الفصل الثامن والثلاثون

في الهواء الطلق (٣)

كانت رحلتنا هذه المرة رحلة شتاء، في الصحراء، وللصحراء، جمالها الساحر، سكون عميق يُهدِّئ الأعصاب، وصفاء جو يُنعش النفس، وأنس بالطبيعة كما خُلقت، فليس يقع النظر فيها على عمل من أعمال الإنسان، فلا زرع ولا بناء، ولا جند ولا حكومة، كل شيء فيها من عمل الله وحده من غير تدخل أحد؛ جو فسيح طليق تتجاوب فيه الرياح، فلا يحبسها بناء، وشمس تسطع فلا يُقيدها قيد، وللهواء والشمس طعم ولون ورائحة غير ما لهما في الحاضر، يشعر الإنسان فيها بقربه من الطبيعة وقربه من ربه، ويشعر بلذعة من عيشته الحضرية في جو مصطنع كل ما فيه وليد التكلف والرياء والنفاق.

وأمعنَّا في طريق السويس حتى وصلنا إلى منتصف الطريق، فعرجنا يسرة، وبعدنا عن مسير الناس في غدوهم ورواحهم، ثم تخيرنا مكانًا نستطيع فيه أن نستدفئ بالشمس إذا شئنا، وننعم بالظل إن أردنا.

وكنت في رفقة من العقليين المتفلسفين، يحلو لهم التفلسف في كل شيء، فهم قادرون على أن يخلقوا من الحبة قبة، ويُؤلفوا من الهنة كتابًا؛ وهم بطبيعتهم وثقافتهم يُفلسفون كل ما يقع تحت سمعهم وبصرهم، ويستخرجون منه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولذلك أعددت نفسي لرؤية منظر «جامعة في الصحراء»، أو إعادة ذكرى مذهب المشائين؛ ولكني ما استطعت أن أحزر وجهة الحديث ولا موضوعه، وإن كنت توقعت أن يكون بطلا الحديث رجلين، أحدهما تفلسف في مصر، ثم أتم فلسفته في فرنسا، وقرأ كثيرًا حتى كاد يلتهم الكتب، ولا يأتي حديث عن كتاب إلا وصفه لك في إفاضة، وشرح نوع فلسفته وقول نقدته، وهو — كما يقول العرب فيه — علمه أكبر من عقله، ولنُسمِّه على عادة النحويين بزيد؛ والآخر متفلسف في مصر فقط، لم يقرأ كما قرأ الأول، ولكنه فكر طويلًا في قراءته القليلة، فكان عقله أكبر من علمه، ولنُسمِّه بعمرو، وهما في حديثهما دائمًا كالضرتين، لا يقول أحدهما رأيًا إلا نقضه الآخر، ولا يذهب أحدهما ناحية إلا يذهب الآخر الأخرى؛ يدل زيد بعلمه الواسع، ويدل عمرو بنقده اللاذع، ويفخر الأول بغذائه الشامل، ويفخر الآخر بهضمه الكامل، ولكن رجوت أن صحو الجو والقصد إلى الراحة يجعلان من خلافهما وفاقًا، ومن فلسفتهما شعرًا، ولكن خاب ظني، فما بالطبع لا يتخلف، ويموت الزامر وإصبعه تلعب.

•••

بدأت الحديث بالتغزل في الصحراء وجمالها، والجو وصفائه، ونسيت فعمقت، فقارنت بين جمال الريف وجمال الصحراء، وجمال الزرع وجمال الرمل وجمال البساطة وجمال التركب، وجمال الخِلقة وجمال الصنعة، ففتحت من حيث لا أدري بابًا من الجدل لا ينتهي، وكان هذا كل نصيبي من الحديث، ثم استطار الشر بينهما.

زيد: أتظن — يا أستاذ — أن هناك في الخارج شيئًا اسمه جمال؟ إننا نحن بأنفسنا نخلق الجمال، إن الأمر في الجمال ليس كالأمر في «الترمومتر» الحائطي يريك درجة حرارة الحجرة من غير أن يكون لنا دخل فيها، بل هو «كالترمومتر» نقيس به حرارتنا، فهو لا يُبين شيئًا ما لم نضعه تحت لساننا، إنه ليس كحاصل الجمع وحاصل الضرب، هما كذلك في الخارج أخطأنا أم أصبنا، بل هو كالشيء تذوقه فتستحليه، ويذوقه الآخر فيستمره، والأكل تستطعمه أنت ويستقبحه غيرك، وكلا الحكمين صحيح، إن الصورة الفنية المعروضة لا قيمة لها في ذاتها، وإنما ذوقنا هو الذي ينشئ جمالها، ولذلك إذا لم يكن ذوق يستجملها لم تكن جميلة، والجمال مقصور على من له ذوق يذوق جمال الصورة، وإن شعر امرئ القيس وأبي نواس والمتنبي وشوقي ليس له قيمة ذاتية، إنما جماله لمن مرن ذوقه على نحو خاص حتى صار يتذوق جماله، فإذا لم يكن الذوق لم يكن الجمال؛ فليس جمال الشيء صفة خارجية كوزنه مثلًا، وإنما هو ذوق فينا، ولذلك لا يختلف الناس في زنة الشيء، ولكنهم يختلفون جد الاختلاف في جماله.

إن العلم الآن لا يؤمن إلا بالمنظور والمسموع، لا كما كان العهد في القرون الوسطى يُؤمن بالمتخيل والموهوم، وعلم النفس الحديث أبان أن الحكم على الأشياء — ومنها الحكم بالجمال والقبح — ناتج من عوامل كثيرة لا شعورية؛ فالذوق قد يستهجن قطعة موسيقية ويكره — دائمًا — أن يسمعها، فإذا حللت ذلك تحليلًا دقيقًا رأيت أنها لا ترجع إلى القطعة نفسها، ولكنها سُمعت لأول مرة في ظروف سيئة للشخص أوحت إلى عقله الباطن كراهيتها، فظل يكرهها دائمًا، والقطعة الموسيقية نفسها لا دخل لها في ذلك، وكذلك ترى من الناس من يكره اللون الأصفر أو الأزرق لأسباب خاصة حدثت له، وقد ينساها ويبقى أثرها في نفسه؛ أما اللون نفسه فلا شأن له بالكراهية أو الاستحسان.

كل هذا وأكثر منه كشفه العلم، فأصبح من يقول بالقيمة الذاتية للجمال طرازًا قديمًا.

•••

هنا احمر وجه صاحبنا «عمرو» من لفحة الهواء والشمس أولًا، ومن كلام زيد ثانيًا؛ وقال: هذا قول هراء يحملكم عليه إيمانكم دائمًا بما في الكتب، وهيامكم دائمًا بالجديد وإن لم يُبْن على أساس صحيح.

لو صح قولكم لم يكن لصورة فضل على صورة، ولا لشعر فضل على شعر، ولا لجمال امرأة فضل على أخرى، وكان كل ذلك يرجع إلى الذوق الشخصي فقط، ولكان شعر أبي نواس والمتنبي وشوقي كشعر أحقر شاعر، كل ما هنالك من فرق أن هذا يستحسنه ذوق، وذاك يستحسنه آخر؛ ولما كان هناك معنى لقولنا: شعر عظيم وشعر حقير، وصورة رائعة وصورة قبيحة، إلا أن يكون تعبيرًا فقط عن شعور القائل؛ ولو كان هذا كافيًا لحكمنا على الصورة الجميلة أو الشعر الجميل بعدد الأصوات، بقطع النظر عن ذوق راقٍ وذوق غير راقٍ، وذوق الفنيين وغير الفنيين، وهذا ما لا يُسلم به عاقل، أما على رأيي فالأمر واضح، وهو أن هناك ذوقًا راقيًا وذوقًا غير راقٍ، ومعنى الذوق الراقي أن صاحبه يُدرك في الشيء المرئي أو المسموع صفات ذاتية فيه لا يُدركها الذوق غير الراقي على أننا لم نقل إن جمال الشيء وقبحه — كوزن الشيء — محل وفاق، ولكنه محل خلاف، وسبب الخلاف بين الناس الاختلاف في الذوق، ومعنى الاختلاف في الذوق أن بعض الأذواق قادر على إدراك صفات الجمال والقبح في الشيء وبعضها غير قادر، وإني أومن بأن الذوق يختلف باختلاف زمان الشخص ومكانه، وبمقدار المدنية التي يعيش فيها وبمقدار ثقافته، وبمقدار مزاجه وسنه، وبنوع وراثته، ولكن ليس معنى هذا أن حكمي بالجمال والقبح يقتصر على حالتي النفسية والعقلية، وأن ليس هناك صفات خارجية في الشيء المحكوم عليه.

ما الذي دعاك — يا أخي — إلى أن تخرج معنا إلى الصحراء تتحسس جمالها إن لم يكن هناك إلا الذوق؟ لقد كان يكفيك ذوقك في بيتك، وفي أي منظر يقع عليه حسك، ولماذا قصر ذوقنا على إدراك الجمال في أشياء خاصة كالموسيقى والشعر والتصوير والطبيعة، ولم يتعدها إلى غيرها؟ أليس ذلك؛ لأن فيها صفات خاصة إذا توفرت في الشيء كان جميلًا، وإن لم تتوفر كان قبيحًا؟

•••

ومدت مائدة الصحراء ففرشت صحف الجرائد، وأثقلت بالصحاف، من دجاج ولحم وبطاطس، ثم موز وبرتقال.

وأخذ صاحبنا «عمرو» يلذع صاحبنا «زيدًا» بنوادره، فيقول: «ما أشهى اللحم»، ولكنه يا أخي ليس شهيًّا في ذاته، فإذا حورت ذوقك وجدت الفول النابت أشهى، والجبن بالفجل ألذ، وليس في حمرة البرتقالة واستدارتها جمال، إنما هو ذوقك، ولو أن ذوقك استجمل حجرًا مدورًا وفضله على البرتقالة في جمالها لم يكن ثمة محل للجدل؛ ويتبع كل لذعة منه بضحكة تستخرج ضحكنا.

وانتهينا من الأكل، ورجوت أن ينتهي الحديث، وحاولت ذلك فعلًا، ولكني فشلت؛ فصاحبنا عمرو عنيد، يلج في الخصومة حتى يُريد أن يدخل مناظره في جحر، فأثار مسألة أعقد وأدق؛ إذ سأل: هل رأيك في الأخلاق والحق كرأيك في الجمال، شيء نسبي ليس إلا، أو لهما وجود ذاتي خارجي؟ وهل العلم الذي لا يُؤمن إلا بالمنظور والمسموع يؤمن بشيء خارجي اسمه العدل والظلم، أو الحق والباطل؟ وما رأيك في أقوال القرون الوسطى في ذلك؟

زيد : اهزأْ بي ما شئت، وهرج ما أردت، فليس يزيدني ذلك إلا تمسكًا برأيي، والشأن في الفضيلة والرذيلة والحق والباطل عندي كالشأن في الجمال والقبح، إن الإنسان أول ما واجه الأعمال الصادرة من أمثاله، رأى أن بعض الأعمال — التي تصدر عن الناس — تسره وتدخل عليه اللذة فرضيها وسماها فضيلة أو ما يُرادف ذلك، ورأى بعض الأعمال تُؤلمه فسماها رذيلة أو ما يُرادفها، ثم أتت الأجيال بعد ذلك فنظرت إليها كأنها أشياء خارجية لها قيم ذاتية، فقدستها أو احتقرتها.
فكل فضيلة أو رذيلة ترجع إلى إحساسنا باللذة والألم، فالصدق والكذب والعدل والظلم، والشجاعة والجبن، كل هذه رضيناها؛ لأنها سببت لنا لذة أو ألمًا، ثم نظرنا إليها كأنها أشياء مجردة تُطلب لذاتها، أو تتجنب لذاتها، كشأن البخيل طلب المال أولًا؛ لأنه وجده محققًا لأغراضه، موفيًا للذاته، ثم بمرور الزمن والاعتياد والإلف طلب المال لذاته، ولما ارتقى الإنسان واتسع أفقه أصبح يقيس اللذة والألم بمقياس الأمة والمجموع، لا بمقياس شخصه، إنما هي على كل حال ترجع إلى شعورنا وشعور الناس باللذة والألم، وهذا الشعور فينا وليس خارجًا عنا، وعواطفنا ومنافعنا هي التي تملي علينا الحكم بالخير والشر، فالسعادة هي الغاية الأخيرة لا الفضيلة، وإنما الفضيلة وسيلة للسعادة، وحكمنا على الناس كذلك، فنحن نحكم على الإنسان أنه طيب؛ لأنه يسعدنا ويسعد مجتمعنا، والعكس، وهذا أيضًا هو ما تتجه إليه النظريات الحديثة في الأخلاق وعلم النفس والاجتماع، وهذا هو العلة في تغير تقويم الأخلاق باختلاف العصور والأوضاع وتغير ترتيبها في الأهمية، وذلك باختلاف الناس لا باختلاف الأشياء؛ والعمل الواحد قد يكون خيرًا في موقف، وهو نفسه قد يكون شرًّا في موقف آخر، تبعًا لأثره في نفوس الناس ومشاعرهم باللذة والألم، ولو كان هناك شيء خارجي اسمه الحق أو الفضيلة لم يتغير الحكم عليه!
عمرو : كلامي معك في الحق والخلق ككلامي معك في الجمال، وردي عليك ردي عليك، إن الحق والباطل والخير والشر معان مجردة لها وجود ذاتي، بقطع النظر عن نتائجها، ويجب أن يُطلب الحق لذاته بقطع النظر عما ينتج من لذة، ويتجنب الباطل لذاته لا لألمه؛ شأن الخير شأن الحق، شأن الصدق، شأن حكاية الواقع، فإذا قلت: إن قنبلة سقطت في مكان كذا ولم تنفجر، فهذه حقيقة حدثت في الوجود بقطع النظر عن نتائجها، علم الناس بها أو لم يعلموا، شعروا بها أو لم يشعروا؛ وشعرونا وعدم شعورنا لا دخل له في الموضوع، وهذا إن وافق الواقع فهو صدق، وإذا أخبرت به ففضيلة كائنًا ما كان أثر الخبر في نفوسنا، قد يُؤلم بعض الناس الصدق وقد يلذ بعض الناس، ولكن هذه أعراض لا شأن لها بالموضوع في حد ذاته؛ ومثلك إذا تلذذت أو ألمت كمثل «الترمومتر» الحائطي الذي ذكرته، قد يدل على درجة حرارة عشرين، ولكن قد تكون قد شربت معرِّقًا أو جريت شوطًا فتشعر أن درجة الحرارة في الحجرة لا تقل عن أربعين، وقد تأخذك رعدة فترى أن درجة الحرارة يجب أن تكون صفرًا، وشعورك هذا أو ذاك لا يُغير الواقع وهو أن درجة الحرارة عشرون.
ولو كان الأمر يرجع إلى الشعور بأثر العمل فقط، ولم يكن هناك حق في ذاته ما احتقر الباطل ولا فضل الفاضل، ولكان الأمر في الحق والخير أمر الذي يذوق الشيء فيستطعمه أو يستهجنه، وفي ذلك خراب العالم، وضياع الإنسانية، بل على رأيك لم يكن فرق بين محق ومبطل، وفاضل وسافل، فكلٌّ يحكم على الشيء حسب شعوره ومقياسه، وهل هذا هو ما يقوله علم نفسكم؟

الحق — يا أخي — أن هذا ضرب من السفسطة في أسلوب حديث، ويجب أن يُحارب هذا الاتجاه كما حرب سقراط وأفلاطون وأرسطو السوفسطائية القديمة.

إن نظركم هذا جعل الحق والفضيلة سلعة تجارية يحسب ثمنها باللذة والألم فتشرى أو تباع حسب السوق، ولعل هذا أكبر نقطة سوداء في مدنيتكم الحديثة، ولإصلاحها يجب أن تكون هناك مُثُل عليا من حقائق وفضائل لها قيم ذاتية.

إن مثل رأيي ورأيك كمثل العالِم في معمله، والتاجر في تجارته، إن العالم الحق يبحث عن الحقيقة في ذاتها كائنة ما كانت، وسواء عنده الشيء الصغير والشيء الكبير، وسواء عنده في بحثه الذهب والرصاص، فيأتي التاجر بعُد فيستغل نتيجة بحث العالم لاستعمال الآلات والسلع وفق ما وصل إليه العلم، ويقلبه إلى تجارة فيها كل الأخلاق التجارية.

فكذلك نحن وأنتم، نحن نبحث عن الحق حيث كان، وفي أي حال كان، ثم تفسدون علينا حقنا باتخاذه متجرًا بالبهلوانات السياسية، والشعوذة الأخلاقية، وحساب الخلق باللذة والألم كما يحسب التاجر بضاعته بالدينار والدرهم، إن الحق لا يتعدد ولا يتغير بالاعتبارات الشخصية كالمادة أمام العالم، إنما تتغير السلع في الأسواق في نظر التاجر.

في نظري أن الصحراء هذه لها قيمة ذاتية، وجمالها له قيمة ذاتية، سواء كان مزاجك مما يلذه هذا الجمال أو لا يلذه، ويقومه أو لا يقومه، فإن قوَّمه فمزاجك صحيح وجمال الصحراء حق، وإن لم يقومه فمزاجك غير صحيح وجمال الصحراء حق، أليس هذا هو الحق يا أيها السيد «زيد»؟!

•••

وآذنت الشمس بالغروب، وبدأ الجو يبرد، وحرارة الشمس تضعف، وأخذنا نستعد للعودة، ورأسي يكاد يتصدع، وأضاع عليَّ الصديقان لذة الصحراء وجمالها، فآليت من يومئذ ألا أخرج إلى الصحراء، مع فلاسفة بل شعراء، وإلى اللقاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤