الفصل السادس عشر

تحية العيد

إلى صديقي …

وأحب إليَّ أن أناديك بصديقي من أن أناديك «بأخي» أو «حبيبي»، أو أي لفظ آخر في هذا الباب؛ فالأخ لا وزن له ما لم يكن أخًا صديقًا، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق، وقد أنصف العرب؛ إذ اشتقوه من الصدق، فأي شيء أجمل من الصدق في «الصداقة»؟

كنت أستكثر ما يُروى من أن عبد الحميد الكاتب طُلب ليُقتل — في الثورة العباسية — وكان صديقًا لابن المقفع، ففاجأهما الطلب وهما في بيت واحد، فسأل: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل منهما: «أنا» خوفًا من أن ينال صديقه مكروه؛ وخاف عبد الحميد أن يسرعوا إلى «ابن المقفع»، فقال: إن لي علامات أُعْرَفُ بها ويعرفها مَن بعثكم في طلبي؛ وما زال يقيم الحجج ليدفع الأذى عن صديقه حتى أُخِذَ وقُتل. وكنت أستبعد ما يُروى أن هذيلًا أصابت دمًا في بعض العرب، فأسر أصحاب الدم رجلين من هذيل متصادقين، فقالوا لهما: أيكما أشرف فنقتله بصاحبنا؟ فقال كل واحد منهما: أنا ابن فلان الحسيب النسيب، فاقتلوني دون صاحبي؛ فكلٌّ بذل نفسه للقتل دون صاحبه، فلما عيوا بأمرهما صفحوا عنهما، وقالوا: «هذا التصافي لا تصافي المِحْلب.»١.

فلما صادفتك صدقت القصتين، وآمنت أن فقد النفس أهون من فقد الصديق.

إن الحياة فراغ لولا أن تملأها صداقتك، وهي ظلمة حالكة لولا أن تنيرها مودتك.

لسنا صديقين لمنفعة أرجوها منك أو ترجوها مني، وإنما أصادقك؛ لأنك أنت أنت، وما دمت أنت فأنا صديقك.

إن الصداقة ميزتك عن غيرك من كل ما في العالم، فكلما كنت نفسك كنت أقرب إليك وكنت أقرب إلى قلبي.

لقد بحثت نفسي في النفوس حولها، فلما وجدتك عرفتك وعرفت أنك مرآة لها، صورتك صورتها، ومزاجك مزاجها، وطبيعتك طبيعتها؛ فكأني وإياك روح في جسمين، أو حقيقة في شكلين.

صادقتك فاستصغرت متاعي، وهزئت بهمومي، وظهر خير ما في نفسي، ودبت القوة في إرادتي، وشعرت بالحرارة في همتي؛ فماذا كنت أكون لو لم تكن؟

إن حزب أمر فذكرك يحله، أو ضعف العزم فصورتك تقويه، أو أظلم الجو فصداقتك تنيره، أو خيم البؤس فاستحضارك يكشفه.

قد ساء ظني بالناس، وأنكرت المروءة والإخلاص والوفاء، وظننت أنها ألفاظ وضعت لأوهام، واللغة لم تتحرر من أن تضع أسماء للموجود والمعدوم، والجائز والمستحيل، والشيء واللا شيء؛ فلما عرفتك آمنت بك وبالناس وبالألفاظ ودلالتها على معانيها.

ثم كنت غريبًا بين أهلي وولدي، فإذا أنا بك حاضر في غربتي، مؤتنس في وحشتي؛ لأنك في قلبي، وقلبي معي، ما أظن أنه يفارقني ولا بالموت.

لم أصادقك إلا بعد أن عرفتك كما عرفت نفسي؛ فمن عابك سقط من عيني، ومن انتقصك فإنما ينتقص نفسه؛ فأذني صماء إلا عن مديحك، وقلبي لا يتفتح إلا عند الثناء عليك، وصداقتنا كآنية الذهب ليس يمكن كسرها.

تصادق الناس للمنفعة، فلما زالت المنفعة زالت الصداقة، وتصادق الناس لعواطفهم، فكانت الصداقة تشب وتخمد، وتتعرض للهجر والعتاب، والقطيعة والوصال؛ ولكنا تصادقنا بعد أن رفعنا المنفعة فيما بيننا، وتصادقنا بقلبنا وعقلنا، فسمونا عن التقلب وعن العتاب، ولم أشعر بحاجتي في صداقتك إلى تكلف أو مراء أو تقاليد ومواضعات، فكلها إقرار بالضعف، ومحاذرة من الانفصام، وطعن في الوحدة.

قد كنت أنزل قبلك في مسبعة ضَرِيَتْ وحوشها واحتدت أنيابها، فاليوم نزلت بك في جنة نعيم، آمنتني صداقتك من خوف، وطمأنتني من روع، وفتحت لي أبوابًا من اللذة والسعادة يعجز عنها اللفظ، ولا يحدها وصف، حسبي أن أذكرك فأشعر بشفاء للصدر، وبرد من حرقة، وطرد للهم، وأنس من وحشة، ومبعث للرجاء، وتفتح للأمل.

لقد كرهت الرق في كل شيء، كرهت رق الحيوان وحبسه، وكرهت رق الإنسان للإنسان، والرجل للمرأة، والمرأة للرجل؛ وكرهت رق الأمم للأمم، وكرهت استرقاق أصحاب رءوس الأموال للعمال، والملاك للمزارعين، واستعباد المال للإنسان، واستعباد الشهوات للناس؛ فلما وصلت إلى صداقتك رضيت برقي لك عن رضا واختيار؛ لأن في رقي لك رقك لي، وما أجزله من مغنم.

كم شهدت قبلك صداقات، وفي كل صداقة كنت أشعر بلذة ممزوجة بألم، وأمن مشوب بخوف؛ كنت أخاف تحولي أو تحول الصديق، وأخاف أن تتدخل المادة في الصداقة فتفسدها، وأخاف من الصديق يرى منفعته في العداوة فيفتح صدره لها، أو تحمله الغيرة على بيع الصداقة فيبيعها؛ ويزداد شعوري بالخوف والألم كلما رأيت صداقات ما كان يمكن أن تنهار فتنهار، وإخاء كنت أظنه يدوم فلا يدوم؛ ثم صادقتك فلم أشعر بهذا الألم وهذا الخوف، بل شعرت بلذة خالصة وأمن صافٍ؛ لأني وجدت فيك نفسي، فإن لم أشك في نفسي لم أشك فيك، وإن وثقت بقلبي وعقلي وثقت بقلبك وعقلك، ويوم يعرض لصداقتنا عارض بسيط أقضي عليه في لمحة بقلبي أو عقلي، أو تقضي عليه سريعًا بقلبك أو عقلك؛ ثم كيف يعرض العارض ولم نتصادق لمنفعة، ولم نتحاب لشهوة؟ وإنما كنا روحين تعارفا فتآلفا فتوحدا، وصدق أرسطو؛ إذ سئل عن الصديق فقال: «هو أنتَ إلا أنه بالشخص غيرُك».

لم أُصادقك للأخذ والعطاء، فذاك الكرم لا الصداقة، ولم أُصادقك لجلب خير أو دفع ضر، فتلك النجدة لا الألفة، إنما صادقتك لتسكن نفسي إلى نفسك وتأنس نفسي بنفسك؛ فتلك هي الصداقة لا أي شيء آخر، بل لم أصادقك لتسكن إليك نفسي، وإنما سكنت نفسي لصداقتك، وما دامت نفسك نفسك ونفسي نفسي فقد تمت كل عناصر الصداقة بيني وبينك، مهما اختلفت الأعراض والأغراض. لقد أعجبني ما قرأت مرة من أن رجلًا سُئل: من تحب أن يكون صديقك؟ قال: من يُطعمني إذا جُعت، ويكسوني إذا عَرِيت، ويحملني إذا كللت، ويغفر لي إذا زللت. فقيل له: يرحمك الله؛ إنما تمنَّيتَ وكيلًا لا صديقًا! أذكرك فتحل روحك في روحي، وتدب الحياة في نفسي، فأُروَى من ظمأ، وأهتدي من ضلال، وأجد بك ما لا أجد في الغنى بعد الفقر، والعافية بعد المرض، والأمل بعد اليأس.

لقد أعجبني منك أنك لا تُشِيد بذكر الصداقة، فاسمح لي أن أُشيد بذكرها، وأعجبني منك أن من رآنا لا يشعر بما بيننا، وأعجبني منك أنك على عكس الناس يُقبلون مع النعمة ويدبرون مع النقمة؛ وأعجبني منك أنك لم تجعل الصداقة في ميزان تزنها كل يوم بما يزيدها أو ينقصها، ولكنك وزنتها مرة واحدة بميزان الذهب، فلما اطمأننت لميزانك وثقت كل الثقة، فلم تعرضها للوزن مرة أخرى؛ وأعجبني منك أن عينك لا لسانك دليل ما في قلبك؛ وأعجبني منك أنك ترى الواجب عليك ولا ترى الحق لك، وأنك تعتقد أنك غابن دائمًا ولا تعتقد أنك مغبون يومًا، وأعجب ما أرى فيك أنك تنطق بما أتمنى أن أنطق به، وتُريد ما اعتزمت أن أُريده، ويجول في نفسك ما يجول في نفسي، حتى ليُخيل إليَّ أنك تحلم بما أحلم.

ومن أطرف ما فيك كرهك الدعاية لنفسك ولغيرك، فلم يعرف فضلك في خلقك وعلمك إلا خاصتك، تعمل كثيرًا ولا تتكلم عما تعمل أبدًا، وتقدر الدعاية تقديرًا عكسيًّا، فكلما دُعِيَ لشخص أو دعا لنفسه حسبت ذلك في ميزانه «بالناقص»؛ وكثيرًا ما سمعتك تتمثل بقول الله تعالى: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ، وقلت لي مرة: «إن أرفع المتجادلين صوتًا أضعفهم حجة، وأشد الناس تبجحًا بالشجاعة أشدهم خوفًا، وأكثر المدرسين تهديدًا لطلبته أقلهم كفاية، وأقل الناس شعورًا بكفايته ونزاهته أكثرهم دعاية؛ كل أولئك ليكملوا «مركب النقص» في نفوسهم، ويستروا ضعف باطنهم بقوة ظاهرهم».

أخي بل صديقي:

من أجل هذا ترددت كثيرًا في أن أبعث إليك كتابي هذا؛ لأن أكره ما تكره المديح، ولكني أصدقك أني كتبته لنفسي لا لك، فقد كانت كتابته فرحة العيد عندي، وشعرت بعد كتابته بفرح الحريص لعقد شراء ضيعة كبيرة لم يكن سُجل؛ فإن آلمك مديحي فلتسعدك غبطتي.

حفظك الله لي، فأنت غذاء روحي، وسراج حياتي، وأعاد عليك العيد باليمن والسعادة.

(حاشية) هل تسمح لي أن أنشر هذا الكتاب بعد حفظ اسمك؟
١  صار هذا مثلًا معناه هذه هي الصداقة لا صداقة المنادمة على الشراب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤