الفصل الخامس

سلطان العلماء (٢)

دخل عز الدين بن عبد السلام مصر، وقد سبقته شهرته بالعلم الواسع في مذهب الشافعية، وبغيرته الدينية وبعظمته الخلقية، وكان يعرفه بذلك كله ملك مصر «نجم الدين أيوب»، فولاه الخطابة في جامع عمرو بن العاص، وقلده القضاء في مصر (الفسطاط) والوجه القبلي (أما القاهرة فأفرد لها قاضيًا خاصًّا) وعهد إليه بعمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة.

وزاره المحدث الكبير وعالم مصر العظيم «عبد العظيم المنذري» فرأى من عز الدين فقهًا غزيرًا وعلمًا كثيرًا، ورأى عز الدين من عبد العظيم بحرًا في الحديث وعلمه، فامتنع «عبد العظيم» من الفتوى وقال: لا أفتي وعز الدين بها، وامتنع عز الدين من «الحديث» وقال: لا أحدث وعبد العظيم بها.

وسرعان ما شاهد الناس من «عز الدين» فصاحته في الخطابة، وعلمه بأسرار الفقه وإخلاصه في عمارة المساجد، ونزاهته في القضاء، وصلابته في الحق، فكانت مكانته في مصر كمكانته في الشام.

ولكن هذه المناصب مع هذه الأخلاق لا بد أن تصطدم بذوي الرغائب وأولي الجاه والسلطان، فالحق مر لا يحلو في ذوقهم، والعدل ثقيل لا تهضمه نفوسهم، فما لقيه في الشام بدأ يلقاه في مصر.

هذا السلطان أيوب تُقبَّلُ الأرض بين يديه، فيستفظع «عز الدين» هذا العمل أيما استفظاع، ويستنكره في صراحة أمام السلطان وأمام الحاشية وأمام الجمهور، ويخشى أخصاؤه عليه من هذه الجرأة فيقول: «لقد استحضرت هيبة الله فرأيت السلطان أمامي قطًّا.» ويطيع السلطان أمره وتنتهي المسألة بسلام.

ولكن كل يوم أحداث تؤلم الشيخ وتُثير غضبه.

كان في منصب «أستاذ الدار» فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ، وقد كان عظيمًا في منصبه، فهو القيم على الدواوين؛ والواسطة بين الرعية والسلطان، والمشرف على تحصيل الأموال من الملاك والمزارعين، والمتسلط على كثير من شئون الدولة، كما كان عظيمًا في جاهه فأولاد شيخ الشيوخ الأربعة متقلدون أهم المناصب، مقربون إلى السلطان؛ لأنهم إخوته من الرضاع.

هذا فخر الدين١ — وهو ما قد رأيت — يعمد إلى مسجد من مساجد مصر، فيبني فوقه بناء يتخذه «طبلخاناه» تُضرب فيه الطبول، وتُنفخ فيه الأبواق، وتُزمر المزامير لاستدعاء الجند والإعلام بالنوبة، وكان لكل أمير «طبلخاناه» لجنده، تُضرب فيها الصنج من النحاس بإيقاعات خاصة يدل كل إيقاع على معنى، فإذا خرج الجند للقتال صحبت كل فرقة «طبلخاناتها» تحمسهم للقتال، وتفهمهم حركات الحرب من تقدم أو تأخر، أو تجمع، أو نحو ذلك، ففخر الدين يبني هذه الطبلخاناه لأخيه عماد الدين، فالناس تحت في صلاة، والجنود فوق رءوسهم يطبلون ويزمرون، ويفسدون عليهم عباداتهم.

هذه قلة ذوق لا ترضي أحدًا، أفيليق أن تستخدم بيوت الله بيوتًا للجند؟ وأن يؤذن المؤذن للصلاة والجنود تنفخ في بوقها، وتزمر بمزمارها، وتضرب بكاساتها؟ إن في هذا إفسادًا لسكون العابد، وانتهاكًا لحرمة الصلاة، وكان في الأرض ذات الطول والعرض ما يسع الطبل والزمر بعيدًا عن بيوت الله، ولكنه الغرور بالجاه الذي لا يعبأ بشيء.

وآذان المغرورين لا تسمع لنصح ناصح، ولا عظة واعظ، فما هو إلا أن يأخذ «عز الدين» أولاده وتلاميذه وأتباعه وبيدهم الفئوس والمعاول، وإذا بحركة هدم عنيفة تقضي على الطبلخاناه في لمحة، وإذا الشيخ عائد إلى منزله بعد أن أبعد عن المسجد الطبل والزمر، ويصبح الصباح فيذهب إلى مكان القضاء فيحكم على «فخر الدين» بإسقاط عدالته وعدم قبول شهادته، ثم يُسجل ذلك ويكتب استقالته ويرفعها إلى السلطان فيقبلها، ويجلس في بيته راضيًا عن عمله مخلصًا لربه.

وتذيع الحادثة، وتَرِد على كل لسان في مصر، ويعجب المصريون بالشيخ وصلابته في الحق، وتضحيته، بمناصبه حسبة لله؛ ويتنقل الخبر من مصر إلى الشام، ومن الشام إلى بغداد، حتى يصل إلى أذن الخليفة، فيكبر الشيخ ويجله، وتشاء الأقدار أن يبعث السلطان برسالة إلى الخليفة؛ فيسأل الرسول: هل سمعتها من الرسول مشافهة؟ فيقول الرسول: لا، ولكن سمعتها من أستاذ الدار فخر الدين عثمان، فيقول الخليفة: لا أقبلها؛ لأن عز الدين أسقط فخر الدين فلا تُقبل روايته.

•••

استراح الشيخ من عناء المناصب الحكومية، وتفرغ للدرس، والتف حوله نوابغ الطلبة الذين تصدروا للعلم في الجيل التالي، كابن دقيق العيد، وعلاء الدين الباجي، وهبة الله القفطي؛ فهو يدرس فقه الشافعية، وتتحلق حوله الطلبة يناظرون ويتفقهون ويستفتون، والشيخ في بيته يحضِّر دروسه، وفي المسجد يُلقي دروسه، وكلهم معجب بصفاء ذهنه، وصدق نظره في الاستنتاج الفقهي، وسعة اطلاعه، وفي لحظة إعجاب قال تلميذه «ابن دقيق العيد»: إنه «سلطان العلماء»، فصادفت هوى من نفوس السامعين، وشاعت على الألسنة ولبست الشيخ، كما قرر صديقه ابن الحاجب أنه أفقه من الغزالي، وأصبح الشيخ مصدر حركة علمية واسعة في مصر، في الفقه والتوحيد والتصوف، وتأتيه الأسئلة الدينية من الأقطار الإسلامية فيُفتي فيها، ويُخطئ مرة في فتواه، فيرسل من ينادي في مجتمعات الناس: إن الشيخ أفتى بكذا، فلا يُؤخذ به؛ لأنه قد أخطأ في الفتوى.

•••

ولكن اضطربت البلاد بغزو الصليبيين لمصر، فجمع لويس التاسع (ملك فرنسا) الجنود، وأعد الأسطول، وقاد ذلك كله بنفسه، وإذا بسبع مئة سفينة حربية صليبية محملة بالجنود وآلات القتال تظهر أمام دمياط، فيهرع أهلها إلى المنصورة، وتأتي الأخبار إلى مصر بأن الصليبيين أخذوا برج السلسلة (وهو برج عالٍ مبني في وسط النيل، ومن ناحيتيه سلسلتان عظيمتان إحداهما تمتد منه إلى دمياط، والأخرى منه إلى البحيرة، تمنع كل سلسلة عبور المراكب من ناحيتها، وكانوا يسمون — بحق — هذا البرج بسلاسله «قفل الديار المصرية»، ونزل الصليبيون دمياط وتوجهوا إلى المنصورة.

•••

تحول الشيخ عز الدين من عالم مدرس في المسجد إلى خطيب في المجتمعات يُحرض على القتال، ويُؤلب المسلمين على الصليبيين، ويستحث الأمراء على السرعة في الإعداد، والشعب على الإمداد، ويقوم بما تقوم به الآن الدعاية، مع فارق واحد، وهو تأسيس الدعاية؛ إذ ذاك على العزة الدينية والغيرة الإسلامية.

وها هي الدعوة تُستجاب، والعدة تُعد، وينضم إلى جيوش الأمراء والمماليك وجنودهم طائفة كبيرة من العربان ومن عامة الشعب المصري، وإذا الشيخ عز الدين — الرجل الأشيب المسن — يسافر مع العسكر إلى المنصورة، وينضم في صفوفهم، ويخطب فيهم، والجنود إذا رأوه ازدادوا حماسة وقوة، وامتلئوا أملًا في الله، وعقيدة في النصر.

حارب المسلمون في البر والنيل، وانكسر الصليبيون، وأُسِر لويس التاسع واُعتقل في دار ابن لقمان القائمة بالمنصورة إلى اليوم، وبُعثت الكتب إلى الأمصار تُبشر المسلمين بالظفر بالعدو وتقول في وصفه: «وكان قد استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد، فنُودوا: لا تيأسوا من روح الله … فانتصرنا عليهم، فتركوا خيامهم وأموالهم وأثقالهم … وما زال السيف يعمل في أدبارهم عامة الليل، وقد حل بهم الخزي والويل، فلما أصبحنا قتلنا منهم ثلاثين ألفًا، غير من ألقى نفسه في اللجج، وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، وطلب الفرنسيس (لويس التاسع) الأمان فأمَّنَّاه، وأخذناه وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعون الله وقوته وجلاله وعظمته.».

ورجع الجيش ظافرًا منصورًا، وعاد الشيخ عز الدين فرحًا مسرورًا.

١  ينسب المقريزي في السلوك هذه الحادثة لمعين الدين أخي فخر الدين، وينسبها غيره لفخر الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤