الفصل الثالث

الفلسفة والعقل والعلم

المنهج والميتافيزيقا

أطلق راسل اسم «مذهب الذرية المنطقية» على الآراء التي طوَّرها من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» منذ ذلك الحين فصاعدًا. ومذهب الذرية المنطقية هو أساسًا عبارة عن منهج، وكان راسل يأمل أن يحل هذا المنهج الأسئلة المتعلقة بطبيعة الإدراك وعلاقته بالفيزياء. وتجدر الإشارة إلى أن الأعمال الفلسفية التي أنجزها راسل خلال العقود الأربعة بعد كتاب «أصول الرياضيات» مخصصة في أغلبها لمناقشة موضوع علاقة الإدراك بالفيزياء؛ ومن ثَمَّ فهي في الواقع عبارة عن مسعًى لتقديم أساسٍ تجريبي (مع وجود تحفظات) للعلوم، واعتُبرت بمنزلة أكثر النظريات التي تبحث في طبيعة العالم تمتعًا بفرصة أن تكون صحيحة أو على الأقل في طريقها للوصول إلى الحقيقة. وقدم مذهب الذرية المنطقية هكذا لراسل سبيلًا للميتافيزيقا — بمعنى وجهة نظره في طبيعة الواقع — والتي اتضح أنها ليست الخواص المادية الراهنة للمادة، على الأقل بطريقة مباشرة، بل على أنها تمثيل للمادة باعتبارها بنية منطقية. تتَّخِذ نصوص راسل عن آرائه في الميتافيزيقا دائمًا هيئة عرض سطحي يشغل الأقسام الختامية لمناقشاته الكثيرة للتحليل المنطقي، بينما يوجه معظم اهتمامه لوصف استراتيجية التحليل نفسها.

فلسفة مذهب الذرية المنطقية

يصف راسل مذهب الذرية المنطقية في أكثر من مقام، وأهمها هو الفصل الوارد في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» بعنوان «المنطق باعتباره روح الفلسفة»، وفي سلسلة من المحاضرات ألقاها في عام ١٩١٨ بعنوان «فلسفة مذهب الذرية المنطقية» (أعيد طبعها في كتابٍ بعنوان «المنطق والمعرفة» من تحرير مارش). وتحتوي مقالة مذهب الذرية المنطقية (١٩٢٤) على موجز لمناهج وأهداف مذهب الذرية المنطقية، وأُعيدَ طبعها أيضًا في الكتاب نفسه من تحرير مارش.

من أهم سبل فهم منهج مذهب الذرية المنطقية ادِّعاء راسل أن «المنطق هو جوهر الفلسفة»؛ حيث يقصد ﺑ «المنطق» المنطق الرياضي. وتكمن أهميته في أنه يقدِّم وسيلة لإجراء تحليلات قوية وكاشفة فلسفيًّا للأبنية؛ وهي بالتحديد أبنية القضايا والوقائع.

تبيَّن بالفعل كيف أن تحليل القضايا يُثبت أنه من الخطأ تناولها كلها على أنها تتخذ صورة مؤلفة من الموضوع والمحمول، وأن القواعد النحوية السطحية مضللة، كأنْ نفهم الأوصاف والأسماء العادية على أنها تعني تعبيرات. ولا بد أيضًا من إجراء تحليل كاشف للأبنية للعالم الذي نتحدث عنه حين نؤكد هذه القضايا، وإجراء تحليل للقضايا نفسها.

وفي الفصل المُعنون «المنطق باعتباره جوهر الفلسفة» يصف راسل هذين البناءين المتصلين بادئًا بالبناء الأول. ويقول راسل إن العالم يتألَّف من أشياء جمة لها صفات وعلاقات جمة. ولن تضم أي قائمة تشمل الموجودات التي يشملها العالم الأشياءَ فقط، بل أيضًا الأشياء التي تحمل هذه الصفات والعلاقات. بعبارة أخرى، من المفترض أن تكون قائمة من الوقائع؛ فالأشياء والصفات والعلاقات هي مكونات الوقائع، ومن الممكن تحليل الوقائع بدورها لتتحول إليها. ويُرمز إلى الوقائع بما يطلِق عليه راسل «القضايا»، وتعريفها أنها «أشكال من الكلمات يُجزَم بأنها صحيحة أو كاذبة.» والقضايا التي ترمز إلى الحقائق الأساسية — بمعنى التي تؤكد أن الشيء يحمل صفة معينة أو يحلُّ محلَّ شيء آخر في علاقة معينة — يُطلِق عليها راسل «القضايا الذرية». وعند الجمع بين هذه القضايا عن طريق كلمات منطقية مثل «و» و«أو» و«إذا … إذنْ»، تأتي النتيجة كقضايا معقدة أو «جُزيئية». ومثل هذه القضايا مهمة للغاية لأن كل احتمالات الاستدلال تتوقف عليها.

وأخيرًا لدينا «القضايا الكلية» مثل «كل البشر فانون» (والعبارات التي تنفيها، وتتألف باستخدام الكلمة «بعض» كما في عبارة «بعض البشر ليسوا فانين»). تتوقف الحقائق التي ترمز إليها إلى حدٍّ ما على معرفة بديهية. وتنشأ هذه النقطة المهمة كنتيجة للتأمل في تحليل القضايا والوقائع. فمن الناحية النظرية، إذا عرفنا كلَّ الوقائع الذرية، وأنها كلها هي الحقائق الذرية، لأمكننا استدلال كل الحقائق الأخرى منها. ولكن لا يمكن معرفة القضايا الكلية بالاستدلال من الحقائق الذرية وحدها. لنتأمل عبارة «كل البشر فانون»؛ إذا عرفنا كل إنسان وعرفنا عن فنائه، فلن يكون بإمكاننا مع ذلك الاستدلال أن كل البشر فانون إلا بعد أن نتحقق من أن هؤلاء هم كل البشر الموجودين؛ وهذه قضية كلية. كان راسل حريصًا على أن يشدد على أهمية هذه النقطة. وما دام أنه لا يمكن استنتاج الحقائق الكلية من الحقائق الجزئية وحدها، وما دام أن كل الأدلة التجريبية تتألَّف من الوقائع الجزئية، يترتَّب على ذلك أنه لا بد من وجود شيء من المعرفة البديهية إذا أمكن وجود المعرفة أساسًا. واعتمد راسل على هذا لدحض حجج أتباع المذهب التجريبي الأقدمين، الذين يرَوْن أن المعرفة كلها تستند فقط إلى الخبرة الحسية.

ويظهر على الفور سؤال يتعلق بالموضع الذي يمكن أن نجد فيه مثل هذه المعرفة الكلية. وتظل إجابة راسل كما كانت في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وهي أن مثل هذه المعرفة موجودة في المنطق، وتمنحنا قضايا بديهية كليةً. لنتأمل القضية التالية: «كل البشر فانون، سقراط بشر، إذنْ سقراط فانٍ.» تحتوي القضية على حدود تجريبية (سقراط، بشر، فانٍ)؛ ومن ثَمَّ فهي ليست قضية قائمة على المنطق البحت. أما القضية القائمة على المنطق البحت فتأتي على الشكل التالي: «إذا كان أي شيء يحمل صفة معينة، وأيًّا كان ما يحمل هذه الصفة يحمل صفة معينة أخرى؛ إذنْ فهذا الشيء يحمل هذه الصفة الأخرى.» (والأكثر وضوحًا: «كل أفراد هي أفراد ، و هو ، إذنْ هو »). هي قضية كلية وبديهية تمامًا. ومثل هذه القضايا هو الذي يجعلنا نخرج من حدود الخصوصية التجريبية.

وتشرح سلسلة محاضرات «فلسفة مذهب الذرية المنطقية» تفاصيل هذا البرنامج التحليلي بمزيدٍ من الاستفاضة. وتشير كلمة «منطقي» في العنوان إلى أننا نصل إلى الذرات باعتبارها «آخر بقية من التحليل» حيث يكون التحليل منطقيًّا أكثر منه ماديًّا (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص١٧٨). فهي جزئيات مثل «بقع لونية صغيرة أو أصوات، وأشياء مؤقتة و… هي محمولات أو علاقات.» والهدف هو الانتقال من المعتقدات العادية عن العالم إلى فهْم دقيق عن الكيفية التي يقوم بها العلم على الخبرة؛ بمعنى «الانتقال من تلك الأشياء البديهية المبهمة الغامضة التي نشعر بأننا على يقينٍ منها، إلى شيء دقيق وواضح ومحدد نكتشف بالتأمل والتحليل أنه متضمَّن في الشيء المبهم الذي ننطلق منه، وأنه — إن جاز التعبير — الحقيقة الصحيحة التي يكون ذلك الشيء المبهم أشبه بظلٍّ لها» (المرجع السابق). والمنهج عبارة عن تحليل للرموز المعقدة — القضايا — وتحويلها إلى الرموز البسيطة التي تتألف منها؛ والمرحلة النهائية لهذا النوع من التحليل هي «الاطِّلاع المباشر على الأشياء التي هي معاني الرموز البسيطة» حيث «المعنى» هنا يُقصد به «الدلالة» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص١٩٤). وفي «اللغة المثالية من الناحية المنطقية» — مثل تلك التي كان كتاب «أصول الرياضيات» يهدف إلى تقديمها — تتقابل مكونات قضيةٍ ما — أي الرموز البسيطة — في علاقة فردية مع مكوناتِ واقعةٍ ما، فيما عدا الرموز المنطقية «أو» و«و» وما شابه ذلك. وكل عنصر بسيط يشار إليه بواسطة رمزه البسيط المختلف. ويقول راسل إن مثل هذه اللغة توضح «في لمحةٍ سريعةٍ البنيةَ المنطقية للوقائع المؤكدة أو المنفية» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص١٩٨).

ويقدم راسل على هذا الأساس «استطرادًا لمناقشة الميتافيزيقا». فمذهب الذرية المنطقية هو الرأي القائل إن التحليل يوصِّلنا نظريًّا — إن لم يكن عمليًّا — إلى العناصر البسيطة الأولية التي يتألَّف منها العالم. وتُعرَّف العناصر البسيطة على أنها أيُّ عناصر غير مركبة — بمعنى أنها غير قابلة للتحليل إلى حدٍّ أبعد — وكل عنصر منها عبارة عن شيء مستقل ومستمر ذاتيًّا. وهي فضلًا عن ذلك قصيرة الأمد للغاية؛ ولذلك فإن العناصر المعقدة المؤلفة منها عبارةٌ عن «أوهام منطقية»، تؤلَّف لخدمة أغراضنا المعرفية والعملية.

وللعناصر البسيطة أنواع شتى؛ إذ يوجد الكثير من رتب الجزئيات والصفات والعلاقات، ولكن السمة المشتركة بينها أنها تمتلك واقعًا لا تشترك فيه مع أي شيء آخر. والأشياء الأخرى الوحيدة في العالم هي الوقائع، وهي الأشياء التي تؤكدها أو تنفيها القضايا. والوقائع مكوناتها ليست لها الطبيعة نفسها، وتختلف معرفة الوقائع بعض الشيء عن معرفة العناصر البسيطة؛ فمعرفة الوقائع هي معرفة بالوصف، أما معرفة العناصر البسيطة فهي بالاطِّلاع.

يتضمَّن منهج التحليل الذي يستخدمه راسل مبدأ نصل أوكام؛ وهو المبدأ القائل بأننا ينبغي أن نعتمد على أكثر النظريات اقتصادًا بخصوص كل ما هو موجود. ومن الممكن وصفه بأنه طرْح سؤال ملح يقول: «ما هو أقل عدد من الأشياء البسيطة غير المحددة الموجودة في البداية، وأقل عدد من المقدمات غير المبرهن عليها، التي تستطيع من خلالها تعريف الأشياء التي بحاجةٍ إلى تعريف وإثبات الأشياء التي بحاجة إلى إثبات؟» (مذهب الذرية المنطقية، ص٢٧١). وعند تطبيق مبدأ نصل أوكام، يكون وصف الشيء المادي العادي — مثل مكتب — على النحو التالي: نحن نفكر في المكتب باعتباره شيئًا يستمر وجوده حتى أثناء عدم إدراكه. قد يقول أحد المتشكِّكين إن هذا التصور يستند على مرات إدراكٍ متقطعة للمكتب، وهي في حد ذاتها لا تُطلعنا على شيء بخصوص ما إذا كان المكتب يستمر وجوده فيما بين مرات إدراكه. ومع ذلك فإننا نقول إن كل مرات الظهور المختلفة هذه للمكتب هي مرات ظهور للمكتب «نفسه». فما الذي يدفعنا لأن نقول هذا؟ وإجابة راسل هي أننا نعرِّف سلسلةً من مرات الظهور على أنها شيء مفرد مستمر. «وبتلك الطريقة يُختصر المكتب ليصبح وهمًا منطقيًّا؛ لأن وجود سلسلة من مرات الإدراك هو وهْم منطقي. وبتلك الطريقة فإن كل الأشياء العادية في الحياة اليومية تُطرد من عالم الموجودات، ويوجد بدلًا منها عدد من الجزئيات العابرة من النوع الذي يدركه المرء على الفور بالحس»؛ أي البيانات الحسية (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص٢٧٣). إذنْ فالأشياء التي نسميها أشياءَ حقيقية «هي أنظمة، سلاسل من فئات الجزئيات، والجزئيات هي الأشياء الحقيقية، وتكون تلك الجزئيات بيانات حسية حين تدركها» (فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص٢٧٤).

أوحى هذا المنحى الذي اتخذته الأمور لراسل بإجراء تحليل فيزيائي — تُفهم الذرات الفيزيائية على أنها أوهام منطقية كذلك — وجعَله يميل صوب وجهة نظر ذهنية تُسمى «الأحادية المحايدة». ولم يطور أيًّا من وجهتَي النظر باستفاضةٍ في هذه المرحلة؛ ولكن فيما بعد، وعلى أساس بعض التغيرات المهمة التي طرأت على موقفه، وجَّه إليهما اهتمامًا واضحًا. وظهر ذلك في كتاب «تحليل المادة» (١٩٢٧) وكتاب «تحليل العقل» (١٩٢١) على التوالي. وسأناقشهما لاحقًا بمزيدٍ من التفصيل.

بعض المشكلات في مذهب الذرية المنطقية

من الصعب أن نجد مذهب الذرية المنطقية مقنعًا؛ فمن ناحية، جاء عرض راسل له سريعًا وسطحيًّا، ومع ذلك فهو يهدف إلى حل الكثير من المشكلات المختلفة في الوقت نفسه. إنها نظرية تجريبية عن المعنى، بما يعني أنها تتألَّف من نظريات أخرى عن المعرفة والإدراك والعقل، بالإضافة إلى وصفٍ تجريبي — يقع في صميم تلك النظريات — عن كيفية عمل الكلمات، وكيفية تعلُّمنا إياها وفهمها. رأى راسل أن هذه المهمة الثانية معقدة؛ لأن — من وجهة نظره — الأشكال السطحية للغة العادية مضللة؛ ومن ثَمَّ من شأنها أن تؤديَ إلى فلسفة مغلوطة، في حالة تحليلها تحليلًا غير صحيح، وعن هذا قال:

أعتقد أن أهمية القواعد النحوية الفلسفية تفوق ما يُعتقد عنها عادةً. وأعتقد أن معظم الأعمال التقليدية التي تبحث في الميتافيزيقا تعجُّ بالأخطاء بسبب القواعد النحوية السيئة، وأن معظم المشكلات التقليدية في الميتافيزيقا والنتائج التقليدية — النتائج المفترضة — في الميتافيزيقا تعود إلى عجزٍ عن وضع الحدود في ما قد نطلق عليه القواعد النحوية الفلسفية.

(فلسفة مذهب الذرية المنطقية، ص٢٦٩)

إذنْ يسير التحليل عن طريق الافتراض بوجود بنية لغوية ضمنية، ومن المهم أن تكون مختلفة عن بنيتها السطحية، وهذه البنية الضمنية هي الوحيدة التي تتوافق مع بنية العالم التي تكشَّفَت بالتحليل؛ ولذلك فمن المشكلات الكبرى التي يطرحها هذا الطرح هو ما إذا كان المنطق الذي يقوم عليه كتاب «أصول الرياضيات» هو الطريقة الصحيحة الوحيدة لتمثيل الشكل المنطقي الضمني للغة الطبيعية.

تعمل نظرية راسل على الجمع بين الوصف المنطقي البحت للبنية مع المذهب التجريبي القائم على البيانات الحسية، وذلك عن طريق النظر إلى البيانات الحسية باعتبارها العناصر البسيطة التي تتألف منها بنية العالم. ولكنه يرى أنه من الضروري ألا يكون من بين العناصرِ البسيطةِ الأشياءُ فقط، بل وصفاتها وعلاقاتها — بمعنى الكليات — ويؤدي هذا مباشرةً إلى ظهور صعوبةٍ أخرى؛ إذ إنه من غير الواضح أن الكليات تتسم بالبساطة على النحو الذي يُفترض أن تكون عليه الكليات؛ فمن سمات البساطة انعدام القابلية للتحليل والاستقلالية. هل الكليات تتسم بهذه السمات، حتى في ضوء أفضل مثال يسوقه راسل المتعلق ببقع لونية من درجة معينة؟ لا، إذ إن البقع اللونية ليست مستقلة بعضها عن بعض، والتعبيرات التي تشير إليها بإمكانها التسبب في حالات تعارض بين القضايا.

كان راسل يعتقد أنه يمكن التغلب على مثل تلك المشكلات عن طريق إجراء تحليل شامل تمامًا للخطاب الواقعي العادي. ولكنه لم يتمكَّن قط من إجراء تحليلٍ من ذلك النوع، ونظر إليه على أنه شيء ينبغي أن تُحقِّقه الفلسفة العلمية في المستقبل أو تتناوله بطريقة مختلفة، إذا تمكنت من اكتشاف طريقةٍ لذلك. وتسبَّب ذلك في إقدامه على الإفصاح عن بعض الاعترافات اللافتة:

حين أتحدث عن العناصر البسيطة، يجب أن أشرح أنني أتحدث عن شيءٍ لا نمرُّ بخبرةٍ عنه في حد ذاته، بل نعرف بالاستنتاج فقط أنه نهاية التحليل؛ فمن الممكن تجنُّب الحاجة لافتراضها، وذلك بقدرٍ أكبر من المهارة المنطقية. ولن تؤديَ اللغة المنطقية إلى الخطأ إذا كانت رموزها البسيطة (أي الرموز التي ليست من بين أجزائها رموز، أو أي بنية ذات معنًى) كلها ترمز إلى أشياء من نوعٍ واحد، حتى لو كانت هذه الأشياء غير بسيطة. وموطن الضعف الوحيد لمثل هذه اللغة هو أنها تعجز عن التعامل مع أي شيء أبسط من الأشياء التي تمثِّلها برموز بسيطة. ولكنني أعترف أنه يبدو من الواضح لي (كما كان من الواضح للايبنتس) أن ما هو مركب يجب أن يكون مؤلَّفًا من عناصر بسيطة، مع أن عدد المكونات قد يكون لا متناهيًا.

(المنطق والمعرفة، ص٣٣٧)

في هذه الفقرة يعترف راسل فعليًّا بمشكلة ربط رؤيته للمذهب التجريبي برؤيته لمذهب الذرية المنطقية — فإذا كانت البيانات الحسية هي العناصر البسيطة، ومع ذلك فإن العناصر البسيطة تُستنتَج ولا تأتي نتيجة المرور بخبرة، إذنْ فالنظرية مفككة — ويدحض الربط، الذي كان يصر عليه في أماكن أخرى، بين الرموز البسيطة والكيانات البسيطة؛ لأنه يقول هنا إن الرموز البسيطة من الممكن أن ترمز إلى كيانات مركبة؛ والشرط الوحيد هو أن تكون من نوعٍ واحد. علاوةً على ذلك، إذا كانت العناصر البسيطة لا متناهية في العدد، فإن فرص وجود لغة «مثالية» من الناحية المنطقية تتضاءل بشدة؛ لأنه سيكون من الضروري أن تحتوي على عدد لا متناهٍ من الأسماء، ولن يصبح من الممكن إجراء التحليل نفسه على الوجه الأكمل، باعتباره إجراءً من المحتمل أن يكون غير متناهٍ.

يرى بعض المعلقين أن مذهب الذرية المنطقية كان سيحقق نجاحًا أفضل إذا رُوعي فصلُه عن المذهب التجريبي وتناوُلُه باعتباره نظرية صورية بحتة، كما تناولها فيتجنشتاين في كتاب «رسالة منطقية فلسفية». وبالنظر إليه على هذا الأساس، فإن جوهره هو أن التعبيرات (فيما عدا التعبيرات المنطقية، مثل «و») من نوعين: التعبيرات التي تدل على أشياء موجودة (بسيطة) والتعبيرات التي يمكن تحليلها إلى تلك التعبيرات. وحين نتغاضى عن المذهب التجريبي الذي يقول بأن الأشياء البسيطة هي بيانات حسية ومن ثَمَّ تكون أشياء قائمة على الاطلاع، فإننا بهذا نتغاضى عن أي وصف يتناول كيفية تعلُّم الناس اللغة وفهمهم إياها، وهذا خلل جسيم؛ وقطعًا كان من المهم لراسل أن يتوافر مثل ذلك الوصف، ويدل ذلك على أحد أهم أوجه الاختلاف بين رؤيته لمذهب الذرية المنطقية ورؤية فيتجنشتاين. ولكن ما دام أن محاولة إدماج المذهب التجريبي في مذهب الذرية المنطقية تتسبب في مثل تلك الصعوبات، فربما يجب تقبُّل هذا الخلل، مع أنه سيكون من المعتاد تمامًا أن يحاول المرء أن يبرهن على أن عدم قابلية توافق مذهب الذرية مع هذه الاعتبارات (يُنظر إليها على أنها قيود على أي وصف مناسب للغة) ربما تؤخذ كمبررٍ للتخلِّي عن مذهب الذرية نفسه.

ولكن محاولة فصل المذهب التجريبي عن مذهب الذرية يتسبب — من بين أشياء أخرى — في بعض الصعوبات لنظرية الأسماء التي وضعها راسل. حسب هذه النظرية، فإن أسماء الأعلام تشبه إلى حدٍّ كبير أسماء الإشارة «هذا» و«ذلك»؛ فهي تخلو من المحتوى الوصفي، ومعانيها هي الجزئيات التي تدل عليها؛ ولذلك لا يمكن التعرف على هذه المعاني إلا في مرات الاطِّلاع على الجزئيات التي تدل عليها؛ ولكن فصل الاعتبارات التجريبية معناه أن هذا الجزء من النظرية لم يعد متاحًا الآن. ويتسبب هذا في مشكلة؛ إذ إن من التطبيقات الأساسية لهذا الرأي تحليل عبارات اللغة العادية التي يبدو أنها تدل مؤقتًا على أشياء مستمرة، مثل المكاتب وما شابه. وتقضي النظرية في صيغتها البحتة أن يكون لكل اسم علم شيء موجود يدل عليه ذلك الاسم. ومن وجهة نظر النظرية التجريبية، فإن مثل تلك المدلولات هي بيانات حسية مؤقتة؛ ومن ثَمَّ فإننا إضافة إلى معرفة ما تدل عليه الأسماء، نعرف أنها تشترك مع مدلولاتها في سمة ما؛ وهي أنها مؤقتة أيضًا. ولكن على صعيد النظرية البحتة، فإنه من غير الواضح كيف نصف الأسماء؛ لأننا لا نعرف ماهية الموجودات الأولية — الصورية البحتة — غير المعروفة. ورفضنا لوضع نظرية عن ذلك معناه أننا ليست لدينا فكرة عن كيفية عمل علاقة التسمية؛ فمثلًا، لا يحدث في مناسبة تعميدٍ — على صعيد النظرية التجريبية — أن يُسمِّي شخص ما معلومة حسية معينة اسم «ذلك» أو أي تسمية مشابهة. وهذا معناه كذلك أننا ليس لدينا ما نقوله فيما يتعلق بالسبب الذي يجعل «هذا» الاسم يُسمِّي «ذلك» الشيء الجزئي، وما إذا كان من الممكن أن يُسمِّيَ شيئًا آخر؛ وهو ما قد يبدو على أي حالٍ بمنزلة مشكلة بسيطة فور أن نسمح لأنفسنا بتذكُّر وجود أسماء دون أشخاص يسمُّونها أو دارسي لغة أو مدركين.

توحي هذه المجموعة من الاعتبارات بأن النتيجة المرجوة من فصل مذهب الذرية عن المذهب التجريبي محدودة للغاية. ويتصادف أن هذه الانتقادات لا تمثل في حد ذاتها خطرًا على جوانب مذهب الذرية المنطقية التي تقدم وصفًا للمعنى؛ إذ توجد طرق أخرى لتطويرها، إلى جانب صلاتها بفهم اللغة. ولكن ينبغي أن يأخذ أي تقييم كامل في الحسبان الأسباب التي دعت راسل لتعديل بعض السمات والتخلي عن سمات أخرى — مهمة بعض الشيء — من مذهب الذرية المنطقية في سياق رأيه اللاحق في العقل والمادة. وسأقدم وصفًا سريعًا لهذه النقاط على الفور.

العقل والمادة

قال راسل أثناء عرضه لآرائه المتعلقة بمذهب الذرية المنطقية في عام ١٩١٨ إن «الأحادية المحايدة» التي وضعها جيمس قد أغرته ولكنه لم يقتنع بها، و«الأحادية المحايدة» هي نظرية وُضعت لحل المشكلات القائمة المتعلقة بالاختلافات والعلاقات بين العقل والمادة. وباختصار، فإن نظرية راسل مفادها أن العالم لا يتألف جوهريًّا من الأشياء العقلية — كما يعتقد أتباع المذهب المثالي — ولا من الأشياء المادية — كما يعتقد أتباع المذهب المادي — بل من «أشياء حيادية» يتكون منها مظهر العقل والمادة كليهما. ووفقًا لما يقوله راسل، فإنه قد تحوَّل إلى اعتناق هذه النظرية عقب الانتهاء من المحاضرات التي تتناول مذهب الذرية المنطقية. وقد كتب عن آراء جيمس في عام ١٩١٤، ثم رفضها؛ وفي المحاضرات التي ألقاها عام ١٩١٨ أَصبح متعاطفًا أكثر، ولكنه كان لا يزال مترددًا؛ إلا أنه اعتنق النظرية أخيرًا في بحث بعنوان «عن القضايا» (١٩١٩)، واستخدمها كأساسٍ لكتابه «تحليل العقل» في عام ١٩٢١. ونقَّح راسل النظرية بعض الشيء فيما بعد، ولكنني سأعتمد أساسًا على كتاب «تحليل العقل» في هذا العرض السريع.

تقول الفلسفة الشعبية إن العقل والمادة مختلفان اختلافًا شديدًا، وإن الاختلاف يكمن في حقيقة أن العقول واعية فيما أن الأشياء المادية — مثل الأحجار — ليست واعية. ومن ثمَّ فإن السؤال الذي يطرحه راسل هو: هل الوعي جوهر كل ما هو عقلي؟ وللإجابة عن هذا السؤال، على المرء أولًا أن يكون لديه فكرةٌ ما عن طبيعة الوعي. ويوحي التأمل في الأمثلة المعتادة للظواهر الواعية — الإدراك والتذكر والتفكير والاعتقاد — بأن السمة الأساسية للوعي هي أنه «لتكون واعيًا» بأيٍّ من هذه الطرق يعادل «أن تكون واعيًا بشيءٍ ما». ويطلق الفلاسفة اسم «القصدية» على هذه الخاصية، وقد تُسمى كذلك بالحيثية أو «حالة التوجيه». وهكذا فإن مفهوم الوعي هو مفهوم ارتباطي أساسًا؛ أي إنه فِعل من أفعال العقل — فعل إدراك أو اعتقاد أو ما شابه — مرتبط ﺑ «شيء»، وهو الشيء المُدرَك؛ أي القضية التي تُصدَّق. وفي الواقع، وفق بعض رؤى هذه النظرية — على سبيل المثال رؤية مينونج — تشترك في ذلك ثلاثة عناصر: الفعل والمحتوى والشيء. فعلى سبيل المثال، لنفترض أننا نفكر في كاتدرائية القديس بول في لندن. لدينا فعل التفكير؛ ولدينا طبيعة الفكرة التي تتناول كاتدرائية القديس بول وليس أي كاتدرائية أخرى، وهذا هو المضمون؛ ثم لدينا الشيء، وهو كاتدرائية القديس بول نفسها.

يرفض راسل هذه الآراء؛ فيقول أولًا إنه لا يوجد ما يُسمى «الفعل»؛ فحدوث مضمون أي فكرة هو حدوث للفكرة، ولا يوجد دليل تجريبي ولا ضرورة نظرية لوجود «فعل» إضافةً إلى ذلك. وتحليل راسل للسبب الذي قد يدفع شخصًا للتفكير بخلاف ذلك هو أننا نقول: «أنا» أعتقد كذا، وهو ما يوحي بأن التفكير هو فعل يؤديه فاعل. ولكنه يرفض ذلك لأسباب مشابهة للغاية للأسباب التي قدمها هيوم؛ إذ كان يرى أن مفهوم الذات هو وهْم، وأنه من غير المسموح لنا من الناحية التجريبية أن نقول إنه يوجد ما هو أكثر من حزم الأفكار التي نقسِّمها على سبيل التيسير إلى «أنا» و«أنت».

ثانيًا: ينتقد راسل علاقة المضمون والشيء. كان مينونج يرى هو وآخرون أن العلاقة هي علاقة إحالة مباشرة، ولكنها في رأي راسل مركبة وثانوية بقدرٍ أكبر، وتتألف في معظمها من معتقدات عن مجموعة متنوعة من الروابط غير المباشرة بعض الشيء فيما بين المضامين، وبين المضامين والأشياء، وفيما بين الأشياء. أضِف إلى ذلك حقيقة أنه — في الخيال والخبرات غير العادية مثل الهذيان — قد تخطر لنا الأفكار دون أشياء ترتبط بها، ونرى أن علاقة المضمون-الشيء تتضمن الكثير من الصعوبات، يقول راسل إن أهمها يكمن في تعضيد الخلاف بين أتباع المذهب المثالي الذين يرَوْن أن المضمون أهم من الأشياء، وأتباع مذهب الواقعية الذين يرَوْن أن الأشياء أهم من المضمون. (استخدام راسل لهذه التسميات، مع أنها معممة، هو استخدام مضلل؛ إذ ينبغي علينا التماسًا للدقة أن نستبدل التسمية «التابع للمذهب المثالي» ونستخدم بدلًا منها «المناهض لمذهب الواقعية» هنا؛ ويعود ذلك لأنه مع أن مذهب الواقعية ومناهضة مذهب الواقعية هما أساسًا أطروحتان مختلفتان حقًّا فيما يتعلق بعلاقة المضامين بالأشياء — ومن ثَمَّ فهما أطروحتان «معرفيتان» — فإن مذهب المثالية أطروحة «ميتافزيقية» عن طبيعة العالم؛ أي إنه أساسًا يتَّسم بطابع عقلي. وكثيرًا ما تخلو المناقشات الفلسفية من هذه النقطة؛ لذلك فلم يكن راسل هو وحده الذي جانَبه الصواب في ذلك الرأي.) ويَدَّعي راسل أن كل هذه الصعوبات يمكن تجنُّبها إذا اتبعنا رؤية ويليام جيمس لنظرية «الأحادية المحايدة».

الأحادية المحايدة

كان جيمس يؤكِّد أن النوع المنفرد من المادة الخام الأولية من الناحية الميتافيزيقية مرتَّب في أنماط مختلفة بِناءً على علاقاتها البينية، ونطلق على بعضها موادَّ عقلية وعلى بعضها الآخر موادَّ مادية. وقال جيمس إن رأيه كان مبعثه عدم رضاه عن النظريات المتعلقة بالوعي، الذي هو محض وَرِيثٍ مبهم للحديث العتيق عن «الأرواح». كان يقرُّ بأن الأفكار موجودة؛ أما ما كان يرفضه فهو أنها عبارة عن كيانات؛ إذ كان يرى أنها — بدلًا من ذلك — وظائف؛ فلا توجد «أي مادة أو خاصية كينونة أصلية — تتعارض مع المادة التي تتألف منها الأشياء المادية — تتألف منها أفكارنا عن هذه الأشياء؛ ولكن يوجد وظيفة في الخبرة تؤديها الأفكار، وتُستخدم خاصية الكينونة هذه من أجل أدائها. وتلك الوظيفة هي «المعرفة».» (جيمس، مقالات عن المذهب التجريبي الراديكالي، ص٣، ٤).

ففي رأي جيمس، النوع الوحيد من «المادة الأولية» — كما سمَّاها — هو «الخبرة البحتة». فالمعرفة هي علاقة يمكن أن تدخل فيها أجزاء مختلفة من المادة الأولية؛ والعلاقة نفسها هي جزء من التجربة البحتة، كما أن أطرافها جزء من التجربة البحتة.

لم يستطع راسل أن يتقبل كل هذا الرأي؛ فقد كان يرى أن استخدام جيمس لعبارة «التجربة البحتة» تعبِّر عن تأثُّر دائم بمذهب المثالية، ورفضه؛ إذ كان يفضل استخدام الآخرين لمصطلح «المادة المحايدة»، وهي خطوة مهمة تتعلق بالتسمية لأنه أيًّا كانت المادة الأولية، فلا بد أن تكون قادرةً على أن تؤديَ — في حالة ترتيبها ترتيبًا مختلفًا — إلى ما لا يمكن أن يُطلق عليه على نحوٍ ملائم «خبرة»، كأن تؤديَ على سبيل المثال إلى منشأ النجوم والأحجار. ولكن راسل لم يوافق إلا موافقةً جزئية على هذا الرأي المُعدَّل. وقال إنه من الصحيح رفض فكرة الوعي باعتباره كيانًا، وإنه من الصحيح جزئيًّا وليس كليًّا اعتبار العقل والمادة معًا مؤلَّفَين من مادةٍ محايدة. أما في حالة انعزالهما فلا يتألَّف أيٌّ منهما من مادةٍ محايدة؛ لا سيما بخصوص الأحاسيس، وهي نقطة مهمة عند راسل، بالنظر إلى هدفه الأساسي المتعلق بالجمع بين الفيزياء والإدراك. ولكنه أصر بدلًا من ذلك على أن بعض الأشياء تنتمي فقط إلى العالم العقلي (الصور والمشاعر) وأن أشياءَ أخرى تنتمي فقط إلى العالم المادي (كل ما لا يمكن وصفه باعتباره خبرة). وما يفرق بينهما هو نوع السببية التي تحكمهما؛ ويوجد نوعان مختلفان من القوانين السببية؛ أحدهما ينطبق فقط على الظواهر النفسية، والآخر ينطبق فقط على الظواهر المادية. يأتي قانون تداعي المعاني الذي وضعه هيوم كمثالٍ للنوع الأول، ويأتي قانون الجاذبية كمثالٍ للنوع الثاني. والإحساس يطيع النوعين؛ ومن ثَمَّ فهو محايد فعلًا.

تسبَّب الإقرار بهذه الرؤية من الأحادية المحايدة في إلزام راسل برفض بعض آرائه الأولى. وكان من التغيرات المهمة أنه تخلَّى عن مفهوم «البيانات الحسية»؛ وذلك لأن البيانات الحسية هي أشياء ناتجة عن أفعال عقلية، وهي التي أصبح يرفض وجودها الآن؛ ولذلك، ما دام لا يوجد احتمال لوجود علاقة بين الأفعال غير الموجودة والأشياء المفترضة الناتجة عن تلك الأفعال، فلا وجود لتلك الأشياء أيضًا. وما دام لا يوجد فارق بين الإحساس والمعلومة الحسية — بمعنى أنه ما دمنا الآن نفهم أن الإحساس الذي نشعر به عند رؤية بقعة لون مثلًا هو «فقط» بقعة اللون نفسها — فنحن نحتاج إلى مصطلح واحد فقط هنا، ويُطلِق عليه راسل اسم «المُدرَك الحسي».

قبل أن يعتنق راسل الأحادية المحايدة كان قد اعترض عليها لعدة أسباب، ومنها أنها كانت تعجز عن تفسير التصديق. وكما سبق، حتى حين أقر بالنظرية، كانت لديه تحفظات عليها؛ فالعقل والمادة يتداخلان على أساس سمات مشتركة، ولكنَّ لكلٍّ منهما جوانبَ يتعذَّر رفضها. ومع ذلك كان ما أقنعه أخيرًا هو حقيقة — أو هكذا كان يبدو له — أن علم النفس والفيزياء قد اقتربا اقترابًا شديدًا؛ فقد أسهمت الفيزياء الحديثة المتعلقة بالذرة والزمكان القائم على نظرية النسبية في استبعاد الطابع المادي عن المادة فعليًّا، وأسهم علم النفس — لا سيما في شكل المدرسة السلوكية — في إضفاء طابع مادي على العقل. ومن وجهة النظر الداخلية للاستبطان، يتألف الواقع العقلي من أحاسيس وصور. ومن وجهة النظر الخارجية للملاحظة، تتألف الأشياء المادية من أحاسيس وأشياء محسوسة؛ ومن ثَمَّ يصبح من الممكن ظهور نظرية موحدة بعض الشيء عن طريق تناول الاختلاف الأساسي باعتباره اختلافًا من حيث التنظيم؛ فالعقل هو بنية مؤلفة من مواد منظمة بطريقة معينة، والدماغ بنية مؤلفة من المواد نفسها تقريبًا لكنها منظمة بطريقة أخرى.

ومن المدهش أن إحدى السمات اللافتة لوجهة النظر هذه هي مدى اتساقها مع مذهب المثالية. كما ورد آنفًا، اتهم راسل جيمس بالتعلق بأسمال مذهب المثالية. ولكنه هنا يعكف على التأكيد على شيءٍ يكاد يكون غير قابل للتفرقة؛ وهو أن العقول مؤلفة من مدركات محسوسة — أي الأحاسيس والصور — وأن المادة وهْم منطقي مؤلَّف من انطباعات مُدركة غير محسوسة. وفي هذه المرحلة كان راسل قد أصرَّ (باستخدام مصطلحاته الأولى) كثيرًا على أن البيانات الحسية والأشياء المحسوسة هي كيانات «مادية»، تقريبًا بالمعنى الذي وفْقه من الممكن أن تكون تلك المعلومة حاضرة كنبضات في عصبٍ ما أو نشاط في دماغ، وذلك إذا كنا نتحدَّث عن معلومة من البيانات الحسية في جهاز عصبي. ولكن الأعصاب والأدمغة — باعتبارها أشياء قائمة على النظرية المادية — يجب أن تُفهم في حد ذاتها على أنها أبنية مؤلفة من الأحاسيس والأشياء المحسوسة — وليس من «المواد المادية» حسب الفهم التقليدي — وهو مفهوم أثبتت الفيزياء أنه يتعذَّر الدفاع عنه. وفي نهاية كتاب «تحليل العقل» يقول راسل وفقًا لذلك إن «أي وصف علمي نهائي لما يجري في العالم — إذا كان من الممكن التحقق منه — من الممكن أن يشبه علم النفس أكثر مما يشبه الفيزياء … (لأن) علم النفس أقرب لكل ما هو موجود» (تحليل العقل، ص٣٠٥، ٣٠٨). ويفسر ذلك الادِّعاء المعروف الذي يُنسب إلى راسل بأن «الأدمغة تتألف من أفكار» وأنه حين يتأمل عالم الفسيولوجيا دماغ شخص آخر، فإن ما «يراه» هو جزء من دماغه هو (شيلب، فلسفة برتراند راسل، ص٧٠٥).

يصعب على أنصار الرؤى الأكثر تشددًا للمذهب المادي تقبُّل هذا الجانب من رأي راسل. بَيْدَ أن هذه ليست الصعوبة الوحيدة التي تتَّسم بها رؤيته للأحادية المحايدة؛ فمن أهم الصعوبات الأخرى أنه فشل في هدفه الأساسي، وهو دحض وجهة النظر القائلة بأن الوعي ضروري للتفرقة بين الظواهر العقلية والمادية. لم يحاول راسل بالطبع تحليل الوعي بهدف التخلص منه، بل كان هدفه بالأحرى هو تقليص أهميته لمسألة العقل والمادة. ولكن الصور والمشاعر والأحاسيس — التي تؤدي دورًا مهمًّا في نظريته — تظل بكل صلابة ظواهر «واعية»، أما الأشياء المحسوسة (وهي غالبًا ما تكون غير محسوسة) — وتكوِّن القسم الأكبر من المادة — فليست واعية. تقبَّل راسل هذا الجانب، ولكنه حاول تحديد معيارٍ للاختلاف لا يستغل هذه الوقائع، وهو معيار العضوية في مناطق سببية مختلفة. ولكن رغم أن ذلك الاختلاف مشكوك في أمره — وحتى إذا كان موجودًا فربما يكون مستعصيًا في الغالب على الملاحظة — فإن الاختلاف القائم على أساس الوعي واضح للغاية.

وفي سياق متصل، لا يمكن استبعاد القصدية التي يتسم بها الوعي من حسابات المعرفة؛ إذ يتعذر تفسير التذكر والإدراك من دونها. وأقر راسل لاحقًا بهذه النقطة، وذكرها في كتاب «تطوري الفلسفي» باعتبارها مبررًا لعودته إلى موضوع الإدراك والمعرفة في كتاباته اللاحقة.

انتهى المطاف براسل إلى رفض الفكرة — وهو موقف غير مُرضٍ على الإطلاق من وجهة نظر نظريةٍ من المفترض أن تكون «محايدة» و«أحادية» في الوقت نفسه — القائلة بأن الصور والمشاعر هي عقلية بالأساس، بمعنى أنها ليست قابلة للاختزال كليًّا في المادة المحايدة؛ إذ يقول في مقالة كتبها في فترة متأخرة: «لا يصير الحدث عقليًّا أو ماديًّا بفعل أي صفة جوهرية، بل فقط بفعل علاقاته السببية؛ فمن الممكن أن يتسم حدثٌ ما بالعلاقات السببية التي تميز الفيزياء والعلاقات السببية التي تميز علم النفس. وفي تلك الحالة، يصبح الحدث عقليًّا وماديًّا في آنٍ واحد» (كتاب «صور من الذاكرة» (١٩٥٨)، ص١٥٢). وهذا هو ما كان ينبغي أن يحاول أن يبرهن عليه — التماسًا للاتساق — في كتاب «تحليل العقل» نفسه، حيث تتَّسم الأحاسيس فقط بهذا الطابع. ولكن وجهة النظر هذه تؤدي بدورها إلى مشكلة أخرى، وهي أنها تتعارض مع وجهة نظرٍ عاد إليها راسل بعد كتاب «تحليل العقل»، ومفادها أن أسباب المدركات الحسية تُستنتج من حدوث المدركات الحسية نفسها. وكما ورد آنفًا، كان راسل مترددًا بين تناول الأشياء المادية باعتبارها أبنية مؤلفة من الأشياء المحسوسة وبين تناولها باعتبارها كيانات تُستنتج على أنها أسباب الإدراك؛ واحتفظ بوجهة نظره الأخيرة هذه في كتاب «مشكلات الفلسفة» ثم عاد إليها بعد كتاب «تحليل العقل». ولكن ظاهريًّا سيحتاج المرء إلى علاقة دقيقة بين موقفه من الميتافيزيقا وموقفه من نظرية المعرفة لكي يؤمن بأن العقول والأشياء تتألف من مادة واحدة، وأن الأشياء هي المسببات المُستنتجة الخارجية المجهولة لما يحدث في العقول؛ ومن ثَمَّ فإن تلك الجوانب من الإرث الذي تركه كتاب «تحليل العقل» في فكره تتسبب في معضلات كبيرة تواجهها آراؤه اللاحقة المتعلقة بالموضوع.

مذهب الواقعية والإدراك

كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل ليعود إلى وجهة نظرٍ قائمة على الواقعية والاستنتاج بخصوص الأشياء المادية؛ الصعوبة الكامنة في مفهوم البيانات الحسية غير المحسوسة أو — حسب المصطلحات اللاحقة — المدركات الحسية. وكما سبقت الإشارة آنفًا، كانت الفكرة تقوم على استبدال الكيانات المُستنتجة لتحل محلها الكيانات ذات البنية المنطقية، وذلك تطبيقًا للأسلوب التحليلي. فإذا كان من الممكن بناء الأشياء المادية بطريقة منطقية من البيانات الحسية الفعلية والمحتمل حدوثها، يترتب على ذلك تحقيق مطلبين في الوقت نفسه: تصبح النظرية قائمة على أساس تجريبي، وتُشذب الكيانات المُستنتجة بفعل مبدأ نصل أوكام. ولكن من الواضح — وسبق مناقشة هذه النقطة — أن فكرة البيانات الحسية غير المحسوسة (أو المدركات الحسية غير المُدركة) ملتبسة — إن لم تكن متناقضة فعلًا — وذلك على أقل تقدير. فمن المنطقي — مع أنه من المشكوك فيه من الناحية الميتافيزيقية، دون وجود تفسير دقيق — أن نتحدث عن وجود «احتمالات» للإحساس؛ ولكن ليس من المنطقي أن نتحدث عن وجود «أحاسيس مُحتمل حدوثها» (راجع تعريف الأشياء المحسوسة الذي قدَّمه راسل باعتبارها كيانات لها «الحالة الميتافيزيقية والمادية نفسها كبيانات حسية دون أن تكون بالضرورة بيانات تدخل لأي عقل»). وإذا كان الاختيار ينحصر بين الجزئيات المادية المُستنتجة وبين الأفكار المُدركة غير الفعلية الموجودة دون أن يدركها أحد، لأصبح من الأفضل فيما يبدو أن نختار الخيار الأول. وهذا هو فعليًّا ما بدأ يعتقده راسل في نهاية المطاف؛ وهكذا رفض الأحاسيس غير المحسوسة. ولكنه لم يعد إلى الشكل الأبسط من الواقعية القائمة على الاستنتاج التي كان يؤمن بها في كتاب «مشكلات الفلسفة»؛ وكان يدَّخر شيئًا أكثر براعة — وإن كان لم يحقق نجاحًا أكبر — سيرد الحديث عنه بعد قليل.

كان من أهم الأسباب التي دفعت راسل للعودة إلى الواقعية هو إقراره بأن مفهوم السببية مبهم من وجهة نظر مذهب الظواهر. تؤثر الأشياء الموجودة في العالم بعضها في بعض فيما يبدو تأثيرًا سببيًّا بطرق يصعب تفسيرها تفسيرًا مناسبًا من خلال تقارير الخبرات الحسية. فضلًا عن ذلك، حين تعتمد نظرية الإدراك على السببية تصبح طريقة طبيعية وقوية لشرح كيفية تنشأة الخبرة نفسها. في فلسفة العلوم الناضجة التي تحدَّث عنها راسل في كتابه «تحليل المادة» (١٩٤٨)، لم يختَرْ راسل وجهة نظر لوك التي تقول إن مدركاتنا الحسية تشبه أصولها السببية — ما يُسمى نظرية «أصل الصورة» — لأنه يتعذَّر علينا الاطِّلاع مباشرةً على الأشياء؛ ومن ثَمَّ يتعذر علينا أن نعرف صفاتها وعلاقاتها. وأخذ يؤكد في هذه المرحلة أن التغيرات التي تطرأ على العالم وعلى أفكارنا المُدركة تترابط — أو تتغاير — على الأقل بخصوص رُتب الأشياء الموجودة في العالم التي يستطيع جهازنا الإدراكي تسجيلها (فعلى سبيل المثال، نحن لا ندرك الإلكترونات التي تحتشد في الطاولة؛ لذلك لا يوجد تغاير بين العالم والإدراك في ذلك المستوى). إن التقابُل بين المدركات الحسية والأشياء هو تقابُل من حيث «البنية» على المستوى المناسب: «أيًّا كان ما نستنتجه من الأفكار المُدركة، فإن البنية هي وحدها ما نستطيع أن نستنتجه استنتاجًا صحيحًا؛ والبنية هي ما يرمز إليها المنطق الرياضي» (تحليل المادة، ص٢٥٤). وهذا معناه أنه يجب أن نتخذ موقفًا «لاأدريًّا» حيال معظم الخواص الرياضية للعالم المادي، وهي الخواص التي تصفها الفيزياء (تحليل المادة، ص٢٧٠).

أدرك راسل في آخر الأمر أن أكثر شيءٍ أساسي في العالم من الناحية الميتافيزيقية هو على الأرجح «الحدث». تتكون الأشياء من الأحداث على النحو التالي: العالم عبارة عن مجموعة من الأحداث، معظمها يتجمع حول عدد وفير من «المراكز»، وبهذا تُكوِّن «الأشياء». وتتشعب كل مجموعة إلى «سلاسل» من الأحداث، فتتفاعل مع السلاسل التي تتشعب من المراكز الأخرى وتؤثر فيها، ومن بين تلك المراكز الأخرى الأشخاص المدركون. وحين تتفاعل سلسلة مع الأحداث التي تكوِّن جهاز الإدراك لأحد الأشخاص المدركين، تصبح الحلقة الأخيرة من السلسلة عبارة عن مُدرَك حسي. وما دام كل شيء يتكون أساسًا من الأحداث، فإنها تكون فعليًّا «المادة المحايدة» التي تتألَّف منها العقول والأشياء المادية. والعقول عبارة عن مجموعات من الأحداث تربطها علاقات «عقلية»، وأهمها التذكر؛ بخلاف ذلك لا يوجد أي اختلاف ميتافيزيقي بين العقل والمادة. وأخيرًا فإن العلاقات البينية التي تجمع سلاسل الأحداث هي ما تصفه قوانين السببية العلمية.

ساعدت وجهة النظر هذه راسل على صياغة الحجة التي ظل طويلًا يحاول عرضها بطريقة مقنعة، وهي أن المدركات الحسية أجزاء من الأشياء. وفق وجهة النظر هذه لا تتألف الأشياء من أحداث، وتكون الأحداث بدورها عبارة عن الأفكار المدركة لتلك الأشياء؛ بل يوجد فقط أحداث تكوِّن الشيء، وبعض هذه الأحداث عبارة عن مدركات حسية؛ وهذه هي الأحداث النهائية للسلاسل المتشعبة من الشيء، وتتفاعل تلك المدركات الحسية مع الأحداث التي تكوِّن الشخص المُدرِك.

لا تقوم هذه النظرية على الاستنتاج بالمعنى السابق الذي تُخمَّن فيه أسباب المدركات الحسية — التي تقع فيما وراء نقابٍ من الإدراك على نحوٍ يتعذر الوصول إليها — من طبيعة المدركات الحسية نفسها؛ بل يأتي الاستنتاج من أحداث نهائية معينة، تحديدًا المدركات الحسية — والتي هي (للتعبير عن الأمر بطريقة استكشافية) عبارة عن تفاعلات بين الأحداث «العقلية» وذلك المستوى البنيوي الموجود في بقية عالم الأحداث الذي تستطيع الأحداث «العقلية» أن تتفاعل معه — وصولًا إلى مجموعات وسلاسل الأحداث التي تكوِّن العالم بأكمله.

في كتاب «تحليل المادة» يركز صميم النظرية على فكرة أن معرفة العالم معرفة بنيوية بحتة؛ فنحن نعرف صفات المدركات الحسية وعلاقاتها وكذلك بنيتها، ولكننا لا نعرف إلا بنية الأحداث الخارجية، وليس صفاتها. ويُذكِّرنا هذا بعض الشيء — فيما يبدو — بالفارق بين الصفات الأولية والثانوية الذي تحدَّث عنه لوك، ولكن الأمر ليس كذلك؛ إذ يقول راسل إن كل ما نستطيع استنتاجه من مدركاتنا الحسية هو بنية صفات الأشياء وبنية علاقاتها، وليس الصفات والعلاقات نفسها؛ وإن ذلك هو الحد النهائي للمعرفة.

يعتري هذه النظرية خطأ فادح، سرعان ما تعرَّف عليه عالم الرياضيات إم إتش إيه نيومان وعرضه في مقالٍ نشره عقب ظهور كتاب «تحليل المادة». ويكمن الخطأ في أنه ما دامت معرفتنا عن بنية الأحداث ليست محض نتيجة لافتراضنا لوجودها، بل هي أساسية بكل وضوح، يترتب على ذلك أنه لا يمكن أن تقتصر معرفتنا القائمة على الاستنتاج على أسئلة البنية فقط؛ وذلك لأنه — كتشبيهٍ تقريبي — من الممكن أن يصبح عدد من العوالم المختلفة قابلًا للتعريف على نحوٍ تجريدي باعتبارها تتسم بالبنية نفسها، ولو كانت فعلًا هكذا، لعجزت معرفة بنيتها فقط عن الفصل بينها، ولعجزت تحديدًا عن تمييز العالم «الحقيقي» من بينها. فإذا كان العلم حقًّا يتألَّف من اكتشافات عن العالم تتحقق من خلال الملاحظة والتجربة، فمن ثَمَّ لا يمكن تقليص الفارق بين ما نلاحظه وبين ما نستنتجه إلى فارقٍ بين البنية البحتة والصفات.

كتب راسل خطابًا يتَّسم بتسامحه المعهود ووجَّهه إلى نيومان يُقِرُّ فيه بهذه النقطة قائلًا: «إنك توضح تمامًا أن عباراتي التي تفيد بأنه لا شيء يُعرف عن العالم المادي فيما عدا بنيته هي إما خاطئة أو سطحية، وأشعر بالخجل بعض الشيء لأنني لم ألحظ ذلك بنفسي.»

في هذه المرحلة أَصبح من المألوف أن الخيط المشترك الذي يربط بين وجهات نظر راسل الأولى واللاحقة هو رغبته في التوفيق بين العلم والإدراك؛ بهدف تأسيس العلم على اليقين النسبي الذي يتَّسم به الإدراك؛ ومن ثَمَّ إمداده بالمبررات. وقد رأى راسل أن المشكلة الأساسية في أي مسعًى من هذا النوع هي تأمين الانتقال من الإدراك إلى الأشياء الموجودة في النظرية المادية. وحسب وجهة نظره، يجب أن يكون هذا الانتقال إما قائمًا على الاستنتاج — وفيه يأخذنا من البيانات الحسية الراسخة إلى شيء آخر — وإما أن يكون انتقالًا تحليليًّا، بمعنى أنه عبارة عن عملية تكوين للكيانات المادية من المدركات. وحسب وجهة النظر اللاحقة التي سبقت الإشارة إليها، يتمتع الاستنتاج بمزية خاصة تتفوق على النظريات المألوفة القائمة على الاستنتاج، وهو أنه خلال عملية الاستنتاج لا يتم الانتقال من نوعٍ من الأشياء إلى نوعٍ آخر، بل من جزء داخل الشيء إلى أجزاء أخرى.

في آراء راسل الأولى، وفَّق بين الواقع الأوَّلي والبيانات الحسية وكوَّن كل الأشياء الأخرى من هذه العناصر. وحسب وجهة النظر اللاحقة، ينتمي الواقع إلى الأحداث باعتبارها الكيانات النهائية، ويظهر تغيُّر مهم في محور التركيز هنا؛ وهو أن المدركات الحسية تظل مباشرة ويقينية مثل أي شيء، ولكنها لا تُفسَّر على أنها يجب أن تمثل العالم المادي بدقة، وهو العالم — في الصورة التي يقدمها العلم باعتبارها أقوى طريقة لفهمه — الذي يختلف على أي حال اختلافًا شديدًا عن النحو الذي يظهر عليه.

الاستنتاج والعلم

ومع ذلك، وعلى نحوٍ ذي مغزًى، تظل لدينا مشكلة مألوفة وكبيرة فيما يتعلق بما إذا كانت الاستنتاجات التي تنتقل من الإدراك إلى العالم آمنة. كان قسم كبير من هدف راسل في كتاب «المعرفة البشرية» هو عرض المبررات التي تكون على أساسها هذه الاستنتاجات آمنة. وطوال تفكيره في العلاقة بين الإدراك والعلم، كان مقتنعًا بأن المعرفة العلمية تتطلب معرفة شيءٍ ما معرفةً بديهية مسبقة. وكان يعتقد في البداية، كما ذُكر فيما سبق، أن المبادئ المنطقية البحتة توفر مثل تلك المعرفة. ولكنه لاحظ في هذه المرحلة أن المنطق وحده غير كافٍ؛ إذ يجب أن نعرف شيئًا أكثر مادية. وكان الحل الذي قدَّمه هو أن نقول إن الاستنتاج انتقالًا من الإدراك إلى الأحداث مُبَرَّرٌ في ضوء «مسَلَّمات» بديهية مسبقة معينة تعرض وقائع مشروطة الحدوث بخصوص العالم. وتذكِّرنا وجهة نظر راسل فورًا بأطروحة كانط القائلة بأن امتلاك «معرفة مسبقة بديهية تركيبية» هو شرط لإمكانية المعرفة عمومًا، وهي وجهة نظر يرفضها راسل بقوة في مقدمة كتابه «المعرفة البشرية». ويأتي شرح الاختلاف في العرض المقتضب القائم على الاحتمالات الذي رأى راسل — في آخر محاولاته الكبرى لوضع نظريةٍ من نظريات المعرفة — أنه كل ما يمكن أن يأمل في تحقيقه.

يفسر ملمحان للنهج الذي اتبعه راسل في كتاب «المعرفة البشرية» هذه النتيجة: أحدهما هو أنه أصبح يعتقد في هذه المرحلة أنه ينبغي فهم المعرفة في سياقٍ «طبيعي»، بمعنى اعتبارها من مقومات ظروفنا البيولوجية، وأن يُجمع بينها وبين طريقة بناء العالم. والآخر هو أنه اضطُر إلى استغلال فكرة أن البيانات الأساسية للمعرفة غير مؤكدة على الإطلاق، بل فقط موثوقة إلى درجةٍ ما على أقصى تقدير. وتدخل هذه النقطة الثانية في التطوير التفصيلي لوجهات النظر الواردة في كتاب «المعرفة البشرية». وتظهر النقطة الثانية كلما احتاج راسل إلى تبرير المبررات التي يحاول كتاب «المعرفة البشرية» أن يؤسس عليها المعرفة العلمية.

حين تكون للبيانات مصداقية معينة بمعزل عن علاقاتها بالبيانات الأخرى، يصفها راسل بأنها تتَّسم بدرجة من المصداقية «الجوهرية». وتقدم القضايا التي تتَّسم بشيءٍ من المصداقية الجوهرية الدعم للقضايا التي تُستنتَج منها؛ وعندئذٍ يصبح السؤال الأساسي هو: كيف تنقل القضايا التي تتَّسم بدرجةٍ ما من المصداقية تلك المصداقية إلى الفرضيات العلمية؟ ومن الممكن صياغة السؤال بطريقة أخرى؛ وذلك بأن نسأل: إلى أي مدًى من الممكن أن تقوم إفادات الملاحظة والتجربة مقام الدليل؟ وهذه هي المرحلة التي تدخل فيها المسلَّمات التي تحدَّث عنها راسل.

توجد خمس مسلَّمات؛ المسلَّمة الأولى — وهي «مسلَّمة شبه الدوام» — تهدف إلى أن تحل محل الفكرة العادية القائلة بوجود شيء دائم: «إذا فرضنا أن أي حدث هو أ، يحدث كثيرًا جدًّا — في أي وقتٍ قريب — أن يوجد حدث مشابه جدًّا ﻟ أ في مكانٍ قريب.» وبهذا تُحلل الأشياء التي تتَّسم بالمنطق السليم إلى سياقات من الأحداث المشابهة. ويعود أصل هذه الفكرة إلى التحليل الذي أجراه هيوم ﻟ «هوية» الأشياء من حيث ميلنا لاعتبار أي تتابع من الأفكار المُدركة المتشابهة أنه دليل على كونها شيئًا مفردًا، ومثال ذلك حينما تنتابك أفكار مُدركة عن شجيرةِ ورْد كلما دخلتَ إلى الحديقة؛ ومن ثَمَّ تحسب أنه توجد شجيرة ورد واحدة دائمة، حتى في حالة عدم حضور أشخاص مدركين.

المسلَّمة الثانية — وهي «مسلَّمة الخطوط السببية القابلة للتفرقة» — تقول إنه «كثيرًا ما يكون من الممكن تكوين سلسلة من الأحداث — من عضو أو عضوين من السلسلة — حتى يتسنَّى استنتاج شيء ينطبق على كل الأعضاء الآخرين.» على سبيل المثال، يمكننا أن نتابع كرة بلياردو طوال مباراة بلياردو؛ ويرى المنطق السليم الكرة باعتبارها شيئًا مفردًا يغير مكانه، ويمكن تفسير ذلك وفقًا لهذه المسلمة بتناول الكرة وحركاتها باعتبارها سلسلة من الأحداث يمكن عن طريق بعضها استنتاج معلومات عن الأحداث الأخرى.

المسلَّمة الثالثة هي «مسلَّمة التتابع المكاني الزماني»، وتهدف إلى نفي وجود «نشاط عن بُعد»؛ إذ تقضي المسلَّمة أنه إذا كانت هناك علاقة سببية بين حدثين ليسا متجاورَين، فلا بد من وجود سلسلة من الحلقات الوسيطة بينهما. ويعتمد الكثير من استنتاجاتنا التي تأخذنا إلى أحداث خفية عن الملاحظة على هذه المسلَّمة.

المسلَّمة الرابعة هي «المسلَّمة البنيوية»، وتقول بأنه «عند وجود عددٍ من العناصرِ المركبةِ المتشابهةِ البنية المصطفةِ حول مركزٍ في مناطق غير متباعدة، فعادةً تنتمي كلها إلى خطوط سببية تنشأ من حدث له البنية نفسها في المركز.» وتهدف هذه المسلَّمة لفهم فكرة وجود عالم من الأشياء المادية المشتركة لدى كل المدركين. فإذا استمع ستة ملايين نسمة إلى خطبة رئيس الوزراء المنقولة عبر المذياع، وعند مقارنة ملاحظاتهم اكتشفوا أنهم سمعوا أشياءَ متشابهة للغاية، يحق لهم أن يؤمنوا بأن سبب هذا أمر منطقي؛ وهو أنهم جميعًا سمعوا الشخص نفسه يتكلم عبر موجات الأثير.

المسلَّمة الخامسة والأخيرة هي «مسلَّمة قياس التشبيه»، وتقول بأنه «بفرض وجود فئتين من الأحداث هي «أ» و«ب»، وبفرض أنه كلما لاحظنا «أ» و«ب» كلتيهما يوجد سبب يدفعنا إلى الاعتقاد بأن أ تسبب ب، إذنْ عند ملاحظة أ في أي حالة معينة — لكن دون أن يكون هناك سبيل لملاحظة ما إذا كانت ب تحدث أم لا — فمن المرجح الاعتقاد بأن ب تحدث، والأمر عينه يحدث عند ملاحظة ب دون أن يكون هناك سبيل لملاحظة حضور أو غياب أ». وهذه المسلَّمة واضحة بذاتها (المعرفة البشرية، ص٥٠٦–٥١٢).

يقول راسل إن الغرض من المسلَّمات هو تبرير الخطوات الأولى التي نتخذها نحو العلم؛ فهي تعرض ما يجب أن نعرفه — فضلًا عن الوقائع التي نلاحظها — لكي تصبح الاستنتاجات العلمية صحيحة؛ وبهذا نحن لا نبرر العلم الحديث نفسه، بل مكوناته الأولية، وهي نفسها تستند إلى التجربة المبنية على المنطق السليم.

ولكن ما هو معنى «نعرف» هنا؟ حسب وجهة نظر راسل، فإن المعرفة المتضمنة في عبارة «معرفة المسلَّمات» هي نوع من «المعرفة الحيوانية»، التي تنشأ بوصفها معتقدات معتادة ناجمة عن خبرة تفاعُلنا مع العالم. وهي أبعد ما تكون عن كونها معرفة يقينية. ونظرًا لحالة العالم هذه، يقول راسل:

بعض الوقائع تكون أحيانًا في الواقع دليلًا على وقائع معينة أخرى؛ ونظرًا لأن الحيوانات تتأقلم مع بيئتها، نجد أن الوقائع التي هي في الواقع دليل على وقائع أخرى تثير توقع حدوث تلك الوقائع الأخرى. وعند تأمل هذه العملية وتنقيحها، نصل إلى قوانين الاستنتاج الاستقرائي. وتكون هذه القوانين صالحة إذا كان للعالم خصائص معينة نؤمن جميعًا بأنه يتَّسم بها.

(المعرفة البشرية، ص٥١٤-٥١٥)

هذه الخصائص هي الوقائع القائمة على المنطق السليم التي تجسدها المسلَّمات فعليًّا، ويتسنَّى لنا أن «نعرفها» في هذا السياق؛ فهي مُتضمنة في الاستنتاجات التي نَصوغها، وعادةً ما تنجح استنتاجاتنا؛ ومن ثَمَّ يمكن اعتبار أن المسلَّمات تثبت نفسها على نحوٍ ما.

ومع أن راسل يرى المسلَّمات باعتبارها شيئًا نعرفه معرفةً بديهية مسبقة، فمن الواضح أن وضعها شاذ؛ فهي في حقيقتها تجريبية من أحد النواحي؛ لأنها إما تسجل الخبرة أو توحي بها الخبرة. وما يمنحها وضعها البديهي المسبق هو أنها «تُعامَل بوصفها أمورًا معروفة» بمعزل عن الإثبات التجريبي (إلا على نحوٍ عملي غير مباشر)، بدلًا من أن تُعتبر مبادئ عامة بحاجة إلى مبرر من ذلك النوع. وقد اختار راسل فعليًّا بعض المعتقدات العامة المشروطة التي تفيد خصوصًا في أن تكون مقدمات فيما يخص التفكير في العالم، ورفعها إلى منزلة المسلَّمات. وتبريرها غير المباشر بدوره هو أنها — عمومًا أو بناءً على نتائج تطبيقها — تفلح. وإذا أضفنا ذلك إلى الطموح المتواضع للغاية الذي يُكنُّه راسل لنظرية المعرفة في كتاب «المعرفة البشرية» — لم يعد غرض الكتاب هو البحث عن أساس يقيني للمعرفة بقدر الإمكان، بل يقتصر فحسب على كونه عرضًا لأحكام الخبرة التي يضمن اتباعها أن يصبح التفكير العلمي مقبولًا — فربما يكون هذا كافيًا. كما أن هذه المسلمات لا تدَّعي أنها رد فعل على الرؤية المتشككة، أو عرض دقيق للاستنتاج غير البرهاني.

هذه الجمل الأخيرة توحي بالسبب في أن حجج راسل في كتاب «المعرفة البشرية» لاقت استجابةً فاترة؛ مما خيَّب أمله كثيرًا. كان يدرك جيدًا أن قوانين الأدلة والاستنتاج العلمي لا تستحق الاستقصاء إلا إذا كنا واثقين — إذا فهمنا تلك القوانين فهمًا صحيحًا — من أنها ستأتي بمعرفة مشروطة جوهرية عن العالم. ولكن أهم ما تثبته حجة راسل هو أن المبادئ العامة التي يعتمد عليها تفكيرنا التجريبي نجحت — حتى الآن — إلى حدٍّ كبير. ولكن هذا يبدو تمامًا مثل ذلك النوع غير المدعم من الاستنتاج الاستقرائي الذي كان راسل حريصًا على التحذير منه، مستشهدًا بمثال الدجاجة التي أخذ يزداد رضاها عن العالم لأنها تجد من يطعمها يوميًّا حتى جاء يوم وقوعها في يد الجزار. يوجد حدود للتبرير العملي؛ تخيل أن هناك شخصًا يساعد على نمو الطماطم في حقله بالدعاء فقط، فيحصل على بعض الطماطم كل عام، وأن شخصًا آخر يروي الطماطم في حقله ويسمدها، فيحصل على محصول طماطم أوفر كل عام؛ ومع ذلك، ربما يرى المزارع الأول أن حصوله على بعض الطماطم مبرر عملي للدعاء. وعليه، فإن نجاح مبادئنا حتى الآن ليس سببًا كافيًا للقول بأنها تفي بالمعايير العلمية.

وتحديدًا، ليس هناك ما يضمن ألا يؤديَ استخدام المسلَّمات إلى القول الباطل، إما أحيانًا أو بطريقةٍ ما منتظمة تتخفَّى خلف مواقف من نوعية موقف المزارع الذي يدعو. وهذه الاحتمالية هي التي دعت راسل لئلا يتوقع إلا أقل القليل من نظرية المعرفة. إذنْ يجب أن تكون الشكوى هي أن الحجة الواردة في كتاب «المعرفة البشرية» هي عبارة عن اعتراف بالفشل، وذلك في ضوء تراث نظرية المعرفة. لقد طرح ديكارت ومن جاءوا بعده في الفلسفة الحديثة أسئلة عن طبيعة المعرفة وكيف نحصل عليها بدقة، وذلك حتى يتمكنوا من التمييز بين بعض المساعي — الخيمياء والتنجيم والسحر، مثلًا — ومساعٍ أخرى — الكيمياء وعلم الفلك والطب، مثلًا — والتي لم تختلف فقط من حيث عدد التطبيقات المفيدة حقًّا التي تقدمها، بل من حيث إطلاعنا على شيء صحيح عن العالم؛ فضلًا عن ذلك، تفسر الفكرة الثانية الأولى، وتفسح المجال أمام المزيد من التعمق في كلتا الفكرتين. علاوةً على ذلك، ربما تتعرض آراؤنا السابقة المتحيزة ومعتقداتنا الحيوانية للتفنيد في أثناء ذلك، وهو ما يحدث فعلًا؛ لأن العالم الذي يصوره العلم يختلف اختلافًا ملحوظًا عن العالم القائم على المنطق السليم. ولكن راسل يقول في كتاب «المعرفة البشرية» إن منفعة التطبيقات وتلك المعتقدات الحيوانية نفسها هي عوامل التبرير النهائية الوحيدة التي يمكن أن نأمل في تحقيقها في نظرية المعرفة. وهذا يقل كثيرًا عما يهدف مشروع نظرية المعرفة إلى تحقيقه عادةً، وهو يقل كثيرًا عما كان راسل نفسه يأمل في تحقيقه حين بدأ يتولى مهمة وضع نظرية المعرفة قبل ذلك بعقود طويلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤