محمد الغزالي وسقوط الأقنعة!١

الشيخ محمد الغزالي منزعجٌ هذه الأيام بشدة ممن ناقشوا موضوع «الردة» بعدما أفصح عنه الشيخ في محاكمة القتيل (وليس القاتل)، وبعدما ردُّوه عليه على المستوى الفقهي والتشريعي، خاصة وأن الشيخ كان رمزَ الهزيمة النكراء في المناظرة التي جرت أمام الدكتور فرج فودة، وأن الشيخ ذاته هو من جاء الآن ليحكمَ على ضمير رجل ميت، لإدانة القتيل وتبرئة القاتل، وما يمكن أن يلحقَ الموقف مما قد تهجسُ به النفسُ بين الأمرين، عن صاحب القرار الخفي وراء مقتل الدكتور فرج.

ويبدو أن مزعجًا جديدًا بدأ يُقلق راحةَ الرجل، حتى دفعه إلى نسيان حذرِه وتقيَّتِه، التي أشاعت عنه حينًا شائعةَ الاعتدال، فخرج عن حذره ليقول في صحيفة الشعب (عدد ٧ سبتمبر ١٩٩٣م): «إن من يناقشون حدَّ الردة، يطلبون من علماء المسلمين فتوى تُبيح الارتدادَ وتنسَى عقوبتَه، لتقرير حرية الكفر والإيمان والسُّكْر والنهب والسلب، وهم بذلك يصيحون: افتحوا أبواب الحانات ودعونا نلتقي بالنساء كما نشاء، وأن الآية التي يحتجُّون بها فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ليس لها سوى تفسير حقيقي أوحد، هو عرض الإسلام على الناس فإن قبلوه التزموا به، ولا مكان بعد ذلك لحرية الاعتقاد، ومن يرى للآية تفسيرًا آخر فهو كافر في دولة مؤمنة، وعليه أن يطويَ نفسَه على ما بها، أو ليرحلْ إلى مكان آخر، أما إن أصرَّ على التصريح بما يرى، فقد أطلق صيحاتِ كفورٍ تُقرِّب أجلَه.»

ورغم قوله: إن الدولة مؤمنة، فإنه يعود إلى الغمز واللمز، بقوله: إن أصحاب هذه التصريحات عصاباتٌ قليلة تستعين بالاستبداد السياسي لتفرض ضلالَها، مشيرًا إلى تحالف الدولة مع هذه العصابات الكفور.

حرية الاعتقاد

والرجل إذ يقول: مطلوب من علماء الدين فتوى تُبيح الارتداد وتنسَى عقوبتَه، يُغالط مغالطةً فاضحة، فهو يعلم يقينًا أنه ليس مطلوبًا منهم ذلك على الإطلاق، أولًا: لأنه ليس في صحيح الإسلام شيءٌ اسمه حدُّ الردة، وثانيًا: لأنه يُعطي نفسه وجماعته سلطة موهومة، متصورًا أن أيَّ أمر يمسُّ مصيرَ الناس يجب أن تصدرَ عنه فتوى من رجال الدين أولًا، وهو الأمر الذي تجاوزه الزمن، اللهم إلا إذا كان الرجل يعيش حلمَ سيادة مقبلة، يحتكر فيها الرأيَ الأوحد والتفسير الأوحد، حيث وضح في خطابه المذكور أنه ليس للآية سوى تفسير أوحد هو ما ساقه بشأنها.

وهو الأمر الذي يُشير إلى ما يمكن أن يترتب على أي خلاف في التفسير (ناهيك مثلًا عن الخلاف المذهبي أو الديني)، في دولة يحكمها رجالُ الدين، فتهمةُ التكفير مُشهرة، ولا مجال حتى للخلاف في الرأي أو الاجتهاد، ولنا أن نتصورَ حمَّاماتِ الدم التي ستحدث حينذاك، لخلافٍ في مصالح الرجال وأهوائهم، حول تفسير آية، أو حديث يخدم تلك المصالح أو يتعارض معها.

وهكذا، فالرجل قبل أن يتملَّكَ على العباد ويحكمَ في الرقاب، يُصدر قراراتِه بتكميم الأفواه أو النفي والتشريد أو القتل، كما لو كنا نعيش في العزبة التي ورثها عن آل غزالي.

الجموح

والشيخ عندما يرى للآية تفسيرًا أوحدَ، يعطي نفسه قدرًا حاشا لإنسان أن يجمح به طموحُه إليه، فهو بذلك إنما يعطي نفسَه قدرةَ الاطلاع على المقصد الإلهي، بل ويفرض تفسيرَه على ذلك المقصد الرفيع فرضًا، فيسوق للآية تخريجًا يقول: إنها إنما تعني عرض الإسلام على الناس دون إكراه، فإن آمنوا وكوَّنوا جماعتهم ودولتهم، التزموا بذلك العقد الإيماني.

ولوجه الحق، فإن هذا الرأي التفسيري سليمٌ إلى حدٍّ بعيد، لكنه لا ينفي آراءً أخرى وتفاسيرَ أخرى، وليس هناك شيءٌ اسمه التفسير الوحيد الصحيح، وكان أولى بالشيخ إن أراد صدْقَ المقصد، أن يلجأَ إلى حيثيات الناسخ والمنسوخ مرتبطة بواقعها وظرفها الموضوعي، وكيف نسختْ آيةُ السيف ما سلفها من آيات حرية الاعتقاد، وأصبح الكفرُ ملَّةً واحدة، وأصبح الدين عند الله الإسلام، لكنه لم يُردْ أن يُورِّطَ نفسَه إزاء ما يزعمونه عن تمسكهم الإيماني بحرية الاعتقاد لأصحاب الديانات الأخرى في ظلِّ دولة دينية يحكمون فيها.

هذا ناهيك عن كون ذلك التفسير للآية يُسقط دعواه حول حدِّ الردة؛ لأن الآية بذلك قد عرضت الإسلامَ على الجاهليين وغيرهم في جزيرة العرب زمنَ الدعوة، عرضتْه على أُناس غير مسلمين عند تأسيس الجماعة «النواة» الأولى المؤسسة للدولة، وكان الخروج عليها حينذاك يعني فرطَ عِقدِها حيث حلَّت محلَّ القبيلة، وأصبحت وطنًا في وسط قبلي لا يعرف غير القبيلة وطنًا، لكنْ مسلمُ اليوم، وُلد مسلمًا، ولم يُعرض عليه الإسلام وهو راشد بالغ عاقل، ولم يُدعَ إلى عقد أو بيعة يقبل بشروطها أو يرفضها، ومن ثَم فإن الظرف يختلف تمامًا عن وضْع مَن قبِلوا الإسلام عند تكوين الجماعة الأولى، ويبقى سؤالٌ لا يحتاج إلى إجابة: هل يُطبَّق على مسلمِ اليوم إن أراد اتخاذ موقف جديد بإرادته الحرة حدُّ الارتداد، الذي هو غير مقرَّر أصلًا؟ وهل نستحق أن نكون بشرًا حقًّا، عندما نهلل لمسيحيٍّ يخرج على دينه ليدخل الإسلام، ونقتل مسلمًا ليس لأنه خرج إلى دين آخر، بل فقط لأنه أراد أن ينتميَ إلى بني الإنسان، فقرَّر لنفسه حرية الإرادة والتفكير، وناقش أمرًا من أمور دينه ليطمئن إلى طوية فؤاده، أو لأنه ناهض أمرًا يراه ضدَّ مصلحة البلاد والعباد.

التهديد بالقتل

وإن ما يؤكِّد الهواجسَ ويُدعمها، أن الرجل ساق حديثَه هذه المرة في هيئة من يملك سلطانًا أو يتوقعه، بشكل يشبه بياناتِ المسئولين وتصريحاتهم، فهو يصدر الأوامر، ويتحدث عن سيطرة الإسلام وسيطرة الدولة، ثم يُلقي بما لم يكن متوقعًا، فيُهدِّد المخالفين، «المؤمنين بأن الإسلام قرَّر حريةَ الاعتقاد»، بالقتل إن لم يصمتوا، لكنه في هذه الفقرة الأخيرة القاتلة تحديدًا، تحوَّل خطابُه عن الجماعة إلى المفرد، كما لو كان يعني شخصًا بعينه وبالذات، يعلمه ويوجه له رسالتَه الموجزة: اصمت أو ارحل، أو تُقتَل، ويبدو أن هذا الشخص ممن تصعبُ مناقشتُهم أو اتِّهامُهم بشيء من سَيل الاتهامات المعتادة، والرجل بذلك يتصور أن بمقدوره أن يُخيفَ، غيرَ مدرك أن الموت دفاعًا عن قضية شريفة هو الخلود الحقُّ، وأن من عرض نفسَه على أمانة الكلمة ومصير الناس في هذا الوطن لا يخشى تهديداتِ الشيخ ولا قنابلَ صِبيتِه، وإن كانت ثقةُ الرجل وهو يُلقي بهذا الكلام الفلوت تعكس تخطيطًا بعينه يوقن بسلامة برمجته حتى النهاية، فمرحبًا بموت يرحَلُ بنا عن عالَمِ أقنانٍ تحت عرش عمائم وسيوف مشرعة، فموتُ صاحبِ المبدأ بشرف يختلف تمامًا عن موت جهولٍ يطمع في الخمور والحور، فلسنا نحن أيها الشيخ مَن يطلب الحاناتِ والنساء (؟!) فقط لتتذكَّرْ أن من قتل لافوازيه لا يعرف أحدٌ اسمَه وبقي ذِكْرُ لافوازيه خالدًا، ولتذكرْ أن من ذبح الحلَّاجَ ذهب إلى سلَّة مهملات التاريخ وبقي ذكْرُ الحلَّاج، ونحن نؤمن تمامًا أن ما نطمع إليه من حياة أفضل للأجيال المقبلة، لن يكون دون تضحيات نحن أهلٌ لها، ولو كانت بقرارات قاتلة أنتم أهلٌ لها.

١  نشر في ٢٢ / ٩ / ١٩٩٣م بصحيفة الأهالي، القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤