الفصل التاسع

في الهواء الطلق (١)

كانت جلسة ظريفة على شاطئ النيل، والنسيم عليل، بعد نهار يخنقنا بحره ويلفحنا بسمومه.

في رفقة منسجمة تتسامر وتتحاور، وكل شيء حولها هادئ، نور هادئ، ونسيم هادئ، ونيل هادئ، وحوار هادئ.

وكانوا يختلفون في ثقافتهم ويتحدون في قوة عقلهم وسعة نظرهم ونبل عواطفهم: من مؤرخ صرف عمره في تحقيق الأحداث، والبحث في تعليلها وأسبابها ونتائجها، واقتصادي يرى كل شيء ورقة مالية، أو نقودًا ذهبية وفضية، حتى ما نسميه نحن بواعث روحية، وأديب يتفلسف، أو فيلسوف يتأدب، له نزعة شعرية وطبيعة صوفية.

أخذ الحديث يجري على هواه من غير ضابط، فمرة يسير في اتجاه السلم والحرب، وتارة في الشرق والغرب، وأخيرًا تركز في أسباب نهضة الأمم وكيف يجري الزمان في سهولة ويسر ونظام، وإذا بحادث فجائي أو أحداث فجائية تغير مجرى الأمة تغيرًا خطيرًا، حتى كأنها بعثت بعثًا جديدًا، وحتى يُخيل للناظر أن ليس من صلة بين قديمها وحديثها، ونومها ويقظتها.

قال صاحبنا المؤرخ: تعليل ذلك عندي ما تلده الأمة من عظماء ونوابغ، والزمان شحيح في ولادتهم، فقد يمر العصر الطويل وهو عقيم، ثم يلد عظيمًا فيُغير وجه التاريخ، وكأن يده عصا سحرية يُحول بها الحديد ذهبًا، والخمول نشاطًا، والضعف قوة؛ والتاريخ نفسه أكبر شاهد على ذلك، فما الأمة العربية لولا «محمد»؟ وما الفتوح الإسلامية وتنظيمها لو «عمر»؟ وهكذا تقول في سائر الأمم أمثال الإسكندر ويوليوس قيصر ونابليون وغيرهم، إنهم يأتون فيفرضون قوتهم وروحهم على الأمم فيسيرونها حسبما رسموا، ويملون إرادتهم على أحداث الزمان، فيتشكل التاريخ وفق أغراضهم، وتسير الفتوح أو الثقافة أو أشكال الحكومة تبعًا لإرادتهم، ويتحدد مستقبل أممهم بما نفخوا من روحهم، ونشروا من تعاليمهم، وأوضحوا من غايتهم، وهؤلاء العظماء النوابغ — عادة — يخلفهم من يُؤمن إيمانًا تامًّا بمبادئهم، فيسيرون على طريقهم، ويكملون ما بدءوا به، وإن كانوا أقل منهم قوة وأضعف أثرًا.

هذا هو قانون التاريخ قديمًا، وهو قانونه حديثًا، فلو أتاح الله لأمم الشرق اليوم نوابغ أقوياء، لتغير مجرى حياتهم، وارتفع شأنهم، وتلفت العالم إليهم يسبح بحمدهم.

•••

وفجأة كسر هذا الهدوء رجل ضخم الصوت ينادي «العظيمة يا منجه.» فالتفت الصحب إليه وأعجبتهم فاكهته، ونادوا فتى القهوة فغسلها وثلجها، وجرى ريق القوم، وأخذوا ينعمون بأكل شهي إلى الحديث الشهي.

•••

قال صاحبنا الاقتصادي وهو يتلمظ:

– أظن يا أستاذ أن هذا غير صحيح، أتظن أن هذا العظيم ينزل — على الأمة — بمظلة من السماء، أو يخرج فجأة من الأرض؟ إن لخروج العظماء والنابغين قانونًا طبيعيًّا لا يتخلف، كقانون الحرارة والبرودة والجاذبية، وإن كان أكثر تركبًا وتعقدًا؛ فالنوابغ نتيجة لا سبب، هم تعبير الحياة الاجتماعية.

العوامل المختلفة تعمل، والأحداث تتفاعل، والنفوس تتهيأ؛ فإذا الأمة تتمخض عن نابغة؛ فالأحوال الاجتماعية أولًا والنوابغ ثانيًا، وليس العكس، إن الحالة الاجتماعية إذا تهيأت واستعدت بحثت عمن يقود الحركة وخلعت عليه الزعامة، فإذا اتجهت إلى «س» فعاقته عوائق عن النبوغ اتجهت إلى «ص»، وعلى كل حال فلا بد من نابغة، فإذا لم تتهيأ الظروف فلا نابغة؛ وهذا هو تعليل عدم الانتظام في ظهور النوابغ، فيظهر كثيرون في زمن، ولا يظهر أحد في أزمان.

لست أنكر التأثير الكبير للنابغة، ولكنه لا يكون إلا بعد أن تتهيأ الأمة أولًا، ولو فرضنا أن النابغة خلق وجاء لأمة على غير استعداد لتعاليمه لم يفد أية فائدة، وذهب كما جاء، إنما يفيد النابغة يوم يجد عقولًا خصبة كانت تنتظر الزعيم فتدخل في دينه وتتجمع حوله، وتكون جنده، يفتح بهم أمته، ثم أممًا مع أمته.

وفرغوا من أكل «المانجو» و«لخمته» وتفرغوا للجو والحديث.

المؤرخ: إن نوابغ الأفراد لا المجتمعات هم الذين يأتون بالأفكار الجديدة الثورية؛ في الأخلاق، في السياسة، في الفنون، في العلوم؛ ووظيفة المجتمع أنه يعرقل سيرهم أولًا، ويضع العقبات في سبيل تعاليمهم، ويتهمهم بالمروق والزندقة والإفساد، ويصب عليهم العذاب ألوانًا؛ ومع ذلك تبقى آراؤهم، ويزيدها العذاب قوة، ثم تكتسح الأفكار القديمة وتحل محلها، ثم ما كان من الأفكار جديدًا ثائرًا يُصبح قديمًا محافظًا، حتى يأتي النابغة فيعيد السيرة، وهكذا دواليك إلى اليوم، وإلى غد، وبعد غد.

فترى — يا أخي — من هذا أن المجتمع ليس سبب النهوض والتغيير، إنما هو عامل القرار والثبات؛ فإذا كان لا بد للمجتمع من قوتين: قوة الدفع وقوة التعويق، فالنوابغ هم الدافعون والمجتمع هو المعوق، النابغة يحمل المشعل والمجتمع يُحاول إطفاءه، وكلما كان النابغة أكثر رقيًّا وأشد إمعانًا في النظر، كان أكثر بعدًا عن قومه، وكانوا له أكثر اضطهادًا، حتى ليُرمى بالجنون؛ وبعد اضطراب وعنف وتخريب وضحايا يستقر رأي النابغة، وكثيرًا ما يحدث أن يكون ذلك بعد موته أو قتله، ثم تسفر النتيجة عن أن النابغة هو المقترح، ومشخص المرض، وواصف العلاج، والمجتمع أخيرًا جدًّا هو منفذ العلاج.

•••

وهنا أدار أحدهم عينه في الأفق، فلمح نجمًا يلمع لمعانًا براقًا، فقال: انظروا هذا النجم الصافي اللامع المضيء القوي، ما اسمه؟

– والله لا أدري، فأنا أجهل الناس بشيئين: أسماء النجوم وأسماء النبات، فلست أعرف من النجوم إلا الشمس والقمر، ولا من النبات إلا النخل والذرة، حتى القطن لا أعرفه إلا إذا «لوَّز».

ضحكٌ من الجميع.

•••

الاقتصادي: إنك لم ترد على شيء مما قلت، غاية الفرق بيني وبينك أنك عمدت إلى النتائج فأوضحتها، وأنا أعمد إلى الأسباب فأشرحها؛ إنك تبين عمل النابغة، وأنا أبين الأسباب التي تحمل على خلق النابغة؛ وخير إذا شرحنا الأمور أن نتعمق إلى جذورها، فإذا نحن عمدنا إلى ذلك رأينا أسباب نهوض الأمم وتغيرها أسبابًا اقتصادية بحتة.

كل شيء في هذه الحياة يرجع إلى المادة، فهي التي تعكس صورها وأثرها على العقل، فيجب أن تتغير المادة — أولًا — ثم يتبعها العقل في التغير فيكون الرقي أو الانحطاط؛ ولو رجعنا إلى التاريخ — كما تقول — لوجدنا كل الآراء وكل النظم ترجع في أساسها إلى البيئة التي نشأت فيها والتغيرات التي وضعت لها، لقد كان الإنسان الأول يعيش على صيد الحيوان في البر والسمك في البحر، فكانت آراؤه وأفكاره ومعيشته مشتقة من بيئته، ثم تغيرت البيئة، فأصبح يعيش على رعي القطعان أو الزراعة، فتغيرت آراؤه وأنواع معيشته وحاجاته تبعًا لذلك، ثم تغيرت إلى نظام إقطاعي، ثم إلى نظام رأسمالي، فتغيرت كل نظمه وكل آرائه حتى الأخلاقية والسياسية، ويمكن أن نرجع أدق التفاصيل وأعمق الأفكار إلى هذا النوع من البيئة كما درسنا في الاقتصاد، ولكن مما لا شك فيه كذلك أن أنواع الحياة وتفاصيلها وعواملها أصبحت الآن أكثر تعقدًا؛ لأن كل النظم القديمة النابعة من البيئات القديمة لم تفقد أثرها وورثتنا كثيرًا من تعاليمها ووحيها، لم يكن في المجموعة من الناس طبقات يوم كانوا يصيدون ويرعون، ثم لما أصبحت زراعية نمت الملكية الخاصة، فكان غني وفقير، وبدأت الطبقات، ونشأ عن ذلك مالك وأجير، أو مالك وعبد، فوجد نوعان من العلاقة: علاقة الملاك بالبيئة الطبيعية، وعلاقة الملاك بالعبيد، فنشأ عن هذا تغير في الأفكار لا عد لمظاهره، وثورات واضطراب، ومصلحون ونوابغ يحلون هذه المشاكل، وتعقدت هذه العلاقات في النظام الإقطاعي، ثم زادت تعقدًا في النظام الرأسمالي، وما نشاهد من عادات ومن رقي ومن اختراع ومن أسواق، ومن نظريات في الاقتصاد، ومن نظم في التجارة، ومن مذاهب اشتراكية وفاشية وشيوعية، ومن نزاع طبقات، ومن حروب أمم؛ كله نتيجة هذه العوامل الاقتصادية، وإن شئت فقل البيئة الطبيعية.

ثم استمر يقول: وإني أومن بالجبر على هذا المعنى، معنى أن نوع الحالة الاقتصادية منتج لا محالة نوع المعيشة الاجتماعية التي يعيشها الشعب، واختيار الإنسان وبواعثه وحرية إرادته كلها تلعب في دائرة ضيقة ضمن الدائرة الواسعة وهي دائرة الجبر، كحرية الإنسان في بيت مغلق؛ والنوابغ الذين ينبغون في كل عصر مع الاعتراف بقوة أثرهم إنما هم نتيجة هذه الظروف الاقتصادية؛ وحتى رقي الآداب والعلوم والفنون أو ضعفها ناتج أولًا من الحالة الاقتصادية، فهي التي تخلق نوابغها، ثم هؤلاء النوابغ يسيرون حركتها.

وأحداث التاريخ التي أشرت إليها يمكن أن تُفسَّر هذا التفسير الاقتصادي؛ فحالة العرب الاقتصادية قبيل البعثة كانت متهيئة لنبي، ولأمر ما كانت بعثة النبي في مكة، لا في غيرها من بقاع جزيرة العرب، لما كان فيها من الحركة التجارية العظيمة، فهي مورد التجارة من الخارج، وهي مصدر الإصدار لسكان الجزيرة في أيام الحج، بما كانوا يقيمون من أسواق، وما كان من أدب في سوق عكاظ فتابع للسوق التجاري؛ ولأمر ما كذلك كان أكثر من دخل في الإسلام أول الأمر من رقيقي الحال الذين سماهم صناديد قريش «الفقراء والمستضعفين والأذلة» وأكثر الذين عصوا وعاندوا هم الأثرياء الأغنياء، كأبي لهب، وأبي سفيان من الذين خشوا على مركزهم المالي وما يتبعه من جاه؛ وفي القرآن كثير من النصوص التي عُنِيَ فيها بالشئون التجارية، كمَنِّ الله على قريش بتيسير أسباب التجارة لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وتأنيبه الذين وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا، وتحريم الربا وحل البيع، إلى كثير من ذلك، ثم المطالبة بنزول الأغنياء عن بعض مالهم للفقراء بالزكاة والصدقة ونحوهما؛ كل هذه أمور اقتصادية هيأت الظروف وأنتجت النتائج، ويمكنك على هذا الأساس — وبهذه النظرية الاقتصادية — أن تُفسر أحداث التاريخ الإسلامي والثورات ورقي العصور وانحطاطها.

والآن يمكن تطبيق هذا على الشرق والغرب والمستعمِر والمستعمَر؛ فالاستعمار ليس إلا ظاهرة اقتصادية؛ إذ أدى الانقلاب الاقتصادي الذي حدث في أوروبا في القرن الثامن عشر إلى التوسع في الإنتاج الصناعي، فاحتاجت أوروبا إلى امتلاك مستعمرات تحصل منها على المواد الأولية للصناعة ثم لتُصرِّف فيها سلعها؛ فكانت خيرات الشرق للغرب، وأصبح الأول ضعيفًا غير ناهض لفقره ولسوء حالته الاقتصادية، والعكس.

فإن شئت للشرق رقيًّا فأعنه، وابحث عن الطرق التي تمكنه من استغلال بيئته الطبيعية لنفسه، فإذا هو غني وإذا هو عالم، وإذا هو أديب، وإذا هو مخترع، وإذا هو ما شئت.

•••

ساد الجميع سكون لم أتبينه، أهو سكون رضًى واقتناع، أم هو سكون تفكير واستعداد للدفاع!

والتفت أحدهم إلى الأديب المتفلسف أو الفيلسوف المتأدب، فقال: ما رأيك؟ لقد أطلت السكوت وسمعتَ وجهتي النظر، وكان طول الجلسة ساهمًا حالمًا يسمع بنصف نفسه، ونصفها الآخر في الجو والهواء والنيل والسماء.

فقال: أما أنا فإني أردد قول الله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ، رأيي أن كليكما حكى بعض الحقيقة؛ فليس عامل التغير النابغة وحده، ولا الفرد وحده، ولا البيئة وحدها؛ وإنما هو «الإنسان في البيئة» والنابغة في الظروف؛ وكلاكما أهمل جدًّا جانب الروح، مع أن التاريخ كله ليس تاريخ النوابغ ولا تاريخ المال، وإنما هو تاريخ الروح أيضًا، إن الروح الإنسانية تسعى دائمًا لغايتها المرسومة لها، وغايتها الحرية العاقلة، والظروف الخارجية تضغط عليها، وهي تحاول دائمًا دفع هذا الضغط وكسر الأغلال حتى تصل إلى غايتها.

وأحداث التاريخ سلسلة من الضغط على اختلاف الأشكال ومحاولة النفس تحررها من الضغط والأغلال غير العاقلة، وهي دائمًا في خطوات إلى الأمام نحو تحقيق هذه الغاية.

ومن الخطأ في نظري تفسير كل شيء بالمادة وإهمال الروح، والقول بأن الإنسان مسير بجيبه لا بروحه، إن النظر إلى المادة وحدها جعل الغرض المنشود هو القوة المادية بالمال وبالقوة الحربية، فماذا كانت نتيجة ذلك؟ نتيجته صراخ الأرض حتى ضجت من صراخها السماء، وتلوين الخرائط بمالك ومستعمر، واستعباد أكثر الإنسانية لأقلها، ولذة الأقلين بألم الأكثرين، إن الأمم ظلت تتسابق في القوة المادية حتى ضاعت حكمة حكيمها، وفلسفة فيلسوفها، وعميت عن الغاية من القوة، واتخذتها غاية لا وسيلة، حتى ذهب عن الأرض سلمها وجمالها؛ وفي التاريخ ما يرشدنا إلى أن القوة المادية كالقوة العسكرية تنتهي دائمًا بتحطم نفسها، كان كذلك اليونان والرومان، والقرطاجينيون، ومن أتى بعدهم إلى اليوم.

إن العالم قوَّى جسمه وقوَّى عقله وقوَّى يده، وبقي عليه أن يقوِّي قلبه؛ ولعل الكوارث الحاضرة تنتهي إلى الالتفات إلى القلب كما التفت إلى إخوته.

وقوة الروح هي التي تُغير الأمة وتخلق المادة.

الاقتصادي : ألست ترى أن دعوتك إلى الروحية كدعوة المتصوف إلى الصوفية؟ وما ظنك بصوفي ينازل جنديًّا مسلحًا؟ إن شئت أن تدعو إلى الروح فعمم الدعوة، ولا تدْعُ إلى وضع السلاح حتى يضعه خصمك، وإلا أُكلت.
الأديب : إن السلاح سيأكل نفسه.
الاقتصادي : إني أشك.

ونظر أحدهم إلى الساعة فوثب قائلًا: هذا آخر موعد لآخر ترام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤