الفصل الرابع والعشرون

الإيمان بالله

يُحكَى أن رجلًا ما زال يمعن في الشك حتى وصل به إلى الإلحاد، فحدث يومًا صديقه بما ساوره من شكوك وما كان من نتيجتها من إلحاد.

فقال له صديقه: ما أظنك ملحدًا؛ لأني أرى فيك ملامح إيمان:

فأكد له الرجل إلحاده.

وما زال الصديق يُنكر، والرجل يُؤكد حتى استفز الملحد الغضب، فصرخ قائلًا: «والله العظيم إني ملحد».

هذه القصة تمثل ما ركز في طبيعة الإنسان من إيمان بإله، مهما انحرف العقل وطغى المنطق، ولهذا نرى كثيرًا من العلماء قد كفرت عقولهم وآمنت قلوبهم، قد تختلف صور الإله باختلاف عقلية الأمم واختلافها في البداوة والحضارة، والعلم والجهل؛ ولكنها كلها تشترك في النزوع الفطري إلى إله له القوة والسلطان، وبيده الأمر.

لقد جاءت الثورة الفرنسية فرأت ما فعله رجال الكنيسة من اضطهاد العقل، وغلول الفكر، والتدخل فيما ليس من شأنهم، وإظلام الحياة حولهم، فثار رجال الثورة عليهم وعلى دينهم، وأعلنوا أنهم يُريدون إلغاء الله، ولكن ماذا كان؟ هدأت الثورة، وخمدت النار، ورجع الناس إلى ربهم، ولم يُلغ الله؛ ولكن ألغيت تعاليم الثورة في هذا الشأن؛ لأنها ضد طبيعة الإنسان.

وحاول بعض رجال الثورة في تركيا إلغاء الدين وإلغاء عبادة الله، ثم ذهبت دعوتهم مع الريح، وذهبوا هم وبقي الدين، وبقي الناس مع الدين.

وجاءت الثورة الروسية أول أمرها داعية إلى إلغاء الله، وإلغاء الحرية، وإلغاء فكرة الخلود؛ ثم ما لبث الدين أن عاد، تغير شكله وبقي جوهره، وذهب تركبه وبقيت بساطته، وعلى كل حال فهو الدين، وهو الله.

•••

ولكن ما الذي لفت الإنسان إلى الله؟

لفته أولًا شعوره، والشعور جزء هام من تكوينه، ومصدر صحيح من مصادر معارفه، وعليه يعتمد في كثير من شئون حياته، فما الصداقة، وما الأبوة والأمومة، وما الحب والكره، وما الإحسان والإنسانية لولا الشعور، ولو انعدم الشعور لكانت حياتنا جافة لا طعم لها، بل لم تكن حياة أصلًا؛ فالشعور بالله جزء مكون لحياتنا كسائر ما نُدرك بالشعور.

ثم اهتدى إليه العقل بعد ما اهتدى إليه الشعور.

لقد كان من أهم ما استكشفه الإنسان إدراكه أن العالم وحدة، وأنه يتبع نظامًا في منتهى الدقة يُدركه الإنسان لأول وهلة في تعاقب الليل والنهار، والصيف والشتاء، وحركات الشمس والقمر، ثم كلما زاد تعمقه في دراسة الطبيعة ازداد إيمانًا بهذا النظام ودقته؛ فإذا تبين في شيء ما فوضى أدرك فيما بعد أن ذلك يعود إلى جهله بقوانينه لا حاجته إلى النظام؛ وأكثر الناس إيمانًا بالنظام في فرع من فروع العلم علماء ذلك الفرع، فالفلكيون أشد الناس إيمانًا بنظام الكواكب، وعلماء الحيوان في الحيوان، وعلماء النبات في النبات، وعلماء وظائف الأعضاء في وظائف الأعضاء، وأطباء العيون في العيون، وهكذا، كلٌّ يدرك أتم نظام وأدقه في فرعه؛ والفيلسوف يدرك ذلك في العالم كوحدة، بل يدرك أنه لولا نظام ناحية من نواحي العالم ما كان لها علم، فالعلم معناه جملة من القوانين المنظمة بجانب من جوانب الحياة، كالنبات والحيوان والفلك، حتى الجسم في مقاومته المرض يفعل الأعاجيب في نظامه، ولولا ذلك ما كان طب؛ ثم كل جزء من أجزاء العالم مرتبط بأجزائه الأخرى، يخضع هو وهي لنظام عام كعلاقة الخلية في الجسم بالجسم كله؛ فالعالم حروف هجاء ترتبط ألفه ببائه ارتباطًا قريبًا، وألفه بيائه ارتباطًا بعيدًا، وكلها تكوِّن نظامًا واحدًا، وتخضع لقوانين واحدة، حتى إن العالم الدقيق النظر لو تعمق في دراسة جزء من أجزاء العالم أعانه ذلك على فهم سائر أجزائه لشبه القوانين ووحدة النظام، وبلغ من دقة نظامه أنه لولا نظامه ما وُجد.

وبعدُ فإذا رأينا آلة تسير جزمنا أن وراءها محركًا حركها، وعقلًا دبرها؛ وإذا رأينا إنسانًا يعمل ويتحرك ويتصرف جزمنا أن فيه عقلًا يدبره ويصرفه، فإذا فارقه العقل فارقه العمل والتحرك والتصرف، فكيف يسير هذا العالم وفق هذا النظام الذي رأينا ولا يكون له عقل يصرفه وروح ينظمه.

إن الله عقل العالم وروحه، وهو للعالم كعقلنا فينا، وقد صدق الأثر: «إن الله خلق آدم على صورته».

•••

أعجب ما في العالم عقل الإنسان، ولعل أعجب ما فيه أنه استطاع أن يدرك عجائب العالم، واستطاع أن يتجاوب مع عقل العالم الذي هو وليده وظله.

نحن بين اثنتين: إما أن نكون — كجزء من العالم — خلوًّا من العقل والروح والغرض، والعالم كذلك مادة جامدة لا روح لها ولا مدبر لها، ولا غرض لها، أو أن تكون لنا روح وعقل وغرض، وللعالم روح وعقل وغرض، تتجاوب روحنا مع روحه، وتتحدد أغراضنا بأغراضه، والأول الكفر، والثاني الإيمان؛ فإن حكمت بعقلك فقد آمنت بعقلك، وآمنت تبعًا لذلك بعقل العالم؛ وهو الإيمان.

وكما أحكم «عقل العالم» تدبير العالم ونظامه، كذلك أشع عليه من جماله، فالعالم مغمور بالجمال في صغيره وكبيره ودقيقه وجليله، في السماء والأرض، في النجوم بضيائها ولمعانها، في السحاب المسخر بين السماء والأرض، في عظمة البحار، في جلال الجبال، في شروق الشمس وغروبها، في الطير يطير في السماء، في السمك يغوص في الماء، في الحركة والسكون، في الأشكال والألوان.

الطبيعة جميلة في كل جزء من أجزائها، وأجمل من أجزائها جمال كلها، فليس الكل يُساوي الأجزاء، فجمال أجزاء الطائرة مفرقة ليس كجمال الطائرة كلها طائرة، ولا جمال أجزاء الإنسان كجمال الإنسان كلًّا، إن الطبيعة في جمالها ككل تسحر العين، وتأخذ باللب، وتملأ القلب روعة، حتى ليشعر في وقت صفائه أن هذا فوق أن يُوصف، والألفاظ أعجز من أن تُعبر عنه.

وكما كان أكبر قيمة للإنسان عقله الذي استطاع به أن يُدرك عقل العالم وتدبيره ونظامه، كذلك من أكبر قيمته شعوره الجميل الذي استطاع به أن يُدرك جمال العالم، ويتجاوب معه، ويأنس به؛ قد يكون في بعض اجزاء العالم قبح، ولكنه قبح لطيف لولاه ما استطعنا أن ندرك جمال الجميل.

إن كان تدبير العالم وإحكام نظامه لا بد أن يصدر عن عقل للعالم منظم، فجماله الذي يشع فيه في دقة لا بد كذلك أن يصدر عن خالق منسق.

لقد زعم بعض أصحاب مذهب النشوء والارتقاء أن الجمال نشأ عن قانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، وأن الجمال في الجنس منحة الطبيعة لإغراء الجنس، كالأنثى تتبرج للرجل حفظًا للنوع، فإن كان هذا صحيحًا فما تفسير جمال الجماد وجمال المناظر الطبيعية؟

•••

هذا هو الجانب الإيجابي في الاعتراف بالله، وهناك الجانب السلبي، وهو لا يقل عنه قوة وإقناعًا.

لقد تقدم العلم وتقدم، واعتز بنفسه وملأه الغرور، ومع هذا كله لم يستطع أن يُفسر إلا السطح وإلا المظاهر، ما العلة الأولى للخلق؟ من الذي بعث الحياة في الخلية الأولى للعالم؟ كيف تفسر ملايين الحقائق في عجائب الطبيعة وفي عجائب أنفسنا؟

إن أقصى ما يصبو إليه العلم أن يعرف نصف الحقائق، وهو الظاهر والإجابة عن «كيف»، أما النصف الآخر — وهو أقوم النصفين — وهو باطن الحقائق، والإجابة عن «ما هي» لا كيف هي، فعاجز كل العجز عنه لا يستطيع أن ينبس فيه بحرف.

إن من يؤمن بالعلم وحده وينكر ما وراءه، ومن يؤمن بالقوانين العلمية وينكر ما عداها لا يؤبه بقوله حتى يقول: إني أستطيع أن أفسر العالم من ألفه إلى يائه، فأما أن يفسر الآلة ولا يفسر محركها، ويفسر تطور الحياة وتدرجها ولا يفسر كيف وجدت لأول عهدها بالوجود فضرب من السخف، أو هو على أحسن تفسير كقول الطفل لا أعلم؛ لأنه يُريد أن يتعلم.

إنكار العلة الأولى للعالم وعقل العالم الذي يدبره يلقي على عاتقنا عبئًا لا نستطيع حمله.

إن العلم في حقيقة أمره يزيد عجائبنا ولا يحلها، هذا الفلكي بعلمه ودقته وحسابه ورصده وآلاته ماذا صنع؟ أبان بأن ملايين النجوم في السماء بالقوة المركزية بقيت في أماكنها أو أتمت دورتها، كما أن قوة الجاذبية في العالم حفظت توازنها ومنعت تصادمها؛ ثم استطاعوا أن يزنوا الشمس والنجوم ويبينوا حجمها وسرعتها وبعدها عن الأرض، فزادوا عجبًا، ولكن ما الجاذبية وكيف وجدت وما القوة المركزية وكيف نشأت؟ وهذا النظام الدقيق العجيب كيف وجد؟ أسئلة تخلى عنها الفلكي لما عجز عن حلها؛ وأبان الجيولوجي لنا من قراءة الصخور كم من ملايين السنين قضتها الأرض حتى بردت، وكم آلاف من السنين مرت عليها في عصرها الجليدي، وكيف غُمرت بالماء، وكيف ظهر السطح، وأسباب البراكين والزلازل، وكذلك فعل علماء الحياة في حياة الحيوان، وعلماء النفس في نفس الإنسان؛ ولكن هل شرحوا إلا الظاهر، وهل زادونا إلا عجبًا؟ سلهم كلهم بعد السؤال العميق الذي يتطلبه العقل دائمًا وهو: من مؤلف هذا الكتاب المملوء بالعجائب التي شرحتم بعضها وعجزتم عن أكثرها؟ أتأليف ولا مؤلف، ونظام ولا منظم، وإبداع ولا مبدع؟ من أنشأ في هذا العالم الحياة وجعلها تدب فيه؟ من عقله الذي يُدبره.

إن النشوء والارتقاء لا يصلح تفسيرًا للمبدع، وإنما يصلح تفسيرًا لوحدة العالم ووحدة المصدر، وكلما تكشفت أسرار العالم وتكشفت وحدته ووحدة تدرجه ووحدة نظامه وتدبيره كان الإنسان أشد عجبًا، وأشد إمعانًا في السؤال، وليس يقنعه بعد كشف العالم عن أسرار العالم، وعجزه عن شرحها وتعليلها، إلا أن يهتف من أعماق نفسه: «إنه الله رب العالمين».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤