الفصل التاسع عشر

فارس كنانة (٢)

هذا أسامة صبيًّا، قد وُضِعَ لتربيته منهجان: منهج للفروسية، ومنهج للعلم والدين.

فأما منهج الفروسية فيتلخص في تعليمه صيد الوحوش ليتعلم منه صيد الأعداء، وكان الصيد ملهى الأسر الأرستقراطية في ذلك العصر، في مصر والشام والعراق، وكان لأسرة أسامة احتفال عظيم له، وعناية كبرى به، وإنفاق للأموال الكثيرة في سبيله، وكان أبوه «مرشد بن علي» وعمه «سلطان» من أشد الناس ولعًا بالصيد، وغرامًا به، وتفننا فيه.

وكان في ضواحي شيزر متصيدان: أحدهما في الجبل جنوبي الحصن يصيدون فيه الحجل والأرانب، والثاني أجمة في الغرب على النهر يصيدون فيها طير الماء والدراج والأرانب والغزلان، ودعاهم ذلك إلى اقتناء حيوانات الصيد وجوارحه من كلاب وبزاة وصقور وفهود، رتبت لها أماكنها وخدمها الذين يعنون بها، ويقومون بتغذيتها وتدريبها وإصلاحها، فكان أبوه يبعث — حتى إلى القسطنطينية — من يشتري له منها بزاة، وإذا سمع شهرة عن جارحة من الجوارح، جدَّ في الحصول عليها أو على نسلها.

كان يخرج صباحًا إلى الصيد من حين إلى حين مع أولاده الأربعة، ومنهم «أسامة»، ومعهم مماليكهم وسلاحهم، ومعهم أربعون فارسًا من أخبر الناس بالصيد، فإذا وصلوا إلى المتصيد أمرهم والد أسامة بالتفرق كل مع جوارحه وحيوانه وغلمانه، ثم يرسلون الطيور أو الكلاب، ولا يزالون يومهم في جري وقفز وصيد يرتبون أمورهم كترتيب الحرب، ثم يعودون في المساء بصيدهم، وكان لذلك الصيد أثر حميد في أسامة، فقد عَرَّفَه طبائع الحيوان والطيور، وأكسبه علمًا واسعًا بحيلها وقتالها وشجاعتها وجبنها وطرق معايشها.

حتى إذا مرن «أسامة» نازل الأسود والضباع، وكان بالشام؛ إذ ذاك أجمات كثيرة ترتع فيها الأسود، فكان هو وصحبه إذا سمعوا بأجمة منها طاروا إليها، ويقول في حديثه: إن رجلًا جاءه يخبره عن أجمة في تل فيها ثلاث سباع، فخرج إليها هو وأخوه بهاء الدولة وقوم من صحبه، فوجدوا لبؤة خلفها أسدان، فخرجت اللبؤة، فحمل عليها أخوه فطعنها طعنة قتلها، وتكسر رمحه فيها، ثم خرج أحد الأسدين، فتكاثروا عليه بالرماح حتى قُتِلَ، ثم خرج الثاني، وكان أشد وأقسى، وأعظم خلقة، فحملوا عليه، وكلما أصابته طعنة هدر ولوح بذنبه حتى مات.

لقد عرف طبائع الأسود من كثرة منازلتها قال: «فوجدت منها الجبان ومنها الشجاع، وعرفت أنه إذا خرج من موضع فلا بد له من الرجوع إليه، ولقد رأيت رأس الأسد يحمل إلى بعض دورنا، فنرى السنانير تهرب من تلك الدار، وترمي نفسها من السطح، وكنا نسلخ الأسد ونرميه من الحصن فلا يقربه الكلاب ولا شيء من الطير، وما أشبه هيبة الأسد على الحيوان بهيبة العُقَاب على الطير! فإن العقاب يبصره الفروج الذي ما رأى العقاب قط فيصيح وينهزم، هيبة ألقاها الله في قلوب الحيوان لهذين الحيوانين.» ثم يقول: «وقد قاتلت السباع في عدة مواقف لا أُحصيها، وقتلت عدة منها ما شاركني في قتلها أحد سوى ما شاركني فيه غيري، حتى خبرت منها وعرفت من قتالها ما لم يعرفه غيري؛ فمن ذلك أن الأسد مثل سواه من البهائم يخاف ابن آدم ويهرب منه وفيه غفلة وبله، ما لم يُجْرح فحينئذ هو الأسد وإذ ذاك يُخاف منه.».

ثم خرج من هذا الصيد وقد جُرح مرارًا وكُسرت أضلاعه مرارًا، ولكنه خرج أيضًا فارسًا عظيمًا، وشجاعًا نبيلًا.

وكما تعلم أسامة القتال في الصيد تعلمه في الإنسان، كانت غلطةً منه ولكن داعيها شريف نبيل، هذا أسامة الصبي واقفًا على باب داره، فرأى غلامًا لوالده يلطم صبيًّا من خدم الدار، فجرى الصبي وتعلق بثياب أسامة يحتمي به، وكان يكفي ذلك أن يكف الغلام احترامًا للجوار على عادة العرب، ولكن الغلام الكبير ما أبه لهذه التقاليد، ولا احترم قوانين النجدة، فضرب الصبي وهو محتمٍ بثياب أسامة، فأخرج أسامة من وسطه سكينًا ضربه بها ضربة كانت القاضية.

•••

وأما المنهج العلمي فوالده يُحفظه القرآن، ويأمره بتلاوته حتى في الطريق وهم خارجون للصيد، وعلماء كبار يُعلمونه الحديث والنحو والأدب، فأبو الحسن السَّنْبَسي يُعلمه الحديث، وابن المنيرة يعلمه الأدب، وأبو عبد الله الطليطلي يُعلمه النحو؛ فحفظ القرآن وسمع الحديث، وتعلم النحو، وحفظ آلاف الأبيات من الشعر الجاهلي، وأخذ هو يكمل نفسه بما يقرأ من كتب وبما يسمع من العلماء والشعراء رواد مجلس أسرته.

فكان فارسًا أديبًا وجنديًّا عالمًا، واستطاع أن ينتفع بخير المنهجين، كان منهج الفروسية قاسيًا رققه العلم والأدب والشعر والدين، وكان بعض شيوخه العلماء فيهم جبن وخوف، فأخذ علمهم وترك جبنهم، هذا أستاذه ابن المنيرة يطلب منه أن يتقلد رمحًا وترسًا ويقف في موضع من طريق الإفرنج حتى يروه فلا يجتازوه، فيأبى ويقول: والله لو وقفت لاجتازوه كلهم، فيقال له: إنهم يهابونك؛ لأنهم لا يعرفونك، يقول: أنا أعرف نفسي، ثم يُقرر مبدأ خطيرًا؛ إذ يقول: «ما يقاتل عاقل.» فيغضب أسامة من سماعه هذا المبدأ الجبان ويقول: «إنه كان بالعلم أخبر منه بالحرب، فإن العقل هو الذي يحمل على الإقدام على السيوف والرماح أنفة من موقف الجبان.».

ولابن المنيرة فصول أخرى من الجبن قصها أسامة وسخر منها، فكان ينتفع بعلمه ويهزأ بجبنه.

ولعل برنامج العلماء من هذا التاريخ كان ينقصه أن يُطعَّم بشيء من الفروسية.

•••

اليوم يوم الجمعة خامس جمادى الأولى سنة ٥١٣هـ، كان أسامة في الخامسة والعشرين من عمره، واليوم كان أول قتال قاتله، خرج فيه مع عمه ورجال من قومه، فخرج عليهم جماعة كبيرة من الصليبيين، وكان قتال تشيب منه الأطفال، وأخذ الموت يحصد رجال أسامة، وقد هان عليه الموت، فهو يُقاتل وتحته فرس مثل الطير، يطعن هذا فيأتي عليه، ويدور على آخر فيطعنه من ورائه طعنة تنفذ من قدامه، ويحمى ما استطاع من أصحابه، فاذا أعيت فرسه ركب أخرى أعدها مملوكه، حتى انتهت الموقعة ورجع أسامة إلى شيزر مع من بقي سالمًا.

وفي سكون الليل بعث عم أسامة إليه يطلبه، فإذا عنده فارس من الصليبيين، فقال له عمه: «هذا فارس أعجبه اليوم قتالك فجاء يهنئك بموقفك، ويُبدي إعجابه من طعناتك وشجاعتك.» وهذه عادة الفرسان، يعجب البطل بفعال البطولة ولو صدرت من خصومه، وكان هذا هو الوسام الأول لحياته الحريبة الطويلة، ومن ذلك اليوم شعر بثقته بنفسه واعتماده على ربه وأنشأ يقول:

سل بي كماة الوغى في كل معتركٍ
يضيق بالنفس فيه صدر ذي الباس
ينبئوك بأني في مضايقها
ثبت إذا الخوف شق الشاهق الراسي
أخوضها كشهاب القذف يصحبني
عضب كضوء سرى أو ضوء مقباس
إذا ضربت به قرنا أنازله
أَوْجَاه١ عن عائدٍ يغشاه أو آس

وهكذا كانت حياته بعدُ، كل يوم غارة منه يغيرها، وغارة عل قومه يَرُدُّها، ويخرج يومًا يُقاتل العرب ويومًا يُنازل الفرنج، ويومًا يُقاتل فيقتل، ويومًا ينهزم ويُجرح، هذا يوم يخرج هو وصديقه «جمعة النميري» يهزمان ثمانية من فرسان الصليبيين، وهذا يوم يخرجان أيضًا فيهزمهما — على حد تعبيره — رُوَيْجل صغير الجسم معه قوسه ونشابة، فيعجبان كيف هزما ثمانية وهزمهما رُوَيْجل! حياة كلها مغامرات وكلها فروسية، ثم يترجم ما يجيش في صدره ويدور بخاطره إلى شعر قوي جميل:

سأنفق مالي في اكتساب مكارمٍ
أعيش بها بعد الممات مخلدا
وأسعى إلى الهيجاء، لا أرهب الردى
ولا أتخشى عاملا ومهندا
فإن نلت ما أرجو فللمجد ثم لي
وإن مت خلفت الثناء المؤبدا

•••

تجهل في الإقدام رأيي معاشر
أراهم إذا فروا من الموت أجهلا
أيرجو الفتى عند انقضاء حياته
— وإن فر — عن وِرْدِ النية مزحلا
إذا أنا هبت الموت في حومة الوغى
فلا وجدت نفسي من الموت موئلا
وإني إذا نازلت كبش كتيبةٍ
فلست أُبالي أيُّنا مات أولا

•••

لأرمين بنفسي كل مهلكةٍ
مخوفةٍ يتحاماها ذوو الباس
حتى أصادف حتفي فهو أجمل بي
من الخمول وأستغنى عن الناس

هذا أسامة عمره ثلاثون … أربعون … أربع وأربعون، ومعيشته في حصن «شيزر» على نمط واحد: غزو وقتال وصيد، وتحمل أعباء يتخللها لمحات من الراحة.

لقد أجاد في حياته حرب الخصوم، وشهد في شبابه أيضًا حرب العواطف، فأحب وتيَّمه الحب، ونعم بالوصال، وألم للفراق، وغنى بشعره لحبه، كما غنى به لحربه:

شكا ألم الفراق الناس قبلي
ورُوِّع بالنوَى حي وميت
وأما مثل ما ضمت ضلوعي
فإني ما سمعت ولا رأيت

•••

أحبابنا! كيف اللقاء ودونكم
خوض المهامه والفيافي الفِيحُ
أبكيتم عيني دمًا لفراقكم
فكأنما إنسانها مجروح
وكأن قلبي حين يخطر ذكركم
لهب الضرام تعاورته الريح

فلما بلغ الأربعين وعلا رأسه المشيب صبا عن الحب وفرغ للمجد وقال:

قالوا نهته الأربعون عن الصبا
وأخو المشيب يحور ثمت يهتدي
كم حار في ليل الشباب فدله
صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سني ثم نقصتها
زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
١  أَوْجَاه: دفعه ونحاه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤