هيا إلى اقتحام العقبة

إنني لا أعرف — يا عزيزي القارئ — من أنت؟ أي مرحلةٍ من مراحل العمر عسى أن تكون وكم خبرتَ — يا ترى — حياتنا وحياة العالَم من حولنا؟ ثم لا أعرف عنك ما هو عندي أهمُّ من ذلك كله، وهو موقفك مما أكتبه إذا كنتَ تتابع قراءته. أأنتَ في موقف المُتقبِّل أم في موقف الرافض؟ فحتى الرسائل التي تأتيني من القراء، لا تدلُّني على كثيرٍ مما أريد الآن أن أعرفه؛ لأنها رسائل تعكس اتجاهات مختلفة اختلاف أطياف الضوء السبعة بعد اختراقه قطعة من البلُّور، فأين أنت — عزيزي القارئ — من تلك الأطياف؟ ذلك ما لستُ أعرفه. ومع ذلك فإني أوجِّه إليك أنت الخطاب؛ لأنني إذا كنتُ أجهل عنك كل شيءٍ مما ذكرت، فأنا على يقينٍ من أنك لا بدَّ أن تكون قد علمتَ عني ممَّا قرأته لي، أني أقول ما أعتقد أنه الحق، ولا أُجامِل أحدًا، أو إن شئتَ عبارةً أصدق وأدق، فقُل إني لا أُجامِل أحدًا إلا بالحدِّ الأدنى من المُجاملة، وهو الحد الذي يقتضيه منِّي كوني عضوًا في مجتمع، وعلى هذا الأساس وحدَه، أذنتُ لقلمي أن يتقدَّم إليك بهذه الصفحات، بكل ما فيها من جرأةٍ وصراحة، فهي إن لم تجد عندك القبول والرضا، فلا أقلَّ من أنها ستلقى منك العفو والمغفرة، فمِصر هي مِصرُنا جميعًا على السواء. وحسْب المصري أن يَصدُق القول ويُخلص النصيحة، فما بالك إذا كان هذا المصري المُخلص الصادق قد بلغ من عمره ما بلغت، ومن حقِّه أن يُفصح عما في نفسه قبل أن ينسدِل الستار!

ولعلِّي أُحسن صنعًا لو بدأت بما كان ينبغي أن يكون الختام، وهو أننا إلى يومنا هذا لم ندخل بعد في حضارة القرن العشرين وثقافته، مع أنه لم يبقَ منه — عند كتابة هذه السطور — إلا سبعة عشر عامًا، ويا ليتنا نستطيع الدخول فيه من آخِر أعوامه، عندما تُوصِد الدنيا دونه الأبواب، لتدخُل مرحلة جديدة. ويكفينا أن ندخُل من حيث يخرجون، وأن نبدأ شوطًا انتهَوا منه وطوَوه وفرغوا لسواه. ولكن كيف حدث لنا هذا كله، ولماذا؟ وإذا كانت في طريقنا عقبة، فما هي؟ وما الذي يحول دون اقتحامها لينفتح الطريق؟

اصحبني يا عزيزي القارئ، وسننتقِل معًا خطوة خطوة، حتى يتبين بياض الحق من سواد الباطل، وسأحتكِم في كل خطوةٍ نخطوها معًا إلى عقلك، وقلبك، وضميرك! سأحتكم إلى عقلك كلما استخرجنا نتيجةً من المُعطيات التي بين أيدينا، راجيًا ألا تكون من هؤلاء الذين يُقرُّون بأن المُعطيات هي كذا وكيت، حتى إذا ما رأوا النتيجة التي تترتَّب على تلك المُعطيات، أخذهم الفزع وفرُّوا هاربين. وسأحتكم إلى قلبك من حيث أنت وأنا مصريان، يمتلئ قلبانا حبًّا لمِصر وأملًا في ازدهارها، فلا يتأتى السكوت على عقبات نراها مُلقاة في طريقها، لتحُول بينها وبين سَيرها إلى أمام، وسأحتكِم بعد هذا وذاك إلى ضميرك؛ لأنه المَحكمة التي تكمُن لك بين جوانحك لتحكُم لك أو عليك؛ إذ قد يرى عقلك الرأي الصواب، وقد ينبض قلبك عطفًا على ما ارتآه العقل، ومع ذلك تجمُد في مكانك لا تحرك ساكنًا ولا تُسكن متحركًا، فعندئذٍ يأتي مهماز الضمير الحي ليدفعك إلى القيام بواجبك.

والخطوة الأولى في طريق سَيرنا، هي أن نضع أصابعنا على مفتاح العصر الذي أسميناه بالقرن العشرين، والذي زعمتُ لك أننا لم نخطُ فوق عتبته دخولًا في رحابه، مع أنه قد دنا من ختامه. وأقول إن الخطوة الأولى هي أن نقع على «مفتاح» العصر؛ لأنني أعلم كم ننخدِع، أو قُل كم نخدع أنفسنا بما نحن فيه، فنتوهَّم، أو نوهِم الناس، أننا قد بلغنا الأوج، والعِلة هنا هي أننا نخلط بين ما هو مجد قديم، وبين ما كان ينبغي أن يكون مجدًا جديدًا. على أن هنالك فوق تلك العلة علةً أُخرى أشدَّ استعصاء، وهي أن عددًا ضخمًا من أولي الرأي فينا، لا يعرفون عن روح عصرنا لا قليلًا ولا كثيرًا، وإلى جانب العلتَين علة ثالثة تؤدي بنا إلى حالة خداع النفس التي نعيش فيها، وهي أننا ننظُر إلى حياتنا فنجد على ساحتها كل صنوف الآلات والأجهزة التي عُرف بها عصرنا، فنظنُّ أننا قد دخلنا العصر من أوسع أبوابه، ما دامت السيارات تملأ الشوارع، وأجهزة التليفزيون والثلاجات والأدوات الكهربائية المُختلفة تملأ المنازل، والطيارات تدمدِم في جو السماء، والمصانع على أرضنا أشكالًا وألوانًا، وننسى حقيقةً هي أوضح من الشمس في ظهيرة الصيف، وهي أن ذلك كله صنعَه غيرنا، والعلوم المُجسَّدة فيه هي علوم غيرنا، وأن دورَنا لا يزيد على أن اشترَينا ما صنعَه الآخرون، وحفظنا عن ظهر قلب — إذا كنَّا قد حفظنا — ما وصل إليه الآخرون من علوم.

تجتمع في صدورنا تلك العِلَل الثلاث جميعًا، فننخدِع ونظنَّ أننا من أبناء القرن العشرين حقًّا، حضارةً وعلمًا وثقافة، وما نحن كذلك. ولكي نُوضح حقيقة الأمر، علينا أن نبحث في هذا العصر عن «مفتاحه» لنرى إذا كان ذلك المفتاح في أيدينا، أم هو شيء لم يدخُل عقولنا بعد، بل ربما إذا عرفناه تنكَّرنا له ورفضناه. وأما ذلك المفتاح فيما أرى — ومن حقِّك أن ترفض الرأي، وتبحث لنا عن مفتاح آخر إذا استطعت — ذلك المفتاح هو أن الأقطار الرائدة في حضارة العصر وثقافته، قد استبدلت بالطريقة القديمة في قراءة الكون وكائناته، طريقةً أخرى جديدة، فكان ما كان من نتائج لا تقع تحت الحصر. فأما قراءة الكون على الطريقة القديمة، فكانت تَرى في الكون من حيث هو كل، وتَرى في أي كائن من كائناته، كالشمس والقمر والشجرة والنهر والفرد الواحد من حيوان أو إنسان، أقول إن الطريقة القديمة في قراءة الكون وكائناته هي أن ترى كل كائن على أنه ذو هوية ثابتة، فالشمس أولها شمس، وأوسطها شمس، وآخرها شمس، والنهر الذي يجري في بلادنا كان هكذا في أول عهده، وفي أواسط عهوده، وفي آخر عهده على السواء، وأنت وأنا وهذا وذاك، كل منَّا ذو كيانٍ ثابت الهوية منذ وُلِد وإلى أن يموت، وهكذا وما يُقال في هذا عن مُفردات الأشياء، يُقال مثله على الكائنات المعنوية أيضًا، فالحضارة الفرعونية، أو الحضارة العربية، أو حضارة الغرب المُعاصر، والأدب في كل موطنٍ من مواطنه، والعِلم والفن وسائر أعضاء هذه المجموعة من المعاني يُنظَر إلى كلٍّ منها وكأنه كائن ذو هويةٍ ثابتةٍ يحتلُّ بها مكانًا مُعينًا وزمانًا معينًا. وكان فلاسفة العصور السابقة قد اصطلحوا على أن يُطلقوا على جانب الثبات من هوية شيءٍ مُعين اسم «الجوهر». وإذن فمن حقِّنا أن نقول إن مفتاح الرؤية القديمة كان هو الإشارة الضمنية أو الصريحة إلى «جوهر» الشي الذي نتحدَّث عنه، مما يضمن لذلك الشيء حقيقة ثابتة كانت له بالأمس، وهي له اليوم، وستظلُّ له غدًا وبعد غدٍ.

وقبل أن أستخرج من هذه الرؤية القديمة نتيجتها التي تُهمني في هذا الحديث، أودُّ أن أنتقل بالقارئ إلى الرؤية الجديدة التي على هُداها يقرأ عصرنا حقائق الأشياء على اختلافها لتسهُل على القارئ مقارنة الرؤيتَين إحداهما بالأخرى، فيسهُل عليه بالتالي أن يتعقَّب النتائج الهامة التي تترتَّب على ما بين الرؤيتَين من اختلاف.

أمَّا هذا العصر الراهن، الذي نعيش فيه — منذ أواخر القرن الماضي وإلى يومِنا الحاضر — فهو يؤسِّس رؤيته للكون وكائناته على أن كل شيءٍ إنما هو سِيرة، أو هو تاريخ، أو قُل إنه أحداث مُتتابعة في خطٍّ موصول، كأنه السلسلة وحلقاتها. كانت الفكرة قبل ذلك — كما قُلنا — هي أن لكلِّ شيءٍ جوهرًا ثابتًا، تطرأ عليه الأحداث، لكنه في جوهره لا يتغيَّر مع تلك الأحداث الطارئة، أما الفكرة الجديدة عن الشيء المُعين، أو عن أي كائنٍ حي، فهي أنه هو هذه الأحداث نفسها. خُذ مثلًا يوضِّح لك الفرْق بين الفكرتَين، مدينة القاهرة، فلأننا نستخدم هذا الاسم استخدامًا يفهمه المُتكلم والسامع معًا على أنه يُسمِّي مدينةٍ بعينها، يُسارع خيالنا إلى التصوُّر بأن تلك المدينة المُعينة إنما هي كيان قائم منذ أنشأها المُعز لدين الله، حتى اليوم وما بعد اليوم، ولم يكن هذا الوجود الثابت لمدينة القاهرة ليتحقق ما لم يكن لتلك المدينة جانب أساسي لا يزول مع السِّنين برغم ما قد طرأ عليها، وما يزال يطرأ عليها، وسيظلُّ يطرأ عليها من أحداث فسكَّانها يزيدون وينقصون ويتغيرون بالموت والولادة جيلًا بعد جيل، وبيوتها وشوارعها ومتاجرها تُبنى وتُهدَم وتتَّسِع وتضيق، حتى ليمكن القول إنه ليس في قاهرة اليوم شيء واحد ظلَّ كما هو من قاهرة المُعز، ومع ذلك فهي هي القاهرة. ولا تفسير لمِثل هذا الثبات مع ما يطرأ من تغيرات، إلا أن نقول مع القدماء إن لها «جوهرًا» ثابتًا هو الذي يخلع عليها هويتها الثابتة، ثم تأتي الأحداث على ذلك الجوهر وتمضي، والقاهرة باقية بجوهرها ذاك.

وأما رؤية هذا العصر فتختلف؛ لأنها رؤية لا ترى في القاهرة إلا أنها سلسلة طويلة من أحداث، ولا شيء غير ذلك. إن الدوام المزعوم ليس إلا دوامًا للاسم فقط، اسم «القاهرة» هو وحدَه الذي يبقى، فنتوهَّم أن مُسمَّاه قائم كما كان قائمًا عبر القرون. إن حقيقة القاهرة هي أنها «تاريخ» أو هي «سيرة» كأي سيرةٍ نرويها عن إنسان أو عن بناءٍ مُعين، أو عما شئتَ من كائنات. حقيقة أي كائن في هذا الكون، بل وحقيقة الكون في مجموعه، إنما هي شبيهة كل الشبه بمعزوفةٍ موسيقيةٍ أو بمسرحيةٍ، أو فيلم سينمائي، فنحن نُشير إلى كل واحدة من هذه الأشياء باسم يُميزها، فنقول مثلًا: هذا هو السلام الجمهوري، وهذه هي مسرحية شهرزاد، وذلك هو فيلم البؤساء، لكن كلًّا من هذه الأشياء هو في حقيقته سلسلة أحداث صوتية أو ضوئية، تتابعَت مُترابطة بعضها مع بعض بروابط تجعلها في أذهاننا موحَّدة على نحوٍ ما، هو الذي يُبرِّر لنا أن نُطلق عليها اسمًا واحدًا، ثم نظنُّها جزئية واحدة.

وكان انتقال القرن العشرين وأهله من رؤية الكائنات على أنها ثوابت بهوياتها الدائمة، إلى رؤيتها على أنها خيوط من أحداثٍ مُتعاقبة، هو نفسه الانتقال من عصرٍ فكريٍ إلى عصرٍ فكريٍ آخر.

ولكن ماذا يُهمنا نحن من هذا كله؟ الذي يهمنا هو الآتي: إن صاحب الرؤية القديمة كان في وسعه أن يتصوَّر «الماضي» وكأنه كالكرة يمكن أن يُدحرجها التاريخ فوق رءوس الأعوام، قرنًا بعد قرنٍ، إلى أن يستقرَّ أمام أعيننا حاضرًا لا بدَّ لنا من التعامُل معه، كما كان يتعامَل معه الناس في أي زمنٍ مضى، ولم لا؟ إنها هي هي الكرة، كانت وما تزال، وسوف تبقى إلى أبد الآبدين، والذين يتغيَّر هو جماعات اللاعبين، وليس هو الكرة. أقول إن مثل هذا التصوُّر للماضي بالنسبة إلى الحاضر وإلى المستقبل، كان واردًا بل كان مفروضًا على الناس، وهو تصوُّر ناتج عن وجهة النظر التي كانت سائدة في فهم الناس لحقائق الأشياء، فإذا قُلتَ لهم — مثلًا — حضارة عربية، أو ثقافة عربية، تبادر إلى أذهانهم كيان ذو ثباتٍ وذو دوامٍ بفضل جوهره الكامن في أصلابه.

وأما صاحب النظرة المعاصرة، فإذا قلتَ له «حضارة عربية» أو «ثقافة عربية» ارتسم في ذهنه خط طويل من أحداثٍ تتابعت. فالحضارة العربية هي «تاريخ» وليست «شيئًا» ثابتًا بهويته، فإذا كان في مُستطاعنا أن نتبيَّن ملامح مميزة لما نُسميه بالحضارة العربية أو بالثقافة العربية، فتلك الملامح المميزة هي في نمط الروابط التي ترتبط بها الأحداث في تتابعها، وليست هي في «جوهر» لا حيلة لنا فيه.

ولننظُر الآن إلى الفرق الشاسع في نظرتنا إلى الماضي بالنسبة إلى الحاضر، على أساس الرؤية القديمة، وعلى أساس الرؤية الجديدة، فبينما نتصوَّر في الحالة الأولى إمكان أن يُبعث الماضي بحذافيره ليكون هو حاضرنا، نرى في الحالة الثانية أن ذلك ضربٌ من المُحال؛ إذ ما دام الأمر أمر سِيرة تتعاقَب أحداثها تعاقُب حكاية يرويها «التاريخ»، إذن فالماضي قد ابتلعه الحاضر ابتلاعًا، ولم يعُد له وجود قائم بذاته، إلا من حيث هو غذاء يسري في دمائنا. فإذا كان في تصوُّر الرؤية القديمة أن «الكمال» قد كان مُتحققًا في حياة السلف، ولا بدَّ لنا من شدِّه إلى عصرنا شدًّا لنحيا على دعائمه كما فعل هؤلاء الأسلاف، ففي تصوُّر الرؤية الجديدة أن «الكمال» سوف يكون، ولا بدَّ لنا من رسْم الخطوات التي نتحرك بها نحو ذلك الهدف المُستقبلي المنشود.

أريدك — عزيزي القارئ — أن تعلم بأننا حين نقول «الرؤية القديمة» و«الرؤية الجديدة» فلسْنا بذلك نقول عباراتٍ لا تزيد على كونها مرقومة بالمداد على الورق، أو منطوقة في أفواه المُتحدِّثين، بل هي مُترجمة إلى أفرادٍ أحياء ذوي أجساد من لحمٍ ودم، يأكلون معك ويشربون ويتكلَّمون ويضحكون. وحين زعمتُ لك في أول الحديث أننا لم نخطُ بعد على عتبة القرن العشرين، مع أنه قرن يدنو من ختامه، فإنما أردتُ بذلك أن أقول إنك إذا أمعنتَ الفكر فيما يقوله معظم أصحاب الرأي المؤثِّر في حياتنا، وجدتَه مُنطويًا على فرض، والفرض هو أن الماضي شيء له رأس وأذنان وعينان، ولسان وشفتان، وساقان يمشي عليهما ويجري، وأن هذا الشيء يمكنه السَّير إلينا في يومِنا هذا، أتيًا من حيث لا أدري. وأصحاب الرأي هؤلاء يستحثونه ليُسرع الخُطى، فيجيء ليُسيطر اليوم — إذا استطاع — قبل الغد، فخلاصُنا من كل ما نحن غارقون فيه إلى أذقاننا من مشكلات، مرهون بقدوم ذلك الشبح، ولكنهم في انتظارهم لعودة الماضي ليُخلِّصهم مما هم فيه، أشبه بمن كانوا ينتظرون «جودو» في مسرحية صموئيل بيكت المعروفة، لماذا؟ لسببٍ واضحٍ وبسيط، وهو أن الماضي كان صفحةً في سِيرة، كان فصلًا في تاريخ، وقد انطوتِ الصفحة انطواءً لا حيلةً لنا فيه، وانتهى الفصل التاريخي انتهاءً لا قِبَل لنا في بعثِه من جديد لا لأن ذلك الماضي قد انعدم، كلَّا، فهو حيٌّ، لكنه حي فينا نحن، هو حي باللغة العربية التي نتكلَّمها، وهو حيٌّ بقواعد السلوك الأساسية في تعامُلنا، وهو حيٌّ في وجداننا الشاعر، الذي يقرأ البُحتري فيطرب، ويتأمَّل الفن العربي على جدران المساجد فينتشي، لكن حياتنا تلك، التي هضمت الماضي هضمًا وحوَّلته إلى إفرازات الغُدَد وإلى دمٍ يجري في الشرايين، إنما هي — كأي حياة في أي كائنٍ حيٍّ — حياة متحركة في تيارٍ يدفعها أبدًا إلى أمام، حاملةً في جوفها ما قد كان، مُتجهة نحو تحقيق ما سوف يكون.

فليس أقتَلُ للإنسان في موقفه الثقافي والحضاري، من أن يُحاكي مرحلةً تاريخية سبقت المرحلة التي يعيش فيها، مُحاكاة تفصيلية حرفًا بحرفٍ وفعلًا بفعل، لا بل ليس أقتَلُ للنموذج السَّلفي نفسه من أن يظلَّ الخلف يُعيدونه ويكرِّرونه بمثل هذه المُحاكاة التفصيلية التي أشرْنا إليها، فلُبُّ الحياة وصميمها إنما هو في إبداعها للجديد الذي تتكيَّف به مع المواقف الجديدة. سِرُّ الحياة، وسِحرها، وإعجازها هو في إبداعها، فليس الأمر مقصورًا على أن لكلِّ كائنٍ حي ما يُميزه عن سائر الكائنات، حتى تلك التي تقع معه في نوعٍ واحد، بل إن تلك المُعجزة الإبداعية لتمتدُّ حتى تشمل جوانب الحياة الفكرية. ويكفيك أن تنظُر إلى القوة الإبداعية الكامنة في اللغة وطرائق استخدامنا لها، فالطفل منذ التقاطه لبضع كلماتٍ وبضع جُمل، يأخذ بقُدرة فطرية في تركيب جُمل تركيبًا لم يسمعه من أحد، فالمعنى المُراد يمكن أن يوضَع في صور مختلفة، لا يلزم للطفل أن يسمعها كلها ممَّن حوله، بل هو قادر قُدرة تلقائية على تنوُّع التركيبات اللغوية التي تؤدي المعنى المُعين الذي يريد التعبير عنه، تلك هي الحياة وطبيعتها على كل مستوياتها، إلى أن تصِل إلى المستوى الحضاري الشامل، وجدتَهُ يُبدع في كل جوانب حياته صورًا غير مسبوق إليها، وإلا فالوقوف عند تكرار ما قد سبق، نذير بالضعف، وربما انتهى الضعف بالحضارة المُحاكية لسوابقها إلى الفناء، حتى لو كانت تلك السوابق قد بلغتْ كمالها في حينها؛ لأن ذلك الكمال نفسه إذا جُمِّدت صورتُه انقلب ضربًا من النقصان، فلكل معركةٍ سلاحها، وأكمل سلاح في معارك الماضي هو أعجز سلاح في معارك اليوم.

فإذا كان السؤال العسير المُلقى علينا ليتحدَّى قوانا وملكاتنا هو: ما هي تلك العقبة الكأداء التي وقفنا أمامها عاجزين عن الدخول في القرن العشرين بأمواجه وتياراته وتحوُّلاته، مع أن هذا القرن العشرين قد دنا من ختامه، ليدخُل الناس في مرحلةٍ تاريخيةٍ أُخرى، أرجح الظنِّ أن تجيء أعتى مَوجًا، وأعنفَ دفعًا، وأشدَّ تحوُّلًا؟ أجبْنا بأن تلك العقبة إنما كانت هي الوقوف عند نمطٍ ثقافي حضاري لا نُريد له أن يتغيَّر مع الزمن، وقد ظلَلْنا نُمسي معه ونُصبح، حتى أشبعناه تكرارًا، وقتلناه مُحاكاة (والقتل هنا بمعناه الحرفي)، وإن الحياة نفسها بدفعتها الكامنة لتوشِك أن تَصيح بنا وفينا، هيا جميعًا إلى اقتحام العقبة، قاصدة بصيحتها أن نُبدع ولا نُحاكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤