الفصل الرابع

هل الضمير حق مدني؟

يبدو أن بعض الناس يمضون في طريقهم دون أن يمتلكوا ضميرًا على الإطلاق، قادرين طوال الوقت على ارتكاب ما وصفه لوك ﺑ «الأعمال الشائنة التي تمارَس بلا ندم». وفي مسرحية «العاصفة»، يقدم لنا شكسبير شخصية أنطونيو الوضيع المغتصب وهو يفكر في ارتكاب جريمة القتل، وعندما سئل عن ضميره أجاب قائلًا:
نعم سيدي، أين يكمن هذا الضمير؟ لو تورمت قدماي، لشعرت بذلك
لكني لا أشعر بوجود هذا الكيان المقدس داخل صدري
ولو قام عشرون ضميرًا بيني وبين حكم ميلان
لذابت جميعها كما يذوب السكر في الماء!

يفتضح أمر أنطونيو ويعاقب عقوبة خفيفة بالطرد من الإمارة التي استولى عليها، لكننا لا نملك دليلًا على انصلاح حاله. وبالطبع تعد فكرة أن يمتلك كل إنسان ضميرًا فكرة نبيلة تنتج عن أمنية (بأن يمتلك كل إنسان ضميرًا) يعبر عنها في صورة استنتاج (بأن كل إنسان لديه ضمير بالفعل). وبالطبع فإننا نتصرف بافتراض أن معظم الناس يمتلكون ضميرًا، ومجرد الشك بأن أحد المجرمين يفتقر إلى الضمير يمكنه أن يزيد من قسوة الحكم عليه، بينما قد يؤدي أي دليل (مهما كان سطحيًّا) على وجود ضمير حي إلى الحث على التسامح.

لكننا عندما نفترض أن كل إنسان يمتلك ضميرًا ونبني الأفعال والخيارات على أساس نصائحه، تظهر مشكلة أخرى. فإذا كان الضمير أمرًا حسنًا، وإذا كان الناس يلاقون التشجيع للعمل استجابة لتلقينه، فإلى أي مدًى يجب أن نكن الاحترام لمسألة ما لأنها بنيت على أساس الضمير؟ وبوجه خاص، إلى أي مدًى يجب أن نكنَّ الاحترام لمسألة يؤيدها الضمير ويتصادف أننا نختلف معها؟

سوف يتنازل معظمنا بعض الشيء في القضايا التي يؤيدها الضمير، وأحد الاختبارات الكاشفة لقدرة المجتمع على هذا التسامح يقدمه رفض أداء الخدمة العسكرية بِناءً على أسباب متعلقة بالضمير. فقد اعتبر هذا الرفض، بلا ريب، جريمة أحيانًا، لكن أيضًا في كثير من الأحيان — حتى وسط آلام الحروب — ابتكرت الدول صورًا للإعفاء أو الخدمة البديلة لمن يبدون اعتراضًا فلسفيًّا أو دينيًّا دائمًا على إزهاق الأرواح البشرية.

ويمكن تتبع آثار الاعتراض على الحرب في الفكر المسيحي القديم (على الرغم من أنه سرعان ما تراجع أمام نظريات «الحرب العادلة» والحملات الصليبية الشرعية)، وأعيد إحياء القضية على يد القائلين بتجديد العماد والمينونايت والكويكريين في القرن السابع عشر. وقد خدم بعض الكويكريين القدامى في جيوش الكومنولث، لكن الصلة بين السلمية ومتطلبات الضمير قد ترسخت بالطبع عندما نظم الكويكريون أنفسهم منشئين جمعية الأصدقاء وأضفوا صفة رسمية على رفض الخدمة العسكرية بوصفها أحد معتقداتهم الأساسية. وقد ترك لنا أحد الكويكريين المعترضين الذي ضُمَّ إجباريًّا لسلاح البحرية في ستينيات القرن السابع عشر رواية عن ربان متعاطف معه تولى الدفاع عنه قائلًا:

هذا الرجل أحد أفراد جماعة الكويكريين، ولأجل الضمير فهو يرفض العمل، ولذلك فأنا … أتعهد أمام الله بألا أضرب أو أتسبب في ضرب أيٍّ من أفراد الكويكريين أو أي فرد آخر يرفض إطاعة الملك لأجل الضمير.

وثمة تأثيرات للكويكريين أيضًا في أمريكا الشمالية، وخاصة في مناطق مثل بنسلفانيا ورود آيلاند حيث صدر قرار قصير الأجل لكنه معبر عام ١٦٧٣ بإعفاء الرجال «المقتنعين في ضمائرهم بأنه لا يجوز لهم القتال بهدف إزهاق الأرواح» من أداء الخدمة العسكرية. وكانت المعارضة طبقًا لإملاءات الضمير شائعة في حرب الاستقلال الأمريكية، حيث انقسمت الحركة إلى معسكرين سوف يستمران عبر القرون التالية: من قبلوا بالخدمة البديلة ومن أصروا على المقاومة غير المشروطة (ومعظمهم من الكويكريين). وبرزت المعارضة طبقًا لإملاءات الضمير من جانب الكويكريين والمينونايت والإخوة والمجموعات الدينية الأخرى المتمردة أيضًا في الحرب الأهلية الأمريكية. وقد اتبعت ولايات الاتحاد — ولاحقًا الولايات الكونفيدرالية — شروط الانسحاب الخاصة بالاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير، ومن جانب الاتحاد وضعت شروط للخدمة البديلة في التمريض والرعاية الطبية في المستشفيات.

وبعيدًا عن الإجبار على الخدمة في سلاح البحرية، كانت الخدمة العسكرية تطوعية تمامًا في إنجلترا فيما بين الحروب الأهلية حتى عام ١٩١٦، عندما اشتد الجدال بشأن هذا الأمر مرة أخرى. وفي الحقيقة، فكما أشار جون راي ظهر موضوع «الاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير» لأول مرة بهذا الاسم في إنجلترا عام ١٩١٤ في سياق لا علاقة له بالخدمة العسكرية على الإطلاق، بل في وصف المعارضة المنظمة والعنيفة للتلقيح الإجباري. وتضمن مشروع قانون الخدمة العسكرية لعام ١٩١٦ مبدأ «الاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير»، لكن دون تفصيل دقيق عن أي مجموعة منظمة من المعتقدات أو مدرسة للفكر الشخصي ينتمي إليها المعترض. وقد منحت مجموعات متعددة — بما فيها الاشتراكيون وجماعة «بلومزبيري» وآخرون — مهلة لتسجيل مطالبات الضمير غير المرتبطة بالشعائر الدينية الرسمية. ويتضح تعقيد المعايير التي تستخدم في التعرف على الاعتراض الحقيقي «طبقًا لما يمليه الضمير» في الأداء المختلط للمحاكم التي أنشئت للفصل في قضايا محددة، مثل محكمة الإنصاف (والتي يطلق عليها أيضًا «محكمة الضمير») في القرن السادس عشر، وقد واجهت تلك الهيئات مشاكل الفصل فيما إذا كانت القرارات ناتجة بالفعل عن الميول الداخلية أم لا. ويستشهد راي بوصف الكويكريين لمظاهر الحيرة والارتباك أثناء الشهادة أمام تلك الهيئات، وهي الشهادة التي يجب أن يتصف فيها مقدم الطلب بما يلي:

الحماس والمثالية وأحيانًا المبالغة في وصف قضيته، وأحيانًا أخرى التقليل من شأنها، وأحيانًا يبدو خياليًّا ومرتبكًا أمام الدوافع المختلفة — الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية — حيث يرغب في الإخلاص لأكثر المفاهيم سموًّا، لكنه متورط باستمرار في مناقشات غير ذات جدوى حول أشد المفاهيم وضاعة، ومحاط دائمًا بصعوبات هائلة متعلقة بتفسير صحيح وعقلاني لقناعاته الخاصة.

fig7
شكل ٤-١: بطاقة بريدية تعبر عن «سجن المعترض على أداء الخدمة العسكرية لأسباب تتعلق بالضمير» بريشة جي بي ميكلرايت، ١٩١٧.1

ويتضح إخفاق هذا النظام في الأداء المتقلب للمحاكم المختلفة، حيث وجد حوالي ستة آلاف من المعترضين طبقًا لما يمليه الضمير أنفسَهم في الخدمة العسكرية إما لأنهم لم يحظوا بجلسة استماع أو لأن جلسة الاستماع قد رُفضت؛ مما عرضهم فيما بعد للمحاكمة العسكرية، على نحو متكرر في الغالب، والإرسال للسجون الحربية. لكن من بعض النواحي لاقى هذا النظام نجاحًا مدهشًا، حيث استمعت المحاكم إلى حوالي ١٦٥٠٠ دعوى، وحصل ٨٠٪ منها على نوع من الإعفاء المشروط الذي عادة ما يتضمن الخدمة البديلة، ثم أدخل المزيد من التحسينات على هذا النظام في قانون التدريب العسكري الصادر عام ١٩٣٩ الذي سمح بالإعفاء من الخدمة (بدلًا من الحبس) للأشخاص الذين كانوا يرفضون أداء الخدمة أو يرتكبون مخالفة لأسباب تتعلق بالضمير فور تجنيدهم في الجيش. ويمكننا تتبع نفس المسار العام في الولايات المتحدة التي سمحت أثناء الحرب العالمية الأولى بالخدمة البديلة لمن كانوا يبدون توجهًا دينيًّا وعقيدة مسالمة رافضة للعنف (لكن دون اقتصار محدد على أعضاء «كنائس السلام» التاريخية)، ثم تحولت في عام ١٩٤٨ إلى التأجيل الفوري للمعترضين طبقًا لما يمليه الضمير، ثم عادت إلى سياسة الخدمة البديلة أثناء الحرب الكورية.

وحتى مع اتساع الفهم العام للضمير كي يشمل الدوافع العلمانية والأخلاقية بالإضافة إلى الدوافع الدينية والأدبية، فقد تحولت أيضًا دوافع الاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير كي تشمل القناعات التي تكونت خارج حدود الدين المؤسسي؛ فعلى سبيل المثال تفضل محكمة عليا أمريكية الاعتماد على حدة الشعور مقياسًا بلغة استخدمت في مناقشات الضمير عبر تاريخه، حيث تقبل مبدأ الإعفاء «لكل من يشعرون بوخز الضمير بسبب معتقدات أدبية أو أخلاقية أو دينية، فلا تستريح ضمائرهم إذا سمحوا لأنفسهم بأن يصبحوا جزءًا من آلة للحرب» (٣٩٨ الولايات المتحدة ٣٣ف). ويجب وضع مجموعة من المعتقدات — بعضها علماني — في الاعتبار أثناء اتخاذ القرار، طالما أنها «تقوم بدور الدين في حياة المجند».

وعلى الرغم من ذلك، فإن حدود الإعفاء من الخدمة العسكرية (أو بعض الواجبات المحددة في حالة المجندين بالفعل) ما زالت محل تفاوض مستمر، وهنا تنشأ حالات الأشخاص الذين لا يعترضون على الحروب كلها، لكنهم يملكون اعتراضًا محددًا أو وسواسًا للضمير فيما يتعلق بحرب معينة أو نوع محدد من الخدمة، وبالطبع فكلما أصبح الاعتراض أكثر تفصيلًا زاد احتمال أن يصبح الأمر موضع خلاف. ويتمثل نموذج معاصر «للاعتراض المستهدف» في حالة الجنود الإسرائيليين الذين كُلفوا بالدفاع عن بلادهم في مواجهة الأعداء المعتادين، لكن مع قصر خدمتهم على حدود ١٩٦٧ ورفض أداء المهام في الأراضي المحتلة. ولاحقًا ظهرت دعاوى مضادة من جانب المحافظين الدينيين الذين رفضوا المشاركة في إغلاق المستوطنات المحظورة في الضفة الغربية أو حتى أداء الخدمة العسكرية على الإطلاق وضعًا في الاعتبار المخاطرة التي تفرضها تلك المهمات. وما زالت تلك الأمور محل جدال محتدم في إسرائيل وأينما يمارَس التجنيد الإجباري، وعلى الرغم من ذلك فإذا تناولنا التاريخ الذي يبلغ خمسمائة عام من الاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير ككل، فسنجد أنه يوحي باستعداد كبير لدى الأفراد في المجتمعات الغربية للتكيف مع المعتقدات غير المألوفة وصعبة التوثيق التي يدرك الجميع أنها ذات أساس في الضمير الشخصي.

ويمكننا قول نفس الشيء عن المناقشات الدائرة حاليًّا في الولايات المتحدة حول «بنود الضمير» التي تؤكد حقوق مقدمي الرعاية الصحية في منع بعض الخدمات وخاصة الإجهاض والخدمات المتعلقة به، لكن مع المزيد من التوسع مؤخرًا بحيث يشمل كل الأمور المتعلقة بمنع الحمل. سعى البعض إلى إيجاد العديد من التوازنات بين الاقتناع الشخصي والضرورة العامة، ومعظمها تحمي حقوق مقدمي الرعاية في الرفض طبقًا لما يمليه الضمير مع الإصرار على أن مصلحة المرضى تتطلب قدرة سريعة على الوصول للخدمات البديلة (دون أن يقوموا بجولات طويلة مضنية في المستشفيات الأخرى) وحماية المرضى من التعرض للمخاطر. وبالطبع فإن ثمة مشاعر قوية متبادلة من الطرفين، وخاصة بين الكاثوليكيين والإنجيليين المعارضين للإجهاض من ناحية والعلمانيين وأصحاب المعتقدات الأخرى الذين يصرون على الحريات الإنجابية من ناحية أخرى. وغالبًا ما يتفاقم ذلك الأمر إلى أزمة عند تناول موضوعات محددة خاصة بالطوارئ الشخصية، مثل تحديد النسل وتوفير حبوب «صبيحة الجماع» لضحايا زنا المحارم والاغتصاب.

وقد أثير موضوع مقدمي الرعاية الصحية الذين يرفضون تقديم الخدمات المتعلقة بالإجهاض مؤخرًا في ولاية ماساتشوستس التي تمتلك قانونًا «متوازنًا نسبيًّا» يضمن تلبية «الاحتياجات الدينية» لموظفي الرعاية الصحية بصورة معقولة، لكنه في الوقت ذاته يصر على تقديم الخدمات عندما تتعرض صحة المريض أو سلامته للخطر عند رفض العلاج. وأصبح هذا الأمر «موضوعًا ساخنًا»، حيث أخذ المرشحون السياسيون يقدمون تفسيرات مختلفة للقانون، واكتسح هذا الجدال مجال فضاء المدونات مجتذبًا العديد من التعليقات من الجانبين. ومن نماذج مواقف مؤيدي الإجهاض ما يلي: «إذا لم تتمكن من أداء كل مهام وظيفتك بضمير مستريح، فلا تعمل بتلك المهنة.» بالإضافة إلى: «لقد سئمت من قيام حكومة بلادي بإنشاء مجموعات محددة من الناس تمتلك حقوقًا لا يشترك فيها الجميع بصورة متساوية.» أما الموقف المضاد فيتمثل فيما يلي: «يجب عليك رفض القوانين والأوامر غير الأخلاقية.» وقد أذيعت بالطبع العديد من التصريحات المتطرفة، لكن حتى في وسط الفضاء الإلكتروني مجهول المصدر المشتعل سعى عدد لافت للنظر من المشتركين إلى إيجاد نوع من التوازن والتوصل إلى حل وسط، حيث قال أحد الساعين إلى التوصل لحل وسط: «يكفي بالنسبة لي التأكد من وجود أحدهم في المستشفى على استعداد لإجراء العملية.» وقال آخر: «رجاءً الحوار.» وقال ثالث يبدو كما لو كان ديفيد هيوم: «نحن بحاجة إلى حل نتفق عليه جميعًا ولا يسبب سوى أخف الأضرار.»

وقد تناول مقال في جريدة «أوبزرفر» البريطانية بتاريخ ٥ سبتمبر ٢٠١٠ موضوعات مشابهة فيما يتعلق بآراء معالج جنسي رفض تقديم خدمات للمثليين بِناءً على أسباب تتعلق بالضمير، وتناول واحد ممن أجري معهم التحقيق مسألة السماح للمسيحيين بالتملص من واجباتهم المهنية مدفوعة الأجر لأسباب تتعلق بالضمير الديني بالطريقة التالية:

عندما تذهب للتسوق في المتجر قد تجد العاملين من الفئات التالية: مسلم لا يبيع الكحوليات، وهندوسي لا يبيع اللحم البقري، ويهودي لا يبيع لحم الخنزير، وكاثوليكي لا يبيع وسائل منع الحمل، ومسيحي لا يبيع أي شيء أيام الآحاد، وأحد أفراد كنيسة اسكتلندا الحرة لا يبيع أسطوانات الموسيقى التي تنطوي على محرمات، ونباتي لا يبيع أية منتجات حيوانية، ومعالج بالإيمان لا يبيع أية أدوية.

وتساءل أحد المشتركين الآخرين في التحقيق بلهجة محبطة قائلًا: «عندما يسمح بالإعفاءات على أساس «الضمير»، فإلى أين يمكن أن يقودنا ذلك؟» لكن حتى بعد تلك التعبيرات التي تدل على السخط، فإن معظم الناس — وحتى كتَّاب تلك الخطابات أنفسهم — قد أبدوا على الأقل بعض الاستعداد لقبول بعض المتاعب احترامًا لوساوس الضمير من جانب مقدمي الخدمات، حتى عندما لا يؤيدون الآراء المطروحة.

ويؤكد الباحثون عن الحلول الوسط في الحقيقة أن بعض الاحترام واجب لأصحاب الوساوس الدينية أو الأخلاقية طالما هذا الاحترام لا يضر بحقوق المرضى في العلاج الآمن والفوري، أو حقوق العملاء في الحصول على خدمات بديلة في الوقت المناسب؛ أي إن أعدادًا ضخمة من الناس على استعداد للإذعان لمواقف لا يتفقون معها — أو حتى قد يختلفون معها بشدة — عندما تتدخل «حقوق» الضمير الفردي في الأمر، وذلك على الأقل إلى درجة معقولة ومحددة. وفي تلك الدرجة من الإذعان يتجلى التقدير الحالي للضمير، بل إنه يتجلى بصورة أوضح لأنه كما في الاعتراض طبقًا لما يمليه الضمير على الخدمة العسكرية، تمتد حقوق الرفض المبني على الضمير لأبعد من نطاق الاعتقاد الداخلي فحسب كي تشمل السلوك الفعلي.

والسؤال الآخر الذي يجب مواجهته هو ما إذا كانت القرارات الخاصة بحدود الاعتقاد المبني على الضمير — وخاصة فيما يتعلق بالسلوك — يجب أن تتخذ على أساس مرتجل أم منفصل لكل حالة في منبر الرأي العام، أو سواء ما إذا كان ثمة أساس للتفكير في أن تلك الأشكال من الحماية تستحق أن تمتد كي تصبح حقًّا قابلًا للتطبيق بواسطة القانون المدني أو الجماعي (كما في الاتحاد الأوروبي) أو حتى القانون الدولي (فيما يتعلق بالأمم المتحدة).

الضمير ومشكلة «الحقوق»

يمكن تلخيص المشكلات التي نتجت عن محاولات ترقية حرية الضمير إلى حق واجب النفاذ في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة (والذي أُقر عام ١٩٤٨). ويتضمن هذا الإعلان بندًا قويًّا متعلقًا بالضمير، حيث أوضح أن «تجاهل حقوق الإنسان واحتقارها قد أدى إلى ارتكاب أفعال همجية وحشية ازدرت الضمير الإنساني»، وأكد أيضًا أن «لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين». وهي بالطبع وثيقة جديرة بالثناء، وعند تطبيقها في منظمات مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش (منظمة رصد حقوق الإنسان) فإنها تمثل قوة كبرى للتحسن في ظروف ضحايا التمييز السياسي والديني، لكنها مع ذلك تترك بعض القضايا الخاصة بالتفسير والتطبيق عالقة.

وتتعلق إحدى تلك المشكلات بقابلية تطبيق مبدأ الضمير ذي الأصول الغربية على نطاق واسع من الظروف الثقافية المختلفة. وتتضح مدى صعوبة هذه المشكلة من خلال مشكلة اللغة نفسها، والخلافات التفسيرية التي تنشأ عندما تترجم تلك الوثيقة إلى ٣٧٥ لغة مختلفة. وبالطبع فإن كل لغة بشرية بها مصطلحات خاصة بالتقييم الأخلاقي والسلوك القويم، لكن القليل من اللغات غير الأوروبية بها مرادفات دقيقة لكلمة «الضمير» كما تستخدم في الغرب المعاصر. ومن الأمثلة البارزة التي نقلتها لي الأستاذة ليديا ليو أستاذ اللغات والثقافة الشرق آسيوية مثال يخص وضع مسودة الإعلان نفسه:
عندما اجتمعت السيدة روزفلت واللجنة التي شكلتها لوضع مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للأمم المتحدة في أربعينيات القرن العشرين، جرت العديد من المناقشات حول «الضمير». وقد تمكن أحد أعضاء اللجنة المهمين د. بي سي تشانج، وهو كاتب مسرحي ودبلوماسي صيني، من إقناع اللجنة بتبنِّي الفكرة الكونفوشيوسية ليانجزين (النزعة الأخلاقية الفطرية) التي طرحها الفيلسوف منسيوس، ومن ثَمَّ فإن المصطلح الإنجليزي conscience «الضمير» كان في حقيقة الأمر ترجمة لمفهوم ليانجزين الصيني في المادة الأولى من الإعلان وليس العكس!
وتضيف الأستاذة ليو أن إصرار تشانج على التوصل لفهم موحد لليانجزين والضمير كان محاولة لصياغة ما أطلقت عليه «علامة رئيسة» رمزية ومتحررة من مدلولاتها المسيحية الخاصة. ومن الواضح أن أحد الأعضاء الغربيين باللجنة قد جادل جدلًا عنيفًا ضد اقتراح تشانج سعيًا إلى التوصل لفهم للضمير أقرب للفكر الأوروبي والمسيحي. وتشير تلك المناقشة تحديدًا التي وقعت أثناء وضع الإعلان إلى التحديات التي ينطوي عليها تطبيق الإعلان، والتي أوجدها استخدام ٣٧٥ لغة في الوثيقة، والتي تتفرع فيها تفسيرات محلية وتقليدية مختلفة للالتزامات الأخلاقية في طرق ثقافية مختلفة عن النموذج الأوروبي.
fig8
شكل ٤-٢: د. بي سي تشانج من الصين، نائب رئيس اللجنة، يحيي السيدة إلينور روزفلت من أمريكا، رئيسة لجنة حقوق الإنسان، وذلك في الجلسة الأولى للجنة الصياغة الخاصة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ليك ساكسس، نيويورك، ٩ يونيو ١٩٤٧.2

وإذا وضعنا في الاعتبار تنوع ثقافات العالم واللغات التي تعبر عنها، فإن مطمح التوصل إلى تعريف ومقياس معترف به عالميَّا للضمير لن يتحقق أبدًا، حيث تعتمد مزاعم لعالميته على الإيمان العاطفي الوهمي بالطبيعة البشرية المطلقة المتماثلة في كل العصور والمجتمعات. واستجابة لتلك الافتراضات المطلقة، وخاصة تلك التي صيغت وانتشرت أولًا في الغرب، أثار أشخاص من ثقافات مختلفة مجموعة من الاعتراضات، بعضها لغوي كما في الفجوة البسيطة بين الضمير والليانجزين، لكنها ليست لغوية فحسب؛ فاللغة تحدد الثقافة وتتحدد عن طريقها، والبعض الآخر يعود إلى التاريخ السحيق للضمير مستنكرًا ارتباطه التقليدي بالقيم المسيحية. أما الاعتراضات الأخرى المنتبهة إلى الميراث الأقرب الخاص بالعقلانية في عصر التنوير فهي تنتقد النزعة إلى الأفكار الغربية المتعلقة بذكر «الحقوق» بصورة عامة ومطالبات الضمير بصورة خاصة نيابة عن الفرد المستقل. وينشأ ذلك القلق خوفًا من أن يؤدي فقْد التوازن بين الحقوق والحريات الفردية إلى الاستخفاف بحقوق المجتمع ككل — وخاصة تلك الحقوق الجمعية التي تقوم على ممارسات ثقافية أو دينية تقليدية — لكنه يصبح أكثر حدة عندما تسعى البلدان الغربية إلى تصدير أفكارها حول الحريات الفردية وحقوق الضمير إلى البلدان الأخرى. وكما لاحظ آر بانيكار فإن تشريعات حقوق الإنسان غالبًا ما ينظر إليها أفراد المجتمعات غير الأوروبية بوصفها تثار «من أجل تبرير انتهاك حرية شخص آخر».

لو افترضنا أننا نعترف بحقيقة مخجلة: وهي أن أي تأكيد لحقوق الضمير يعتمد على الأرجح على مبادئ نسبية تحددها الثقافة وليس على مبادئ مطلقة عالمية مهما بدت مقبولة. لا تختفي تلك المشكلة عندما يضيق مجال النشاط المستند إلى الضمير من الدول والثقافات المتنافسة إلى موضوعات متعلقة بالخيارات الفردية في مجتمع محدد متجانس نسبيًّا، وأود التأكيد على «التجانس النسبي»؛ وذلك لأن كل دولة أو كيان سياسي أو حتى حي سكني يضم أفكارًا ثقافية متفاوتة ومتنافسة تشتق منها مفاهيم مختلفة للسلوك المبني على الضمير. وإذا كانت الدول والثقافات تمتلك وجهات نظر مختلفة في الاختيار طبقًا لما يمليه الضمير، فنفس الأمر ينطبق على اللاأدري الغربي والمسلم السُّني، أو على الكويكري المؤيد للسلام وأحد حاملي السلاح من الجمعية الوطنية الأمريكية للبنادق المناصرة لحقوق حاملي السلاح، حتى عندما يتعايشون جنبًا إلى جنب.

وإذا نحينا جانبًا مسألة الاختلاف الثقافي، علينا الاعتراف بوجود عقبة أخرى أمام القبول بزعم عالمية الضمير؛ فمهما كان الضمير حسن النية فإنه يخطئ أحيانًا، وهو ما فكر فيه القديس توما الأكويني: فهبة الله المتمثلة في التمييز العقلي لا تخطئ، لكن الضمير الذي يجب عليه أن يتخذ قرارات عملية صعبة في العالم يخطئ طوال الوقت، بل إنه يساعد أحيانًا على الهرطقة بطريق الخطأ. وفي قصيدة «الفلاح بيرس» التي تعود للعصور الوسطى، يرتكب الضمير الخطأ الكارثي المتمثل في السماح للرهبان بدخول قلعة الوحدة، وينتهي به الأمر مضطرًّا إلى خوض الطريق باحثًا عن الحقيقة وحده. ويتعثر الضمير المعاصر المثقل بالعاطفة والمُفسَد بالتفسيرات الأخلاقية البرجوازية في المنطق المخطئ والتسويات الأخلاقية. وقد رأينا بالفعل وصف مارك توين المميز لهاكلبيري فين وهو يوبخ نفسه شاعرًا بتأنيب الضمير — وإن كان شعورًا خاطئًا — نظرًا لقيامه بمساعدة العبد الهارب جيم. وهناك بالطبع أيضًا تلك الأحداث التي لا يقبل فيها الضمير بتسوية مذلة فحسب، بل إنه أيضًا يحرض على ارتكاب جريمة ويخطئ الهدف تمامًا. وقد يجيب المرء قائلًا إن تلك الحالات للضمير الخاطئ لا تمثل الضمير على الإطلاق، لكنها مجرد صورة مزيفة خيالية منه، لكن الحقيقة القاسية تتمثل في أن أحكام الضمير ليست صحيحة أو صالحة طوال الوقت، فمن أشهر الأمثلة الصارخة التي لا تحتاج إلى ذكرها والتي خرج فيها الضمير عن السيطرة كما أوضحت هانا آرندت أن النازيين لم يكونوا يعانون من أية مشاكل مع الضمير على الإطلاق، بل إنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ذوي ضمير «سليم» أو حي، وهو الضمير الذي — على الأقل من وجهة نظر البعض — وافق على أفظع انتهاكاتهم.

وكثيرًا ما تختلط أحكام الضمير مع الخيارات والأفعال الدنيوية التي تستند إلى الضمير، ومن الخطأ الفادح أن نصر على أن كل خلاف يمكن حله ﺑ «ورقة الضمير». وليس هذا انتقاصًا من قيمته الأخلاقية، أو الحافز الإيجابي للجدية الأخلاقية الذي تقدمه مطالب الضمير. لكن يفضل أن يعتبر الإصرار على «حق» التصرف طبقًا للضمير نقطة بداية للتفاوض وليس محطته النهائية.

تعزيز مطالب الضمير

بِناءً على مجال المطلب وطبيعته، يحتمل أن تحقق بعض التأكيدات على حقوق الضمير أهدافها أكثر من البعض الآخر. ويعتبر الاعتراف المتعقل بالعجز الذاتي أحد الطرق التي تضمن الالتزام الأمثل بمطالب الضمير، فعندما يؤكد الإعلان أن «لكل شخص الحق في حرية الفكر والضمير والدين»، فهو يشير إلى أمور تتعلق بالاعتقاد الداخلي وليس إلى الإجراءات المتخذة في العالم. ولم يعد هناك من يعترض على حق الفرد في تلك الحرية الداخلية، فعندما أكد جون لوك أن «حرية الضمير حق طبيعي لكل إنسان»، كان يشير إلى حرية الفكر والاعتقاد الداخلي (وليس الفعل)، ويبدو أن هذا التأكيد لا يمكن دحضه اليوم.

لكن حتى تلك المعركة البدائية نسبيًّا ما زالت في انتظار الحسم. وفي حقيقة الأمر، فعلى الرغم من أن دفاع لوك عن الضمير كان مقتصرًا على المعتقدات وليس الأفعال، فإنه قد سمح ببعض القيود الجادة، فهو لم يضع — على سبيل المثال — أية بنود خاصة بالحقوق الطبيعية للمرأة، وأكد على إنكاره لمزايا التسامح الديني الممنوحة للمسلمين والملحدين على حدٍّ سواء. وعلى الرغم من أن معتقدات المرء «الداخلية» قد تبدو لأول وهلة أمرًا شديد الخصوصية، فإن الدول التي اتبعت سياسة الإكراه قد أثبتت مرارًا وتكرارًا مهارتها في صياغة أقسام الولاء والطقوس المطلوبة من أجل إبراز تلك المعتقدات والضغط عليها. ويعد المثال الخاص بسلطة الدولة الرومانية التي كانت تطلب من المسيحيين الأوائل تقديم القرابين للآلهة التقليدية حتى تكتشف ميولهم الداخلية مثالًا شهيرًا على هذا الانتهاك. وفي روايته التي تحمل عنوان «ظلام في الظهيرة»، ألح المؤلف المناهض لستالين آرثر كوستلر في الكتابة عن «المحاكمات الصورية» السوفييتية ونجاح تقنيات الاستجواب السابقة على المحاكمة في تبديد الثقة بالنفس عن طريق مهاجمة أسس الاعتقاد المستقل. وما زال الاعتراف والإنكار تحت الإجبار منتشرًا في المجتمعات المعاصرة، وهو يمارَس حاليًّا في إيران وكوريا الشمالية ودول أخرى معادية للمعتقدات الخارجة عن المألوف. ونتيجة لذلك، ما زالت حتى أبسط الحقوق الخاصة بالاعتقاد الشخصي موضع خلاف بصورة أخطر مما يتصوره البعض، وما زال الدفاع عنها يتطلب حذرًا مستمرًّا.

لكن الاختبار الحقيقي لمبادئ الإعلان يكمن في الخطوة التالية: عندما تُجلب حقوق الضمير إلى نطاق السلوك العام (في مقابل السلوك الخاص المحض). وعلى الرغم من أن القليل يعترضون على الحق المطلق للفرد أو الجماعة في الاعتقاد طبقًا لما يمليه الضمير، فإن الأفعال المرتكبة طبقًا لما يمليه الضمير تثير مشكلات أكثر تعقيدًا؛ فالأفعال تؤثر على الآخرين؛ وبِناءً على هذا التأثير قد لا يمكن اعتبار الفعل حقًّا قابلًا للتطبيق.

وفور قيامنا بتوسيع مفهوم الحقوق التي تعتمد على الضمير كي تشمل السلوك، علينا أن نواجه المشكلات التي تنشأ عندما تتعارض أفعال المرء التي يقوم بها طبقًا لما يمليه ضميره مع حريات الآخرين وحقوقهم. وقد كان هذا الموضوع دائمًا حاضرًا بدرجة أو بأخرى في المناقشات حول الضمير. وقد تم التركيز عليه في وقت مبكر في كتاب ويليام تينديل الذي يحمل عنوان «طاعة رجل مسيحي» (١٥٢٨) الذي يدافع فيه عن استسلام المسيحي لسلطة العامة مضطرًّا «بدافع من ضميره أولًا … [و] ثانيًا بدافع من ضمير جاره»، موضحًا أن الضميرين متبادلان، وأن الأعمال التي تُرتكب (أو تهمل) فيما يتعلق بأوامر الضمير لها تأثير حتمي على ضمائر الآخرين. وبالطبع فإن حقوق أي فرد لا يمكن أن تمتد إلى ما لا نهاية دون أن تتصادم مع حقوق الآخرين من ذوي الميول المعارضة، مما يؤدي إلى خلق صراع في المجتمع ككل. وإذا كانت مبادئ الضمير ستمتد من نطاق الاعتقاد الخاص إلى نطاق السلوك العام، تتمثل المهمة في اكتشاف مبادئ تحظى بالإجماع عن طريق الموازنة بين الحد الأدنى من احتياجات الحرية الفردية مع احترام مسئولية كل مجتمع (بما في ذلك المجتمعات الأخرى بخلاف مجتمعنا) تجاه حماية الصالح الجماعي لأفراده.

عرَّف هنري شو — الباحث في حقوق الإنسان والقانون الدولي — حقوق الإنسان تعريفًا مفيدًا فقال إنها «الحد الأدنى من المتطلبات المعقولة المفترض على البشرية تقديمها لكل فرد». ويؤكد هذا التعبير المتوازن توازنًا ذكيًّا على حقوق الفرد، لكن مع وجود شرطين أساسيين؛ أولًا: أن تكون المتطلبات «معقولة»؛ بمعنى أن تجتاز اختبار «المنطق» مما يحد من التزامنا بالإذعان للمطالب المتعصبة أو غير العقلانية التي بُنيت على المصلحة الأنانية أو الوحي الإلهي المتخيَّل، من النوع الذي وصفه لوك بأنه «ينتج عن غرور عقل مزهو بنفسه». وثانيًا: إذا كانت عملية الإصرار على المتطلبات سوف يترتب عليها القيام بعمل يؤثر على العالم (ولن تقتصر على حرية الفكر الشخصي)، إذن يجب ألا تقتطع تلك المتطلبات من حقوق الآخرين — يجب ألا تسبب ضررًا، كما يقول ميل.
fig9
شكل ٤-٣: صعوبة فهم الضمير: رسم كاريكاتوري بعنوان «حسنًا، جيميني الليبرالي!» لمارتن روسون، بصحيفة الجارديان، ١٠ مايو ٢٠١٠.3
أما عن مسألة المعقولية، فلا ريب أن مطالب الضمير تحقق نجاحًا هائلًا عندما تتصل بصورة واضحة بأمور تتعلق بالاعتقاد المشترك. فنحن نتعرض لأصعب الاختبارات لإيماننا بالضمير — كإيماننا بكل الأمور المتعلقة بالحقوق والحريات المدنية — عندما نجد أنفسنا مطالبين باحترام مطلب شديد الغرابة. لكن الأصل الاشتقاقي لكلمة الضمير con + scientia (أو المعرفة المشتركة) طالما أشار إلى أن أهم نقاط قوته تكمن في علاقته بالميول المشتركة للمجتمع الأكبر، وهي نفس وجهة النظر التي طرحها توماس هوبز في كتابه «اللوياثان» (١٦٥١) المتمثلة في أن الضمير يجب أن يكون جمعيًّا تماشيًا مع أصله الاشتقاقي وليس مجرد مجموعة من الأفكار الفردية السرية. وسعيًا للتوصل إلى أساس جمعي للضمير، استقر هوبز على المبدأ القائل إن «القانون هو الضمير العام الذي تعهدت [الحكومة] بالفعل أن تسترشد به». وعلى النقيض من هوبز، يقدم لنا التاريخ المعاصر أمثلة (في الهند والجنوب الأمريكي وجنوب أفريقيا وميدان السلام السماوي) كان فيها العصيان المدني في مواجهة قانون فاسد يبدو عملًا فاضلًا، وفي تلك الحالات كان الضمير اليقظ مفيدًا في تحدي القانون الفاسد. وهكذا فقد عدل لوك وآخرون على نحوٍ مفيد من موقف هوبز عن طريق تذكيرنا بأن القوانين التي تتعارض مع الضمير الشخصي يمكن عصيانها من قِبل الأشخاص المستعدين لتقبل عقوبة مدنية ثمنًا للعصيان القائم على مبادئ، واضعين بذلك أحد الأركان الأساسية المهمة في ممارسات العصيان المدني. ومع ذلك فإن اقتراح هوبز بأن يشكل القانون «ضميرًا عامًّا» يعد اقتراحًا مهمًّا من حيث إشارته إلى أن الضمير الشخصي يعمل بأفضل صورة عندما يجد نقطة اعتقاد مشتركة.

ولما كانت سلطة الضمير تدعمها مؤشرات الدعم العام كالقانون أو الدين الرسمي أو حتى الرأي العام أو «المنطق السليم» المحض، فسوف يظل الضمير مستحقًّا موقعه المركزي في مناقشاتنا الأخلاقية. أي إنه ما دام الضمير يستمد حيويته من المبدأ الإيثاري ويكرس نفسه لصالح الجميع، فسوف يستحق موقعه المركزي في حياتنا. لكن استخدام التعبير الشرطي «ما دام» هو الخدعة هنا، فالقول إن الضمير سوف يزدهر إذا تلقى دعمًا من العقل أو القانون أو المنطق السليم يعني كل شيء ولا شيء في الوقت ذاته. ومهما كان الضمير جديرًا بالثناء، فهو في هذه الصيغة ما زال يقوم بدور الحجر في حساء الأحجار: فالحجر مضافًا إليه بعض الجزر والبطاطس والبصل سوف يكوِّن مرقًا لذيذًا، تمامًا كما ينتصر الضمير مضافةً إليه المبادئ المتفق عليها والفكر الجلي. فإذا كان الضمير لا يملك مضمونًا خاصًّا به ويعتمد على المنطق السليم والمعرفة الجمعية لتكملته أو حتى لإعطائه هويته نفسها، ألن يتلاشى ببساطة إذن وجوده كقوة مستقلة في العالم؟ وما الذي يتبقى ثابتًا ومهمًّا بشأن الضمير نفسه؟ وما الدور الذي يتبقى له كي يقوم به؟

سوف أعود إلى الدور الأساسي للضمير للحصول على إجابة، وتحديدًا إلى الصلة الوثيقة بين الضمير والإقناع. وقد بدأ هذا الفصل بأمثلة يعد احترام الضمير فيها مهمًّا في إقناع الأشخاص غير الملتزمين بشيء غير الضمير بمنح إجازة في «قضايا الضمير» التي تتضمن الخدمة العسكرية والمهن الطبية. ومع ذلك، يعد الضمير أيضًا فعالًا بشدة في صورة أخرى من الإقناع، وهي إقناع الذات ألا تؤمن بالمعتقدات فحسب، بل أيضًا أن تعمل طبقًا لها.

ما فائدة الضمير؟

في أفضل حالات الضمير وأنجحها، فإنه لا يحض على محاولة تهذيب الاعتقاد أو يُفَعِّلها فحسب، بل إنه أيضًا يترجم الاعتقاد إلى فعل والتزام. ويعد الضمير فعالًا في جبهتين على نفس القدر من الأهمية: حث الفرد على تحديد معتقداته بشأن السلوك القويم، ثم على نحو شديد الأهمية تطبيق تلك المعتقدات على المواقف الطارئة. وقد وصف القديس توما الأكويني هذا الجانب العملي من الضمير بذكاء في كتابه «الخلاصة اللاهوتية» الذي يرجع تاريخه للقرن الثالث عشر.

يميز توما الأكويني بين فهم القانون الأخلاقي والضمير، ملاحظًا أنهما كثيرًا ما يُخلط بينهما. وهو يصف فهم القانون الأخلاقي بأنه مَلَكة غريزية أو عادة فطرية تقنعنا بالخير وتقصينا عن الشر، وهو يتجسد في الأشياء «المعروفة بطبيعة الحال دون أي بحث من جانب العقل كما لو كانت مشتقة من مبدأ راسخ». والضمير لا يعلم الأمور أو يدركها فحسب، لكنه يتعلق بالتطبيق، وتحديدًا تطبيق المعرفة على حالة محددة. ويستمر توما الأكويني، واصفًا الضمير بصفات مألوفة مثل كونه قوة محفزة، وموضحًا أنه يشرع في العمل في تقييم الخيارات والأفعال الشخصية: «يقال إن الضمير يشهد على صاحبه أو يُلزِمُه أو يحثه، وهو أيضًا يتهمه أو يعذبه أو يوبخه، وكل ذلك يتبع تطبيق المعرفة على ما نقوم به.» ولست مهتمًّا الآن برأي توما الأكويني الخلافي القائل إن فهم القانون الأخلاقي أمر فطري (وهو ما أشك فيه شخصيًّا)، لكنني أكثر اهتمامًا بوصفه للضمير بأنه يتعلق بتطبيق المبادئ المعروفة على المواقف الواقعية. فمن وجهة نظره يرتبط الضمير ارتباطًا وثيقًا بالأفعال التي يقوم بها المرء، بل إنه قد يوصف بأنه نائم حتى يُطلب منه تقييم الخيارات أو الأفعال التي يعتزم المرء القيام بها أو التي قام بها بالفعل. وهكذا يُستدعى الضمير في المواقف الفعلية عند وجوب اتخاذ القرارات، ويخصَّص له دور شديد الأهمية في جوهر الخيار المستنير بالمبادئ الأخلاقية.

وهكذا فإن الضمير يقوم بدور جسر مهم بين الاعتقاد والفعل. افترض أن أحدنا لديه رأي صائب، وربما تظن أنت أن رأيك وحي إلهي، بينما أنا كوَّنت رأيي على الأرجح من مقاطع «دونزبيري» الهزلية أو من الإذاعة العامة الوطنية أو من مجلة «لندن ريفيو أوف بوكس». لكن مسألة أصل الرأي تلك أقل أهمية من الفعل، ومما إذا كنت أنت أو أنا سنحول رأينا إلى فعل، وتلك هي مهمة الضمير: الإقناع والتأثير على الرأي والتهديد إذا لزم الأمر، لكن في كل الأحوال التأكد من القيام بالفعل الصحيح. فالنوايا الحسنة، إذا ما احتُفظ بها بسلبية في العقل، فلن تفضي إلى استجابة نابعة تمامًا — أو كما ينبغي — من الضمير.

ويتناول مؤلف كتاب صدر حديثًا حول موضوع «الحقوق» مجموعة من الانتقادات القوية، منها نسبية الضمير الثقافية المزعومة ومحاباته المهيمنة للغرب وصعوبة إصدار الأحكام النابعة من التعارض في الادعاءات المبنية على الحقوق. لكنه (بنبرة متحيرة قليلًا) يعترف «بأن لديه اعتقادًا بأننا بحاجة إلى القليل من حقوق الإنسان الآن». ونفس الشيء ينطبق على الضمير، فهو مفهوم مطاطي، وهو لا يتمتع بمجموعة فريدة من المبادئ أو بمحتوى ثابت خاص به وحده. فمطالبات الضمير الخاصة بمن نختلف معهم قد تكون بالنسبة لنا ضارة أو حتى هدامة. ومع ذلك، فنحن جميعًا في حاجة إلى بعضها. ولا أعلم أي شخص يرغب في الحصول على قدر أقل منها سواءٌ لنفسه أو لغيره. وبالطبع فإن الشخص الذي يصيبه جنون مؤقت قد يرتكب عملًا وحشيًّا باسم الضمير، وتلك الانحرافات لا يمكن تجنبها تمامًا. لكن إذا اعتبرنا الضمير هو مبدأ الاستياء الذي يحث على العمل بِناءً على أساس من الاعتقاد، والذي لن يسمح لنا بالراحة حتى تتم مهمته، فعلينا أن نسلم بضرورة وجود المزيد منه في العالم.

أقوال توما الأكويني حول الضمير بوصفه «معرفة تطبيقية»

يدل الضمير طبقًا لطبيعة الكلمة ذاتها على علاقة المعرفة بشيء ما: نظرًا لأن كلمة ضمير أو conscience بالإنجليزية يمكن تحليلها إلى cum alio scientia؛ أو تطبيق المعرفة على حالة فردية …

ويتضح نفس الشيء من الأمور التي تنسب للضمير، حيث يقال إن الضمير يشهد على صاحبه أو يُلزِمُه أو يحثه، وهو أيضًا يتهمه أو يعذبه أو يوبخه. وكل ذلك يتبع تطبيق المعرفة أو العلم على ما نقوم به، وهو التطبيق الذي يتم بثلاث طرق: أحدها بقدر ما ندرك أننا قد قمنا بشيء أو لم نقم به؛ «ضميرك يعلم أنك كثيرًا ما تحدثت بالسوء عن الآخرين.» (سفر الجامعة، الإصحاح السابع، الآية ٢٣)، وطبقًا لذلك يقال إن الضمير يشهد. وبطريقة أخرى، بقدر ما نحكم من خلال الضمير أن أمرًا ما يجب أن يتم أو يجب ألا يتم، هكذا يقال إن الضمير يحث الإنسان أو يُلزمه بأن يفعل شيئًا ما. أما الطريقة الثالثة، فبقدر ما نحكم من خلال الضمير أن أمرًا ما قد أُنجز جيدًا أو على نحو سيئ، هكذا يقال إن الضمير يبرر لصاحبه أو يتهمه أو يعذبه. والآن يتضح أن كل تلك الأمور تتبع التطبيق الفعلي للمعرفة على أفعالنا.

(«الخلاصة اللاهوتية»، الجزء الأول، المسألة ٧٩، المادة ١٣)

هوامش

(1) The Religious Society of Friends in Britain.
(2) United Nations Photo Library.
(3) © Martin Rowson.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤