بَعض الشخصيَّات

لبثت في السجن وخرجت منه ولست أذكر من سكانه الذي يستحقون اسم «الشخصيات» غير ثلاثة أو أربعة من أربعة آلاف إنسان تحويهم جدرانه، وهو عدد يساوي عدد الرجال في عاصمة من عواصمنا المصرية المشهورة.

ذاك أن «الشخصيات» في سجن مصر نادرة.

فالسجناء هناك أرقام في حساب مصلحة السجون، وهم كذلك أرقام في حساب الطبيعة: كلهم مغمورون في بحر لجي من الضآلة، والخسة، والتفاهة، لا يعلو بينهم رأس فوق الغمار، ولا تتباين فيهم الخلائق والصفات، إلا كما تتباين الموجة والموجة في بحر هادئ ذليل، لا تضربه العواصف ولا يعج ولا يلتطم.

وهؤلاء «الشخصيات» الثلاثة أو الأربعة الذين أذكرهم من سكان السجن هم أيضًا خلقاء أن يغرقوا في غماره، ويتواروا في خموله لولا بعض الغرابة الملحوظة على أثباج ذلك الخضم الواسع من التفاهة والفهاهة.

فالغرابة إذن؛ شفيعهم إلى الذكر والنباهة! وليس شفيعهم إلى الذكر والنباهة مزية إنسانية أو قدرة خارقة، أو صبغة مستملحة من ألوان الحياة الفريدة.

أحد هؤلاء «الشخصيات» مجنون يتنازعه السجن والبيمارستان.

والثاني مجنون أيضًا ولكن على طراز آخر من الجنون.

والثالث مقعد مبتور الرجلين إلى الفخذين.

والرابع — إن كان لا بد من تحقيق قولة الثلاثة والأربعة — خليط من الجنون والعربدة والمكر والدماثة المصطنعة والجموح الصحيح.

وكلهم يسكنون السجن على انفراد؛ لأن الجمع بين واحد منهم وزميل آخر في حجرة واحدة مستحيل.

•••

إنني لأتمشى ذات يوم في فناء السجن، إذا بشيطان أسود يقطر منه النفط القذر يعدو هنا وهناك ويفر منه الجند والموظفون.

من هذا؟

هذا هو المجنون الأول نقيب، ولنسمه بهذا الاسم القريب من اسمه ولا نذكره باسمه المشهور مخافة المساس بهذه الشهرة الحسنة والسمعة المبرورة! وخشية المقاضاة ورد الشرف والتعويض!

ولماذا صنع نقيب هذه الصنعة الكريهة بنفسه؟ ولماذا أغرق نفسه في حوض النفط وهو بغيض إلى الشم بغيض إلى الذوق بغيض إلى النظر، غير مأمون على البشرة والحواس والجوارح؟

مكره أخوك لا بطل!

هجم على المخبز لاختطاف رغيف ساخن ليس من حقه، فهجم عليه الحراس يوسعونه لكزًا ولكمًا ويقودونه إلى «سعادة المأمور»، فخير ما يصنعه نقيب في هذه الحالة أن يقذف بنفسه إلى حوض النفط القذر لحظة واحدة يخرج بعدها كما رأيت شيطانًا مرهوبًا يفر منه من كانوا يطاردونه، ويتقي لمسته من كانوا يوسعونه ضربًا ولا يرسلونه من قبضتهم طرفة عين!

وراح نقيب يصول ويجول ويعدو ذات اليمين وذات الشمال، وكل حارس حريص على كسوته يهرب من وجهه ويستغيث بالسجناء المطلقين في الفناء؛ لأنهم لا يخافون على كسوتهم كما يخاف الجندي والحارس، حتى شبع نقيب من الصيلان والجولان، وأنذره ضابط السجن بمسدسه فخضع واستكان.

ويجيئه المأمور الرجل الوقور ويصيح به: ما هذا يا هذا؟ إنني لا أريد أن أجن معك، إنني سأرسلك إلى البيمارستان! فينظر إليه نقيب في جد لا شائبة فيه من الهزل والمجانة، ويقول: معاذ الله يا سعادة البك! وهل نحن من أهل ذاك؟

•••

لا سمح الله!

ولنقيب مذهب في تقدير الجرائم والعقوبات يختلف من كل مذهب مأثور بين الناس في فلسفة الشرائع والقوانين.

كان على وفاق مع رجل قصير قميء من تجار المخدرات محبوس على ذمة التحقيق، وكان الرجل يستظرف نقيبًا ويلطفه بلحوم الدجاج والضأن والديكة الرومية والفاكهة والحلوى والمطبوخات من كل صنف تتسع له ثروة المتجرين بالمخدرات.

ويسعى أهل الفساد بين نقيب والرجل فيمنع عنه بره وسلامه وكلامه، ويهيج نقيب هيجته الغضنفرية الحمارية الجامعة بين الزئير والنهيق، وهو لا يحتاج إلى أكثر من هذا السبب للغضب والثورة والوعيد.

فبعد أن يفرغ جعبته من الشتم والتعيير في بعض الأيام يسكت كمن يفكر ويتدبر ثم يقول: من أنت يأيها الحقير! إنني أمحقك … إنني أسحقك … إنني قد ضربت الدكتور فلانًا وهو طول وعرض وقامة وهامة، وأخذت فيه أربعة أشهر. فأنا أقتلك وأنت «شبر نكد» ولا آخذ فيك أكثر من أسبوعين، ويشاور القاضي عقله بعد خروجي من المحكمة!

ولو اعتمد المشترعون مذهب نقيب في تقدير الجرائم والعقوبات لاستغنوا بمتر في كل محكمة عن كل هذه الأسفار والمجلدات، وكل هؤلاء المفسرين والشراح.

•••

وتسمع في هدأة الليل لغطًا وحركة، وتسمع الحارس يقول: من هذا؟ وأولى به أن يسأل: من هؤلاء؟

نعم من هؤلاء أولى؛ لأنك تسمع غناء عبده الحمولي، وتقريظ الحاشية حوله، وهتاف السامعين وضجة الطفيليين الراغبين في دخول الفرح وغشيان السامر، وما هم من المدعوين إليه.

وكل هؤلاء هم «نقيب» وحده بلا مساعد ولا معين؛ لأن «نقيبًا» كما ينبغي أن تعلم يحسن «التقليد والمحاكاة» بعض الإحسان، ويهوى الغناء من قديم، ولا يعجبه غناء بعد عبده الحمولي ومحمد عثمان، ويضاف إليهما يوسف المنيلاوي، مع التحفظ والعطف وزم الشفتين!

وتسأله كل مرة يتحدث فيها عن مجالس الطرب القديم في عهد إسماعيل: كم عمرك؟ فيصر في كل مرة على أنه لم يتجاوز الأربعين!

مع كل هذا الجنون عاقل!

أو مع ما فيه من العقل مجنون!

•••

وإذا تكلم نقيب فليس من يلجئه إلى السكوت، وإذا سكت فليس من يلجئه إلى الكلام.

ولكن الخبثاء من سجناء المحاكم المختلطة — وأكثرهم تجار لبقون — يعرفون كيف يخرجونه من الصمت العنيد إذا احتاجوا إلى مناوشاته، وعربداته، وأغانيه، وهم أحوج ما يكونون إليها في غياب المسارح والسهرات.

هو يهذر ويحكي عن أهله، وينسى بعد ساعة واحدة كل ما قال.

وإنه لفي صمته العنيد ذات ليلة إذا بصائح يناديه: كيف حال بهية؟!

وإذا بصوت ينفجر من ناحية الحجرة التي فيها نقيب: بهية من يا ولد؟!

فيجيب التاجي الخبيث: بهية أختك! بهية ذات الشعر الأصفر! بهية ذات العينين النجلاوين! بهية ذات الردفين الثقيلين! بهية التي تلبس الرداء الأخضر! بهية التي تسكن في باب الشعرية! بهية يا حسرتي على بهية!

وكل هذه أوصاف سمعها التاجر، وسمعها «العنبر» كل ليلة من الليالي الغابرة من فم نقيب دون غيره، ونسيها نقيب.

ويصدق صاحبنا ما سمع، ويثوب إلى نفسه وكأنه يناجيها: «صدق من قال لا أمان للنساء!» … والعجيب أن «بنت الكلب» أوشكت أن تدفعني إلى الموت؛ لأنها شكت إلي رجلًا يغازلها ويسد المنافذ عليها، فبطشت به ولم ينقذه من يدي إلا عمره، لك حق يا فلان، اذهب فاصنع بها ما تشاء!

ثم يرجع ثائرًا ويندم على هذا «التفويض» وينادي التاجر: إياك يا هذا أن تصنع بها شيئًا، والله بعمرك! والله الحكاية كلها مشوار من هذه الحجرة التي أنا فيها إلى بيتك، ومن بيتك إلى هذه الحجرة التي أنا فيها، وعوض الله عليك في عمرك: أسمعت؟

نعم سمع، وسمع العنبر كله، وهذا هو المقصود.

•••

وأعترف أنني قد عرفت من نقيبنا هذا شيئًا كثيرًا من طبيعة الشاعر القديم، أو الشاعر المداح الهجاء: عرفت أن كل ما يتوخاه ذلك الشاعر في فنه هو أن يقول لممدوحه: إنني أريد أن أرضيك بالثناء وترضيني بالعطاء، وهي صفقة معقودة علانية بعلم المادح والممدوح والسامعين، لا حاجة فيها إلى الصدق، ولا إلى المعاشرة، ولا إلى الإخلاص، ولا إلى شيء غير البضاعة والثمن، والبضاعة هي المدح الظاهر، والثمن هو العطاء الظاهر، وكان الله يحب المحسنين.

نقيب لم يكن يعرف أحدًا من سجناء المحاكم المختلطة الذين كانوا يبرونه بالحلوى والجبن والإدام، ولكنه يعرف دائمًا أن الذي يعطيه قطعة من الحلاوة الطحينية أو شريحة من الجبن، رجل ثري يملك سيارة فاخرة تخطف الهواء، ويركبها الراكب وهو حذر على طربوشه أن يطير، وأنه يملك قصرًا باذخًا في بعض الضواحي دخله هو وأكل فيه، ولم ينفذ إلى حجرة استقباله إلا بعد أن عبر خمسة بوابين، ويعرف أن الحرير أبخس ما يلبسه الخدم في ذلك القصر الباذخ، فضلًا عن السادة والسيدات! وهو يجهر بهذه المعرفة ليلة العطاء العلني المشهور المذكور بين سائر السجناء، وينادي أحد الزملاء ليحدثه جهرة بهذا كأنه يعني أن يكشف له سرًّا في غياب الممدوح، لأنه لا يخاطب الممدوح وإنما يخاطب سواه، فالكلام إذن؛ لا تمليق فيه ولا تزوير ولا محاولة إرضاء أو جزاء.

نعم، ويعرف نقيب تمامًا في اليوم التالي أو اليوم الذي بعده أن ممدوحه هذا بعينه صعلوك ابن صعلوك، لا يملك سيارة وإنما هو «حمار سبخ» لا يساوي شلنين! ولا يملك قصرًا باذخًا وإنما هو كوخ في عرب المحمدي ينبني وينهدم في يوم! ولا يلبس الحرير وإنما هي ملاءة الفراش القديمة يرقعها ويفصلها جلابيب، والظريف أن يكون جلباب الممدوح أو المهجو ذلك اليوم من نسيج منقوش بالمربعات التي تنقش بها ملاءات السرير، فالشاعر على هذا لا ينسى بعض الحقائق وبعض المناسبات!

•••

ذاك هو المجنون الأول.

أما المجنون الثاني فقد كنَّا نعجب له كيف اتسع وقته لزيارة البيمارستان وهو لا يفارق السجن إلا ليعود إليه؟ وكيف يفارق البيمارستان إذا دخله مرة وهو أقرب إلى أهله من أهل السجون.

قال لي إنه قضى في السجن أكثر من عشر سنين، وقال لي أحد الحراس: إنه قضى فيه ثلاث عشرة سنة كلها أحكام مقطعة بين ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة، وهو يعيد نفسه إلى السجن كلما أخرجوه عند انتهاء أمده على الرغم منه، وما عليه إلا أن يخطف ما يخطف، أو يضرب كل من صادفه أمامه صالحًا «للانضراب» ثم يدع للمحكمة والشهود والمجني عليه أن يحلوا اللغز ويكشفوا عن سر الجريمة بين مضروب لا يعرف الضارب، وضارب لا يعرف المضروب.

وقد سرى إلى قرارة خلده شعور صادق بضرب من «الملكية» للسجن بحق المكث الطويل فيه، فسمعته يومًا يتحدث مستخفًّا غاية الاستخفاف عن مأمور السجن الذي مضت عليه في الوظيفة سنوات، ويذكره باسمه وهو يناجي بعض أصحابه قائلًا: من هو «فلان» المأمور هذا؟! إننا لا نسمع به إلا هذه الأيام!

وهذا — المخلوق — وليكن اسمه عساسًا على طريقتنا في تسمية نقيب — هو النشوز بعينه لمن يراه، ولمن يسمعه، ولمن يراقب أحواله، ويستقصي أخباره.

وجهه ناشز، وصوته ناشز، وأخلاقه وأعماله نشوز في نشوز، ولكن المدهش في نشوزه أنه على استواء واحد، كأنما ينشز بقاعدة مرسومة، فإذا غنى اليوم وأعاد الأغنية بعد عشرة أيام فوقع النغمة في الأذن واحد، وهي مع ذلك ناشزة في كل مرة على نحو مختلف من النشوز، فليس التشابه في أغانيه كتشابه الأسطوانة التي تعاد، والدور الذي يضبط ويدار على لحن واحد، ولكنه مع ذلك تشابه لا يحكيه أحد سواه.

ولا ريب عندنا في أن عساسًا هذا على حظ من مزاج الشاعرية يناسبه ويماثله في الهبوط والتفاهة، فهو إذا احتواه الليل بين أركان حجرته، رفع عقيرته وخاطب تلك الحجرة الجافية معددًا لها شواهد حبه ودلائل غرامه، وإنها هي التي تعلق بها وتعلقت به ففيها مشتاه ومصيفه، وإليها منقلبه ومآله، ولديها معتصمه وملاذه، من المأمور وغير المأمور، وعليه نظافتها وجلاؤها، وبينه وبينها ما ليس بين الزوج وزوجه من رحم ومودة.

ومن أجل هذه الأغاني سماه السجناء والحراس «عساس الأوضة»؛ لأنه يسمي الحجرة «أوضة» ولا يسميها زنزانة، كما تعرف في قاموس السجون.

وللجراية عنده أنشودة أخرى تجاري حركة التوزيع ساعة تفريق العدس والخبز عليه وعلى الزملاء: قرب يا شاويش وهات الجراية! واغرف يا شاويش وفرق الجراية، وانصفنا يا شاويش واشبعنا من الجراية … وهكذا من قافية الشاويش إلى قافية الجراية حتى ينتهي التوزيع وينصرف السجناء، وهم يرددون ما لقنهم إياه شاعرهم عساس.

وتمام العلم بنشوز هذا المخلوق الغريب أن تعلم أنهم نقلوه من «أوضته» العزيزة عليه إلى قسم التأديب، فأراد أن ينتقم من المأمور فماذا صنع؟ عمد إلى الصفيحة التي تناط إلى صدره وعليها رقمه فشحذها وقطع بها إحدى خصيتيه!

•••

أما ثالث الثلاثة أو الأربعة الذين يستحقون اسم «الشخصيات» بين أولئك النكرات، فليس هو بمجنون ولا بمخبول، ولا بشاعر أو فنان، ولكنه مقعد يمشي على خشبة ذات مكر، يدفعها بمقبض في كلتا يديه كما يدفع السابحون زوارق الحمام.

ولا يخاف السجناء مجنونًا في ثورته كما يخافون ثورة هذا المقعد الكسيح.

ويخطئ القارئ إذا فهم من قولنا «ثورته» أن الرجل يثورها مهتاجًا مغلوبًا على أمره كما يثور الغاضب المحنق، أو الطائش الأحمق، كلا! فإن الرجل ليثور لأنه يريد أن يثور، بل محتاج إلى أن يثور، فثورته في كل مرة لا تأتي إلا بروية وتدبير وتقدير.

وجلية أمره أنه سجين مخدرات، وأنه في السجن ما زال يتجر بالممنوعات والمهربات، وأهمها وأنفسها التبغ والكبريت.

ولعله يكسب في السجن أضعاف ما يكسبه من السموم المهربة وهو طليق.

فإذا استضعفه أحد من عملائه، وظن أن هذا العاجز الكسيح أهون من أن يحسب له حساب أو يؤدي له حساب — فالويل للأحمق المأفون من عاقبة جهله وغروره: إنه لمغلوب ولو كان أقوى الأقوياء، وإنه لن ينجو من الجروح، والرضوض، وإن لم يظفر به الكسيح كل الظفر، ولم يهزمه كل الهزيمة، فبينما الخصم القوي الواقف على قدميه لا يناله في مقتل، ولا مأمن، إذا بذلك الكسيح يتناول كل ما نالته يداه ويقفز ويندفع ويكر ويفر كأنه الديك الصائل، لا تمسكه العين في حركة واحدة أو موضع واحد، وسلاحه في كل ذلك تلك الخشبة التي يجلس عليها، وذلك المقبض الذي يحمله في كلتا يديه، ولا تنتهي المعركة إلا وهو أربح الخصمين وأسلم المضروبين.

هذا المخلوق هو مثال القوة التي تخلقها الحاجة إليها، واستضعاف الناس لمن لا يحسبونه من أهلها.

•••

بقي الرابع المرشح لتكملة العدد، ولك أن تحسبه أو تسقطه من عداد هذه النخبة المباركة، فلست أعرف له من معالم «الشخصية» إلا أنه يضطرك إلى رؤيته، ويفرض عليك وجوده، فإذا أقبل شبح من بعيد في غرارة من غرارات العقاب المفتوحة عند الكتفين فغالبًا ما يكون الشبح المقبل هو «الون» بعينه، وإذا رأيت كسوة حمراء من كُسَى التأديب تقترب في عنف وعجلة فأقرب الاحتمالات إلى الصواب أن «الون» هو صاحب تلك الكسوة الحمراء، وإذا لم يكن بين المصطفين للجلد فهو لا محالة بين المصطفين للتحقيق أو بين المصطفين للفحص الطبي في غير مرض ولا انحراف مزاج، وإذا لم تسمعه مغنيًا في هذه الطبقة فهو ولا ريب صائح أو صاخب في الطبقة المجاورة، فليس هو «شخصية» لأنك تحب أن تراه أو يهمك أن تراه، ولكنه «شخصية» لأنك لا بد أن تراه وإن كرهت مرآه.

وأظرف عربداته الكثيرة أنه طرأ له يومًا من الأيام أن يصطنع الخرس والصمم، فلا سمع ولا جواب، ولج في اصطناعه حتى حاول أن يعمِّي الأمر علي وهو يزعمني من أصدقائه وخلصائه، ولا يداري عني ما يداريه عن الضباط والحراس المبغضين، فلما سألته: أصحيح أنك لا تسمع ولا تتكلم؟ لمعت عيناه ولم ينبس بحرف، وتباله بسيماه كما يتباله الصم المغلقون، الذين لا يسمعون ولا ينطقون ولا يفقهون.

ولم تمض دقائق على هذا التمثيل الغبي حتى سمعته في غرفة العمليات الجراحية يردد بعض العبارات الإنجليزية بأعلى صوته، ويجيب الطبيب على كل سؤال يلقيه عليه، وإنما الفضل في شفاء خرسه المصطنع للدواء المرقد الذي خدره به الطبيب فحجب إرادته وأطلق لسانه!

•••

وقد أظلِم السجن إذا أنا جزمت بأن الأربعة الذين أجملت وصفهم هنا هم كل من فيه من ذوي «الشخصيات» والغرائب الملحوظة، فغاية ما أجزم به أنهم هم كل من أذكر الآن ممن رأيت، ولعل لهم أشباهًا ونظراء لم أرهم والحمد لله، ولا أسف على ما فات.

ذلك أنني بليت بمن لقيت من هؤلاء الأربعة بعد خروجي من السجن بلية لا يؤسف على فواتها، فمنهم من كان يلقاني في شوارع العاصمة فلا يدعني دون أن يتقاضاني ضريبة لقائه، ومنهم من كان يحييني تحية الزملاء الرصفاء كلما بصر بي في نادٍ أو طريق، وعرف أولهم «النقيب» طريق داري فحاصرني فيها مرارًا لا يبرح الدار إذا حضر حتى أخرج أو أعود، وأسوأ ما في الأمر أنه لم يكن يحضر إلا وهو سكران طافح معقود اللسان مسترذل الحديث.

قلت له آخر يوم وقد دعوت له الشرطي: يا نقيب! إنك تحتاج إلى سجن لتكون ظريفًا وقانا الله من ظرفك وأنت سجين ومن مضايقاتك وأنت طليق، فاذهب ولا تعد، وإلا أعدتك مع هذا الشرطي إلى حيث لا أراك.

وذهب ولم يعد حتى الآن، لا أعاده الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤