الفصل السابع

نظرة في الكون

ما أجمل الطبيعة، وما أجلها، وما أحكمها، وما أغناها!

هذه حبة واحدة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ، وهذه الأرض يصيبها الماء فتخرج من الأزهار ومن بدائع الألوان، في الجبال وفي الوديان وفي الغابات، ما يسحر العين ويأخذ باللب؛ وهذا المحار في البحار ينشق عن نصفين منسجمين متساويين في النقوش والألوان والتعاريج يعجز عن تقليدهما أمهر فنان؛ وهذا الفم الذي يأكل ويقضم يُخرج الدر من الحكم، والطيب من الكلم؛ وهذه الشجرة العظيمة الضخمة خرجت من بذرة؛ وهذا الإنسان العجيب نشأ من ماء مهين!

هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.

وهكذا من ملايين وملايين من العجائب، قلل عجبنا منها إِلْفُنا لها وأُنْسُنا بها.

ومن أعجب هذا الباب ما يأتي من باب الغرائز! فهذا ضرب من الأسماك يُسافر آلاف الأميال إلى حيث يجد المكان الملائم لنسله، فإذا ماتت الكبار عادت الصغار إلى مكان آبائها بهاد من غريزتها؛ وهذه الطيور تحشد في الربيع والخريف جماعات، وتقطع الجبال الشامخة والبحار الشاسعة لتصل إلى الأقاليم الملائمة؛ ما الذي دلها على الطريق في ذهابها وإيابها، ولا علامات ولا دلالات؟ إنها الغريزة العجيبة التي تدل حمامَ الزاجلِ على مأواه والقط على مسكنه، إنها الغريزة التي تحمل كل حي من نبات وحيوان وإنسان على أن يأتي بمختلف الوسائل والأعاجيب ليحفظ نفسه ويحفظ نوعه.

إن أعمال الطبيعة وأعاجيبها ونظامها ودقتها فوق أفهامنا، وفوق منطقنا وتفكيرنا وتعليلنا، كل صغير مما لا يُرى إلا بالمكرسكوب، أو كبير يُرى بالتليسكوب، يحيا حياة عجيبة يدق سرها عن الفهم، ويقصر عن إدراكها العقل، الحبة في الأرض، والذرة في الهواء، والسمكة في الماء، والنجم في السماء.

وصدق الجاحظ؛ إذ يقول: «ولو وَقَفْتَ على جناح بعوضة وقوف معتبر، وتأملته تأمل متفكر، بعد أن تكون ثاقب النظر، سليم الآلة، غواصًا على المعاني … لملأت — مما توجد العبرة من غرائب — الطوامير١ الطوال، والجلود الواسعة الكبار … ولتبجست عليك كوامن المعاني ودفائنها، وخفيات الحكم وينابيع العلم … وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ؛ والكلمات في هذا الموضع ليس يُريد بها القول والكلام المؤلف من الحروف، وإنما يُريد بها النعم والأعاجيب، وما أشبه ذلك، فإن كلًّا من هذه الفنون لو وقف عليها رجل رقيق اللسان صافي الذهن صحيح الفكر تام الأداة، لما برح أن تحسره المعاني، وتغمره الحكم.».

•••

ولكن بجانب هذه المعاني اللطاف والعجائب التي لا تنتهي، نرى الطبيعة كذلك تقسو ولا ترحم، لا تعبأ بالألم يصيب الأحياء، كأنها آلة عمياء، سلحت القوي ومكنته من الضعيف والضعيف من الأضعف، «هذا الأسد يصيد الذئب فيأكله، والذئب يصيد الثعلب فيأكله، والثعلب يصيد القنفذ فيأكله، والقنفذ يصيد الأفعى فيأكلها، والأفعى تصيد العصفور فتأكله، والعصفور يصيد الجراد فيأكله، والجراد يصيد فراخ الزنابير فيأكلها، والزنابير تصيد النحل فتأكلها، والنحلة تصيد الذبابة فتأكلها، والذبابة تصيد البعوضة فتأكلها»، والإنسان سُلط على الجميع، وسُلط بعضه على بعض، إنها لا تندم على إيلام، ولا تحزن لموت، ولا تعبأ أن تكون كلها ساحة قتال، تسلح الغالب والمغلوب، والقوي والضعيف؛ ثم تقف متفرجة على القتال والالتهام، والتنكيل والآلام؛ كأن الأمر لا يعنيها في قليل ولا كثير، وضعت الشهوة في كل حي، وأخضعت لها القوة والمكر والحيلة، وأطلقت لكل أولئك العنان في المنافسة والمحاربة، واتخذت ذلك قانونها وديدنها في كل شيء، من أصغر حيوان إلى أعظم إنسان؛ ثم نفضت يدها من كل ذلك، ووقفت تسجل ولا تتدخل، بل تمد هؤلاء وهؤلاء، حتى لا يفتر النزاع ويبطل الخصام.

هذه أمة آمنة مطمئنة تلهو وتلعب، وتعمل وتسعد، تثور عليها الطبيعة ببركانها وتجعلها في لحظة حممًا؛ وهذه مدينة جميلة بسكانها وما عليها زلزلت بها الأرض فخسفت وأصبحت كأن لم تَغْنَ بالأمس؛ وهذا مركب يُعد خير إعداد، ويوسع أكبر سعة، ويجهز أحسن جهاز، فيبتلعه البحر بمن عليه في لمحة؛ وهذه الأمراض تنتاب الإنسان فلا ترحم طفلًا صغيرًا ولا شيخًا هرمًا، ولا ترأف بالأم في وحيدها، ولا بالأسرة في عائلها؛ وهذا الموت سُلط على كل حي، فذهب بلذته، وطاح بأمله، وهذا الإنسان لعبت به غرائزه، فأشعل نيران الحروب، وأقام كل حين مجزرة هائلة مفزعة، وهكذا حتى أصبحت لذائذ الكائن الحي — وسط هذه الأمواج من الآلام — لحظات خاطفة، ولمعات كوميض البرق.

•••

نقرأ الصفحات الأولى من الطبيعة، فنرى الجمال والجلال، والحسن والانسجام، والعظمة ودقة الصنع، وعجائب الغريزة؛ ونقرأ الصفحات الثانية فنرى القسوة والفظاعة والتعذيب والإيلام.

من قديم حار العقل في تفسير هذه الظواهر المتناقضة كيف يكون من الطبيعة بجانب هذه الحكمة هذا السفه؟ وكيف يكون بجوار هذه الرحمة هذه القسوة، وكيف يكون مصدر هذه اللذائذ مصدر هذه الآلام.

لقد ذهب بعض علماء الدين إلى أن نقمة الطبيعة من غضب الله على الإنسان إذا خالف أمره وارتكب ما نهاه عنه؛ ولكن — مع الأسف — لم نر هذا مطردًا، فقد ينعم في هذه الدنيا الماكر المخادع، والغادر المنافق، ويألم المؤمن الورع والتقي الصالح؛ وكما قال الأول:

قد يُقتر الحول التقـ
ـي ويُكثر الحمق الأثيم

ومن أجل هذا جرى على ألسنة الناس المثل المعروف: «المؤمن مصاب».

وذهب بعض الطبيعيين المحدثين إلى أن الألم يصيب الإنسان إنما هو تحذير من الأخطار المستقبلة؛ فصداع الرأس علامة مرض تنبه الإنسان إلى وجوب ملافاته، والمغص كذلك، والرمد كذلك؛ وهذا التعليل أيضًا ليس صادقًا دائمًا، وإن صدق في آلام الإنسان فما تفسير إيلام الطبيعة بأحداثها؟

وأذكر أني قرأت مرة قولًا طريفًا لبعض المفكرين في هذا الموضوع، خلاصته أن موضع الخطأ في هذا السؤال هو أن الإنسان يُريد أن يطبق أخلاقيته على أخلاقية العالم، فهو يُسمي بعض الأعمال رحمة وبعضها قسوة، وبعضها نعمة وبعضها نقمة، وبعضها لذة وبعضها ألمًا؛ ولكن هذه التسمية صحيحة بالنسبة له فقط وبمقياسه هو فقط، ولكن وراء عالمه الإنساني عوالم أخرى في الأرض، ووراء عوالم الأرض عوالم لا عداد لها في غير الأرض، أليس من غرور الإنسان أنه يُريد أن يطبق العدل والظلم في العالم حسبما يُدرك بنظره القاصر وفكره المحدود، ويُريد أن يُخضع العوالم الواسعة لعالمه الضيق، ويريد أن يطبق قوانين العالم الكلية على قوانينه هو الجزئية؟

وهو جواب ماهر لم أستطع أن أقف أمامه موقف تأييد أو تفنيد، ومشايعة أو معارضة.

يظهر لي أن موضع الخطأ في فهم هذه المسألة أنهم يعرضون مشكلة الآلام وحدها ويريدون حلها، وهي لا يمكن أن تُفهم إلا إذا عرضت الدنيا كلها على أنها وحدة، كيف نفهم الأبيض من غير أسود، والحرارة من غير برودة، والطول من غير قصر، والعمى من غير بصر؟

كذلك الآلام لا يمكن أن تُفهم إلا على أنها جزء لا يُستغنى عنه من نظام هذا العالم، ولو انعدمت الآلام؛ لأنهار نظام هذا العالم من أساسه.

إن الفضيلة لا يمكن أن توجد في هذا العالم إلا إذا وجدت الرذيلة؛ فلا نفهم الإيثار حتى نفهم الأثرة، ولا تُوجد البطولة حتى تُوجد النذالة، ولا العدل حتى يُوجد الظلم، ولا الشجاعة حتى يكون الجبن؛ كذلك لا يوجد الحب من غير عذاب، ولا اللذة من غير ألم، ولا التوبة من غير إثم.

ولو انعدمت الآلام، والرذائل والآثام ما كانت الفضائل العالية، ولا الأعمال النبيلة، ولا أعمال البطولة التي يتغنى بها الشعراء، ولو انعدم القبح؛ لانعدم الجمال، ولولا الأشقياء ما كان السعداء.

لا معنى لأني أُحب من أُحب إلا إذا اشتمل ذلك على الألم، فمعنى أني أحبه أني أشاركه أحزانه، وأخاف عليه الأذى يناله، وأخاف انقطاع الصلة بيني وبينه، وهل هذه كلها إلا آلام إذا ذهبت ذهب الحب.

إن احتمال الآلام في هذه الدنيا كان لنا منه أكبر الفضائل، من حزم وصبر وثقة بالنفس وتضحية للخير وعذاب للإصلاح، ولولاه ما كانت.

لولا عواطف الألم ما كان شعر ولا فن، ولا نحت ولا موسيقى ولا تصوير، ولا معانٍ إنسانية، ولا وطنية ولا قومية.

فلو كان العالم كما يتطلبه العامة خاليًا من الآلام لكان بالطبيعة أيضًا خاليًا من اللذائذ، ولو كان خاليًا من الرذائل كما يبغون لخلا أيضًا من الفضائل؛ إذ لا يمكن أن تتصور لذة بدون ألم، ولا فضيلة بدون رذيلة.

إن عالمنا هذا بُني على الخير والشر، واللذة والألم، والفضيلة والرذيلة، والسعادة والشقاء، وكل منهما كأحد جانبي الوجه لا يكمل إلا بجانبه الآخر، ولا يُفهم إلا بالآخر، فمن أراد عالمًا لا ألم فيه فليطلبه في غير هذا العالم، وعلى غير هذا النظام كله.

وتبارك الله رب العالمين.

١  الطوامير جمع طومار وهي الصحيفة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤