الفصل السابع عشر

رد الصديق

أرسل إليَّ صديقي … ردًّا على «تحية العيد» فقال:

صديقي:

سرني خطابك، وكان فرحة العيد عندي كما كان فرحة العيد عندك، لم أُسر لمدحي، فأنا أعلم من عيوب نفسي ما لم تعلم؛ ولكنها الصداقة ترى كل شيء من الصديق حسنًا، إنما سرني أن كتابك يشع منه الحب، وأنت تعلم أني لا أُقدر شيئًا في الوجود تقديري للحب.

لشد ما يخطئ الناس فيقصرون الحب على حب الجنس، ويفوتهم أن وراء هذا أنواعًا من الحب يخطئها العد.

هناك حب العامل عمله وفناؤه فيه، وهو سر نجاحه، وفقدانه سر فشله.

وهناك حب العالِم علمه، وقد رأيت ورأيت علماء لا يلذهم شيء في الحياة إلا بحثهم وكتبهم، يفضلون ذلك على كل متعة من متع الحياة من ملك ومال وجاه، ويوم يظفر بنتيجة لبحثه فذلك يعدل عنده الدنيا وما فيها؛ وقد قرأت وقرأت أمثلة لذلك عديدة من علماء الشرق والغرب.

وهناك حب الفضيلة وكره الرذيلة، وكلما ازداد هذا عند إنسان كان أقرب إلى الخير وأبعد عن الشر.

وهناك حب المواطن لوطنه وأمته، فيبذل في ذلك ماله وحياته.

وهناك حب الصوفية لله فيفنون فيه، ويشع حبهم له على كل شيء من خلقه حتى يروا الله في الخلق والخلق في الله.

كل شيء في الحياة بارد ما لم يحرَّه الحب، وكل شيء مظلم ما لم يضئه الحب، وكل شيء تافه لا لذة فيه ما لم يشع فيه الحب؛ وصدق من قال: «الحياة الحب، والحب الحياة».

ومقياس حياة الإنسان مقدار حبه، فيوم ينتهي حبه تنتهي حياته.

وما الفرق بين الإنسان والآلة إلا الحب.

كل الناس يحب، ولكن هناك حب أرستقراطي وحب شعبي؛ الأرستقراطية تسمو بالحب، فلا تُحب إلا الرفيع من المعاني والسامي من المُثُل؛ إنها بطبعها تستصفي ما حولها وما يحدث لها وما تلد من أفكارها وما تعتنق من مبادئها فتتعشقه، ثم تحب من يشاكلها في حبها؛ وليست أرستقراطية الحب مَولدًا ولا مالًا ولا جاهًا؛ ولكنها نزعة يهبها الله لمن يشاء من خلقه، تضيء فتتلقى الوحي من الطبيعة فتحبها، وتخاطبها الطهارة فتجيها، وتنظر إلى كل شيء ولو كان وضيعًا، فتولِّد منه معاني سامية نبيلة تأنس بها، وتقرأ الحقيقة في كل شيء فتجلها.

إن أردت السمو بأحد فخذ بيده ليصل إلى الحب الأرستقراطي، وإن أردت الرقي بأمة فبث هذا الحب فيما بينها وأكثرْ منه ما استطعت، وهيئ له من الأسباب ما قدرت، حتى يشمه السائح في جوها، كما يرى خصائص الأمة في مناظرها.

أخشى أن أكون قد قاربت الصوفية في نزعتها وشطحها فمعذرة، وكل ما أُريد أن أقول: إني أحببت كتابك لحبك في كتابك.

•••

أراني هذه الأيام محبًّا للعزلة، بعد أن كنت — كما تعلم — محبًّا للاجتماع، ولا أدري السبب، فأنا غارق — في ريفي — في زرقة السماء وخضرة النبات، شاعر بسعادتي في مغازلة الطبيعة وإلاهها، وعداني بستاني فشعرت أن نفسي زهرة من زهرات الله، إنما تتفتح وتنفح إذا أطلقت لها الحرية التامة لتنال حظها من الشمس والهواء؛ وعداني الأفق اللا محدود فأحببت حبًّا غير محدود، رأيتني أكره الحزب وأحب الأمة، وأكره الوطنية وأحب الإنسانية، وأحب خلق الله لله؛ وعجبت لنفسي وهي في حدود الحضر كيف كانت تجسم الظل ثم تشقى به، وتخلق الهم من العدم وتألم له، فإن شئت السلامة فتحرر من الحدود والقيود؛ ورأيت سبب همي في الحضر التهاب الشعور وطغيان الحياة الشعورية، فأطيل التفكير في نفسي وفيما حولي؛ أما هنا – في الريف – فأنا أسعد حالًا، لتبخر كمية كبيرة من شعوري وحلول الحياة اللا شعورية محلها، ولعل ذلك من عدوى ما حولي من بذور ونبات وحيوان وطبيعة، فكأن طفلًا يسكن في مرحه وأمله وانسجامه مع جوه، وغروره بقدرته ولا شعوره، ولهذا لا صبر لي على قراءة إلا قراءة الطبيعة، ولا كلام في السياسة إلا سياسة الكون في سره، فإن كان ولا بد فشِعر يُمازج شعوري، أو آية من القرآن تُغذي قلبي؛ ولست أقرأ كما يقرأ الناس، ولكن أكتفي ببيتين أو ثلاثة، وآية أو آيتين فيمتلئ جوي بها، وتتفتح نفسي لها، فلا أزال أرددها الفينة بعد الفينة طول اليوم، وفي كل مرة أشعر لها بطعم جديد ومعنى جديد، وبالأمس كانت آية: {اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ملء نفسي وقلبي وترداد لساني؛ واليوم كانت آية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} محياي وغذائي، وأحيانًا — ولا أدري — تدمع عيني من قراءة الآية أو الشعر فأذكر قول ذي الرمة:

لعل انحدار الدمع يعقب راحة
من الوجد أو يشفي شجي البلابل

وأخشى أن تُعد هذا مني مظهر ضعف أو آية ألم، ولكني أصدقك أني أقوى بها ما لم أقو بغيرها، وأن الدمعة تغسل عيني فأنظر بها ما لم ينظر الناس، وأشعر أني حي بين موتى، وصاحٍ بين سكارى.

لقد أحسست بعدها أن المدينة بحدودها وقيودها وضغطها كونت عقلي تكوينًا فاسدًا، وشغلتني بحساب درهم يأتي ودرهم يُصرف، ونظرية تقرر ونظرية تهدم، وحكومة تتولَّى وحكومة تولِّي، ونظام يوضع ونظام يُلغى؛ حتى لقد هزلت نفسي من هذه السفاسف، ومات قلبي من هذه القيود؛ فالآن أُريد أن أميت نفسي المقيدة وأخلق نفسي الحرة، وأحطم أبواب سجني وأطير إلى السماء، وأكنس أفكاري القديمة وأتحرر من موضوعاتها، وأضع أسسًا جديدة للتفكير فيما يحقق نفسي، وأكسر أصنام الناس لأعبد ما ليس بصنم ولا وثن.

لقد كنت بغير جناح إذا لم يكن جو، فلما كان الجو كان الجناح.

ولا تحسبني بذلك أُريد أن أحيا حياة شعرية لا عمل وراءها، أو أن أعيش في حلم خاليٍ لذيذ؛ بل أراني على العكس من ذلك، أُريد أن أعمل وفق حبي، لقد أحببت الفكرة لا الشخص، وأحببت المعنى لا المبنى، فشعرت أن كل أرض بلدي، وكل إنسان أخي، وكل باطل عدوي، وكل حق صديقي، وآمنت أن نفسي ليست لي، إنما هي قوة في العالم لها رسالة، ورسالتها إزهاق الباطل، ونصرة الحق، ومحاربة البؤس، والأخذ بيد المظلوم، وكسر الحدود التي تمنع أن يصل ذو الحق إلى حقه؛ فحبي الشائع دفعني إلى العمل الشائع، تجردي من الشخصية حملني على أن أؤيد المعنى أو أن أحارب المعنى، وشعرت بالكل فوهبت حياتي للكل؛ وإذ ذاك أحسست أن قلبي كمجرى الماء الغزير لا يقوى أمامه العود ولا يعوقه القذى، وأحسست أني لا أُقوِّم الأشخاص بعلمهم أو مالهم، ولكني أُقوِّمهم بروحهم، فالمثل الأعلى عندي ليس أرسطو ولا قارون ولكنه النبي؛ وأحسست أني أرى في المعاني كالعدل والرحمة والصدق جمالًا يجذبني أكثر من جمال الصورة والزهرة، وللظلم والقسوة والرياء قبحًا ينفرني أكثر من القردة والمرأة الشوهاء.

قد كنت — وأنا في المدينة — مغيظًا من مفاسد الأمة، محنقًا من جنون العالم؛ واليوم — وأنا في الريف — قد تحول غيظي رحمة، وحنقي شفقة، فأشفق على الأمة لمصائبها، وعلى الإنسانية لرزاياها؛ وأكثر ما يحملني على الرحمة لها أنها في شقاء وتظنها في سعادة، وفي محنة وتحسبها في نعمة، ورحمتي لم تسلبني رغبتي في العمل كما لم يسلبني الغيظ، ولكن عملي مع الرحمة إنقاذ، ومع الغيظ تأديب.

ما أظلم علماء التربية، يهتمون بتربية العقل والجسم والخلق، ولا يعيرون التفاتًا للروح، كأن الإنسان آلة صماء، والخُلُق الذي يهتمون به هو الخُلُق التجاري من صدق ونظام واقتصاد، وتربية الروح وراء ذلك؛ فالروح هي الوزن في الشعر، والتناغم في الغناء، والانسجام بين آلات الموسيقى، والعلاقة بين أصابع الفنان وأزرار البيان؛ وشقاء الإنسان في شخصه وفي أمته وفي عالمه من ضعف روحه، واختلال التوازن بين روحه ومادته، وعدم الانسجام بين أجزاء العالم، وعدم وحدتها، وليس يوحدها إلا توحد روحها.

إن ضعف الروح جعل من يحب نفسه يكره غيره، ومن يحب أمته يحارب غيرها، ومن يحب جنسه يحتقر غير جنسه، ولو قويت الروح لعممت حبها ولأحبت المبدأ والمثل، فكان ثم وفاق لا خلاف، وسلم لا حرب.

•••

بعد غدٍ عيد ميلادي الحادي والخمسون، وهو أول عيد أقضيه في الريف، ولكني أُريد أن أعده عيدي الأول، فقد تشابهت نفسي في الأعوام الماضية، فليست متكررة إلا في حساب العدد، أما نفسي الجديدة فلم تتكرر بعدُ، شتان بين نفس مقيدة ونفسٍ طليق، بين نفس مستعبدة ونفس مستقلة، بين نفس مقلدة ونفس مجتهدة، ليُخيل إليَّ بعد الرياضة النفسية التي أرتضيها أن لا صلة بين نفسي القديمة ونفسي الجديدة؛ ولذلك سأصر على أن أعد عيدي الآتي هو العيد الأول.

قد كنت في الأعياد الماضية أستقبل الناس، وفي هذا العيد سأستقبل نفسي؛ وقد كنت أضاحك إخواني وأسامر صحبي وأتقبل هداياهم وتهانيهم، وفي هذا العيد سأتناغم مع الأزهار، وسأفتح نفسي ليمتزج بدمي ضوء الشمس، وأحتفل بافتتاح عقلي لتلقي الحقيقة مجردة من خيالات الناس وأوهامهم، وسأشرب نخب الطبيعة وجمالها والحرية ومتعتها، وسأغني للشمس وطلوعها، والشمس وغروبها، والنجوم ولمعانها، والمياه وصفائها، والفراشة وطيرانها، والزهرة وتفتحها، والثمرة ونضجها، حتى أملأ الجو مرحًا وغناء، وسأدعو آخر الأمر للإنسانية أن يفك الله أغلالها، ويجنبها شقاءها، ويبعث الحب في قلوبها فيكون هذا أول عيدٍ لي من نوعه.

أخي بل صديقي:

لعلك تعجب أني لم أرد على كلامك في الصداقة برأيي في الصداقة؛ ولكني أعتذر لك، فرأي غير رأيك.

رأيي أن الكلام المباشر في الصداقة لا يقويها، إنما يقويها العمل على مناهجها الحقة من غير حديث فيها.

ورأيي أن خير لذة يستمتع بها الإنسان من شيء أن يتناسى لذته منه ويفنى فيه؛ ألا ترى الشطرنج لو ذكرت دائمًا أنك تلعبه، وأنك تلذ لعبه لضاعت لذته، وإنما تصل من لذته إلى الغاية إذا أنت نسيت الشطرنج، ونسيت نفسك ونسيت لعبك، وفنيت فيه! وكذلك الأمر في الكتاب تقرؤه، والموضوع تبحثه، والسينما تشهده، والتمثيل تراه.

وعلى هذا القياس أنا أفنى في صداقتي ولا أذكرها، وأرتشفها ولا أتحدث عنها، ولهذا كتبت لك حول الصداقة، لا في الصداقة.

ومع هذا أشكرك على خطابك، فربما دعا إليه داع لم أتبينه، وهو — في رأيي — خطأ خير من صواب، والسلام.

(حاشية) أحلك من نشر كتابك ونشر كتابي إن شئت، مع حفظ اسمي كما وعدت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤