الفصل الثالث

ثلاثة نقاد للضمير: دوستويفسكي ونيتشه وفرويد

خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دعا عدد من المفكرين، في مجال الدين مثل باتلر وفي مجال الفلسفة مثل سميث، إلى نظرة متفائلة تدور حول ضمير يسهل اكتسابه ويسعى إلى تحقيق الخير الاجتماعي. وقد تجلت تلك الآراء المتباينة في أعمال عديدة ذات شعبية في الأوساط الفكتورية، مثل اللحظة الشاعرية التي جسدها الفنان هولمان هانت في لوحته المسماة «يقظة الضمير». ففي هذه اللوحة، صور هانت لحظة تنوير استمدت إلهامها من الضمير عندما ضاعت آمال أحد الماجنين في غواية امرأة شابة عند ظهور طيف أخلاقي لها. وفي لوحة هانت — بالإضافة إلى العديد من الروايات والأعمال الفنية الخيالية المشهورة — يوجد خلط بين الضمير وما يسمَّى بالأخلاقيات العامة؛ فبدلًا من الموافقة على الخروج الوقح عن التوقعات العادية، يمثل الضمير الوتد الذي تَفرض من خلاله القيود والموانع المجتمعية نفسها على السلوك الشخصي للأفراد، لكن المحرك القوي للضمير يعمل عملًا لا يتناسب مع قدراته الهائلة إن اقتصر دوره على ضبط السلوك الشخصي طبقًا لقيم المجتمع، تلك القيم التي نربطها في الوقت الحاضر بكتب المساعدة الذاتية التي تباع للمسافرين المشغولين في أكشاك الجرائد الموجودة بالمطارات. ولا تستطيع الآراء المتفائلة المشوشة حول الضمير — باعتباره يمثل مصدرًا يعول عليه للرقي الأخلاقي — سوى إزعاج المزيد من المعلقين المتشككين في هذه الآراء.
fig6
شكل ٣-١: لوحة «يقظة الضمير» للفنان ويليام هولمان هانت، عام ١٨٥٣.1

ينتمي النقاد الثلاثة الذين كتبوا عن الضمير — والذين يتناولهم هذا الفصل — بالكاد إلى فريق واحد أو إطار فكري واحد (على الرغم من أن بعض خطوط التأثير يمكنها التوحيد بينهم)، لكنهم يشتركون في احتقار فكرة الضمير بوصفه مسئولًا عن التحسين الذاتي غير مثير للمشاكل أو مدافعًا كريمًا عن المبادئ الأخلاقية العامة. ويعرض النقاد الثلاثة مجموعة مترابطة من المشكلات: ماذا لو كان الضمير يمثل عبئًا زائفًا وغير ضروري بدلًا من أن يمثل صوت الله الآمر أو الإجماع الاجتماعي المستنير؟ وماذا لو كان الضمير يمثل عبئًا اخترعناه ونفرضه على أنفسنا بلا داعٍ؟ بل أسوأ من ذلك، ماذا إن قبلنا ما تمليه علينا التأثيرات الخارجية المستبدة أو الزائفة وأضفينا عليها صفة ذاتية، مما يؤدي إلى ضمير يتشكل من التحيز الجاهل والمنع غير المدروس؟

الهجوم على الضمير

في رواية «الجريمة والعقاب» (١٨٦٦) لدوستويفسكي، ينشغل بطل الرواية (أو على الأحرى بطلها الذي لا يحمل الصفات المتوقعة من البطل) راسكولنيكوف مبكرًا بفكرة أن الضمير — أو في هذه الحالة صاحبه الملازم «الخوف الفطري» — قد يمثل بالفعل قيدًا غير ضروري على اختيارات الإنسان وأفعاله، فهو يتصور أن «الإنسان إن لم يكن يتصف بالنذالة في الحقيقة … لا يتبقى له سوى التحيز والخوف الفطري، ولا وجود للحواجز». ويكرس المؤلف بقية أحداث الرواية لإظهار خطأ راسكولنيكوف وإثبات وجود الحواجز، لكنه لا يترك هذه الحواجز دون تحديات؛ حيث تبحث الرواية في دراسة الشرعية المختلطة والمنقوصة غالبًا لهذه القيود التي نفرضها على أنفسنا. ويُعترف بالضمير — وغيره من الأنواع الأخرى من القلق المصحوب بالشك — بوصفه أحد هذه الحواجز، وتتعرض دوافع سلطته بشكل دائم إلى اختبار شديد التشكك.

يؤكد راسكولنيكوف موقفه من الضمير في مقال جدلي يزعم فيه أن «الإنسان «المتميز» له الحق — وهو ليس حقًّا رسميًّا بل حقه الخاص — في السماح لضميره بتخطي عقبات معينة». ويقدم صديقه رازوميخين اعتراضًا أخلاقيًّا شديدًا قائلًا: «إنك في نهاية المطاف تسمح بإراقة الدماء دون أن تشعر بالذنب … ومن وجهة نظري، فإن هذا السماح بإراقة الدماء دون الشعور بالذنب أو وجع الضمير أكثر فظاعة مما إذا كانت إراقة الدماء مسموحًا بها رسميًّا وقانونيًّا.» لكن النقد الأكثر حدة يظهر في النهاية على لسان بورفيري قاضي التحقيق مع راسكولنيكوف، والذي يناقشه في ادعاءاته الساذجة بالتميز، ثم يخلُص إلى الملاحظة نافذة البصيرة بأن بعض هؤلاء الأشخاص الذين يتسمون ظاهريًّا بالتميز قد يحققون أهدافهم، لكنهم (على لسان راسكولنيكوف) «يبدءون في إنزال العقاب بأنفسهم». وقد تمكن راسكولنيكوف مؤقتًا من كبت هذا المبدأ التشريعي في عقله، والذي كان يمكنه منعه من اقتراف جريمته، لكن كل شيء له ثمن «لقد قتلت نفسي وليس العجوز الشمطاء»، بالإضافة إلى أن هروبه من قسوة ضميره كان هروبًا مؤقتًا وليس دائمًا. ومن خلال قياس عجز راسكولنيكوف عن الهروب من قسوة ضميره، يقدم لنا دوستويفسكي شخصية سفيدريجيلوف غير الأخلاقية والذي يتناوب بشكل عشوائي القيام بأعمال شائنة من الناحية الأخلاقية وأعمال أخرى تتسم بالكرم المطلق، والذي يصف ضميره بأنه «في حالة خمول تام». ولا يستطيع راسكولنيكوف تبنِّي هذا الموقف على الرغم من تهديداته ﺑ «تخطي» الحد الفاصل الأخلاقي، وعلى الرغم من جميع تخيُّلاته النابوليونية.

سوف يتعرض راسكولنيكوف بالفعل للبعث من جديد في سيبيريا عند نهاية الرواية، لكن هذا البعث لن ينشأ عن «تأنيب الضمير» الذي تتخيله دونيا المخلصة (لكنها ضعيفة الخيال). وحتى وهو يندفع مهاجمًا نفسه لعجزه عن اتخاذ «الخطوة الأولى»، فإنه ما زال يعاني من كبريائه الجريحة والانتقاد التأديبي لعجزه عن الهرب من أوجه قصوره أكثر مما يعاني من الضمير نفسه، وتظل علاقته بالضمير متأرجحة ومتضاربة. وحتى وهو يحاول التغلب عليه بوصفه قوة مؤثرة في حياته ويرفضه بثبات في نهاية الأمر، فهو يمثل مجموعة من «النتائج» خلال الرواية، ويمكننا تفسيره بوصفه عبئًا ضمنيًّا في انجذابه المبكر اللانهائي للاعتراف، وفي إفراطه في النقد الذاتي إلى حدٍّ مَرَضي، وفي إقصائه النهائي لذاته الجريحة وكبريائه المفرطة لصالح حب مُذِل مهين.

تمثل رواية «الجريمة والعقاب» دراسة للضمير وليس تبريرًا له بالمعنى الدقيق، واستمرت تلك الدراسة في كتابات دوستويفسكي الأخرى، وخاصة في روايته التي تؤكد نفس النقطة «الإخوة كارامازوف» (١٨٨١). ويمكن القول إن الرواية بأكملها يمكن تفسيرها باعتبارها دراسة «لمبادئ» الضمير، وهي تبدأ بتعريف «الضمير الكارامازوفي» التقليدي بوصفه اختزالًا لإدراك أخلاقي سطحي وغير مكتمل، ثم تطرح تساؤلات بلا إجابة شافية عن كيف وأين يمكننا أن نجد رؤية أكثر استدامة للضمير. وانطلاقًا من افتراضات الدين المؤسسي، يقدم رئيس الكنيسة رؤية تقليدية لكنها إنسانية يحمي الضمير بموجبها المجتمع، ويمتلك القدرة على التغيير الفردي بمقتضى «قانون المسيح فحسب الذي يتجلى في اعتراف المرء بضميره». وهذا النوع من الضمير تديره الكنيسة، وهو يتيح الفرصة للإصلاح الداخلي الذي يمتلك القدرة على «تخفيف» الشعور بالذنب. لكن هذا التداول للمسئولية بين الكنيسة المؤسسية والفرد الذي ينتقد ذاته ليس صارمًا بالقدر الكافي من وجهة نظر رئيس محكمة التفتيش المدافع عن مؤسسة تعلم احتياجات الأفراد أفضل مما يعلمونها هم أنفسهم. وتوحي وجهة نظر شيخ الكنيسة له بالتحرر الذاتي، وهي في مرونتها «الغامضة غير العادية وغير المحدودة» لا تقدم أساسًا مستقرًّا لتهدئة ضمير لا يقنع ولا يشبع بطبيعته، ويقدم رئيس محكمة التفتيش ضميرًا محدودًا واضحًا في مطالبه تدعمه السلطة الكنسية في كل المواضع.

ومن جانبه فإن إيفان العاقل (لكن المهزوز) يتحالف مع الشيطان أكثر مما يتحالف مع رئيس محكمة التفتيش، وتعد حوارات إيفان مع الشيطان بالطبع معبرة عن الشكوك والاحتمالات التي تنشأ داخل عقله. وفيما يتعلق بالضمير، يمكن فهم هذا البديل الشيطاني باللغة الفرويدية على أنه يقدم أكثر البدائل إغراءً وإرباكًا، متذرعًا بصيغة النفي التي يصوغ بها هذه البدائل؛ أي إن إيفان يسمح لنفسه بأن يقول ما يفكر فيه أو يخشاه بالفعل مدعيًا أنه يمثل إغواءً شيطانيًّا. وفيما يتعلق بالضمير، يستأنف الشيطان العمل من حيث توقف راسكولنيكوف مقتنعًا بأن مهمة الإنسان المتميز تتمثل في تحرير نفسه من قيود الضمير. ويصيح إيفان في أليوشا قائلًا:

لقد سخر مني! وذلك ببراعة، ببراعة شديدة قائلًا: «الضمير! ما الضمير؟ إنني أختلقه بنفسي، فلِمَ أُعاني إذن؟ بحكم العادة، بحكم العادة الإنسانية البشرية على مدار سبعة آلاف عام. دعنا إذن نتخلص من العادة، وسوف نصبح آلهة!» لقد قال ذلك، لقد قال ذلك!

لكن إيفان، على غرار راسكولنيكوف، يغوي نفسه ويعذبها بأفكار لا يستطيع في نهاية الأمر تحملها، وفي أكثر أفكاره جرأة فهو يدَّعي للقاتل الحقيقي سميردياكوف أنه لولا الله «لكان كل شيء … مباحًا، مهما جرى في العالم، ومن الآن فصاعدًا يجب ألا يصبح هناك أي شيء ممنوع». وهو لا يستطيع أن يحتمل مواصلة التظاهر بالشجاعة، فهو على الرغم من كل شيء على شفا اعتراف مدفوع بالذنب مخادع لذاته جزئيًّا باشتراكه في قتل والده، وتمتدحه الشخصيات الأخرى لما يطلق عليه أليوشا «ضميره العميق»، وسوف تعلن كاتيا في المحكمة أنه ضحية «ضمير عميق، عميق بشدة» يعذب نفسه، وتحييه في النهاية وهو يرقد مصابًا بالحمى الدماغية بوصفه «بطلًا للشرف والضمير». لكن تلك المحاولات لامتداحه بوصفه نموذجًا مجسدًا للضمير تسعى إلى فرض وجهة نظر تقليدية متخلفة على موقف لم يعد يدعمها. وفور أن وضحت فكرة الضمير بوصفه اختراعًا أو نظرية وعبئًا غير ضروري مفروضًا ذاتيًّا، حتى وإن كان ذلك عن طريق متحدث رسمي سيئ السمعة كالشيطان ذاته، أو حتى بوصفه خيارًا سيئًا في أفكار إيفان المحمومة، فسوف تظل مصدر إزعاج إضافي لمفهوم يلاقي الكثير من التحديات بالفعل.

عند اكتشاف ترجمة فرنسية لرواية «رسائل من أعماق الأرض» عام ١٨٨٧، كتب نيتشه إلى صديقه أوفربيك قائلًا إن «غريزة القرابة (أم ماذا أطلق عليها؟) قد أعلنت عن نفسها بوضوح في الحال». ويعتبر القول الذي وجَّهه إيفان إلى سميردياكوف «كل شيء مباح» أحد التعبيرات النموذجية لنيتشه، وتشير حقيقة أن نيتشه قد كرر تلك الكلمات (حتى وإن كان ذلك مصادفة، أو خاصة إن كان ذلك مصادفة) في كتابه «أصل الأخلاق وفصلها» إلى الخلفية المشتركة التي يحملها هذان المفكران. وقد احتفى نيتشه بتأملات رجل الأعماق المروعة، وشاركه وجهة نظره القائلة إن أقسى ألم داخلي مبرح موجه للذات كما هو مجسد في المبدأ الرئيس في كتاب «أصل الأخلاق وفصلها» القائل إن «أنت وحدك الملام على شئونك الخاصة». ويعتمد على هذا المبدأ اتجاه الاستياء كما يفهمه نيتشه، وهو انحراف عن الاتهام الموجه من الظروف الخارجية المتمردة نحو اتهام للذات لا مبرر له لكنه مُلح. ويمثل أبطال دوستويفسكي — الذين يتهمون ذواتهم ويعاقبونها — أفضل كوكبة يمكن تخيُّلها من الأبطال على طراز نيتشه الذين يتهمون ذواتهم أيضًا.

ومن وجهة نظر نيتشه، فإن الضمير يحرِّض على هذا الاتهام الذاتي، وهكذا فهو يصبح جزءًا من المشكلة وليس الحل بالنسبة للجنس البشري. وفي كتابه «أصل الأخلاق وفصلها»، يحاول أن يبرهن أنه بسبب هجمات القيود الدينية والاجتماعية فإن العدوانية الطبيعية التي يتصف بها الجنس البشري والتلذذ بالانتقام قد أعيقا وأجبرا على التوجه للداخل؛ ومن ثَمَّ أصبح الإنسان يعادي ذاته وترجم ذلك إلى ممارسات تعذيب الذات بنفس القسوة التي كان يمارسها أسلافنا المتعطشون للدماء. والضمير هو متعهد هذا العقاب الذاتي المغروس لا شعوريًّا في الذهن، وهو يقول: «إنني أنظر للضمير النادم بوصفه المرض الخطير الذي يصاب به الإنسان لا محالة تحت ضغط أكثر التغييرات التي مر بها جذرية، وهو ذلك التغيير الذي حدث عندما وجد نفسه في نهاية الأمر محاصرًا داخل جدران المجتمع والسلام.» ولما كانت الإنسانية مقيدة إلى هذا الحد وتعمل على توجيه إحباطاتها من جراء هذا التقييد للداخل، فقد ينظر إليها كما لو كانت «حيوانًا يحك جسمه بقضبان قفصه حتى يلحق بنفسه الأذى». ولما كان الجنس البشري غارقًا في شعور بالدين الذي لا يرد والندم غير المحدود، فقد «اخترع الضمير الفاسد كي يؤذي نفسه بعد أن سُد المتنفس الطبيعي لرغبته».

وبالطبع فإن أسطورة الأصل الخاصة بنيتشه خاطئة تمامًا وغير مقنعة على الإطلاق فيما يتعلق بالتاريخ الحقيقي لهذا المفهوم، فهو يتخيل الضمير النادم كما لو كان تطورًا حديثًا نتج عن حظر القسوة وحظر الاحتفالات بالعقاب التي كانت تلازم نقض العهود وخرق العقود سابقًا وتذيل النظام القضائي بأكمله، بينما في حقيقة الأمر فإن الضمير النادم الذي يؤلم صاحبه ويزعجه ويجرحه ويهدده كان موجودًا منذ البداية (كما أوضحت سابقًا) في القانون وفي القضاء الروماني، ومنذ تبنِّي المسيحية له منذ القدم. ولا يمكن أن تكون تخيلات نيتشه لعصر فردوسي كان فيه البشر يتقبلون عنفهم وقسوتهم ويحتفون بهما وكانت كل الضمائر سليمة تخيلات حقيقية؛ وذلك لأنه منذ ظهور الضمير لأول مرة وهو يستنكر السلوك السيئ ويطالب بالتحول إلى وضع أفضل. وكما أكد تيليك وآخرون، فإن الحالة الشعورية غير المستقرة (ومن ثَمَّ شديدة «الندم») هي الوضع الافتراضي للضمير، والضمير «السليم» الذي يشعر بالرضَى عن أفعال صاحبه علامة أكيدة على وجود مشكلة أخلاقية.

الضمير: هل هو مثير للمتاعب أم ذات أخرى؟

كانت هوية الضمير بوصفه «ذاتًا أخرى» خارقة للطبيعة قد استقرت بالفعل عندما تهجم ضمير أوغسطين عليه لفظيًّا في نهاية القرن الرابع، وكان ضمير أوغسطين يمثل جزءًا منفصلًا عنه أو قسمًا منه أو موضع مراقبة يمكن للمرء منه أن يراقب تصرفاته. وقد علق عالم اللاهوت ويليام بيركنز في كتابه الذي يحمل عنوان «خطاب الضمير» (١٥٩٦)، بدهاء على ما أطلق عليه تَصَرُّفَي الفهم قائلًا: «يفكر العقل في فكرة، ويتخطى الضمير العقل ويعلم ما يفكر فيه … وعن طريق هذا التصرف الثاني قد يشهد الضمير حتى على أفكاره.» ويتعرض نظيره الأدبي شبه المعاصر، ريتشارد الثالث — من تأليف شكسبير — لعملية تقسيم لجزأين متناقضين على نحو مشابه، حيث يعترف قائلًا «إنني … أكره نفسي؛ نظرًا للأفعال البغيضة التي ارتكبتْها نفسي.» وفي القرن الثامن عشر أضفى آدم سميث وإيمانويل كانت شكلًا محددًا على هذا الانعكاس، وذلك عن طريق نظرياتهما القائلة بوجود متفرج موضوعي يعلم عنا كل شيء ويراقب أفعالنا.

ولما كانت هي النفس والآخر في الوقت ذاته، فإن تلك الذات الأخرى تمزج بين موضوعية الغريب والألفة الشديدة مع أفكارنا، وتقدم لنا تلك «الذات الأخرى» مصدرًا قيمًا للتعقيد الأخلاقي لمعنًى منقوص للذات بوصفها كاملة و«صحيحة»، لكن على حساب الانقسام الداخلي. وقد وضع فرويد تلك القدرة في سلسلة تمثل مصدر إزعاج، معلقًا في مقاله الذي يحمل عنوان «عن النرجسية» أن الضمير «يمكننا من فهم ما يطلق عليه «أوهام الملاحظة» … التي تعتبر أعراضًا بارزة لأمراض جنون العظمة». ولا داعي لأن يوصم صاحب الضمير بجنون العظمة، حيث توفر تلك الذات الأخرى مصدرًا محتملًا للتوازن، لكن الفرد المبتلَى بالضمير يعلم بعض الشيء عن تجربة المصاب بجنون العظمة في الانقسام الداخلي.

وعلى الرغم من ذلك فقد توصَّل نيتشه بالطبع إلى اكتشاف مهم، ويشبه هذا الكشف ما وسوس به الشيطان لإيفان كارامازوف قائلًا إن الدخول في حكم الضمير — حتى وإن لم يكن طوعًا تمامًا — فهو على الأقل أمر يجب أن نقوم به بأنفسنا. وسواءٌ أكان موجودًا منذ البداية أم، كما يدعي، مفروضًا متأخرًا، فإن الضمير الباعث على الندم أمر يجب أن نصيب به أنفسنا، أو على الأقل نسمح لأنفسنا بأن تصاب به.

اقترح كلٌّ من دوستويفسكي ونيتشه موضوعًا أن الإنسان منقسم على ذاته، وأنه في مواجهة مع صوت معادٍ أو عقابي قد اخترق بالفعل كل المجالات الدفاعية واستقر به المقام في العقل. ويسمع إيفان كارامازوف هذا الصوت كما لو كان صوت الشيطان، على الرغم من أننا ندرك أنه شكل مختلف عنيد لصوته هو. ويؤكد نيتشه أن مثل تلك الأفكار المؤذية للنفس يعبر عنها صوتنا الخاص كما لو كانت أفكارنا نحن، فنحن — كما يقول في مقدمة كتابه «أصل الأخلاق وفصلها» — «غرباء عن أنفسنا»، أي إننا نعزل أنفسنا عن أنفسنا عندما نقدم أفكارًا عقابية أو أفكارًا تجلد الذات كما لو كانت أقوالًا شخصية أو خاصة. وهو يتفهم جيدًا — كما سيتفهم فرويد — أن هذا الصوت العقابي قد يقدم نفسه متخفيًا في المظهر اللطيف للإصلاح أو التأديب من أجل تحسين حالنا، لكنه في الوقت ذاته مصدر للعذاب اللانهائي.

ويعلق نيتشه على الضمير قائلًا: «تغلب عليه!» لكنه لا يتوقع أن نتغلب عليه في وقت قريب، وسواءٌ أكانت الظروف مواتية أم لا (وبالطبع سوف يقول نيتشه إن الظروف غير مواتية)، فمن غير المحتمل أن ننجح في إبعاد هذا الصوت عن رءوسنا أو آذاننا. أما كيفية تسلل هذا الصوت إلينا فهو موضوع تعلم عنه فرويد الكثير من كلٍّ من دوستويفسكي ونيتشه، وهو يبني عمله على افتراضاتهما في نظريته الخاصة بالضمير بوصفه صوت الأب المعاقب.

يُعتبر إيفان كارامازوف حالة فرويدية نموذجية قبل ظهور فرويد، فعلى الرغم من أنه لم يقتل والده، فإنه يعترف بالاشتراك في الجريمة لأنه تمنى موته، حيث تساءل أثناء محاكمته: «ومن منا لا يتمنى وفاة والده …؟» هذا إذن هو مولد الضمير، حيث يقوده شعوره بالذنب إلى تخيل نفسه شريكًا في جريمة لم يرتكبها. ولا عجب أن فرويد — الذي اعتبر «الإخوة كارامازوف» أروع الروايات التي كُتبت على الإطلاق — قد انصب اهتمامه عليها في مقاله الذي يحمل عنوان «دوستويفسكي وجريمة قتل الأب»، حيث وجد في دوستويفسكي نموذجًا مَرَضيًّا لمن يحمل صوت والده الناهي في الأنا الخاصة به، لكنه لا يتحمل قيود هذا الصوت ومن ثَمَّ يصبح مشهورًا بقتل والده. وهو يقول عن الرواية: «لا يهم من ارتكب الجريمة حقًّا، فعلم النفس لا يهتم سوى بمعرفة من رغب شعوريًّا في وقوعها ومن رحب بوقوعها عندما تمت.» وهو في تلك الحالة ليس الأخ غير الشقيق القاتل سميردياكوف فحسب، بل أيضًا ديميتري وإيفان.

ومن المفاهيم الفرويدية الأساسية أن الشعور بالذنب — والضمير بوصفه محرضًا له — أكثر حرية في الحركة مما نتخيل، وأن علاقتهما بالفعل الإجرامي تختلف عما يفترضه الناس غالبًا. فبدلًا من كونه نتيجة للفعل الإجرامي، فإن الشعور بالذنب المتولد عن الضمير يمكن فهمه في النظام الفرويدي بوصفه حافزًا للفعل الإجرامي؛ ومن ثَمَّ فإن الفاعل الذي يشعر بالذنب نتيجة للعداء المكبوت أو أي نوع آخر من الاستياء يرتكب (أو يتوهم أنه قد ارتكب) جريمة من أجل تقديم معادل موضوعي للشعور بالذنب. وهو ما يلقي الضوء على موضوع معرفة فرويد الوثيقة بكتابات نيتشه وإعجابه به، حتى إنه ينسب إليه (في كتابه «أنواع الشخصيات في التحليل النفسي») مفهوم «سبق الذنب للجريمة». وفي هذا الاتهام، يقل اعتبار الضمير (وربيبه الشعور بالذنب) قادرًا على السيطرة على الجريمة أو مبرئًا منها، بل يُرى بوصفه أمرًا متأصلًا في الجريمة نفسها أو شعورًا لا يهدأ بالاستياء من المرجح أن يؤدي إلى ارتكاب جرائم أكثر مما يؤدي إلى السيطرة عليها أو التكفير عنها.

ويتطلب الأمر مقالًا منفصلًا لتتبع أوجه الشبه بين أفكار كلٍّ من فرويد ونيتشه عن الكبت وبعض المفاهيم الأساسية الأخرى، لكنني أود الإشارة بوجه خاص إلى اعتماد فرويد الضمني — وفي الوقت ذاته شديد العمق — على نظريات نيتشه عن الضمير المعاقب للذات في صياغته لأفكاره الخاصة عن الأنا العليا أو الأنا المثالية وعدائها الفطري العقابي للأنا وبالتالي للذات. ويمكن إيضاح هذا التشابه الشديد في اقتباس صغير من كتابات كلٍّ منهما:

ليس الضمير … كما قد تعتقد، هو «صوت الله داخل الإنسان»، لكنه غريزة الوحشية التي تتجه للداخل ما إن تعجز عن تفريغ شحنتها بالخارج.

(نيتشه، «ما الذي يجعلني أكتب تلك
الكتب الممتازة»، «هو ذا الإنسان»)

كلما تحكم الإنسان في عدوانيته، اشتدت الميول العدوانية للأنا المثالية (الأنا العليا) لديه ضد الأنا.

(فرويد، «الأنا والهو»)

وفي كل حالة، يؤدي انسداد مخرج المشاعر العدائية (عدم قدرة الوحشية على تفريغ شحنتها أو تقييد العدوانية) إلى ارتدادها للداخل (توجيه الوحشية للذات أو العدوانية ضد الأنا).

وتعمل الأنا المثالية لدى فرويد — ولاحقًا في أعماله الأنا العليا — في حيز الضمير، وتؤدي مهام التوبيخ والتقريع التي عادة ما توكل إلى الضمير. وكما يقول في كتابه الذي يحمل عنوان «الأنا والهو»:

لا يمثل تفسير الشعور الطبيعي الواعي بالذنب (الضمير) أية مشكلة، فهو نتيجة للصراع بين الأنا والأنا المثالية، وهو أيضًا تعبير عن إدانة صريحة للأنا تعلنها وظيفتها النقدية.

وتعد الوظيفة النقدية مرادفًا لعمل الضمير، خاصة فيما يتعلق بعمله تحت غطاء من تحسين الذات المزعوم، حتى وهو يثبت كونه عنيدًا غير قابل للترضية في متطلباته.

وتتكون الأنا المثالية — من وجهة نظر فرويد — من المجتمع، حيث تتشكل «من تأثيرات البيئة والمتطلبات التي تفرضها البيئة على الأنا والتي لا تتمكن الأنا دائمًا من الوفاء بها» («علم النفس الجماعي»). ومن وجهة نظره، تمثل تلك المتطلبات عادة — أو ربما دائمًا — استبطانًا لوجهات نظر الأم أو الأب، لكنها تزداد عن طريق الأصوات الأخرى المقيدة والتنظيمية في المجتمع ككل كما هو موضح في «الأنا والهو»:

بينما يكبر الطفل، يتولى المعلمون وآخرون في موقع السلطة القيام بدور الأب، وتظل قوة أوامرهم ونواهيهم راسخة في الأنا المثالية، وتستمر في ممارسة الرقابة على الأخلاق في صورة الضمير.

وتصطف في مواجهة الأنا القوة التراكمية لكل أشكال التحريم والاستهجان التي تعرَّض لها الطفل خلال حياته؛ وهي بعبارة أخرى حالة حادة من عدم التكافؤ. ويستمر فرويد قائلًا: «يعاني المرء من الصراع بين متطلبات الضمير ومتطلبات الأنا الفعلية في صورة الشعور بالذنب.» بمعنى آخر، فإن الأنا تشكل ذاتها أثناء عمليات التفاعل الاجتماعي، لكنها عرضة للهزيمة على يد الثقل والتنوع الذي تتميز به القيود والاتهامات التي يجب على الأنا أن تكافحها. ويمكن للمرء أن يفر إلى هذا الجزء من نفسه الذي يراقب الأنا ويحكم عليها ويجد العزاء فيه، لكن كل شيء له ثمن، وهذا الثمن يتمثل على الأقل في الانقسام الذاتي.

وتكمن إحدى طرق إعادة الاندماج المحتملة — وسوف أبتعد هنا عن استنتاجات فرويد الخاصة كي أفكر مليًّا في المواد التي عرضها على الناس — في الحقيقة القائلة إن قدرة الضمير على مراقبة الذات أو الأنا المثالية تتميز بالحديث بضمير الغائب «عن النرجسية». وهو أمر طبيعي إلى حدٍّ مقبول، فهو صوت مركب من كلمات ووجهات نظر خارج الموضوع، سواءٌ أكانت تعتمد على صوت المنع الأبوي أو أصوات سلطوية أخرى سمعناها في حياتنا. (ويؤكد ميل في سيرته الذاتية أن الضمير كان يخاطبه بصوت والده، وليس ميل وحده من مر بهذه التجربة.) ولما كان صوت السلطة مترددًا بين الذات والآخر كما فعل الضمير في حالة أوغسطين، فهو يخاطب صاحب الضمير بصيغة المخاطب أحيانًا («يجب عليك» …) ويتحدث بصيغة المتكلم («يجب عليَّ» …) أحيانًا أخرى. ألا تلمح أثرًا للاطمئنان والتبشير بالنجاح في اتخاذ الضمير صيغة المتكلم؟ قد يعتبر اتخاذ الضمير صيغة المتكلم تقدمًا في اتجاه نضج صاحب الضمير الذي أصبح مستعدًّا الآن لتضييق الفجوة بين الأنا والمتطلبات المفرطة للأنا المثالية أو القضاء عليها، بالإضافة إلى تحمل المسئولية الشخصية عن اختيارات المرء وأفعاله.

ولو نحَّينا تلك الأفكار جانبًا، فإن فرويد يترك الأنا في مأزق خطر، حيث تبدو أنها غير قادرة على تحرير ذاتها من سيطرة الأنا المثالية التي «تستشيط غضبًا من الأنا بقسوة شديدة» («الأنا والهو»)؛ مما يتسبب في شعور حتمي بالذنب. وينضم فرويد إلى دوستويفسكي ونيتشه في إظهار عمليات الضمير في علاقته بالذات بوصفها ورطة لا مفر منها أكثر مما هي مورد بشري حيوي.

بقاء الضمير

أثناء الهجوم على الضمير، نظرًا لميله للانتقاد والشكوى واستيائه المتواصل من السلوك الذي يعلق عليه وموقفه غير القابل للترضية، لا يتورط هؤلاء النقاد للضمير في أي تفسير زائف له، فتلك هي خصائص الضمير الملحوظة منذ نشأته عند القصاص من المجرمين الرومان. ويأخذ نقاد الضمير إحدى نزعاته المميزة ويضعون لها تقييمًا مختلفًا، حيث يقل اعتبارهم لها قوة لمعالجة الذات ويزيد اعتبارها نوعًا من العقاب الذاتي غير الضروري. لكن حتى هؤلاء النقاد الصارمون يجدون أنه من الصعب إلغاء الضمير أو إقصاؤه، ففي نهاية الأمر يبدو أن كلًّا منهم يناقض نفسه جزئيًّا ويمنح الضمير احترامًا على مضض.

وقد يكون أكثر التعليقات إثارة للدهشة تعليق فرويد بعد كل ما قاله كي يشوه سمعة الضمير (بالإضافة إلى مترادفاته المتمثلة في الأنا المثالية والأنا العليا) «علينا أن نعده — بالإضافة إلى الرقابة على الوعي واختبار الحقيقة — من ضمن المؤسسات العظيمة للأنا» («الحداد والسوداوية»). لكن كيف تتجلى تلك العظمة؟ وما وجه العظمة فيه؟ بلا ريب فإن فرويد يقترح أنه من بعض النواحي قد تصبح الأنا العليا ملاذًا وملجأً من الأنا المهزومة المستعبدة حقًّا: «فعندما لا يقتنع المرء بذاته، يمكنه على الرغم من ذلك أن يجد الرضَى في الأنا المثالية التي تختلف عن الأنا» («علم النفس الجماعي»). ويمكن للأنا العليا/الأنا المثالية/الضمير في ظل الظروف المناسبة أن تشكل قوة للتنظيم الذاتي وتقدير الذات المطلوبَين، لكن توفير «منزل آمن» مؤقت للأنا المرهقة لا يكاد يبدي صفات العظمة، خاصة عندما يمكن اعتبار الأنا العليا المفرطة في الانتقاد أحد الأعداء الرئيسِين لتقدير الأنا. ويمكننا العثور على تفسير أكثر إقناعًا لعظمة الأنا العليا في كتاب فرويد الذي كتبه في أواخر حياته بعنوان «قلق في الحضارة» (١٩٣٠)، والذي ينضم فيه الضمير للتسامي بوصفه إحدى الآليات النفسية التي يمكن للمرء من خلالها تقييد الرغبات الغريزية (أو الأنانية على نحو فطري) بطريقة تعزز مصلحة المجتمع بشكل عام، سواءٌ أكان ذلك متعمدًا أم لا. ولا يعني ذلك أن كبت الرغبة بواسطة الضمير لم يعد أمرًا شاقًّا على الفرد، لكنه ينطوي على فائدة عارضة — أو لعلها أكثر من مجرد فائدة عارضة — للمجتمع. ويذهب فرويد بعيدًا عند الإشارة إلى أن تطور الأنا العليا — مع كون الضمير حليفًا لها والشعور بالذنب عقابًا لتجاهل انتقاداتها — يمكن أن يكون مسعًى للمجتمع بأكمله، وأن المجتمع بوسعه تطوير أنا عليا جماعية واستخدامها لتحقيق أهدافه الثقافية:

قد يمتد التشابه بين عملية التحضر ومسار التطور الفردي في ناحية مهمة، حيث يمكن التأكيد على أن المجتمع أيضًا يطور الأنا العليا الخاصة به والتي يستمر التطور الثقافي تحت تأثيرها.

ويكتشف نيتشه — الذي تبدو سخريته من الضمير بوصفه عقابًا مفروضًا ذاتيًّا لا نهاية له، كما لو كانت لا تعرف حدودًا أو تسويات — احتمالات إيجابية للضمير في بعض المواقف المدهشة في أعماله، فهو يذكر في مقالته ضد المسيحيين التي تحمل عنوان «المسيح الدجال» التعليقات المسيئة التي يتوقعها قارئه عن «تأنيب الضمير» بوصفه جزءًا من «لغة الإشارة الخيالية للخصوصية الدينية الأخلاقية». لكنه يسمح لنفسه بتخيل ضمير طاهر مثالي ليس لديه نزعة للعقاب الذاتي الجبان، لكن للتهذيب والعقلانية والقيم المستنيرة (العلمية). ويدخل هذا الخطاب الفرعي في مقالته كما لو كان أمنية تبدو مهملة بأن يمتلك كانت «ضميرًا عقلانيًّا» وافيًا بدلًا من إرباك العقل بتفسيرات أخلاقية قَبْلية. لكن مع تطور المقال، فإنه يقدم الضمير بوصفه أداة حيوية في إماطة اللثام عن أشكال النفاق الديني:

إننا نعلم — كما يعلم ضميرنا اليوم — قيمة تلك البدع الخارقة للطبيعة التي يخترعها القساوسة والكنيسة، وما الأهداف التي تخدمها في اختزال الجنس البشري إلى حالة من انتهاك الذات قد يثير منظرها الغثيان.

ودفاعًا عن أولوية العلم على الدين، فهو يتوق إلى سيطرة «انضباط الروح والنقاء والصرامة في الأمور الروحية المتعلقة بالضمير وهدوء الروح النبيل وحريتها». وفي ذلك التصور، يصبح الضمير الحر العلماني حكمًا ومقررًا حاسمًا مهمًّا وأداة يلتمس من خلالها الوضوح الأخلاقي:

في النهاية، ما الذي تعنيه الاستقامة في شئون الروح؟ أن يقسو المرء على قلبه، وأن يحتقر المرء «المشاعر الجميلة»، وأن «يحول المرء كل نَعَم ولا إلى أمر متعلق بالضمير».

ويجب أن تدهشنا تلك الفكرة عن الضمير المحرر بوصفه حارسًا للاستقامة، مع الوضع في الاعتبار كل ما قاله نيتشه في المواضع الأخرى، لكن قوة الضمير طالما اعتمدت على قدرته المدهشة على الحركة وقدرته على إعادة الصياغة وعلى إعادة الانخراط في أشكال وقضايا جديدة، وهكذا فربما لا يكون ثمة داعٍ لدهشتنا من تغير موقف نيتشه المفاجئ على الإطلاق.

وينطبق نفس الأمر أيضًا — وربما على نحو أقل إثارة للدهشة — على دوستويفسكي الذي يتلاعب بفكرة أن الضمير قد يكون أمرًا ملفقًا ومفروضًا ذاتيًّا بلا داعٍ، لكنه يعود فينظم تخيلاته مع مجموعة متنوعة من الشخصيات التي يحركها الضمير أكثر من قدرتها على التعبير وتبدي معرفتها بالضمير تحت دوافع مختلفة لا تحمل حتى اسم الضمير. ويشترك كلٌّ من راسكولنيكوف وإيفان في نفس النموذج، وهو إدانة الضمير والتلاعب بالخطط من أجل تجنب انتقاداته، حتى ولو كانا يقدمان أنفسهما بوصفهما شخصين يحركهما الضمير. فبعد أن ارتكب راسكولنيكوف جريمته، شعر في الحال برغبة في الاعتراف للسلطات وإبراز دليل ارتكابه للجريمة:

كان يشعر كأن مسمارًا قد دق في قمة جمجمته. وراودته فكرة غريبة على حين غرة: أن ينهض فورًا فيقترب من نيكوديم فوميتش [وهو موظف حكومي بسيط] ويقص عليه ما حدث في الليلة البارحة، كل ما حدث، حتى أدق التفاصيل، ويقوده بعد ذلك إلى غرفته، فيريه الأشياء هناك، عند الركن، في الفتحة. وبلغت رغبته في ذلك من القوة أنه نهض لينفذ ما فكر فيه.

وقد يبدو ذلك ببساطة ما أطلق عليه بو «شيطان الفساد»، وهو إلحاح للضمير في أشد حالاته تدميرًا للذات، فيما عدا أن راسكولنيكوف يقضي معظم الرواية في الاعتراف بشيء أو بآخر، وتبدو رغبته النهائية في «معانقة الألم» — على الأقل ضمنيًّا إن لم تكن بوضوح — كما لو كانت يحركها الضمير. وبالطبع فإن الآخرين لا يترددون في تصوير مأساته كما لو كانت متعلقة بالضمير، على سبيل المثال عندما تؤكد دونيا قدرته على الشعور «بتأنيب الضمير» في النهاية. وينطبق نفس الأمر على إيفان كارامازوف، فعلى الرغم من كل محاولاته الشخصية لتجنب مطالبات الضمير ورفضه المتردد له، فإن الآخرين يرونه أحد أبطال الضمير، وقد يكون كذلك بالفعل. وبالطبع فهو بطل للبحث النفسي الشخصي إلى حدٍّ ما، وبصيرته بموافقته المضمرة أو رغبته الضمنية في وفاة والده تعد سببًا مشروعًا للشعور بالذنب، وهي ليست فكرًا فرويديًّا قبل ظهور فرويد فحسب، بل إنها أيضًا تبين استعدادًا أخلاقيًّا راقيًا لتحمل عبء العذاب الشخصي على نحوٍ يناقض نقده الرافض للضمير.

وهكذا، فحتى النقاد المتزمتون للضمير يميلون ضمنيًّا ومن خلال العديد من الأبواب الجانبية والخلفية إلى الاعتراف بمركزيته ويُبدون عدم استعدادهم كلية لتنحية نفس المبدأ الذي يهاجمونه جانبًا. ولا داعي لأن تدهشنا على الإطلاق تلك النزعة التصحيحية التي تعيد ذلك الضمير مشوه السمعة بالكامل فجأة إلى مكانته السابقة من الاحترام. فقد ذكرت سابقًا حالة كالفن الذي عاب بكل وسيلة ممكنة على أوجه قصور الضمير وعجزه عن الوفاء بالمهام الموكلة إليه، لكنه غيَّر اتجاهه لاحقًا إلى رؤية جديدة للحرية المسيحية يتحرر فيها الضمير من مهمة تطبيق الناموس ويتطهر بواسطة رحمة المسيح. وحتى أشد نقاد الضمير قسوة لا يبدو أنهم يسعون إلى إبعاده تمامًا، لكن اهتمامهم الأساسي ينصب على حالات متخيلة لإعادة تأهيله وعودته.

هوامش

(1) Tate Gallery © 2006 TopFoto.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤