الفصل الرابع عشر

المتنبي وسيف الدولة (٢)

اتصل المتنبي بسيف الدولة وأصبح شاعر بلاطه الأول، فأخذ يُسجل أحداثه الحربية والمدنية تسجيلًا أدبيًّا، فإن سجل المؤرخون الحقائق صرفة فالمتنبي يُسجلها ممزوجة بعواطفه ومشاعره.

قد كانت هذه الفترة فترة غزوات متوالية من سيف الدولة للروم وللخارجين عليه من أقاربه وغيرهم، فأخذ المتنبي يقول قصيدة لكل موقعة، فقد ظفر بحصن بروزويه سنة ٣٣٧ فقال المتنبي قصيدته:

وفاؤكما كالرَّبْع أشجاه طاسمه
بأن تُسْعِدَا والدمع أشفاهُ ساجمُه

وحارب سيف الدولة القرامطة هذا العام، واستنقذ منهم عمه أبا وائل، فقال المتنبي قصيدته:

إلام طماعيةُ العاذلِ
ولا رأي في الحب للعاقلِ

وخرج هذا العام أيضًا لنصرة أخيه ناصر الدولة على معز الدولة الديلمي، فاضطر معز الدولة إلى الصلح، فقال المتنبي قصيدته:

أعلى الممالك ما يُبنَى على الأسل
والطعن عند محبيهن كالقُبَلِ

واستعد لغزو الروم سنة ٣٣٩ وأعد جيشه، فقال المتنبي قصيدته:

لهذا اليوم بعد غدٍ أريجُ
ونارٌ في العدو لها أجيجُ

فلما انهزم سيف الدولة في هذه الوقعة قال قصيدته:

غيري بأكثر هذا الناس ينخدع
إن قاتلوا جبنوا أو حدثوا شجعوا

وقال: إن سبب الهزيمة ما لحق بسيف الدولة من الضعفاء والجبناء، وإن كل غزوة بعد هذه الغزوة فلسيف الدولة النصرة؛ لأن جنوده قد نقيت من الأنذال، ولم يبق فيهم إلا الأبطال.

وبنى سيف الدولة مرعش سنة ٣٤١، فقال المتنبي قصيدته:

فديناك من ربع وإن زدتنا كربا
فإنك كنت الشمس للشرق والغربا

وجاء رسول ملك الروم إلى سيف الدولة يلتمس الفداء سنة ٣٤١، فقال المتنبي:

لقيت العفاةَ بآمالها
وزرت العداة بآجالها

وبنى سيف الدولة ثغر الحدث سنة ٣٤٣، فقال فيه المتنبي القصيدة المشهورة:

على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم

وهكذا كان كل عمل حربي يأتيه سيف الدولة يسجله المتنبي ويفلسفه ويؤدبه، ويخرجه قصيدة رائعة.

وكذلك كان يُسجل أحداث سيف الدولة المدنية، فتموت أم سيف الدولة فيرثيها بقوله:

نعد المشرفية والعوالي
وتقتلنا المنون بلا قتال

ويموت ابن سيف الدولة فيرثيه بقصيدة:

بنا منك فوق الرمل ما بك في الرمل
وهذا الذي يضني كذاك الذي يُبلي

ويموت غلام سيف الدولة «يماك» فيرثيه بقصيدته:

لا يُحْزِن الله الأمير فإنني
لآخذ من حالاته بنصيب

وتموت أخت سيف الدولة فيرثيها بقصيدته:

إن يكن صبر ذي الرزيئة فضلًا
تكن الأفضل الأعز الأجلا

ويمرض سيف الدولة فيقول المتنبي:

إذا اعتل سيف الدولة اعتلت الأرض
ومن فوقها والبأس والكرم المحض

ويخرج لسيف الدولة دُمَّل فيقول المتنبي:

أيدري ما أرابك من يُريب
وهل ترقى إلى الفلك الخطوب

ويشفى سيف الدولة فيقول المتنبي:

المجد عوفي؛ إذ عُوفيتَ والكرم
وزال عنك إلى أعدائك الألم

ويأتي عيد الفطر فيهنئه، وعيد الأضحى فيهنئه.

وبذلك أصبح شعر المتنبي في هذه الفترة سجلًّا لكل أعمال سيف الدولة وأحداثه كبيرها وصغيرها، سلمها وحربها، أحزانها وأفراحها، جدها وهزلها.

والمتتبع للديوان يرى أن شعر المتنبي في وصف حروب سيف الدولة، وشعره في الحزن؛ أرقى من شعره في المديح وشعر السرور، وسبب ذلك — على ما يظهر – أن نوع الشعر الذي يشتد اتصاله بنفس المتنبي، يجود ويغزر، وقد كان المتنبي فارسًا تعجبه الفروسية والبطولة، فإذا قال في ذلك يستخرجه من أعماق قلبه، وكانت نفسه حزينة؛ لأنه لم ينل المجد الذي يصبو إليه، فيحزن حزنًا عميقًا على الميت، وهو في حقيقة الأمر يحزن على ليلاه، أما السرور وأما المديح في غير البطولة فصياغته لا تلمس إلا السطح الظاهري من قلبه.

وكما سجل المتنبي أحداث سيف الدولة، سجل نفسه في مشاعرها المختلفة، وانقباضها وانبساطها، وأمنها واضطرابها، وكان المتنبي حاد الذكاء، حاد المزاج، صريحًا، لا يستطيع أن يخفي ما في نفسه، وقد توالت عليه أوقات شدة ورخاء، وتتابعت عليه ساعات أمنٍ وساعات قلق، وكان مضطربًا بين الرضا والغضب، والبؤس والنعيم، ومما زاد الأمر صعوبة أن سيف الدولة من جنسه، سريع الرضا، سريع الغضب، سمح إلى آخر حدود السماحة، منتقم إلى آخر حدود الانتقام، ينفعل أحيانًا لقصيدة واحدة للمتنبي انفعالات متعاكسة، فيعجبه البيت في مدحه فيُطرب له أشد الطرب، ويفخر المتنبي عليه بنفسه فيهيج أشد الهياج؛ وطبعان على نمط واحد بهذا الشكل لا يمكن أن يسودهما الصفاء التام ولا الجفاء التام، فإذا ساد الصفاء فسرعان ما يعتكر، وإذا اعتكر فسرعان ما يصفو، وهكذا كان حالهما دائمًا، فنرى سيف الدولة يُعطي المتنبي الألوف في لحظة، ويرضى عن قتله في لحظة، ونرى المتنبي له عينان، عين في المجد وعين في المال، يأخذ المال فيرضى، وينظر للمجد فيثور، والمجد في نظره أن يسود هو، ولا يكون مسودًا لأحد، حتى ولو كان سيف الدولة.

وبجانب ذلك كان بلاط سيف الدولة مسرحًا تُمثَّل فيه دسائس كثيرة للمتنبي؛ فقد كان فيه شعراء كثيرون، كانوا شعراء سيف الدولة قبل المتنبي وأيامه، وكانوا ذوي حظوة كبرى عند سيف الدولة، فكسفهم المتنبي، وعلاهم بنفسه وبشعره؛ فكان من الطبيعي أن يحقدوا عليه ويدسوا له، وغير الشعراء من الأدباء والعلماء كذلك، يرون المتنبي يأخذ أكثر مما يأخذون، وينال القرب من سيف الدولة أكثر مما ينالون، فكيف لا يغضبون؟

وربما كان من أشد هؤلاء عداوة له أبو العباس النامي الشاعر وأبو فراس وابن خالويه النحوي اللغوي.

كان سيف الدولة يميل إلى النامي قبل المتنبي، فلما جاء المتنبي مال عنه، فغاظ ذلك النامي، وخلا يومًا بسيف الدولة وعاتبه وقال له: لِمَ تفضل عليَّ ابن عبدان السقا؟ (يعني المتنبي) فأمسك سيف الدولة عن الجواب، فلما ألح قال سيف الدولة: لأنك لا تحسن أن تقول كقوله:

يعود من كل فتحٍ غير مفتخر
وقد أَغَذَّ إليه غير محتفلِ

فنهض مغضبًا، واعتزم ألا يمدحه أبدًا!

وأبو فراس يقول لسيف الدولة: «إن هذا المتشدق كثير الإدلال عليك، وأنت تعطيه كل سنة ثلاثة آلاف دينار على ثلاث قصائد، ويمكن أن تفرق مائتي دينار على عشرين شاعرًا يأتون بما هو خير من شعره.».

ويأخذ دائمًا المسالك على المتنبي، فإذا قال بيتًا جميلًا، قال أبو فراس: إنك سرقته من قول بشار، أو من قول دعبل.

ويتجادل المتنبي وابن خالويه في مسألة لغوية، فيغضب ابن خالويه (وهو أستاذ سيف الدولة) فيخرج من كمه مفتاحًا حديدًا ليلكم به المتنبي.

وهكذا كان بلاط سيف الدولة حربًا علنية وخفية على المتنبي، ولم يخلص للمتنبي من حول سيف الدولة من الشعراء إلا أبو الفرج الببغاء، فقد كان المتنبي يأنس به ويبثه شكواه من سيف الدولة وممن حوله، ويأتمنه على سره؛ وقد ساعدت طباع أبي الطيب على نجاح هذه الدسائس، فهو يتعاظم فيغضب الشعراء، بل ويتعاظم فيغضب الأمير، وهو دائم الإعلان عن نفسه والفخر بها؛ ويجفو سيف الدولة فيجفو المتنبي، ويتكلم سيف الدولة فيجيبه المتنبي، وتأتي المناسبات ليقول الشعراء وينتظر سيف الدولة من المتنبي أن يقول فلا يقول، والمتنبي حائر النفس بين المجد والمال، يجفو مجدًا، فلا يمعن في الجفاء مالًا، ويصد لأنفته، ويخضع لطمعه، وهي حال تربك النفس وتعقد الحياة.

هذا كله قد سجله المتنبي أيضًا في شعره في سيف الدولة، فمن السنة الثانية لاتصاله بسيف الدولة يذكر الحسد ويذم الناس ويقول:

فأبلغ حاسدي عليك أني
كبا برق يحاول بي لحاقا
وهل تغني الرسائل في عدوٍّ
إذا ما لم يكن ظبي رقاقا
إذا ما الناس جربهم لبيب
فإني قد أكلتهم وذاقا
فلم أر ودهم إلا خداعًا
ولم أر دينهم إلا نفاقا

ويتمنى لو تعطِي الملوك على أقدار الناس، فلم يكن ينال الخسيس شيئًا:

ليت الملوك على الأقدار معطية
فلم يكن لدنيء عندها طمعُ

ولعل أوضح ما يدل على هذه الحال قصيدته التي مطلعها:

وا حر قلباه ممن قلبه شبم
ومن بجسمي وحالي عنده سقم

فهي تصور هياج نفسه أشد هياج، فهو لا يعبأ بسيف الدولة إلا مداراة، ولا يعبأ بمن حوله من الناس ومن الشعراء، ويمدح سيف الدولة ليمدح نفسه، ويعرض بأبي فراس وغيره من الشعراء:

يا أعدل الناس إلا في معاملتي
فيك الخصام وأنت الخصم والحكم
أعيذها نظراتٍ منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوت عنده الأنوار والظلم
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم

•••

الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم

•••

ما كان أخلقنا منكم بتكرمةٍ
لو أن أمركم من أمرنا أمم

•••

كم تطلبون لنا عيبًا فيعجزكم
ويكره الله ما تأتون والكرم
ما أبعد العيب والنقصان من شرفي
أنا الثريا وذان الشيب والهرم

ثم يهدد بالرحيل:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون هم
شر البلاد مكان لا صديق به
وشر ما يكسب الإنسان ما يَصم

ثم يطعن الشعراء حوله فيقول:

بأي لفظ تقول الشعر زعنفة
تجوز عندك لا عرب ولا عجم
هذا عتابك إلا أنه مِقة
قد ضمن الدر إلا أنه كلم

قصيدة — من غير شك — من أقوى شعر المتنبي، سكب فيها نفسه، ولم يعبأ بمقام أحد، وكانت كافية؛ لأن يطرده سيف الدولة شر طردة، ولكن — كما قد قلت قبلُ — إن سيف الدولة من جنس المتنبي، فلئن كانت القصيدة أغضبته أشد الغضب فقد جاء فيها:

إن كان سركم ما قال حاسدنا
فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ

وهذا أطرب سيف الدولة أيما طرب.

وانتهت المعركة بأن أعطى سيف الدولة المتنبي ألفًا وألفًا، فقال المتنبي:

جاءت دنانيرك مختومة
عاجلة ألفًا على ألف
أشبهها فعلك في فيلق
قلبته صفًّا على صف

ولكن إن انتهت هذه الحادثة فلا بد أن يعقبها حوادث مثلها ما دام سيف الدولة والمتنبي على ما هما والبلاط على ما هو.

وظل المتنبي يتعاظم في شعره، ويعرِّض بغيره من الشعراء، ويقول لسيف الدولة:

إن هذا الشعر في الشعر ملك
سار فهو الشمس والدنيا فلك
عدل الرحمن فيه بيننا
فقضى باللفظ لي والحمد لك
فإذا صار بأذني حاسد
صار ممن كان حيا فهلك

وشاء القدر أن يكون آخر شعر في سيف الدولة من هذا القبيل وعلى هذه النغمة وهو:

لا تطلبن كريمًا بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدًا ختموا
ولا تبال بشعر بعد شاعره
قد أُفسد القول حتى أُحمدَ الصَّمَمُ

وظلت السعايات تعمل، فابن خالويه وغيره يلح في الإيقاع بالمتنبي، والمتنبي يمعن في تعاليه حتى فاض الإناء، فمل سيف الدولة كثرة القول في المتنبي، ومل المتنبي كثرة الغضب والعتاب، فتلاقت رغبة المتنبي في الخروج من حلب برغبة سيف الدولة في الراحة مما ينظر ويسمع، فرحل المتنبي إلى مصر، وأُسدل الستار عن فصل من رواية المتنبي، وإن كانت الرواية لم تتم فصولا.

وفي الحق أن الزمان أخطأ فوضع المتنبي في غير موضعه؛ أعطاه نفس ملك ولسان شاعر، ووقفه بدف على أبواب الأمراء يمدحهم، وهو إذ يمدحهم يرى منزلته — حقًّا أو باطلًا — فوق منزلتهم؛ فكان شأنه شأن كثير من الناس لا تتلاءم نفسيتهم ومنصبهم، نفس رئيس ومنصب مرءوس، أو نفس حرب ونضال ومنصب ذلة وهوان؛ وهذان العنصران إذا اجتمعا سببا شقاء صاحبهما؛ لذلك كانت نفس المتنبي ثائرة دائمًا، ومن يدري؟ لعل ما منحنا من شعر جزل جميل كان نتيجة هذا العناء، ولو تلاءم منصبه ونفسه لأخلد إلى الراحة؛ فكم كان الشقاء والبؤس والفقر والاضطهاد والعذاب نعمة على الإنسانية بما أخرجت من شعور نبيل وفن جميل.

وبعدُ؛ فمع هذا كله لم يجد المتنبي عوضًا عن سيف الدولة في علو شأنه وكرمه وعربيته وذوقه وفروسيته؛ وخرج ينشد الملك في مصر وغير مصر فلم ينل ملكًا ولم يجد ممدوحًا ينطقه بالمعاني كما أنطقه سيف الدولة، وعرَّض في أول أمره بمصر بسيف الدولة، ولكنه أدرك الحقيقة المرة بعدُ، فتاب وأناب وندم على ما كان، وحن إلى سيف الدولة وحن سيف الدولة إليه، فيقول من قصيدة في غير ديوانه:

عثرت بسيري نحو مصرٍ فلالعًا
بها ولعًا بالسير عنها ولا عثرا
وفارقت خير الناس قاصد شرهم
وأكرمهم طُرًّا لألأمهم طرا
فعاقبني المخصي بالغدر جازيًا
لأن رحيلي كان عن حلب غدرًا
وما كنت إلا قائل الرأي لم أُعَنْ
بحزم ولا استصحبت في وجهتي حجرا

لقد كان المتنبي حين فارق سيف الدولة يعتقد أنه غدر به فيقول:

حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارًا فكن أنت وافيا

ولكن مرور الزمان، وتكشف الحوادث وخيبة الأمل في غيره جعلته يرى غير رأيه الأول، وأن المتنبي لا سيف الدول كان هو الغادر؛ إذ يقول: «لأن رحيلي كان عن حلب غدرًا».

وحن سيف الدولة إلى المتنبي، فبعث إليه ابنه من حلب إلى الكوفة، بعد أن خرج من مصر، وبعث إليه مع ابنه هدية، فكتب إليه المتنبي قصيدته التي يقول فيها:

ليس إلَّاكَ يا عليُّ همامٌ
سيفه دون عرضه مسلول

•••

أنت طول الحياة للروم غازٍ
فمتى الوعد أن يكون القفول

•••

ما الذي عنده تدار المنايا
كالذي عنده تدار الشمول

•••

من عبيدي إن عشت لي ألفُ كافو
رٍ ولي من نداك ريفٌ ونيل
ما أبالي إذا اتقتك الليالي
من دهته حبولها والخبول

ثم بعث إليه سيف الدولة كتابًا بخطه يسأله المسير إليه فاعتذر بالوشايات،

وما عاقني غير خوف الوشاة
وإن الوشايات طرق الكذب

كان ذلك في سنة ٣٥٣، ولم تطل مدة المتنبي بعدُ، فقد قُتِلَ في السنة التي تليها، وهي سنة ٣٥٤، كلاهما يحمل نفسًا حبيبًا إلى صاحبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤