مغامرات محسوبة!

في اليوم السادس عشر من سبتمبر سنة ١٩٥٣م، كنت في طريقي إلى الولايات المتحدة، لأقضي بجامعاتها عامًا أستاذًا زائرًا، وكانت تلك هي رحلتي الأولى التي أعبُر بها المحيط الأطلسي إلى العالَم الجديد. ولقد عدت بالأمس إلى ما كتبتُه يومئذٍ في وصف الطريق، فكأنما كنت أقرأ شيئًا جديدًا، لم أخطَّه بقلَمي ذات يوم، فاقرأ معي هذه الفقرات:

بعد أربعين دقيقة من إقلاع الطائرة، أعلن الميكروفون أننا الآن فوق مدينة الإسكندرية، فنظرت، فإذا الإسكندرية لا تزيد على خطوطٍ رقيقة مرسومة بالقلَم الرصاص على الورق، فقلتُ لنفسي: إذا كانت المدينة الضخمة قد استحالت إلى هذه الخيوط الرقيقة، فبأي منظارٍ يُمكن أن أرى الفرد الواحد من الناس؟ والإنسان في هذه الحالة أمْيَلُ إلى التسرُّع بالحُكم على نفسه بالتفاهة والضآلة، فقليلٌ من الارتفاع في جوِّ السماء يمحوه، فماذا يكون أمره عند الرائي من أفلاكٍ أخرى، وأكوان أخرى؟ ولكن الخطأ هنا هو نسيانه أن الطائرة التي مكَّنته من الصعود، هي من صنعه، ووليدة فكره وطموحه وخياله الوثَّاب، فأول سطرٍ ينبغي أن يُكتَب في كتاب ثورتنا، وأن يُقرأ ألف مرة كل يوم، هو أن نُقرِّر لأنفسنا عن عقيدة، قوة الإنسان وجبروته، وأن نمحو من صفحات أذهاننا هذا الوهم الذي ما ينفكُّ يعاودنا ويُخيفنا، وهو أن الإنسان مخلوق تافِهٌ ضعيف.

(وبينما كانت الطائرة تعبُر بنا المُحيط أثناء الليل) ظللتُ أنظر خلال زجاج النافذة إلى الجو المُفضَّض بضوء القمر، وقلتُ لنفسي: ما أبعدَ الفرق بين إنسان وإنسان، قارن بينك الآن، وأنت تعبُر المُحيط، على هذا النحو، وبين كولمبس وهو يعبُر المحيط نفسه، لتعلَم كم يكون الفرق بين الفرد المُبدع الخلَّاق المُبتكر، وبين الأفراد الذين يجيئون بعد ذلك ليتبعوه! إن خيال رجل واحد وجرأته، فتحت للناس عالمًا جديدًا، وشقَّت لهم طريقًا جديدًا إلى حضارةٍ جديدة، ولكن سرعان ما يختلط علينا الأمر، فنظن ألا فرق بين من يُبدع ومن يبيع. سرعان ما يختلط علينا الأمر، فلا نُدرك الفرق بين من ابتكر الطائرة — مثلًا — ومن اشتراها أو سافر على متنها! سرعان ما يختلط علينا الأمر، فلا نرى المسافة الشاسعة بين باحث علمي يشقُّ بنتائجه العلمية أرضًا جديدة لم تطأها أقدام قبل قدَميه، وبين من يأتي بعد ذلك ليقرأ تلك النتائج، ويدرُسها، وقد يحفظها عن ظهر قلب، وينشرها مترجمةً إلى لُغتنا أو غير مُترجمة، كاملة أو مُلخصة، ثم يقول — ونقول معه — إن منهم علماء ومنَّا علماء، ولا فرق في العِلم بيننا وبينهم! لكن الفرق يا صاحبي هو نفسه الفرق بيني وبين كولمبس في عبور المحيط: عبره هو لأول مرة مُغامرًا مخاطرًا مُتخيلًا مُتعقلًا، وعبرتُه أنا بعدَه تابعًا، فلا مغامرة ولا مخاطرة ولا خيال ولا فكر.

كان ذلك ما كتبتُه يومئذٍ، وقد مرَّت بعد كتابته ثلاثون عامًا، فهل تغيَّر الموقف مثقال ذرةٍ واحدة؟ أم لا يزال هو الموقف الذي كان منذ ثلاثين عامًا، ومنذ ثلاثمائة عام؟ فسوانا يصنع حضارة العصر، ونحن نشتريها، أو نشتري ما استطعنا شراءه منها، ثم لا نستحي من القول بأن صانع الحضارة ومُستعيرها سواء! لا، بل قد يصِل بنا الشطح أن نُباهي بأن «الخواجة» مُسخَّر لنا كما سُخِّرت لنا البغال والحمير، إذ هو يُقيم لنا أسباب الحياة الدنيا، لنفرغ نحن للعبادة أملًا في نعيم الحياة الآخرة، أي والله قالوها!

ولم تمض سوى أيام قلائل، منذ سألني شابٌّ عربي في ندوةٍ عامة: لماذا تخلَّفنا وقد كنَّا ذات يومٍ في الطليعة؟ فأجبتُه قائلًا: كنا في الطليعة يوم كنَّا نفرز أفكارنا كما يتفصَّد العرق من جلودنا، ثم تخلفنا حين تركنا لسوانا أن يغامر ويغامر، حتى شقَّ بصواريخه أجواز الفضاء، بينما جلسنا نحن القرفصاء ننظُر إليه بأفواهٍ فاغرة، انتظارًا لما يُلقي به إلينا من فتات. كان الفرق بيننا وبينهم ذات يومٍ فرق غربٍ وشرق، فالغرب يتعلَّم ليغزو الدنيا بعِلمه، والشرق يتصوَّف لتخبو شعلة الحياة بزُهده، فما كِدنا نستيقظ لنُبرهن لهم ألا فرق بين شرقٍ وغرب، حتى فصل بيننا فارق جديد، فأصبح الفرق بيننا فرق شمال وجنوب، فالشمال يزداد ثراء، بعِلمه مرة، وبسطوته الباغية مرة، بينما الجنوب يزداد فقرًا، بجهله مرة، ومرة أخرى بضعفه الذي مكَّن للشمال أن يستذلَّه ويستغلَّه، وها نحن أُولاء نشهد على مسرح الأحداث صراعًا بين غربٍ وشرق، ونسمع حوارًا بين شمالٍ وجنوب، لكن «الغرب الشمال» في مركز القوي و«الشرق الجنوب» في مركز الضعيف. ولو سألتني لأُلخِّص لك الفرق بين الجانبين في كلمة، قلت: إن «الغرب الشمال» يُغامر، بينما «الشرق الجنوب» يجلس القرفصاء.

قال السائل في لهفةٍ قلقة: زِدْنا توضيحًا يا أخانا، ولا تُخفِ الحقائق في لفائف التشبيه والمجاز، زدْنا يا أخانا في بيان الفرْق بين الغرب العالِم الذي هو أيضًا شمال غني، والشرق الغافل الذي هو في الوقت نفسه جنوب فقير.

أجبته بصوتٍ مرتفع: إذن فاسمع كيف جاءت نقطة التحوُّل بين الجانبين، ومتى جاءت؟ فتستطيع أن تقول: إن «الشرق الجنوب» كانت له اليد العُليا منذ أول التاريخ إلى أن نهضت أوروبا في القرن السادس عشر، ومهَّدت لنهوضها ذاك بمؤشراتٍ كثيرةٍ قبل ذلك بقرنٍ من الزمان أو أكثر قليلًا، ذلك إذا استثنَينا عصر اليونان القدماء، الذي وضع الأساس العقلي «للغرب الشمال»، ثم اختفى، لتنقضيَ بعد ذلك نحو خمسة عشر قرنًا قبل أن يُتاح لذلك «الغرب الشمال» أن يُقيم طوابق البناء فوق الأساس الذي وضعه له أسلافه اليونان.

وأما ما قبل اليونان، وما بعدهم حتى نهضت أوروبا نهضتها، فقد ظلَّت «للشرق الجنوب» اليد العُليا فكرًا وحضارةً وروحًا وكل شيء. ولماذا حدث التحوُّل؟ حدث ذلك لأن الجمود قد شاء لهذا «الشرق الجنوب» أن يظلَّ في حياته العقلية على منهج، كان صالحًا في ظروف الحياة القديمة، ولم يعُد صالحًا فيما استحدثه الزمان بعد ذلك من ظروفٍ أُخرى، وأما «الغرب الشمال» فقد فتح الله عليه بأن أخذ يُبدِّل منهجًا بمنهج كلما اقتضته العصور المُتجددة أن يُبدل.

كان «العلم» في المراحل الأولى من تاريخ الحياة العقلية، علمًا بلفظٍ منطوقٍ أو مكتوب، فلمَّا أراد العقل أن يرسُم لنفسه منهجًا يجري تفكيره على مبادئه، كان ذلك المنهج هو الطرق التي يمكن بها توليد جملةٍ من جملة، مع اليقين بأن الجملة المُتولدة إنما خرجت من جوف الجملة الوالدة، فإذا كانت الجملة التي بين أيدينا — مثلًا — هي أن الناس جميعًا يُولَدون أحرارًا، تولَّدت عن ذلك جملة صحيحة، هي أن زيدًا وخالدًا وعمرًا وُلِدوا أحرارًا؛ لأنهم أفراد من الناس، وهكذا تدور عجلة الفكر في مجموعاتٍ لفظية، يُشتقُّ بعضها من بعض، وكانت هذه العجلة الفكرية في دورانها حول نصوص تستخرجها من نصوص، تشملنا وتشمل غيرنا؛ لأن الدنيا لم تكن في المراحل الأولى مُضطرَّة إلى اللجوء إلى طريقةٍ أخرى، فتلك كانت طبيعة عِلمهم، وذلك كان المنهج المُلائم لذلك العلم. ولا بدَّ لنا أن نلحظ هنا، أن علم الرياضة الذي بدأ ازدهاره مع القدماء، قبل أن يُولَد ما يُسمَّى بالعلوم الطبيعية بزمنٍ طويل، أقول إن علم الرياضة هو في حقيقته توليد جُمَل من جُمَل، أو معادلات من معادلات، بالطريقة التي أشرْنا إليها، فلا غرابة أن يكون سابقًا في الظهور.

وكان الفيلسوف اليوناني أرسطو هو الذي متَّن هذا المنهج، فضبط القواعد التي تضمن لنا الصواب عند توليدنا نتيجةً من مُقدمة وجدناها بين أيدينا، ثم جاءت بعد ذلك الحضارة الإسلامية وثقافتها، فجعلت المنطق الأرسطي عمودًا أساسيًّا من عُمُدها، حتى لقد كان ذلك المنطق الأرسطي ودراسته والإلمام به، علامة لا بدَّ من وجودها ليكون العالِم عالِمًا، والفقيه فقيهًا، والمُثقف مُثقفًا، مهما كان ميدان التخصُّص.

ودار الزمان دورته، وأخذت القرون تتوالى لتدنوَ من الخامس عشر والسادس عشر، فإذا الناس في أوروبا — شيئًا فشيئًا — يستبدِلون قراءة بقراءة، أو قُل إنهم أخذوا يضيفون إلى الضرب القديم من القراءة، ضربًا جديدًا منها، فبعد أن كان المقروء كله نصوصًا من ألفاظٍ مسطورة في صحائف (أو منطوقة يَرويها رواة) اشتدَّت الرغبة في أن تُضاف إلى ذلك قراءة الظواهر الطبيعية بطريقةٍ مباشرة. فافرض — مثلًا — أن الموضوع المُراد معرفة شيء عنه، هو حركة الأجسام، بما في ذلك حركة الكواكب والنجوم، فقد كان الأغلب عند القُدَماء أن تكون وسيلتهم إلى المعرفة، قراءة كتاب كتبه من هو أقدم، ليُطالِعوا فيه شيئًا عن حركة الأجسام. وأما النوع الجديد من القراءة، الذي استحدثته النهضة الأوروبية، فهو أن يبحث الباحث عن وسيلةٍ بصرية يُراقب بها الأجسام، وهي في حركتها محاولًا أن يستخرج لتلك الحركة قوانينها، كما فعل جاليليو، وكبلر، وكوبرنيق ونيوتن، لكن قراءة الطبيعة بهذه الطريقة المباشرة، كان لا بدَّ لها من منهجٍ جديد، يجد له من فلاسفة العِلم من يُقنِّنه، كما قنَّن أرسطو قديمًا منهج القدماء. وهذا ما قد حدث، وأصبح للعقل الأوروبي منهجان؛ يستخدم أحدهما إذا كان بصدد عملية توليدية، كما هي الحال في الرياضة وفي كثيرٍ جدًّا من ضروب استدلال النتائج التي تتولَّد من شيءٍ مكتوب، ومنهجٍ آخر يستخدمه إذا كان المقروء ظاهرة طبيعية، يُراد دراستها بطريقةٍ مباشرة، لاستخراج قوانينها. وبينما «الغرب الشمال» مُنطلق في سبيله على ساقَين، اختار «الشرق الجنوب» لنفسه أن يحجل على ساقٍ واحدة، فيفكر بمنهجٍ واحدٍ كان فيما مضى صالحًا لكل ميادين النشاط العِلمي، ولم يعُد اليوم صالحًا إلا في جانبٍ ضيقٍ من جوانب الحياة الجديدة، فدخل «الغرب الشمال» عالمًا جديدًا، لُغته الآلات والأجهزة التي لو بُعِث من الأقدَمين أحد ليرى شيئًا منها لجُنَّ جنونه. وأما «الشرق الجنوب» فقد وقف بمنهجه التوليدي، يستولِد جُملة من جُملة، ونتيجة من مُقدمة، حتى إذا ما رزقه الله مالًا، اشترى بماله بعض ما يجود به «الغرب الشمال» من أساليب الحضارة الجديدة ووسائلها.

ولمَّا بلغتُ من حديثي هذا المدى، اتجهت نحو الشاب العربي الذي طلب منِّي أول الأمر، أن أزيده توضيحًا: لماذا تخلَّفنا في موكب الحضارة، بعد أن كنَّا طلائع، وخاطبتُه قائلًا هذا هو جوابي على سؤالك يا أخي الصغير، إننا تخلَّفنا؛ لأن ضرورة التطوُّر كانت تقتضي أن نُضيف منهجًا جديدًا إلى منهجٍ قديم، كما فعل «الغرب الشمال»، فاستطاع بهذه الإضافة أن يجمع بين علوم الرياضة وعلوم الطبيعة، وأن يجمع بين قراءة الصحائف وقراءة الظواهر في آنٍ معًا، لكننا أبَينا أن نفعل ذلك، جهلًا، أو ضعفًا، أو عنادًا، فكان ما كان.

وليس الفرق بيننا وبينهم بمُقتصِر على مجرد فرقٍ بين إنسانٍ يسير على قدمَين، وآخر يعرج على قدمٍ واحدة، بل إن الأمر ليتَّسِع ليشمل جانبًا آخر، ربما كان أهم وأخطر، وهو أن المنهج القديم الذي ما زلنا نحن نعيش في كنفِه، من شأنه أن ينتهي بصاحبه إلى عدة أمور كلها ضار؛ منها أن العقل يبدأ الطريق بمُقدماتٍ مفروض فيها الصواب، فيُصبح كالسجين الذي ضُربت حوله الأسوار، ولا يجوز له أن يُجاوزها، ثم هو منهج يفتح المجال لصاحبه أن يختار مُقدماته اختيارًا يساعده على الوصول إلى النتائج التي كان يشتهي مُقدمًا أن يصِل إليها، فيُوهِم نفسه بعد ذلك أنه أقام البرهان على صحة موقفه. وإن صاحب هذا المنهج ليستطيع أن يحيا عمره ويموت، وهو لم يرَ من الدنيا التي حوله شيئًا، ومع ذلك يَعُد نفسه «عالمًا»، عالمًا بماذا؟ لا أدري ولا أظنه هو يدري.

وأما المنهج الجديد، الذي يستخدمه قارئ الظواهر الطبيعية، فإلى جانب كونه منهجًا يكشف لصاحبه عن قوانين الظواهر المقروءة، فهو أيضًا يقتضي من صاحبه روح المغامرة؛ إذ بينما زميله صاحب المنهج القديم ينشد اليقين الثابت (وهو يقين لأنه لا يُضيف إلى الدنيا كشفًا جديدًا، ويكتفي بتكرار المجموعات اللفظية المسطورة في الكتب) أقول إنه بينما صاحب المنهج القديم ينشد اليقين الثابت، ليركن إليه ركون المُستسلِم الراضي، ترى كاشف أسرار الكون بالمنهج الجديد، لا مَحيص له عن الاكتفاء بما هو مُحتمَل الصواب، ومن ثم فهو قابل للتصحيح غدًا وبعد غد، فلا ثباتَ هنا ولا كون ولا ركود ولا جمود عند نتائج بعَينها يُقال عنها إنها الحق الذي لا يتغير مع الأيام، ولا يتبدل.

على أن العلم الجديد بمنهجه الجديد، وهو يبثُّ في أصحابه روح المغامرة والقلق، إذا قيست بما يقتنع به أهل المنهج القديم من طمأنينة الساكن المُستقر، فإن المغامرة هي مغامرة محسوبة تهدي ولا تُضلِّل، وإن القلق هو قلق النبض الحي، أرأيتَ يا صاحبي كيف يكون الفرق بين منهجَين، فرقًا بين حياةٍ وموت؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤