الفصل الثاني والعشرون

ألعصا أم القضا؟

رأيت وأنا أدرس حياة «أسامة بن منقذ»، أن الأستاذ «فيليب حتى» لما نشر كتاب «الاعتبار» عدد كتبه وقال: إن منها كتابًا اسمه «العصا»، وإن الأستاذ أحمد شاكر عند نشره كتاب «لباب الآداب» عدد أيضًا كتب أسامة، وقال: إن منها كتاب «القضا»، وقال: إن الأستاذ فيليب حتى سماه كتاب «العصا» خطأ، وصوابه «القضا».

وحرت إذ ذاك بين الرأيين، هل اسم الكتاب «العصا» أو «القضا»؟ ورجحت أن يكون «العصا»؛ لأنها أنسب لحياة الفارس، وهو بعيد عن حياة القضاء، فبعيد أن يُؤلف فيه؟ وقلت: لعل الأستاذ شاكرًا؛ إذ كان قاضيًا وله اتصال وثيق بالقضاء وتعود نظره قراءة كلمة القضاء أكثر من تعوده العصا رجح الرأي الأخير، وخطأ الأول، أو لعل له حجة لم يدل بها.

ومرت الأيام، ومررت على وراقي في الأسبوع الماضي أبحث فيما عنده من الكتب، وشريت منه ما شريت، وكان عنده كمية من الورق (الدشت) — ولا أدري ماذا يُسمى ذلك في اللغة الفصحى — فطلبتها، فأعطانيها.

واليوم أخذت أقلب فيها فوجدت أوراقًا شتى من كتب لم أدر ما هي، ورسائل صغيرة بعضها قيم جدًّا، لعلي أُحدث القراء حديثًا آخر عنها، ورأيت كراسة صغيرة كُتب عليها «كتاب العصا لأسامة بن منقذ»؛ ومع الأسف استطعمها الفيران فأكلت أطراف بعض ورقها؛ وهي تقع في ثلاثين صفحة، لعل من الطريف أن أصفها للقراء.

لقد وضع الجاحظ في كتابه «البيان والتبين» بابًا طويلًا سماه «كتاب العصا»، وهو يدور على الشعوبية الذين عابوا على العرب اعتمادهم في خطاباتهم على القناة والعصا، وقالوا: «ليس بين الكلام والعصا سبب، ولا بينه وبين القوس نسب، وهما إلى أن يشغلا العقل ويصرفا الخواطر ويعترضا الذهن أشبه … وحمل العصا بأخلاق الأكرة والرعاة أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهية أهل البدو أشكل.» … إلخ، فرد عليهم الجاحظ في كلام كثير واستطراد طويل قولهم، مبينًا مزايا العصا ومحاسنها، ومستشهدًا بعصا موسى، وعصا سليمان، موضحًا مزاياها، وفيم تُستخدم، ومم تُؤخذ خيارها؛ وأن العصا للخطيب تأهب للخطبة، وتهيؤ للإطناب، فكأنهم قد وصلوا بأيديهم أيديًا أخرى، وهي أوقع في نفوس السامعين، وعون للخطيب على الإفاضة، كالرايات في الحروب والأعلام، والقلانس للقضاة، والقناع للرؤساء والعظماء، وآلات الموسيقى للمغني، وكإشارات المتكلم برأسه ويده، وتقطيعه ضروب الحركات على ضروب الألفاظ وضروب المعاني، إلى مثل هذا.

أما رسالة «العصا» لصاحبنا أسامة، فقد بدأها بسبب تسميتها عصا، قال: إنما سُميت العصا عصا لصلابتها، مأخوذ من قولهم: عَصَّ الشيء صَلُبَ، وعَصِي الشيء وعَسِي إذا صلب؛ والعصا: الجماعة، يقال: شق فلان عصا المسلمين؛ أي جماعتهم؛ وفي الحديث: «إياك وقتل العصا»، يُريد المفارق للجماعة فيُقتل … إلخ.

وأول من خطب على العصا وعلى الراحلة قس بن ساعدة الأيادي.

والعرب تقول: فلان ممن قُرِعَت له العصا، إذا كان يرجع إلى الصواب، وينقاد إلى الحق، ويستقيم عن زيغه إذا نُبِّهَ.

وتقول: فلان صلب العصا، إذا كان ذا نجدة وحزامة.

وتقول إذا تفرقت الخلطاء، واختلفت آراء العشيرة ومرج الأمر: انشقت العصا.

وتقول للمسافر إذا آب واستقرت به داره: ألقى عصا التَّسيار.

ثم أخذ يروي مختارات من الشعر والنثر، مما جاء فيها العصا؛ فالحجاج قال: والله لأعصبنكم عصب السلمة، ولاُلْحوَنَّكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل.

والمتلمس يقول:

لذي الحلم قبل اليوم ما تُقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما

وقيس بن ذَريح يقول:

إلى الله أشكو نية شقت العصا
هي اليوم شتى وهي أمس جميع
مضى زمن والناس يستشفعون بي
فهل لي إلى لُبْنَى الغداة شفيع

والعرب تقول: فلان شق العصا إذا كان لا يدخل تحت حكم ولا طاعة.

ومهيار يقول:

يا، قصرت يد الزمان شد ما
تطول في ثلمي وفي نقض المِرَر
عصًا شظايا ومشيبٌ عنت
ومنزلٌ نابٍ وأصحابٌ غدر
وصاحب كالداء إن أبديته
عور وهو قاتل إذا أُسِر

ثم يذكر فصلًا في أحداث حدثت تدور حول العصا، كالذي روي أن قتيبة بن مسلم (الفاتح العظيم) لما تسنم منبر خراسان سقط القضيب من يده، فتطير الصديق، وتفاءل العدو، فقال قتيبة: ليس الأمر كما سر العدو وساء الصديق، بل كما قال الشاعر:

فألقت عصاها واستقر بها النوى
كما قر عينًا بالإياب المسافر

وقص قصصًا نجته فيها العصا من الموت، وهو في قلعة شيزر، إلى نحو ذلك، ولعل أظرف فصل في الرسالة هو الفصل الأخير، وهو أطولها وموضوعه «عصا الكبر» وقد ظهرت على المؤلف عاطفة الحزن والأسف على ما اعتراه في كبر سنه من ضعف بعد قوة، وحمل العصا بعد حمل السيف، وقد ألَّف هذه الرسالة وهو كبير السن، فأكثر من إيراد الشعر في هذا المعنى إنشاء وإنشادًا؛ فمن ذلك ما رواه قال: أنشدني العميد أبو الحسن بالموصل سنة ٥٢٦:

ما زلت أركب شاكلات الربرب
حتى مشيت على العصى كالأحدب
أأزيد ثالثة وأنقص عن مدى
مشي اثنتين؟ لقد أتيت بمعجب
والليث لو بلغت سنوه مدتي
أو قاربت، أمسى فريسة ثعلب

وأنشدني القاضي الرشيد أحمد بن الزبير بمصر سنة ٥٣٩:

تقوس — بعد طول العمر — ظهري
وداستني الليالي أيَّ دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي
كأن قوامها وترٌ لقوسي

ويقول هو نفسه:

حناني الدهر وأفـ
ـنتني الليالي والغِيَر
فصرت كالقوس ومن
عصاي للقوس وتر
أهدجُ في مشيي، وفي
خطوي فتور وقصر
كأنني مقيد
وإنما القيد الكبر
والعمر مثل الماء في
آخره يأتي الكدر

وقال:

أصبح كفي مالكًا للعصا
من بعد حمل الأسمر الذابل
أمشي بضعف وانحناء على
عصاي مشي الصائد الخاتل
كأنني لم أمش يوم الوغى
إلى نزال البطل الباسل
ولم أشق الجيش لا أختشي
من الردى كالقدر النازل
فانظر إلى ما فعل العمر بي
من طوله لم أحظ بالطائل
يا حسرتا إني غدًا ميت
على فراشي ميتة الخامل
هلَّا أتاني الموت يوم الوغى
بين القنا والأسل الناهل

وقال:

حملت ثقلي في السهل العصا
ونبت في حين حاولت الحُزُونا
وإذا رجلي خانتني فلا
لوم عندي للعصا في أن تخونا

قال: وأنشدني الأمير السيد شهاب الدين العلوي الحسيني بالموصل سنة ٥١٥ لبعض المغاربة:

ولي عصًا في طريق السير أحمدها
بها أقدم في تأخيرها قدمي
كأنها وهي في كفي أهش بها
على ثمانين عامًا لا على غنمي
كأنني قوس رامٍ وهي لي وترٌ
أرمي عليها رماء الشيب والهرم

ولعل في هذا القدر كفاية في إثبات أن الكتاب في «العصا»، لا في «القضا»؛ ولعله يدعو إلى التفكير في إصلاح الكتابة التي تخلط بين العصا والقضا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤