبي محبًّا للمال حبًّا لا يتناسب وطلبه للمجد وعلو همته، وقد علله هو بأن ذلك يرجع إلى أيام صباه يوم كان لا يجد قوت يومه، فعلمه ذلك قيمة المال والشهوة إليه والحرص عليه، ويُعبر عما في نفسه من ذلك فيقول:

فلا ينحلل في المجد مالك كله
فينحل مجد كان بالمال عقده
ودبِّرْهُ تدبير الذي المجد كفه
إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
ولا مال في الدنيا لمن قل مجده

فغذاه سيف الدولة من هذه الناحية حتى أتخمه، وكان في سيف الدولة الأريحية العربية والكرم العربي فتقابلت هذه الصفة مع شره المتنبي وطمعه، فكان يعطيه في كل سنة نحو ثلاثة آلاف دينار، غير الهدايا من أفراس وجوارٍ وسيوف، وأقطعة مرة إقطاعًا بناحية معرة النعمان كان يخرج إليها المتنبي أحيانًا، فزاد العطاء في فصاحة المتنبي وحمله على العمق في استخراج المعاني، واللُّهى تفتح اللُّها.

وفوق هذا وذاك فقد كان كل الوسط الذي حول المتنبي أيام سيف الدولة يتطلب منه الإجادة، فلقد كان حوله شعراء عديدون نابهون كأبي فراس والنامي والببغاء وابن نُباتة وغيرهم، ونقاد ونحاة ولغويون، والملك على رأسهم يشعر وينقد ويقدر، ويأتي من أعمال الفروسية والبطولة ما يُنطق العيي.

فكيف بعد ذلك كله لا يكون عصر المتنبي مع سيف الدولة خير عصوره وأحسنها إنتاجًا، وقد سُئل هو نفسه في ذلك: لم تراجع شعره بعد مفارقة آل حمدان، فقال: قد تجوزت في قولي وأعفيت طبعي، واغتنمت الراحة، منذ فارقت آل حمدان، وفيهم من يقول: (تسائلني من أنت وهي عليمة) يعني أبا فراس، وفيهم من يقول:

وقد علمَتْ بما لاقته منا
قبائل يعرب وبني نزار
لقيناهم بأرماحٍ طوالٍ
نبشرهم بأعمارٍ قصار

يعني أبا زهير بن مهلهل الحمداني.

وفيهم من يقول:

أأخا الفوارس لو رأيت مواقفي
والخيل من تحت الفوارس تنحط
لقرأت منها ما تخط يد الوغى
والبيض تشكل والأسنة تنقط

يعني أبا العشائر. ا.هـ.

وهكذا اجتمعت كل هذه الأسباب على إحسان المتنبي في هذه الفترة كل الإحسان، وإن كان ذلك الخوف من الناقدين، والعمق في إعمال الفكر، أخرجه أحيانًا إلى ما يُسميه النقاد بالخيال الواهم، ويعنون به الإبعاد في الخيال إلى حد الوهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤