ذبْحُ المفكرين على الطريقة الإسلامية١

«مفكِّرٌ من أهمِّ مفكِّري التنويرِ في التاريخ المصري، وعلامةٌ فارقة في تاريخ الثقافة العربية جميعًا.» هذا بالضبط ما قلتُه في إحدى ندواتي بعد أن قرأتُ للرجل بحثًا واحدًا، كان منشورًا أيامها في دوريةٍ عربية، وبعدها تابعتُ البحثَ عن أعمال الرجل، وعن الرجل نفسِه، لأكتشفَ أنه كان بدَوره يبحثُ عنِّي، عندما أرسلَ لي — بمدينة الواسطى حيث كنتُ أُقيم — أحدَ مريديه، ليطلبَ اللقاء.

وبقدر ما أدهشتْني كتاباتُ هذا الرجلِ بقدر ما أدهشني شخصُه، تَحسبُه لشدة تواضعِه، وهو يستمع للقول، أنه يستمع إليه لأول مرة، ثم تكتشفُ أنه يعلمُه فعلًا لكن بشكل أفضل، حكَى لي عن مرحلة الصِّبا بشديد من البراءة والاعتزاز، وكيف بدأ عاملًا فنيًّا باللاسلكي، وكيف حمل أعباءَ الأسرة بعدَ رحيل عائلِها، وكيف كان يعملُ نهارًا ويدرُس ليلًا، لكنَّك لا تجدُ مهما بحثتَ أيَّ أثرٍ لتشوهات كان يمكن أن تتركَها تلك الرحلةُ في نفس أيِّ رجل، كلُّ ما حدَث أنه قرَّر أن يحملَ عبءَ مصرَ جميعًا.

صريحٌ كلَّ الصراحة إلى حدِّ الصدمة، لا يقولُ إلا ما يعنيه فعلًا، أما المستوى العلمي الرفيع والرصين في إصداراته السبع، فتَشِي بصرامةٍ علميةٍ نادرة، تُفصِحُ عمَّا يأخذُ الرجلُ به نفسَه من شدةٍ وقسوة عندما يعمل، فعلى مستوى الكتابة، وعلى المستوى الشخصي، لم يساومْ أبدًا على مبادئه، ولا على مستقبل هذا الوطن.

ذلكم هو نصر حامد أبو زيد.

والقارئُ لأعمال نصر أبو زيد يكتشف همَّ الرجلِ في إزالة ومنْعِ الاستخدام النفعي والانتهازي للدين، بدأ به على ربْطِ النصِّ بسببه الموضوعي وسياقِه التاريخي. أما الأسلوبُ فشديدُ الرصانة، شديدُ البراءة أيضًا، يَفضحُ ببراءته أولئك المنتفعين على مرِّ العصور، ومن هنا استشعر أولئك الخطرَ الذي يُمثِّلُه هذا الإنسان، فشنُّوا عليه حملتَهم التي قادها مستشارُ بيوتِ هبْشِ الأموالِ المعروف عبد الصبور شاهين لتدعمَه بعد ذلك أسماءٌ كثيرة وردتْ بكشوف البركة، ليأخذَ التحالفُ الأسود مداه ليصِلَ بالرجل إلى المحاكم، حيث يصدرُ ضدَّه الحكمُ بتفريقه عن زوجته، بحجة أنه أراد الاجتهادَ في قواعد المواريث، فأنكر بذلك معلومًا من الدين بالضرورة، والمعنى الضمني في هذا الحكم أن الرجل مرتدٌّ عن الإسلام، ويُصبح من حقِّ أيِّ مسلم مهووس أن يذبحَه وهو مطمئنُ الفؤاد قريرُ العين، بالنظر إلى العلاقات الواضحة بين الأقطاب، حيث أفتى الشيخُ الغزالي في محاكمة قتلةِ فرج فودة، بأن أي مسلم يمكنه تنفيذُ حدودِ الله بيدَيه، وبالمناسبة منحتْ حكومتُنا المباركة هذا الرجلَ جائزتَها التقديرية!

ولو مددْنا الخط على استقامته، منذ مقتلِ الدكتورِ فرج فودة، مرورًا بمحاولة اغتيالِ نجيب محفوظ، ثم ربطنا ذلك بتراجع العنفِ الديني المسلَّح بعد الصِّدامات الدموية مع جهاز الشرطة، ومع خسارة ذلك العنفِ تأييدُ الشارعِ المصري له؛ حيث بدأ الناسُ بالتعاون الفعلي مع الشرطة بعد ما رأوا من جرائم الإرهاب، فإننا سنلحظُ فورًا نقْلةً جديدة، تتمثَّلُ في متغيرات مرحلية وتكتيكية، لكسْبِ الجماهير إلى صفِّ الإسلام السياسي، وذلك برفْع عددٍ من قضايا الحِسْبة ضدَّ مفكري مصر، مثلما حدَث مع عاطف العراقي، وكتاب روز اليوسف، وغيرِهم، وهنا يتمُّ نقلُ قضية نصر أبو زيد من دائرتها الأصلية إلى الدائرة التي أصدرت الحكم، دون مبرِّراتٍ واضحة، وهي كلُّها مؤشرات إلى منهجٍ آخرَ وطريقٍ آخرَ يتَّسمُ بالذكاء قد بدأ تنفيذُه، حيث يمكن ذبْحُ نصر أبو زيد بعد الحكم، مع تهيئة الجماهير لقبول ذلك الذبحِ الشرعي بحملة واسعة حدثتْ فعلًا في مساجدَ معلومةِ الشأن، دون أن نتمكَّنَ من اتِّهام الإرهابِ الدينيِّ المسلَّح، وسيفُ هيبةِ مؤسسة القضاء مرفوعٌ فوق رءوسنا، ولأنَّ القتلَ هنا سيكون بتفويض رسميٍّ من مؤسسة الدولة، ومختومًا بخاتمها الرسمي.

كلُّ ذلك يُشير إلى جودة عالية في التكتيك، وتوزيعٍ مبرمجٍ بدقة للأدوار، تُمكِّن من الاستفادة من الوسطية الفجَّةِ التي تلعبها مؤسسةُ الحكم، منذ أن قرَّرتْ أن تكون الدولة دولةَ مؤسساتٍ ديمقراطية، ثم قرَّرتْ في الوقت نفسِه أن الدين الرسمي للدولة هو الإسلام، وأن الشريعة الإسلامية المصدرُ الرئيسي للتشريع، فجمعتْ بين المبدأِ الديمقراطي الذي لا يعرف عن المواطنين هويتَهم الدينية، ولا يضعُ في اعتباره إن كان هذا المواطنُ مسلمًا، أم مسيحيًّا، أو حتى بلا دينٍ محدَّد، وبين أيديولوجيا دينية شمولية، مع التصور الساذج أنه من غير الممكن استخدامُ هذه النصوص الدستورية عمليًّا، حيث كان الأمرُ تجمُّلًا من النظام أمام التيار الديني، وإثباتًا لتديُّن الدولة والتحائها، لتحقيق عناصرَ ومناخٍ مناسب للتحالف الذي حدَث آنذاك بين نظام السادات وبين الإسلاميين.

ولا شك لدينا أن السيد القاضي المبجَّل، الذي أصدر الحكمَ، كان متَّسقًا تمامًا مع القاعدة التشريعية التي سوَّغت له أن يحكمَ بما حكَم، فتحْتَ يدَيه بابٌ للجحيم يمكنه أن يفتحَه ويستخدمَه وقتما شاء، قد وضعتْه له حكومتُنا الغرَّاء، كما أن سيادته كان متَّسقًا تمامًا مع منظومته الدينية والفكرية، فالرجل كما رَنا إلى علمنا من المتشدِّدين في أمور الدين؛ لذلك فقد أصدر الحكمَ الذي ارتاح إليه ضميرُه وعقيدته، التي هي بهذا المنطق أساسُ ومقياس كلِّ الأحكام.

لكنَّ هذا كله لا يعني تبرئةَ السيد القاضي المبجَّل من الخطأ، فجلَّ مَن لا يُخطئ، نقول هذا ونحن نعلم معنى هيبة القضاء ومؤسسته، كما نعلم جيدًا ما قد يجرُّه هذا الكلام علينا نحن بالذات، لكن المسألة لم تَعُدْ تحتمل تردُّدًا أو وسطية أو تمييعًا للمواقف، نعم مؤكَّدٌ لدينا أن الحكم بقياسه على عقيدة القاضي ونصِّ الدستور صحيحٌ تمامًا، وهو الأمر الذي يجب أن يُحيلَ الجميعَ الآن إلى مناقشة القاعدة الدستورية والتشريعية ذاتها، التي سوَّغتْ له إصدارَ حُكمه، أما الخطأ الذي نقصدُه فهو قيام الحكم على حيثيةٍ اتخذتْ موقفَها من اجتهاد نصر أبو زيد في مسألة المواريث، وهو ما شرحه الدكتور محمد البري، لا فُضَّ فوه، أن اجتهادَ نصر هو إنكارٌ لمعلوم من الدين بالضرورة، والخطير هنا هو أن القاضي المبجَّل قد أصدر حكمَه بناءً على فهمه هو لما كتَب نصر أبو زيد، بينما هناك كثير من مفكري هذا البلد، قد قرءوا أعمالَ الرجل، ولم يفهموا منها ما فَهِم السيدُ القاضي، وهنا جوهرُ الأمر، حيث يتمُّ تحكيمُ الدين في رقاب العباد، بينما النصُّ الديني نفسُه قابلٌ لتعدُّد الفهم حولَه بتعدُّد القراءات واختلاف الثقافات، كما أن أيَّ نصٍّ آخر يحمل ذات المشكلة في تعدُّد ألوان الفهم حوله، ومن ثَم يُصبح الخطأُ هنا — خاصة إذا كان الخطأ قاتلًا — هو في فهْم ما كتَب نصر أبو زيد، يلتبس بخطأ آخر يتأسَّس على الانحياز لفهْمٍ دون فهْمٍ آخرَ لنصوص الدين، وهو بدوره ما ينبني على اعتبار تلك النصوص نصوصًا جامدة ثابتة لا تقبل المناقشةَ، ويلحق بذلك نتائجُ هي أنَّ أيَّ محاولة لتحديثها أو تأويلِها، أو حتى مجرد تحريكها، يعني الكفران المبين.

وقد أخَذ فهْمُ نصوص القرآن الكريم أحدَ طريقَين، ظلَّا طوالَ التاريخ الإسلامي في حالة مدٍّ وجزر، لعبت بهما أقدارُ السياسة والظروفُ الاقتصادية والاجتماعية، حتى استقر أحدُ الطريقين وساد في عصور التخلف والظلام.

فالمعلوم لدى أيِّ مسلم أن القرآن الكريم لم يتنزلْ على النبي دفعةً واحدة وكتلةً متماسكة كألواح موسى، إنما تواتر مفرَّقًا عبرَ ثلاث وعشرين سنة، هي عُمْر الوحي، أي أنه استغرق من التاريخ زمنًا يتجادل مع أحداث الواقع ومستجدَّاته ويتفاعل معها ويجيب على ما تطرحه من إشكاليات دائمةِ التغير، وخلال ذلك نسخَت آياتٌ آياتٍ أخرى، ونُسيت آياتٌ، ورُفعت آياتٌ، وهو ما يعني أن للوحي عمرًا هو جزءٌ من التاريخ، وهو ما يعني تاريخيةَ النصِّ القرآني التي لا يجادل فيها إلا مكابرٌ أو صاحبُ مصلحة، وكانت هذه التاريخية واضحةً تمامًا في أذهان المسلمين الأوائل.

وفهْمُ تاريخيةِ النصِّ الديني، وربطُ الآياتِ بأسبابها، لا شك يُوقِف الاستخدامَ النفعي والانتهازي والمصلحي والارتزاقي للدين، فحيث إن عملية جمْعِ القرآن زمنَ الخليفة عثمان، قد جمعَت الناسخَ إلى جوار المنسوخ، فقد دفع ذلك أكثرَ الصحابة علمًا وفقهًا إلى التنبيه على تلك التاريخية طوالَ الوقت، وهو ما يمثِّله قولُ علي بن أبي طالب لأحد القضاة وهو يحكم بين الناس: «هل تعرف الناسخ من المنسوخ؟» فقال: لا. فقال عليٌّ: «إذن فقد هَلكتَ وأَهلكتَ.»

وفي عصور التخلف، واستخدام الدين لخدمة توجهات أصحاب السلطان، تمَّ وضعُ قاعدة فقهية تقول: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وهو ما يفتح البابَ على مصراعَيه أمام الاستخدام الانتهازي الصريح لنصوص الدين. ومن أمثلة ذلك الاستخدامات القريبة ما مرَّ في تاريخنا المعاصر، من تبرير رجال الدين لتوجُّهات الحكومات على تناقضها التام، فعندما كنَّا نحارب إسرائيل وجدْنا آياتٍ لا حصرَ لها تُؤيِّد تلك الحربَ وتدعو إليها، وعندما قرَّرْنا عقْدَ السِّلْم معها وجدْنا آيات أخرى تدعو إلى السلم وتطالبنا بالجنوح إليه، وعندما اعتمدنا المنهجَ الاشتراكي في الزمن الناصري، اكتشفوا لنا أن رائد الاشتراكيين وإمامهم هو النبي ، وعندما قررنا الأخذَ بنظام الاقتصاد الحر قدَّموا لنا كشفًا على النقيض تمامًا، يجعل الناس درجاتٍ وطبقات.

وهكذا وجد القائمون على شئون الدين بناءً على تلك القاعدة الفقهية، مكاسبَ دائمة، تُبرِّر للسلاطين عبرَ العصور آراءَهم واتجاهاتِهم بل ونزواتهم، بالدين ونصوصه تأسيسًا على إنكار تاريخية الوحي والقول بثباته الأزلي في لوح محفوظ، للعمل بالناسخ وقتَ الحاجة، وللعمل بالمنسوخ عند تغيُّرِ الحاجة، حسب التوجهاتِ المطلوبة والانتهازية.

والقول بأزلية النصِّ إنما يُجافي العقلَ والمنطق والنصَّ نفسه، حيث يحوي النصُّ أحداثًا وقعت إبَّان حياة الرسول لا يمكن فهمُها إلا في ضوء تاريخية النص، ولا يمكن فهْمُ الآيات المتعلقة بها إلا بربطها بتلك الأحداث الحادثة وليست الأزليةَ أو القديمة، وهي تتعدَّدُ بتعدُّدِ آيات القرآن الكريم ذاته، وإلا كيف نفهم نصًّا أزليًّا قديمًا يُحدِّثُنا عن واقعة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش ليحلَّ إشكاليتها؟! أو كيف نفهم، في ظلِّ الأزلية، النصَّ الذي يُحدِّثُنا عن أولئك الذين نادوا النبي من وراء الحجرات، أو كيف نفهم سماعَ الله لتلك المرأة التي جاءت إلى النبي تُجادله … إلخ، والنماذجُ أكثر من أن تُحصَى.

من هنا وتأسيسًا على كلِّ ذلك جاءت أعمالُ كوكبةِ المفكرين المحدثين في مصر، لوقْف إهدار الوطن وكرامة المواطن طوال الوقت بهذا الاستخدام النفعي للدين، وحتى لا نظلَّ على حافة التناقض دومًا، وعلى رأس تلك الأعمال كانت كتاباتُ نصر أبو زيد الرائدةَ، التي أقضتْ مضجعَ هؤلاء المنتفعين، ودفعتْهم إلى تلك الحملة المسعورة، ضمن تكتيكهم الجديد المرحلي.

وغير خافٍ على أي مدقِّق، أن استمرار التعامل مع النصوص باعتبارها كتلةً واحدة غيرَ مرتبطة بأحداثِ ومتغيرات واقعِ الزمن النبوي، مع تعليقها في فضاء لا يرتبط بواقع تلك الأحداث؛ أدَّى إلى تناقض شديد إلى درجة «الشيزوفرينيا» في فكْر الإنسان المسلم، كناتج ضروري للتضارب بين الناسخ والمنسوخ، والإيمان بالعمل بأحكام كليهما. وأبرزُ مثالٍ عليه ذلك التضارب بين آيات الصفح والصبر الجميل، وبين آية السيف التي أجمع الفقهاءُ على نسخها لآيات الصفح، وهو تناقضٌ شكليٌّ بالطبع وليس موضوعيًّا؛ لأن لكلٍّ منهما كانت ظروفٌ واقعية تلتحم به وتُبرِّرُه، وبالتالي، وعملًا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، انطبع سلوكُنا بالنفعية والانتهازية، حيث يمكنك أن تجدَ مبرِّرًا دينيًّا دائمًا لما تريد، وبحيث أصبحت الآياتُ القرآنية والأحاديثُ حُججًا دائمة حتى في خصوماتنا الشخصية أو تعاملاتنا المجتمعية أو الاقتصادية، وكلٌّ منَّا على طرفَي الخصومة يجد فيها مؤيدًا له.

ومن ثَم تناقضنا مع أنفسنا، ومع تاريخنا، ومع الآخر، ومع العالم، ومع مفهومنا عن الوطن، بل عن الدين ذاته، فلم نستطعْ طوال ذلك التاريخ أن نضعَ رؤيةً واضحة متَّسقة لأنفسنا أمام أنفسنا أو أمام العالم، وهو ما ترَك بصمتَه الواضحة لدى الأحزاب الدينية، التي لم تتمكَّن حتى الآن من وضْع برنامج واضح المعالم لها.

ولو حاولنا القياس على المحاكمة التي تمَّت وانتهتْ بقرار تفريق نصر أبو زيد عن زوجته، لوجب إجراءُ محاكمات مثيلة لشخصيات كبرى في تاريخ الإسلام تصل بعضُها إلى درجة القدسية، مع تفاوت تلك الدرجةِ لدى المذاهب الإسلامية، فلدينا نماذجُ مثل الخليفة عمر بن الخطاب، الذي ارتكب بهذه المعاني ما لم يسبقْه إليه أحدٌ، وما لم يلحقْه إليه أحدٌ، فقد أوقف العملَ بحدِّ السرقة عامَ الرمادة، ثم نهَى عن متعة حلال، فخالف بذلك نصَّ القرآن يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ (المائدة: ٨٧)، وذلك عندما وقف على المنبر النبوي، وقال: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما: متعة الحج ومتعة النساء.»

لن أناقشَ هنا مسألةَ الردَّة، وهل هي حدٌّ من الحدود المقررة في الإسلام من عدمه؛ فقد تعرَّض لها أساتذة أكفاء وفنَّدوها تفنيدًا مُحكمًا، لكني أسلُكُ هنا سبيلًا آخر أراه سبيل الإنسانية الحرة.

فنحن يمكنُنا أن نفهمَ الظروف التي أدَّت إلى حروب الردَّة زمنَ أبي بكر، ويمكنُنا أن نتفهَّمَ اغتيالَ المعارضين زمنَ النبي ؛ وذلك بالنظر إلى ظروف الزمن آنذاك، حيث كانت دولةُ العرب الإسلامية في طَور النشأة والتكوين، وكان إسلامُ الفرد آنذاك تعاقدًا بشروط، حيث يَعرضُ عليه الإسلامَ، وهو رجل بالغ عاقل راشد، ليختار بملءِ إرادته وحريته، ويُدرك مقدَّمًا النتائجَ المترتبة على إخلاله بذلك العقد، كما يمكننا أن نفهمَ سرَّ شدةِ العقاب للمعترض والمرتد آنذاك؛ حيث كان إنشاء دولة من عدَمٍ، ومن قبائلَ متفرقةٍ متصارعة، مع ما يعنيه ارتداد فرد بارتداد قبيلته جميعًا، وما يؤدي إليه ذلك من تفكيك عُرَى الدولة وتوحُّدها؛ لذلك تمَّت التضحيةُ بأرواح كثيرة عند قيام الدولة لأنها كانت تنهض في وسط معادٍ لها تمامًا؛ لذلك كانت مضطرةً أن تكون دولةً عسكرية شديدةَ المِراس طوال الوقت.

نعم يُمكننا أن نفهمَ ذلك ونعيه جيدًا، لكننا هنا في مصر وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين، ومصرُ كانت دولةً مركزية، وأمةً متكاملة قبل أن تعرفَ الإسلامَ بألوف السنين، فما حُكمُ المسلم هنا اليوم حيث يُولَد مسلمًا بحُكْم ميلادِه في أسرة مسلمة؟ فلا هو اختار الإسلامَ عن دراية وإرادة ودرس واقتناع، ولا هو دخل في ذلك العقد عن بيئة واضحة نافية للجهالة، أفإن حاول من بعدِ أن يطمئنَّ إلى طوية فؤاده، أو أن يناقشَ أمرًا من أمور الدين ويجتهدَ فيه يُحكم عليه بأنه مرتدٌّ؟ هكذا بكل بساطة؟!

هل نحن كَونٌ بذاته؟ أم نحن أبناءُ هذا العالم؟ لقد كافحتِ البشريةُ وناضلتْ، وقدَّمتْ ملايين الضحايا على مذبح كرامةِ الإنسان وحقوقه، حتى تمكَّنتْ من إرساء تلك القواعد الحقوقية، وأهمُّها حقُّ حريةِ الاعتقاد، وحريةِ التفكير وحرية القول، وحتى استطاعت أن تُقيمَ الدولة المدنية الديمقراطية، ونحن هنا لا نجرؤ على حرية الاعتقاد، فقط ربما حاولنا حريةَ الاجتهاد، وعندها تصدرُ ضدَّنا أحكامُ القتل، إما من أمير جماعة مأفون، أو من محكمة تابعة للدولة؛ لأن حكومتنا الرشيدة لم تَعِ بعدُ التعارضَ الهائل بين مواد الدستور وبعضها، لم تَعِ أن حقوق المواطن في دولة مدنية دستورية ومؤسساتية، تتعارضُ بل وتتضارب تضارُبًا صارخًا مع البنود الأخرى في الدستور، وربما كانت قضيةُ أبو زيد الآن هي الضارة النافعة، ومن ثَم أرفعُ صوتي هنا وأطلبُ من كل شرفاء مصر أن يضمُّوا أصواتَهم إلى صوتي، للعمل على إعادة النظر في القواعد التي يمكن أن تسوغَ للبعض إهدارَ أبسط حقوق الإنسان، حتى لو كانت تلك القواعدُ لإيجاد توازنات وسطية تحلُّ بها الحكومةُ مشاكلَها مع المعارضة الدينية، أو لرشوة تيار شعبي غير رشيد، فإما أن نُقيمَ دولةً مدنية حقًّا، أو لتخبرونا بوضوح أنكم مستريحون لوضعنا المزري هذا خارج التاريخ، ولنا في دستور ١٩٢٣م أسوةٌ حسنة، وكنَّا نحن واضعوه وليس آخر.

١  نُشر في ٢٦ / ٦ / ١٩٩٥م، بمجلة روز اليوسف، القاهرة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤