النفخة الكذابة

شريط حياتي ينبسط وينطوي في مُخيلتي كل يوم، ماذا أقول؟ أأقول إنه ينبسط وينطوي مرةً كل يوم؟ مرتين؟ لا، بل إنه يفعل ذلك مراتٍ قد تبلغ العشر أو تزيد، أردتُ ذلك أو لم أرد، فما إن تأخذ خواطري في الانسياب كلما جلستُ أو استلقيتُ لأستريح، حتى ينبسط ذلك الشريط ليعود فينطوي، بعد أن يكون قد نشر أمامي مرحلةً من مراحل العمر، لا أتدخَّل بإرادتي في انتقائها، بل إنها لتفرض نفسها فرضًا، فهي من مرحلة الطفولة مرة، ومن الكهولة مرة، ومن مرحلة المُراهقة والشباب ثالثة، ومن نُضج الرجولة رابعة، ولكن مرحلة من تلك المراحل لا تعرض نفسها أمامي إلا أرى نفسي بإرادتي في هذه الحالة قد أسرعتُ إلى التقاط مواضع ضعفي، ومواضع قوَّتي في الطريقة التي أردُّ بها الفعل في مختلف المواقف، ويشهد الحق أنني كلما وقعتُ على قوةٍ في الردِّ مرة، وجدت ضعفًا عشرين مرة أو ثلاثين، فليس لدي القدرة على ردِّ الكلمة الجارحة أو الفعل المُسيء بكلمة أو فعل يتكافأ مع ما تلقَّيتُه جرحًا وإساءة ردًّا مباشرًا يجيء في حينه، بل أراني قد لجأت — دون تدبير وتصميم — إلى الانسحاب والتواري حينًا يطول أو يقصر.

وكان لا بدَّ لي كلما تعقَّبتُ نفسي في مواقفها على شريط الحياة، أن ألحظ الآخرين وكيف يتعاملون معي، ومع بعضهم بعضًا، في تلك المواقف نفسها، وقلَّما وجدتُ نظري قد وقف عند من يُشبهونني، فالذي يستوقفه — دهشةً وتأمُّلًا — هم أولئك الذين لا يعقد ألسنتَهم حياء، ولا يُقيِّد جوارحهم عن الحركة العدوانية تردُّد أو خوف.

فقلتُ لنفسي: لماذا لا تضع هؤلاء البواسل تحت المنظار المُكبر، لترى في وضوحٍ ماذا يقولون ويفعلون، وكيف، ولماذا يقولون ما يقولونه أو يفعلون ما يفعلونه؟ وما أسرع ما رأيتُ تحت المجهر ما لم أكن قد رأيته بالعين العارية؛ إذ رأيت أنَّ هؤلاء صنفان، قد يتشابهان في شعورهما بالزهو — زهو الإنسان بنفسه — لكنهما بعد ذلك يختلفان اختلافًا بعيدًا، فصنف منهما يُزهى بنفسه عن امتلاءٍ داخلي، وأما الصنف الآخر فزهوه بنفسه إنما ينبعث عن شعور بالخواء.

وها هنا ورد إلى خاطري ما ضحكتُ له، إذ تذكرتُ قول عامة الناس في وصف النفخة التي ينتفِخ بها الصنف الثاني بأنها «نفخة كذابة» كالهرِّ يَحكي انتفاخًا صولةَ الأسد، كما قال الشاعر تمييزًا لها من نفخة الصنف الأول التي تستنِد إلى رصيد باطني قوي. وإذن فهذا الذي تطلَّب منِّي منظارًا مُكبرًا لا أراه، قد أدركتْه عامة الناس بالخبرة العملية المباشرة. وللتفرقة بين أصحاب النفخة الصادقة الواثقة بنفسها، والنفخة الكذابة التي تُخفي خواءها، أهمية كبرى؛ لأن رجال الفئة الأولى إنما هم العظماء حقًّا، الذين هم ذخيرة أوطانهم وشعوبهم، بل والإنسانية كلها أحيانًا، وأما رجال الفئة الثانية فهم — على المدى الزمني الطويل — نكبة على أوطانهم وشعوبهم؛ لأنهم كثيرًا ما يحجبون الحق بباطِلِهم، إلى أن يشاء الله للحق ظهورًا وانتشارًا.

•••

وأعود إلى مِجهري مرةً أخرى لأنظر، فأكشف الغطاء عن تفرقةٍ أخرى بين أصحاب النفخة الكذابة والنفخة الصادقة، وهي تفرقة نزداد بها علمًا بطبائع الناس، ولكنها ليست بذات خطرٍ كبير، وإنَّ من المَزهوِّين بأنفسهم من العظماء من يُحسن الزهو فيُصدِّقه الناس، ومنهم من لا يُحسنه فينفِر منه الناس، فيصفونه بالغرور أو حتى بالجنون. كان برنارد شو من النوع الأول، وكان نيتشه من النوع الثاني، وكان لطفي السيد وطه حسين من النوع الأول، وكان العقاد وزكي مبارك من النوع الثاني.

فقد كان نيتشه يُفاخِر بنفسه، فيكتب مرة تحت عنوان: «ما السرُّ في حدة ذكائي»، ومرة أخرى تحت عنوان: «لماذا كانت كتابتي رائعة؟» فوصفه الواصفون بالجنون، وكانت هذه العناوين بين الشواهد التي استشهدوا بها. وأذكُر أن عباس العقاد كتب مرة ليردَّ على من وصفوه بالغرور، فقال: إنه لا يكون غرورًا إلا إذا كان غير مُرتكزٍ على حق.

والظاهر أن الفرق بين مزهوٍّ بنفسه يُصدقه الناس، ومزهو بنفسه آخر لا يُصدقونه — مع افتراض العظمة فيهما معًا — هو أن الأول تتحقَّق فيه شروط لا تتحقَّق في الثاني: منها أن يسُوق المُتفاخِر فخره بأعصابٍ باردة، وبشيءٍ من نبرة المزاح، أما صاحب الحساسية الشديدة والأعصاب المُنفعلة الهائجة، فتراه عادةً إذا ما ساق فخرَه بنفسه، ساقه في جهامة الجاد الذي لا يعرف المزاح، فتفقِد اللعبة حلاوتها وينصرِف عنه الناس.

•••

على أن الذي لا شكَّ فيه، هو أن جرأة الإنسان في التفاخُر بنفسه سواء جاء ذلك من رجلٍ يعرف كيف يجذب القارئ، أو من رجل لا يُجيد هذا الفن، خير من تواضُع المرء في عرض نفسه؛ لأن المُزدهي بنفسه والمتواضِع كليهما قد يُصدِّقه القرَّاء فيما يقوله عن نفسه، فإذا صدقوا الأول ارتفع أمام نفسه وأمام الآخرين، وإذا صدقوا الثاني في تواضُعه انخفض في رأي نفسه وفي رأي الآخرين.

تركتُ مِجهري، وجلستُ أستجمع خواطري، فلم ألبث إلا لحظة «خاطفة» تبيَّن لي منها أن مصدر الخطر علينا، بين هذه الصنوف البشرية كلها، هو «المغرور» صاحب «النفخة الكذابة» الذي يدَّعي ما ليس له، يدَّعي العلم وهو من العِلم بريء براءة الذئب من دم ابن يعقوب، ويدعي الأدب وهو في حياته لم يكتب أدبًا ولم يقرأ أدبًا، ويدَّعي ويدَّعي. وقد ينطلي علينا ادعاؤه، فنُسلِّمه أمورنا، ويكون بعد ذلك ما يكون. أفلا يستحقُّ منَّا «الغرور» وقفةً هادئة لنكون بحقيقته أبصر؟

إنه إذا كان الغرور هو أن يظنَّ إنسان بنفسه التفوُّق على الآخرين حين لا تكون تلك هي حقيقة الأمر. فليس من شكٍّ في أن كل إنسان — بناءً على هذا التعريف — مغرور بطبعه، ولو أنها صفة تتفاوت درجاتها بين الناس. على أنه إذا كان كل إنسان على درجةٍ من الغرور بنفسه بحُكم فطرته ذاتها، فكل إنسان هو كذلك عاقل بحُكم فطرته، ومن شأن العقل أن يَحدَّ من الغرور، كلما وجد عدوان المغرور على الآخرين يوشِك أن يُعرِّضه للخطر.

لكن هذا القول يحتاج منَّا إلى شرحٍ وتحليل، وسنهتدي فيهما برأي «هوبز».

•••

إن أساس السلوك كله، هو أن يحفظ الإنسان بقاءه أولًا، فهو يأكل ليبقى، ويرتدي الثياب ليبقى، ويسكن البيوت ليبقى، وهو يحاول الكشف عن قوانين الطبيعة ليبقى، ويقاتل الأعداء ليبقى، إنه يُقيم لنفسه الحكومات ليبقى، ويسنُّ لنفسه القوانين ليبقى، ويخاف الله ويعبده ليبقى في آخرته كما بقي في دنياه، والآخرة في ذلك خيرٌ وأبقى.

وكلما ازداد الإنسان قوةً كان أقدرَ على حفظ بقائه، والقوة قد تكون قوة العضلات، لكنها كذلك قد تكون شيئًا آخر أو أشياء.

فالفضيلة قوة، بمعنى أنك إذا سلكتَ السلوك الذي يعدُّه الناس فاضلًا، وعرف الناس فيك هذه الصفة، شملوك بحمايتهم، يذودون عنك فلا تكون هدفًا للمُعتدين، فلا عن حبٍّ لسواد عينيك، بل لأنهم عرفوا فيك شخصًا مأمونَ الجانب لا يُخشى منه عدوان على ما لهم من حقوق، ألا تسمعهم يقولون إنَّ حُب الثناء طبيعة الإنسان؟ ذلك لأن طبيعة الإنسان الأصيلة هي أن يُحافظ على بقائه، فإذا عرف أنه في الناس موضع ثنائهم، عرف بالتالي أنه مَوضع حمايتهم، وأنه بمأمنٍ من شرهم.

•••

وهل المجد بكل أنواعه وضروبه في أن يُثني عليك الناس ويمدحوك؟ إنك تنشُد المجد لتظفر بالثناء، ولستَ تريد الثناء؛ لأن له وقعًا في الآذان فنغمًا جميلًا، بل تريده لأنه دليل على أنك قد اتقيتَ الشر والخطر، فضمنتَ لنفسك البقاء.

حتى الجمال، تنشُده المرأة؛ لأنه لها مصدر قوة، فمن حازت نصيبًا منه، ضمنت لنفسها البقاء بمقدار ما حازت. إن الإنسان لَيسعى ليُحقق لنفسه أكبر سعادة ممكنة في ظروفه القائمة من حوله، وأكبر السعادة هو بعينه أكبر الضمان لاستمرار البقاء، فالصحة سعادة، والمال سعادة، والجاه سعادة والبنون سعادة؛ لأنها جميعًا ضمانات للبقاء المُستمر الآمن، فإذا رأيتَ الناس يلتمِسون ما يُهيِّئ لهم المتعة والراحة، ويجتنبون مصادر الألم والتعب، فما ذلك إلا لأنَّ اللذَّة والألم — في حقيقة أمرهما — إن هما إلا قوة الإنسان وضعفه، يسير الإنسان نحو القوة في عافية، أو مال، أو جاه، فيسير بنفس الخطوات نحو الشعور بالسعادة، ويسير نحو الضعف في عافيته أو ماله أو جاهه، فيسير بالخطوات نفسها نحو الشعور بالألم والشقاء، لكن الإنسان إذ ينشد القوة — ليضمن البقاء — لا يقنع بمقدار معين منها، بل يسعى ليظفر بمزيد ليزداد قوة على قوة، فهو يريد مالًا على مال، وجاهًا على جاه، وفتوةً في الجسد فوق فتوته … إنه في ذلك كله لا يريد الزيادة لذاتها؛ لأنه قد يعلَم حق العِلم أن ما لديه يكفيه، لكنه يريد هذه الزيادة ليزداد ضمانه ببقاء هذا الذي يكفيه، فيضمن بالتالي ألا تتعرَّض حياته لخطرٍ أو فناء.

فإذا كانت هذه طبيعة الإنسان، كان من طبيعته — تبعًا لذلك — أن تشتدَّ به الرغبة في أن يخشاه الناس ويُطيعوه؛ لأنه بمقدار ما يجد عندهم من خشيةٍ وطاعة، يتحقَّق له ما ينشده من ضمان وجوده. إن الإنسان بطبعه يريد أن يكون له السبق على غيره في ميادين التنافُس، وهو يريد السبق لهذا السبب نفسه، أي أن يكون في موقفٍ حصين فلا يسهل الاعتداء عليه أو النَّيل منه. إنه لا يهتمُّ بالسبق ذاته ولِذاته، بل يهتم به؛ لأنه وسيلة للغاية التي لا غاية له بعدَها، وهي أن يبقى بقاءً آمنًا، ولذلك كان كثيرًا جدًّا ما يكفيه أن يعترِف له الناس بالسبق، ولو لم يكن سابقًا بالفعل، يكفيه أن يعترِف له الناس بأنه أقوى أبناء البلد جسدًا، أو أكثرهم مالًا، أو أعزهم نفرًا، أو أغزرهم علمًا، أو أبرعهم فنًّا، حتى لو لم يكن كذلك في حقيقة أمره؛ لأن اعتراف الناس بسبقه عليهم، يصرِفهم عن تناوله بالأذى، فيأمن بذلك ما عسى أن يخشاه على بقائه من ضروب الخطر.

•••

وإذا كان هذا الذي ذكرناه صحيحًا بالنسبة إلى ما تتميز به طبيعة الإنسان، عرفْنا لماذا يكون الإنسان مغرورًا بطبعه. إنه يُولَد وفي جبلَّته وهْمٌ بأنه خير من سواه، ولذلك نراه يتصرَّف على هذا الأساس، حتى تُعلمه الضربات التي يتلقَّاها من خارج نفسه، بأنه ليس في حقيقة الواقع خيرًا من سواه كما توهَّم. وهنا يأتي دور العقل الذي من شأنه أن يحدَّ من غرور صاحبه استدلالًا من حقائق الدنيا المُحيطة به، وغرور الإنسان بنفسه وعقله الذي يُسلِّم به هذا الغرور كلاهما فطرة.

فالعقل — هو الآخر — أداة في طبيعة الإنسان يحفظ بها بقاءه، وهو لا يبدأ نشاطه في هذا السبيل إلا إذا شطَّ الغرور بصاحبه وشطح، وأوشك أن يودي بصاحبه إلى مواضع الدمار. وتفصيل ذلك أن الإنسان — متروكًا على فطرة الغابة — يأخذ في التصرُّف على أساس أنه سيد مُسيطر، ويُطالب غيره بالإذعان والخضوع، حتى إذا ما خرج هذا الواهم من كهفه إلى حيث الناس، وجد أحد أمرَين: فإما أن يأخُذه هؤلاء الناس مأخذ الجد فيما زعم، فتثور في أنفسهم هم الآخرين فطرة السيادة، ويكون بينهم وبينه قتال يُظهر الأقوى، حقًّا وفعلًا، لا خيالًا ووهمًا، وإما أن يأخُذه الناس في زعمه مأخذ المزاح فيُهملونه، وعندئذٍ يثور غروره، فيقاتلهم، حتى يتبيَّن هنا أيضًا، مَن هو الأقوى حقًّا وفعلًا، لا خيالًا ووهمًا، ففي كلتا الحالتين يقع قتال ليبلوَ الناس بعضهم بعضًا أيهم أقوى وأحق بالسيادة على الآخرين.

•••

فماذا يكون موضع المغلوب في هذا القتال؟ موقفه هو الشعور بالدافِعَين معًا: فالغرور لا يزال يُملي عليه استئناف القتال حين يستردُّ ما كان توهَّمه لنفسه من سيادة، لكن العقل الذي هو أيضًا جزء من فطرته، يجد من ذلك الغرور الشاطح، ولا بدَّ للهازم والمهزوم معًا في نهاية المطاف أن يتهادنوا لتُصبح الحياة المُنتجة لكليهما في حدود المستطاع.

وفي ضوء هذا التحليل المُستفيض نقول: إن في حياتنا من أصحاب النفخة الكذابة كثيرين، والنفخة الكذابة هي الغرور الواهم الذي لم يجد من سلطان العقل ما يُعيده ويردُّه إلى صواب، فلا يبقى أمامنا إلا أن تنشط حركة النقد البصير الواعي، الذي هو بمثابة العقل الرادع، لينكشف للناس أيهم إذا ازدهى بنفسه فعن امتلاء، ومن حقِّه أن يُزهى وأن نُزهى به، وأيهم إذا ازدهي بنفسه فعن خواء، وبذلك يكون مغرورًا يستحق الردع، حتى لا ننخدع فنُسلِّم له زمامنا وهو به غير جدير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤