الفصل الرابع

السياسة والمجتمع

مقدمة

أسهم راسل إسهامًا كبيرًا في المناقشات التي دارت حول الأخلاق والسياسة والدين والتعليم وقضايا الحرب والسلام. ولم يَرَ هذه الإسهامات باعتبارها إسهامات فلسفية بالمعنى الضيق للكلمة. فكما يوضح الفصل السابق، كان يرى الفلسفة باعتبارها فرعًا فنيًّا من فروع المعرفة يتناول الأسئلة المجردة التي تُعنَى بالمنطق والمعرفة والميتافيزيقا. وهذه المناقشات الأخرى في المقابل — في رأيه — عبارة عن قضايا تتعلق بالعاطفة والرأي، وترتبط بالنواحي العملية للحياة. وقد أقر راسل بإمكانية وجود تحليلٍ للخطاب الأخلاقي والسياسي في إطارٍ صوري؛ أي كدراسة منهجية تتناول منطق الخطابات الأخلاقية والسياسية بدلًا من جوهرها؛ ولكن ما كان يهمه هو القضايا العملية والمشكلات الواقعية، خاصةً بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك تصدى راسل في بعض كتاباته لعرض أساس الأخلاق. لم يكن يحاول صياغة نظرية جديدة، بل اكتفى بوجهات النظر الثانوية التي (بعد أن أصبح اهتمامه بالقضايا العملية اهتمامًا جديًّا) كانت تتَّسم بطابع «نظرية العواقبية»؛ أي إنها كانت ترى أنه يجب الحكم على القيمة الأخلاقية لأفعال الناس والحكومات بالنتائج. وفي الوقت نفسه — وليس على نحوٍ متسق مطلقًا — كان يكتب وكأنه كان يؤمن بالقيمة الأخلاقية الجوهرية لأشياء معينة، مثل الخصال الشخصية كالشجاعة والشهامة والأمانة. وقدم كذلك — في بعض كتاباته الأولى — وجهة نظر غير متسقة كذلك مع هذه الآراء، مفادها أن الأحكام الأخلاقية عبارة عن أقوال مُضمرة معبرة عن الموقف الذاتي. والمشكلة الأساسية التي واجهت راسل هي كيفية التوفيق بين جانبين متعارضين: من ناحيةٍ، الإخلاص لمعتقدات أخلاقية يؤمن بها بثبات وحماس، ومن ناحيةٍ أخرى، ما يبدو من انعدام وجود مبررات للحكم الأخلاقي. وازدادت الصعوبة التي تواجهه في تحقيق هذا التوفيق بفعل موقفه المتشكك حول ما إذا كانت المعرفة الأخلاقية موجودة أساسًا.

لعل أفضل طريقة لوصف إسهام راسل في المجال الأخلاقي هو القول بأنه كان معلمًا أخلاقيًّا معنيًّا برفع مستوى الأخلاق عند الناس أكثر مما كان فيلسوفًا أخلاقيًّا. وكان شأنه شأن أرسطو من قبله يرى الأخلاق والسياسة مستمرين؛ فلا فارق في النوع بين الحكم الأخلاقي أن الحرب شر والمطلب السياسي لتحقيق السلام؛ من ثَمَّ نجد أن فكر راسل عن الأخلاق والسياسة والمجتمع يتَّسم بالسلاسة والاتساق؛ مما يفسر سبب تناولها معًا في أشمل كتبه عن هذه المسائل، وهو كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة».

وفي السياسة كان راسل طيلة حياته راديكاليًّا وليبراليًّا من دون مغالاة. وبعد الحرب العالمية الأولى أصبح عضوًا في حزب العمال وترشَّح في سباقَين انتخابيَّين كمرشح للحزب. وقد مزَّق بطاقة العضوية في ستينيات القرن العشرين في استياء من دعم هارولد ويلسون للحرب التي شنتها أمريكا في فيتنام. ولكنه لم يكن اشتراكيًّا بالمعنى العتيق للكلمة؛ إذ لم تقنعه الماركسية حين درسها في ألمانيا في تسعينيات القرن التاسع عشر أثناء الإعداد لكتابه الأول: «الديمقراطية الاجتماعية الألمانية» (كانت «الديمقراطية الاجتماعية» تعني الماركسية آنذاك). وكان معارضًا بالفطرة للاتجاه للمركزية الذي تنادي به الاشتراكية حسب مفهومها آنذاك — وكانت تلك هي السمة الوحيدة تقريبًا للاشتراكية التي طُبقت بالكامل في الدول السوفييتية — ولذلك جذبته أكثرَ الاشتراكيةُ النقابية، وهي شكل لا مركزي من الملكية والسيطرة التعاونية يحكم الناس أنفسهم بموجبه في ظروف — على المستوى المثالي — تدمج حياتهم الاجتماعية والترفيهية والعملية.

fig8
شكل ٤-١: خاض راسل الانتخابات البرلمانية متبنيًا قضية منح حق التصويت للنساء في الانتخابات الفرعية في ويمبلدون عام ١٩٠٧.1

كان راسل في أفضل حالاته حين انتقد الأحوال الأخلاقية والسياسية المعاصرة. وكانت البدائل الإيجابية التي طرحها تبدو عادةً غير مقنعة؛ إذ كانت عادةً إما مثالية إلى حدٍّ خيالي أو على أقل تقدير — إذا أخذنا بعين الاعتبار الظروف التي قدَّمها فيها — غير عملية إلى حدٍّ ما. ولكن كناقد شديد القسوة لاذع الكلمات، كان في مكانة سقراط وفولتير نفسها.

لا أحد يحتاج إلى عذر أو رخصة للإسهام في المناقشات التي تتناول القضايا المهمة في المجتمع، وهي قضايا السياسة والأخلاق والتعليم. إنه واجب كل مواطن أن يشارك عن معرفة وفهم. إذنْ فأنشطة راسل في هذه المجالات لا تتطلب أي تبرير. ولكن يوجد سبب وجيه يفسر لماذا تتَّسم إسهاماته بقوة إقناع معينة. ولم يكن سبب ذلك أنه كان وريثًا لتراث جليل تميَّزَ به حزب الأحرار البريطاني في المشاركة في الشئون العامة، مع أن هذا بلا شك حفز اهتمامه بالشئون العامة وإحساسه بواجب المشاركة؛ بل كان السبب هو أن اهتمامه وإحساسه بالواجب كان يدعمهما أربع مميزات قيمة: ذكاء نادر، وفصاحة واضحة الأسلوب، ومعرفة واسعة بالتاريخ، وجرأة كبيرة في وجه المعارضة؛ مما جعله مناقشًا مَهيبًا. ولم يَبْدُ أسلوبه مفرطًا في التذمر وغير ملائم إلا عند نهاية حياته، حين كان الآخرون من حوله يتحدثون ويكتبون باسمه.

لم تَجِدْ بعضُ أفكاره — مثل الإيمان بالحكومة العالمية — حتى الآن أي دعم يُذكر. وساعدت بعض الأفكار الأخرى في تغيير وجه المشهد الاجتماعي في العالم الغربي، كما في مواقفه تجاه الزواج والأخلاق الجنسية، على سبيل المثال. وفي مجالات أخرى أيضًا — تتعلق بالدين بالأخص — ساعد راسل على تحرير عقول كثيرة، ولكنه لم يكن ليندهش — عند الأخذ في عين الاعتبار فهمه للطبيعة البشرية — إذا اكتشف أن التفكير الخرافي يزدهر حاليًّا أكثر مما كان في عصره، وأن المعتقدات الدوجمائية — «الإيمان هو ما أموت من أجله، أما معتقداتي الدوجمائية فهي ما أقتل من أجلها.» — قد عادت بقوة.

الأخلاق النظرية

يتضح من الفكر المبكر لراسل عن الأخلاق أنه كان يؤمن بوجهة النظر الرومانتيكية الهيجلية القائلة بأن الكون خيِّر في حد ذاته وأنه هدف مناسب «للمحبة الفكرية». وكان ماك تاجارت هو من أوحى له بقبول وجهة النظر هذه، ولكنها لم تسيطر عليه لمدة طويلة. وتوضح أول مناقشة جادة للقضايا الأخلاقية يتصدى لها راسل — وعرضها في بحثه المعنون «عناصر الأخلاق» ونشره في عام ١٩١٠ — أنه يتبع التعاليم الواردة في كتاب «المبادئ الأخلاقية» من تأليف جي إي مور، ويؤكد فيه مور أن الصلاح خاصية غير قابلة للتعريف وغير قابلة للتحليل ولكنها خاصية موضوعية لوصف الأشياء والأفعال والبشر، وأننا ندرك الصلاح عن طريق فعل قائم على حدْس أخلاقي مباشر. كان مور يؤمن بشكلٍ من أشكال مذهب النفعية، ويمكن إيجازه بأنه وجهة النظر القائلة بأن الصواب الذي نفعله في أي حالة معينة هو أي فعل من شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير على الشر في تلك الحالة. وأثرت آراء مور في أعضاء جماعة بلومزبري، وخصوصًا في تعزيز الفكرة الجذابة القائلة بأن الصداقة والاستمتاع بالجمال هما أسمى القيم الأخلاقية. (ادَّعى الخبثاء ممن انتقدوا الفكرة أن أعضاء جماعة بلومزبري أعجبتهم وجهة النظر هذه لأنها أتاحت لهم فرصة التوفير — إذا جاز التعبير — بأن يكون لديهم أصدقاء يتميزون بالجمال.)

تُطرح الصعوبات نفسها على الفور فيما يتصل بوجهة النظر النفعية. ومن بين هذه الصعوبات أنه يتعذر علينا معرفة العواقب المترتبة على التصرف بطريقة معينة بدلًا من طريقة أخرى؛ ومن ثَمَّ قد نتسبَّب دون قصد في عواقب سيئة كنتيجة للتفكير المضطرب أو الأفكار الحدْسية الكاذبة. ويقر راسل بهذا في رؤيته لوجهة نظر مور، ولكنه يؤكد أننا نكون قد تصرفنا تصرفًا صحيحًا حين نشعر بالرضا؛ لأننا أمعنَّا التفكير في الأمور بعناية، وبذلنا كل ما في وسعنا باستخدام المعلومات المتاحة. ومع ذلك، الادِّعاء بأن الصلاح أمر موضوعي هو أمر مختلف، ولم يستطع راسل أن يشعر بالرضا عن وجهة النظر هذه لمدةٍ طويلة، فمع أنها — إن شئنا الدقة — ربما يتعذَّر دحضها، فلا يمكن إثبات صحتها كذلك، وخصوصًا في مواجهة شخص يختلف بلا مواربة مع الفكرة الحدْسية التي أعلنها غيره، والقائلة بأن الصلاح موجود في فعل بعينه أو موقف بعينه.

دفعت هذه الصعوبة راسل إلى اتخاذ وجهة النظر — التي عبَّر عنها في كتاب «موجز للفلسفة» (١٩٢٧) — القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليست موضوعية — بمعنى أنها ليست صحيحة ولا كاذبة — بل إنها جُمل دالة على أمر أو جُمل دالة على التمني أو جُمل دالة على الموقف. والجملة الدالة على الأمر هي أمر، مثل «لا تكذب.» والجملة الدالة على التمني عبارة عن خيار أو أُمنية — كما يختار المرء شيئًا بدلًا من شيء آخر — في الحالة الأخلاقية ترمز إليها جملة «ليت لا أحد يكذب.» أما جملة «أرفض الكذب» فهي قول معبر عن موقف قائلها من الكذب. ومن الواضح أن الجُمل الدالة على الأمر والجُمل الدالة على التمني تفتقر إلى قيمة الصواب. ومع أن الأمر يكون بخلاف ذلك فيما يتعلق بالأقوال المعبرة عن الموقف، فهذا فقط لأنها عبارة عن أوصاف للحقيقة النفسية ذات الصلة الخاصة بقائليها؛ فلا يُقال شيء صادق أو كاذب عن القيمة الأخلاقية للكذب، فما يقال يتعلَّق فقط برأي القائل في الكذب.

ربما يُطلق على هذا الرأي — في مقابل «الموضوعية» التي كان يؤمن بها مور — «الذاتانية». وهذا المذهب يتسم بمشكلات جسيمة هو الآخر، وأهمها أنه منفر بدرجةٍ كبيرة. فلنتأمل مثلًا جريمة المحرقة النازية. فمن غير المقبول القول بأن مبرر المرء للحكم أن المحرقة النازية شر هو أنه يستنكرها فقط. شعر راسل بهذه الصعوبة بشدة؛ ولذلك حاول في مناقشته الأخيرة والمستفيضة لهذه القضايا (في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة») أن يصل إلى موقف يمثل حلًّا وسطًا بين الموضوعية والذاتانية يحتفظ بالمميزات ولكن يتجنب الصعوبات الموجودة في وجهتَي النظر كلتيهما.

ويؤكد راسل في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» أن الأحكام الأخلاقية هي في الواقع تتعلق بخير المجتمع وأفراده. وهذه الأحكام تشمل أو تعبر عن الشعور السائد إلى حدٍّ ما في مجتمعٍ معين حيال ما يصب عمومًا في مصلحة الجميع. وهذا موضوع من الممكن أن تدور حوله مناقشة عاقلة بِناءً على فهْم علمي أو على الأقل منطقي للعالم. وكثيرًا ما كاد راسل يفقد هذا الإيمان بإمكانية الحلول المنطقية للمعضلات الأخلاقية حين كان يتأمل حماقة الإنسان، ولكنه مع ذلك ظل يتمسك به.

يقول راسل إن البيانات الأساسية للأخلاق هي المشاعر والانفعالات. ووفقًا لذلك فإن الأحكام الأخلاقية هي عبارة عن مشاعر متخفية تعبر عن آمالنا أو مخاوفنا أو رغباتنا أو الأشياء التي نكرهها؛ فنحن نحكم على الأشياء بأنها صالحة حين تلبِّي رغباتنا؛ ومن ثَمَّ فإن الخير العام — أي خير المجتمع ككلٍّ — يكمن في تلبية الرغبة تلبيةً كاملة، بصرف النظر عمن يتمتع بها. وعلى المنوال نفسه يكمن خير أي قسم من المجتمع في تلبية رغبات أفراده تلبيةً كاملة، ويكمن خير الفرد في تلبية رغباته الشخصية. وعلى هذا الأساس يمكن تعريف التصرف الصائب بالقول إنه أي شيء — في أي مناسبة معينة — من المرجح أن يؤديَ إلى الخير العام (أو إذا كان يتعلق بفرد واحد فحسب، خير الفرد)؛ وهذا بدوره يمنحنا تفسيرًا للواجب الأخلاقي، فكرة أنه يوجد أشياء «يجب» أن يفعلها المرء؛ وهو أنه يجب على المرء أن يفعل التصرف الصائب حسب هذا الفهم (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٢٥، ٥١، ٦٠، ٧٢).

يقر راسل بالطبع بوجود مشكلات في هذا الوصف، ويناقش عددًا منها. فعلى سبيل المثال: يتسبب تعريف «الخير» بأنه «تلبية للرغبة» في توجيه انتقادٍ منطقي بأن بعض الرغبات شر، وأن تلبيتها شر أسوأ. ويتأمل راسل مثال القسوة. هل من الممكن أن يكون من الخير أن يتمنى شخصٌ ما أن يتسبب في معاناة شخص آخر؟ وأليس من الأسوأ أن ينجح في تنفيذ أمنيته؟ يقول راسل إن تعريفه لا يقتضي ضمنًا أن مثل هذه المواقف من قبيل الخير؛ أولًا: لأن ذلك يتضمن إحباط رغبات الضحية؛ لأن الضحية بالطبع ترغب في تجنُّب المعاناة على أيدي المتسبِّب فيها، وثانيًا: لأن المجتمع ككلٍّ لا يريد عمومًا أن يقع أفراده ضحايا للقسوة، وسيؤدي ذلك إلى إحباط رغباته أيضًا في هذا الصدد؛ ومن ثَمَّ سيؤدي ذلك إلى زيادة هائلة في الرغبات غير المحققة عند ارتكاب فعل يتَّسم بالقسوة؛ مما يجعل ذلك الفعل سيئًا.

ومن الصعوبات الأخرى التي يتَّسم بها الوصف الذي يقدمه راسل أن الرغبات قد تتعارض. ويجيب راسل عن ذلك بقوله إن هذا يتطلَّب منَّا أن نختار الرغبات التي يقل احتمال تنافسها بعضها مع بعض. ويستعير راسل مصطلحًا فنيًّا من لايبنتس، فيطلق على الاتساق بين الرغبات أنه «التوافق» بينها. إذنْ يمكن تعريف الرغبات الصالحة والسيئة على أنها الرغبات المتوافقة — بالترتيب — مع أكبر عدد وأقل عدد ممكن من الرغبات الأخرى.

يخصص راسل فصلًا يناقش فيه السؤال المتعلق بما إذا كانت الأحكام مثل «القسوة خاطئة» ليست إلا تعبيرات متخفية تعبر عن موقف ذاتي. وكما سبق وذكرنا، هذا السؤال مهم، وقد أزعج راسل بشدة. وتوصل راسل إلى ما قد يُطلق عليه إجابته المبنية على علم الاجتماع — أن القيمة الأخلاقية هي نتاج نوعٍ من الإجماع الاجتماعي — بعد دراسةٍ في الاحتمالات البديلة التي تقدمها المناقشة الأخلاقية.

من الممكن عرض المشكلة بأن نذكر أن الاختلاف الأساسي بين الخطاب الواقعي العادي والخطاب الأخلاقي يكمن في وجود مصطلحات مثل «يجب» و«الخير» ومرادفاتها في الخطاب الأخلاقي. هل هذه المصطلحات جزء من «المفردات الأساسية» للأخلاق، بمعنى أنها غير قابلة للتعريف وأساسية لأي فهم للمفاهيم الأخلاقية؟ أم هل يمكن تعريفها في إطار شيء آخر، كالمشاعر والانفعالات مثلًا؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب عن السؤال الأخير، فهل العواطف التي نحن بصددها هي عواطف الفرد الذي يصدر حكمًا أخلاقيًّا؟ أم لها مرجعية أشمل، تعود إلى الرغبات والمشاعر البشرية؟ (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٠-١١).

يذكر راسل أثناء مناقشة هذه الأسئلة أنه عند دراسة الخلافات الأخلاقية المتعلقة بما يجب فعله في حالة معينة، نجد أن الكثير من تلك الخلافات ينشأ من النزاع حول النتيجة التي ستنشأ من هذا الخيار أو ذاك. ويُثبت هذا أن التقييمات الأخلاقية تعتمد على تقديرات النتائج، وأنه لذلك يمكننا تعريف «يجب» بالقول إنه يجب تنفيذ فعلٍ ما — من بين كل الأفعال الممكنة في تلك الحالة — إذا كان هو الفعل الذي من المرجح أن يؤديَ إلى أكبر قدرٍ من «القيمة الجوهرية» (وهو تعبير يستخدمه راسل كبديل أدقَّ عن كلمة «الخير»).

هل «القيمة الجوهرية» قابلة للتعريف؟ يعتقد راسل أنها كذلك؛ إذ يقول: «حين ندرس الأشياء التي نميل لأن نرى فيها قيمة جوهرية نجد أنها هي كل الأشياء التي نرغب فيها أو نستمتع بها؛ فمن الصعب أن نصدق أن أي شيء من الممكن أن يحمل قيمة جوهرية في كونٍ مجردٍ من الوعي الأوَّلي. ويوحي ذلك بأن «القيمة الجوهرية» قد تكون قابلة للتعريف في إطار الرغبة أو المتعة أو كلتيهما» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص١١٣). وما دام يتعذَّر أن تكون كل الرغبات ذات قيمة جوهرية لأن الرغبات تتعارض، ينقح راسل المفهوم بحيث تُفهم القيمة الجوهرية باعتبارها سمة ﻟ «حالات مزاجية» يرغب فيها من يتعرضون لها.

وبهذا التعديل يقدِّم راسل الموجزَ الآتي لوجهة نظره. إن استحساننا أو استقباحنا لأفعالٍ معينة عادةً ما يتوقف على العواقب التي نعتقد أنه من المُرجح أن تنتج عنها. ونسمي عواقب الأفعال التي نوافق عليها «صالحة»، ونسمي العواقب التي نرفضها «سيئة». ونسمي الأفعال نفسها «صائبة» و«خاطئة» بالترتيب. وما «يجب» أن نفعله هو كل فعل صحيح في هذه الحالة، بمعنى كل ما مِن شأنه أن يؤديَ إلى زيادة نسبة الخير.

ومن بين هذه النقاط تحمل النقطة الأولى القدر الأكبر من الأهمية. إذا كان التقييم الأخلاقي مسألة تعتمد على ما يوافق عليه الناس وما يرفضونه، أَفَلَسْنَا عالقين في المعضلة الذاتانية، دون أسس منطقية لتوريط أنفسنا في خطأ العنصرية والتعصب والقسوة وغيرها؟ وإجابة راسل هي أنه في واقع الأمر يوافق الناس موافقةً واسعة الانتشار على كل ما هو مرغوب. ويتفق مع هنري سيدجويك في أن الأفعال التي عادةً ما يوافق عليها الناس هي الأفعال التي تؤدي إلى أكبر قدْر من السعادة أو المُتع. وإذا كان هذا يشمل تلبية الاهتمامات الفكرية والجمالية («إذا اقتنعنا فعلًا بأن الخنازير أسعد من البشر، فلا ينبغي لذلك السبب أن نرحب بالخدمات التي قدمتها الساحرة سيرسي التي جاء ذكرها في الأساطير الإغريقية.» فبعض المُتع مفضلة «فطريًّا» عن غيرها)، يصبح لدينا وسيلة للإفلات من الذاتانية؛ إذ إن وجهة النظر هذه تمنحنا إفادات عما يجب فعله، وهي ليست جُملًا دالة على التمني أو أوامر متخفية؛ ومن ثَمَّ تحمل قيمة صواب؛ ولكنها تستند إلى وقائع تتعلق بمشاعرنا وبتلبية رغباتنا؛ فالوقائع المتعلقة بمشاعرنا هي أساس تعريف «الصواب» و«الخطأ»، والوقائع المتعلقة بتلبية رغباتنا هي أساس تعريف «القيمة الجوهرية». وهكذا يحقق راسل نجاحًا في صياغة موقف وسيط يقع بين الموضوعية والذاتانية، ويحمل نجاحه — في الوقت نفسه — شهادة معتمدة عملية على نحوٍ دقيق إلى حدٍّ ما؛ إذ يوفر سبيلًا ليس فقط لتقييم الأفعال من النوع الذي يكون عادةً محلَّ خلاف في المناقشات الأخلاقية، بل كذلك العادات الاجتماعية والقوانين والسياسات الحكومية.

بالرغم من تفاؤل راسل حيال وجهة النظر هذه، فهي تتضمن عددًا من الصعوبات؛ إذ تقول في الواقع إن أساس التقييم هو إجماع الرغبات. ولكن هذا معناه أنه إذا كانت الأكثرية في مجتمعٍ معينٍ مستاءةً من المثلية الجنسية — مثلًا — فإن المثلية الجنسية إذنْ تُعد سيئة، فيما إذا كانت الأكثرية في مجتمع أكثر تسامحًا يسري فيه إجماع مختلف، فلن تكون المثلية الجنسية سيئة. هل النسبية الأخلاقية من هذه الدرجة جديرة بالتصديق؟ وتتصل هذه الصعوبة بصعوبةٍ أخرى، وهي أنه ما دامت قيمة العواقب تقاس بقدر الرغبات التي تلبيها، فإن درجة الشر التي تتسم بها المحرقة النازية تصبح نتيجة متوقفة على درجة تفوُّق نسبة إحباط رغبات ضحايا النازيين ورغبات السواد الأعظم من سكان العالم — ممن قد لا يريدون أن يشيع القتل الجماعي (ربما تحسبًا لاحتمال أن يقعوا هم ضحايا له) — على نسبة تلبية رغبات النازيين. وكان راسل نفسه يشعر بوجود شيء أكثر إقناعًا يكمن خلف الهلع الأخلاقي الذي نشعر به حيال المحرقة النازية، ولكن مبادئه لا تشرحه.

إن أي قدر من الإلمام بالمناقشات المتعلقة بالأخلاق يوضح أن جهود راسل في هذا المجال سطحية؛ فحتى في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» تتسم المناقشة بطابع نُصحي أكثر منه فلسفيًّا. ويقوم كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» على عموميات سيكولوجية شاملة، ولا يحتوي إلا على إشارة واحدة عن الدقة، وهدف الكتاب هو إقناعنا بقَبول منهجٍ عملي للتقييم الأخلاقي بدلًا من تقديم الأخلاق مدعمة بأساسٍ نظري. ويعود جزء من سبب ذلك — كما ذُكر فيما سبق — إلى أن راسل لم يكن يعتقد أنه يمكن تطبيق الدقة على مناقشة الأخلاق؛ فكان من المقرر في البداية أن تكون الفصول التي تتناول الأخلاق في كتاب «المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة» عبارة عن تكملةٍ لكتاب «المعرفة البشرية»، ولكنه لم يدرجها في الكتاب، لعدم رضاه عنها، ولم ينشرها — مدعمة بفصولٍ عن المسائل السياسية — إلا بعد أن قرر أخيرًا أنه لم يستطع عرض الحجج التي تحتويها عرضًا منهجيًّا أكثر. ولكنه لم يشكُ من ذلك؛ فهدفه الأساسي من الأخلاق — كما هي الحال بخصوص كل المسائل الاجتماعية التي تصدَّى لها — كان على كلٍّ هو الجدل. كان يتمنَّى أن يكون مؤثرًا في طريقة حياة الناس، وكان راضيًا لتوريط نفسه في مجال الدفاع عن قضايا معينة والإقناع لبلوغ تلك الغاية.

المُثُل الأخلاقية العملية

نال راسل جائزة نوبل في فرع الآداب، وكان الكتاب الذي ورد في حيثيات نيل الجائزة هو كتاب «الزواج والأخلاق». ألَّف راسل الكثير عن المسائل المتعلقة بالمُثل الأخلاقية العملية، ونجد بعض أفضل ما ألَّفه في هذا المجال في عشرات المقالات القصيرة التي كان يكتبها للصُّحف، وأهمها المقالات التي نشرتها دار نشر هيرست بريس في أمريكا إبان أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين. وفي هذه المقالات (دائمًا ما كانت لا تزيد عن ٧٥٠ كلمة، حسبما يتطلب حجم العمود المخصص لها في صفحة الجريدة) يمنحنا راسل انطباعًا بأنه سريع الملاحظة ومتسامح وعطوف ومتعقل، ولم يكن يسبق عصره فقط، بل وعصرنا نحن أيضًا في الكثير من المسائل.

فلنأخذ مثلًا مقاله «عن اللباقة». يقول في هذا المقال إننا نخصص للباقة والصدق مكانَين منفصلَين تمامًا، ولكن يأتي هذا على حساب أمرٍ آخر:

كنت أمرُّ أحيانًا بجوار أطفال يلعبون في الحديقة العامة، فأسمعهم يقولون بصوتٍ عالٍ واضح: «ماما، من ذلك العجوز المضحك؟» فأسمع من يرد بصوتٍ هامس مرتاع: «اسكت! اسكت!» فيدرك الأطفال إدراكًا مبهمًا أنهم ارتكبوا شيئًا خاطئًا، ولكنهم يعجزون تمامًا عن تصوُّر كنه ذلك الخطأ. يتلقَّى كل الأطفال من آنٍ إلى آخر هدايا لا تعجبهم ويلقنهم آباؤهم أنه يجب أن يبدوَ عليهم وكأنهم فرحوا بالهدايا. وحين يأمرونهم كذلك بأنه يجب عليهم ألا يكذبوا، يؤدي ذلك إلى تشوُّش أخلاقي.

(«عن اللباقة»، في كتاب «البشر وغيرهم» (ألين وأنوين، ١٩٧٥) ص١٥٨)

تتحدث هذه الفقرة عن التربية القائمة على اللباقة. ويقول راسل إن اللباقة من الفضائل يقينًا، ولكن لا يفصلها عن النفاق إلا خيطٌ رفيع للغاية. ويتوقف الفارق بينهما على الدافع. فإذا كان العطف يدفعنا لإرضاء شخصٍ ما في ظروف قد تؤدي الفظاظة فيها إلى إزعاجه، تصبح اللباقة ملائمة؛ ولكنها تصبح أقل لطفًا حين يكون الدافع هو الخوف من الإساءة، أو الرغبة في الحصول على ميزة بالتملُّق. ولا تعجب اللباقة من يتسمون بالجدية الشديدة؛ فحين زار بيتهوفن جوته في مدينة فايمار صُعق حين رآه يتصرف بأدب مع مجموعة من المتملِّقين الحمقى. إن من يواظبون على الصدق ولا يكذبون قط بدافع التهذيب عادةً ما يحظَوْن بالتقدير، ولكن يقول راسل إن هذا سببه أن الصادقين الحقيقيين مجردون من الحسد والحقد والتفاهة. «معظمنا يدخل في تكوينه شيء من هذه الرذائل؛ ولذلك علينا أن نستخدم اللباقة لتجنُّب الإساءة للغير. وليس من الممكن أن نصبح جميعًا من القديسين، وإذا كان بلوغ مرتبة القديسين أمرًا مستحيلًا، فلنا أن نحاول على الأقل أن نتجنب أن نكون سيئي الطبع.»

fig9
شكل ٤-٢: فاز راسل بجائزة نوبل في عام ١٩٥٠، ويظهر هنا وهو يتسلَّمها من ملك السويد.2

ربما تبدو هذه مادة سطحية واهية، ولكنها تتسم بالأثر العميق، وتطرح نقاطًا جديرة بالدراسة والتأمل؛ فكتابات راسل الصحفية عن المسائل الاجتماعية ذات طابع ممتع ومسلٍّ ومثَقِّف، وهو ما تميز به.

ويتناول كتاب «الزواج والأخلاق» مسائل أكبر وأكثر إلحاحًا؛ فهو يركز على الجنس والحياة الأسرية. ومن وجهة نظر راسل، للمُثل الأخلاقية الجنسية مصدران أساسيان: رغبة الرجال في التيقن من أنهم حقًّا آباء الأطفال الذين تلدُهم زوجاتهم، والاعتقاد الديني بأن الجنس آثم. كان راسل مستعدًّا دائمًا لتلقِّي الإرشاد من العلم في عصره، وفي هذه الحالة لجأ إلى علم البيولوجيا (الأحياء) للبحث عن تفسيرٍ لأصول تلك العادة. وقد دفعه علم الأحياء إلى الاعتقاد بأن المُثل الأخلاقية الجنسية في العصور القديمة كان الغرض البيولوجي منها هو توفير حماية الأبوين لكل طفل، وهو دافع يحرص راسل على الموافقة على أنه دافع وجيه. ويقول إن الكثير من الضغوط تهدد الحياة الأسرية في العصر الحديث ويجب التصدي لها؛ فالأطفال بحاجة إلى عاطفة كلا الأبوين؛ أما البديل المتمثل في ترك تنشئة الأطفال جزئيًّا أو حتى كليًّا للدولة — كما تمنَّى أفلاطون — فليس مستحسنًا؛ فإذا تولَّت الدولة تنشئة الأطفال، فسينتج عن ذلك قدْر مفرط من التماثل، وربما قدْر مفرط من القسوة؛ ومن الممكن استغلال الأطفال الذين يُربَّوْن بهذه الطريقة ليصيروا أتباعًا مخلصين لمروجي الدعاية السياسية ومثيري الفتنة والاضطرابات.

ولكن فيما يتصل بالمُثل الأخلاقية الجنسية — من وجهة نظر راسل — فالاتجاه الحديث نحو زيادة حرية التعبير والسلوك أمر طيب؛ فالآراء الأكثر تحررًا تنشأ من تراخي قبضة المُثل الأخلاقية التقليدية، ولا سيما المُثل الأخلاقية الدينية؛ ويصبح السلوك الأكثر تحررًا ممكنًا بفعل التطورات التي حدثت بخصوص منع الحمل؛ مما وضع النساء على قدم المساواة مع الرجال من حيث التحكم في حياتهن الجنسية.

في رأي راسل، تسببت العقيدة القائلة بأن الجنس آثم في ضررٍ فادح، ويبدأ الضرر في الطفولة ويستمر حتى النضج في صورة النواهي وما تسببه من ضغوط. يؤدي كبت الدوافع الجنسية إلى تسبب المُثل الأخلاقية التقليدية في إفساد أنواع الشعور الودي الأخرى أيضًا؛ مما يجعل الناس أقل تسامحًا وعطفًا، وأكثر ميلًا إلى القسوة والأنانية. لا بد بالطبع من أن يحكم الجنسَ مبدأٌ أخلاقيٌّ، كما هي الحال مع التجارة أو الرياضة، ولكن لا ينبغي أن يقوم «على محظورات عتيقة يعرضها غير المتعلمين في مجتمع يختلف تمامًا عن مجتمعنا»، ويقصد راسل بهذا تعاليم آباء الكنيسة القدماء. «ففي الجنس، كما هي الحال في الاقتصاد والسياسة، ما زال مبدؤنا الأخلاقي تهيمن عليه المخاوف التي جعلتها الاكتشافات الحديثة غير منطقية» (الزواج والأخلاق، ص١٩٦-١٩٧).

لا بد من مُثل أخلاقية جديدة قوامها رفض المذهب البيوريتاني المتزمِّت، على أن تُبنى على الاعتقاد بضرورة تدريب الغريزة وليس التصدي لها. ولا ينطوي الموقف الأكثر تحررًا تجاه الحياة الجنسية على أنه من المسموح لنا أن نطيع دوافعنا ونتصرف كما نشاء؛ وذلك لأنه لا بد من وجود اتساق في الحياة، ومن بين أهم جهودنا المفيدةِ الجهودُ الموجهة نحو الأهداف الطويلة المدى؛ مما يقتضي تأجيل المتع القصيرة المدى. أيضًا، لا بد من مراعاة الآخرين و«قواعد الاستقامة». ولكن ضبط النفس — كما يؤكد راسل — ليس غاية في حد ذاته، وينبغي أن تضمن الأعراف الأخلاقية أن تكون ضرورة اللجوء إليه في حدها الأدنى لا الأقصى. ومن الممكن اللجوء إلى ضبط النفس إلى الحد الأدنى في حالة حسن توجيه الغرائز بدءًا من الطفولة وإلى المراحل التي تليها. ولأن الغرائز الجنسية قوية للغاية، فإن دعاة علم الأخلاق التقليديين يرَوْن أنه لا بد من كبحها بشدةٍ في الطفولة، خوفًا من أن تصير فوضوية وبذيئة. ولكن لا يمكن أن تُبنى حياة رغدة على المخاوف والمحظورات.

ومن ثَمَّ، فإن المبادئ العامة التي يعتقد راسل بأن المُثل الأخلاقية الجنسية يجب أن تقوم عليها بسيطة وقليلة. أولًا: ينبغي أن تقوم العلاقات الجنسية «بقدر الإمكان على تلك المحبة العميقة الجادة بين الرجل والمرأة التي تشمل الشخصية الكاملة لكلٍّ منهما، وتؤدي إلى اندماجٍ يثري كلًّا منهما». وثانيًا: إذا نتج أطفال عن تلك العلاقات، ينبغي رعايتهم بدنيًّا ونفسيًّا على نحوٍ مناسب. ويعلق راسل متهكمًا بأن أيًّا من هذين المبدأين ليس شديد الفظاعة؛ إذ يدرك الخزي الذي لحق به لما عُرف عنه من زنًا وطلاقٍ ومساكنة دون زواج وبسبب لا مبالاته بإخفاء كل ذلك عن العيون، وكانت كلها سلوكيات فاضحة إلى حدٍّ فادح آنذاك. ولكن المبدأين معًا يعنيان ضمنًا أن مجموعة القوانين الأخلاقية التقليدية قد طرأت عليها تعديلات مهمة معينة.

أحد هذه التعديلات هو أنها تسمح بدرجةٍ مما يُطلق عليه عادةً «الخيانة». فإذا لم ينشأ الناس وهم يرَوْن أن الجنس تقيده المحرمات، وإذا لم تكن الغيرة تحمل موافقة المعلمين المعنيين بعلم الأخلاق، لَاستطاع الناس أن يتعاملوا بعضهم مع بعضٍ بمزيد من الإخلاص والتسامح؛ فالغيرة تدفع الحبيبين إلى حبس كلٍّ منهما للآخر في سجن مشترك، وكأنها منحت كلًّا منهما حقًّا في السيطرة على كيان الآخر واحتياجاته. كتب راسل يقول: «لا ينبغي تناول الخيانة على أنها أمر فظيع.» إذ إن وجود «ثقة في القوة المطلقة لعاطفة عميقة ودائمة» هو رابطة أفضل بكثير من الغيرة (الزواج والأخلاق، ص٢٠٠-٢٠١). ويؤكد راسل في مواضع أخرى أنه لا يوجد مبرر للاعتراض على الزواج المفتوح — كما يُطلَق أحيانًا على ذلك النظام — بشرط ألا تُنجب المرأة أطفالًا من عشيق وتتوقع أن يربيهم زوجها. وقد انتهى زواجه هو ودورا جزئيًّا بسبب هذه المشكلة.

ويختتم راسل كتاب «الزواج والأخلاق» بالقول إن المبدأ الذي يقدمه — رغم هذه التعليقات التي تتناول الخيانة — ليس مبدأً يقوم على الفسق؛ فهو يشمل حقًّا قدر ضبط النفس عينه تقريبًا الذي تطالب به المُثل الأخلاقية التقليدية، والفارق الملحوظ هو أن ممارسة ضبط النفس تكون بالامتناع عن التدخل في حرية الآخرين بدلًا من كبت حريتنا نحن. وكتب راسل يقول: «من المأمول — في رأيي — أنه عن طريق التعليم المناسب من البداية يصبح هذا الاحترام للهوية الشخصية وحرية الآخرين سهلًا بعض الشيء؛ ولكن من وجهة نظر مَن نشأ منَّا وهو يرى أنه يحق لنا أن نعترض على تصرفات الآخرين باسم الفضيلة، فلا شك أنه من الصعب الامتناع عن ممارسة هذا النوع المحبب من الاضطهاد.» إن جوهر الزواج الناجح هو الاحترام المتبادل والأُلفة العميقة؛ فعند وجود هذه العناصر، يصبح الحب الحقيقي بين الرجل والمرأة هو «أكثر تجربة مثمرة من بين كل التجارب الإنسانية»؛ وهذا هو الهدف الذي ينبغي أن يشجعه كل من يتأملون في الزواج والأخلاق (الزواج والأخلاق، ص٢٠٢-٢٠٣).

وقد شعر الكثيرون آنذاك بأن آراء راسل شائنة إلى حدٍّ مروِّع. وتسبب كتاب «الزواج والأخلاق» في فقدانه وظيفته في نيويورك في عام ١٩٤٠ (مع أنه أدَّى إلى فوزه بجائزة نوبل بعد ذلك بعشر سنوات — كما ذُكر آنفًا — وهو ما يوضح كيف من الممكن أن تكون الحياة متقلبة وغير متوقعة)، وأوحى الكتاب — وكذلك سمعته بحب صحبة النساء — إلى الكثيرين للربط بينه وبين شخصية الرجل الشهواني. ولكن ربما يمكن أن نذكر نقطتين عن هذه الآراء؛ أولاهما هي ما تتسم به من عقلانية هادئة ومتسامحة، والأخرى هي أن آراءه لم تنشأ من فراغ؛ فهي في الواقع تعبر عن موقف يشاركه فيه طليعة المثقفين اليساريين إبان عشرينيات القرن العشرين وثلاثينياته؛ إذ كانوا يرَوْن أن حرية العلاقات الجنسية ورفض الغيرة الجنسية بمنزلة مبادئ غير مكتوبة. كان راسل يمتلك الشجاعة والفصاحة المنطقية الجازمة، وهو ما يلزم للدفاع عن هذه الأفكار أملًا في تغيير وجه مجالٍ من مجالات الحياة في أمسِّ الحاجة إلى ذلك. ومع التغير الجذري الذي طرأ على الاتجاهات والعادات بعد ذلك بجيل — الذي أسهم فيه جزئيًّا نشاط راسل — فإن حججه ما زالت تستحقُّ القراءة كعلاج فعَّال ضد الرجعية.

كثيرًا ما تتكرر في آراء راسل عن العلاقات الإنسانية ثلاثة موضوعات؛ أولها: هو ضرر الدين، والثاني: هو ضرورة التعليم الجيد، والثالث: هو الحرية الفردية. وكلٌّ منها عبارة عن فكرة رئيسة ثابتة في فكر راسل الاجتماعي، وقد أولى راسل كلًّا منها اهتمامًا كبيرًا. وسأعرض لهذه الموضوعات بالترتيب.

الدين

يفاجأ الناس حين يعلمون أن راسل لم يكن ملحدًا؛ إذ كان بالأحرى لاأدريًّا. وقد دفعه الثبات على المبدأ إلى قبول «الاحتمال» القائل بأنه ربما يكون للكون إله، ولكنه كان يعتقد أن وجود شيء من هذا القبيل مستبعد للغاية، وأنه لو كان يوجد شيء من هذا القبيل — خاصَّةً إذا كان أقرب إلى فكرة الله في المعتقد التقليدي للمسيحية — لكان النفور الأخلاقي للكون أكبر مما هو عليه؛ لأنه في تلك الحالة سنُضطَرُّ إلى قبول فكرة أن كيانًا قادرًا على كل شيء يسمح — أو يشاء — بوجود الشر الطبيعي والأخلاقي في العالم («الشر الطبيعي» يعني المرض والكوارث مثل الزلازل والبراكين، وما شابه). ومن وجهة نظر راسل، ينبغي أن تكفيَ زيارة واحدة إلى عنابر أي مستشفًى للأطفال لتجعلنا نشعر إما بأنه من غير المحتمل وجود إله، أو أنه إذا كان يوجد إله فعلًا، فإنه قاسٍ.

سُئل راسل ذات مرة في واقعةٍ شهيرة عما عساه أن يفعل إذا اكتشف عند موته أن الله موجود على كلٍّ؛ فرد أنه سيلوم الله لأنه لم يقدم أدلة كافية على وجوده. وسُئل كذلك عن رأيه في «رهان باسكال»، وهو الرأي القائل بأننا ينبغي أن نؤمن بالله حتى لو كانت أدلة وجوده واهية للغاية، لأن فائدة الإيمان بالله — في حالة وجود الله — تفوق بكثيرٍ الخسارة في حالة عدم وجوده. ورد راسل بأنه إذا كان الله موجودًا لَاستحسن موقف غير المؤمنين لأنهم استخدموا عقولهم ووجدوا أن الأدلة التي تدعم الإيمان غير كافية.

وكان من الأساليب التي درج راسل على استخدامها رفضُ قبول أي قضية إلا في حالة وجود سبب وجيه يقنعه بذلك. ومن أهم أركان الحجة المستخدمة في اللاهوت الطبيعي لدعم قضية وجود الله («اللاهوت الطبيعي» معناه مناقشة مفهوم الإله بمعزلٍ عن أي وحيٍ معين ورد في كتب مقدسة أو تجربة صوفية) مجموعةٌ معروفة من «البراهين على وجود الله». وقد ناقش راسل هذه البراهين في كتابه «لماذا لستُ مسيحيًّا؟» (نُشر في عام ١٩٥٧، وكان عبارة عن مجموعة محاضرات ألقاها للمرة الأولى في عام ١٩٢٧).

أحد هذه البراهين هو حجة السبب الأول، وتقول بأن لكل شيء سببًا؛ إذنْ لا بد من وجود سبب أول. ولكن هذه الحجة — كما يقول راسل — متناقضة مع نفسها؛ لأنه إذا كان لكل شيء سبب فكيف يمكن أن يكون السبب الأول بلا مسبب؟ حسب بعض وجهات النظر، فإن الله هو السبب المسبب بذاته (حسب أرسطو، المحرِّك بذاته)، ولكن هذا المفهوم غير مترابط، وإذا دلَّ على شيء ممكن، إذنْ فإما يكون مبدأ السببية الكلية الذي تستند إليه الحجة بأكملها مبدأً باطلًا إذا اتضح أنه لا بد أن تكون الأسباب غير نتائجها (كما يوحي المبدأ فعلًا فيما يبدو)، أو إذا كان من المحتمل أن تكون الأسباب هي مسبباتها نفسها، فلماذا يكون من المحتمل وجود سبب واحد فقط؟

وتوجد حجة ثانية تستنتج من مظاهر التدبير في الكون نتيجة مفادها أنه لا بد من وجود مدبِّر. ولكن من ناحيةٍ، مظاهر الخلق في الأشياء تعللها على نحوٍ أفضل نظريةُ التطور، وهي نظرية لا تتضمَّن كيانات إضافية في الكون، وتتفق مع البيانات التجريبية؛ ومن ناحيةٍ أخرى، لا يوجد على أي حال أي أدلة على وجود تدبير «كلي» في العالم؛ حيث توحي الوقائع — باتساقٍ مع القانون الثاني للديناميكا الحرارية، الذي يخبرنا بأن العالم يتحلل في حقيقة الأمر — بعكس ذلك تمامًا.

لدينا أيضًا حجة ثالثة تقول إنه لا بد من وجود إلهٍ كي يوجد مبرِّر للمُثل الأخلاقية. ومع ذلك، فهذه الحجة لا تفيد؛ لأنه كما يؤكد راسل في مكان آخر بإيجاز، قائلًا: «لطالما لقَّنَنَا علماء اللاهوت أن الأحكام التي يقدِّرها الله خير، وأنه لا سبيل لإنكار صحة هذه الحقيقة؛ إذ يترتب على ذلك أن الخير مستقل منطقيًّا عن أحكام الله» (المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص٤٨). وربما نضيف أنه إذا اعتبرنا أن مشيئة الإله مبرر للمُثل الأخلاقية، إذنْ يصبح السبب الذي يدفعنا إلى التحلي بالأخلاق هو الحذر من عواقب أفعالنا؛ إذ يكمن في الرغبة في الإفلات من العقاب. ولكن هذا المبرر ليس أبدًا أساسًا مقنعًا لتقوم عليه الحياة الأخلاقية، والتهديدات ليست على أي حال مقدمات مقنعة «من الناحية المنطقية» لأي حجة.

وتقول حجة ذات صلة — استخدمها كانط — إنه لا بد من وجود إله لإثابة الفضيلة وعقاب الشر؛ لأنه يتضح لنا من التجربة أن الفضيلة في هذه الحياة لا تُقابَل دائمًا أو حتى كثيرًا بالثواب. ولكن هذا — كما يقول راسل — أشبه بالقول إنه ما دام كل البرتقال الموجود أعلى صندوق الفاكهة فاسدًا، فلا بد أن البرتقال الموجود تحته في الصندوق طيب؛ وهو استنتاج منافٍ للعقل.

يهاجم الكثيرون من مناهضي الدين الأثر المضر للدين في العالم باعتباره يتسبب في الاضطهاد والشقاق، ومع ذلك يرَوْن أن المسيح شخصية جذابة، ولكن موقف راسل كان مختلفًا؛ إذ كان يعتبره أقل لطفًا ورأفةً من بوذا وأدنى منزلةً بكثير من سقراط فكرًا وخُلقًا. ويرى راسل أن بعض تصرفاته غير لطيفة؛ فمثلًا حين أذبل شجرة التين — ولم يكن ليفيد أن تصير الشجرة غير مثمرة، ما دامت في غير أوان التين — وهدد بإصابة من رفضوا أن يؤمنوا به بالكرب الأبدي. ولفت راسل إلى أنه على مدى قرونٍ طويلة ظل الناس يُلقَّنون أن يؤمنوا حرفيًّا بصحة هذه التحذيرات الوحشية، ما دام ذلك كان يخدم مصالح الكنيسة. ولكن حين أشار المنتقدون في عصرٍ أكثر إنسانيةً إلى مدى قبحها، بدأت الكنيسة في تغيير موقفها بالقول إنه ينبغي فهم التحذيرات فهمًا مجازيًّا.

ولكن راسل كان يوجه معظم انتقاداته ضد المسيحية نفسها كظاهرة «منظمة». وكان يكره الإيمان بالمعتقدات الخرافية — «تعتقد الكنيسة الكاثوليكية أن القس يمكنه تحويل كسرة خبز إلى جسد المسيح ودمه بالتحدث إليها باللاتينية» — وسخفه المطبق؛ فمثلًا «هم يأمروننا بألا نعمل في أيام السبت، ويفهم البروتستانت هذا على أن معناه أنه ليس لنا أن نلهوَ في أيام الآحاد.» يرى راسل أن المسيحية تتميز على الأديان الأخرى بميلها إلى الاضطهاد؛ فالمسيحيون ضايقوا وقتلوا المنشقِّين واليهود والملحدين وبعضهم بعضًا؛ وأغرقوا آلاف البريئات وأحرقوهن وقتلوهن بطرقٍ أخرى بتهمة «السحر»؛ وأزهقوا حياة مئات الملايين من البشر بِناءً على عقائدهم المنافية للعقل المتعلقة بالخطيئة والسلوك الجنسي.

استخدم راسل في حربه على الدين أسلحة تتألف غالبًا من التهكم والازدراء. كان ملمًّا بالكتاب المقدس على نحوٍ يفوق الكثيرين من خصومه، وكان باستطاعته أن يفحمهم باقتباسٍ مناسب؛ ومثال ذلك حين يقول — وهو يناقش المزايا المقارنة بين الدين والعلم — إن «الكتاب المقدس يخبرنا أن الأرنب الوحشي يمضغ الطعام المجتر»؛ مما يسبب صعوبات للأصوليين عند مواجهتهم بعلم الحيوان. وفعلًا لم يكن التباين بين العلم والدين ليكون على نحوٍ أشد وضوحًا. يتناول الدين حقائق مطلقة ولا تقبل الجدل تظل سارية إلى الأبد؛ أما العلم فهو أشد حذرًا وترددًا. يفرض الدين قيودًا على الفكر، ويحرم الاستقصاء حين يتعارض مع ما تسنه الكنيسة؛ أما العلم فيتسم بسعة الأفق (الدين والعلم، ص١٤–١٦). وهذه اختلافات لافتة؛ ففي مواجهة المنطق العلمي أفضل ما يستطيع الدين أن يفعله — حين لا يحاول أن يظل أصوليًّا على نحوٍ متعنت — هو إعادة تفسير النصوص المقدسة بأسلوب مجازي، والتخفي خلف الادِّعاء بأن الحقائق الدينية تتخطى الفهم البشري.

ولكن مع أن راسل كان معاديًا للدين، فقد كان رجلًا متدينًا، وهذا تناقض ظاهري فحسب؛ فمن الجائز أن يكون للمرء موقف متدين للحياة دون الإيمان بوجود كائنات وأحداث خارقة للطبيعة. وفي هذا الموقف يؤدي تذوق الفن والحب والمعرفة إلى تعضيد الروح الإنسانية، وينطوي على شعور بالإجلال حيال العالم وأحبائنا، وينطوي كذلك على شعور مصاحب من الرحابة التي يكون المرء جزءًا منها. وفي مقال شهير وإن كان يتسم بأسلوب متكلف — بعنوان «عبادة الإنسان الحر» — كتبه راسل تحت تأثير فشل زواجه الأول وما صاحَب ذلك من تغيرات في نظرته للأمور، يعرض هذه الرؤية بعينها. ولكن كلماته تحمل بعض التحفظات المبهمة إذ يقول:

حين يتضح في البداية تعارض الوقائع والمُثل العليا، يصبح من الحتمي التحلي بروحٍ يفيض بالتمرد الناري وبكراهية جارفة للآلهة للدفاع عن الحرية. فأن نتحدى عالمًا معاديًا بإخلاص كإخلاص بروميثيوس وأن نراقب شروره دومًا، ونظل نكرهه دومًا، وأن نرفض الألم الذي قد ينزله أذى السلطة المتعمد؛ هو فيما يبدو واجب كل من يرفضون الاستسلام للمحتوم. ولكن السخط ما زال قيدًا، إذ يجبر أفكارنا على الانشغال بعالم خبيث؛ وفي خضم ضراوة الرغبة التي ينبع منها التمرد يوجد نوع من توكيد الذات الذي يجب على الحكماء التغلب عليه؛ فالسخط هو خضوع أفكارنا ولكن ليس رغباتنا؛ والحرية المنزهة عن الانفعال بالفرح أو الترح التي تكمن فيها الحكمة نجدها في خضوع رغباتنا، وليس أفكارنا. وتنشأ من خضوع رغباتنا فضيلة التسليم بالقضاء؛ وينشأ من حرية أفكارنا عالم الفن والفلسفة بأكمله، والقدرة على رؤية الجمال الذي من خلاله نتمكن من استعادة العالم النافر.

(مقال «عبادة الإنسان الحر»، ١٩٠٣، أعيد طبعه في كتاب «التصوف والمنطق»)

وكما يتضح، كان راسل يرى دائمًا أن التوق إلى السموِّ — لحلم الفيلسوف سبينوزا بفهم واضح ونزيه وشامل تمامًا لكل الأشياء التي من شأنها أن تحرر المرء — تلطفه الوقائع القاسية للمعاناة في العالم. وفي ديباجة سيرته الذاتية يكتب قائلًا: كان الحب والمعرفة — بقدر توافرهما — يرفعانِنِي إلى سماء الفردوس. ولكن الشفقة دائمًا ما كانت تعيدني إلى الأرض. ومن ثَمَّ، كان راسل يَتُوقُ بأسلوبه اللاأدري إلى الفردوس، وسعى إلى اكتشاف السُّبل التي من شأنها أن تقود البشر إلى هناك.

التعليم

كان راسل يأمل أن يكون أهم تلك السبل هو التعليم، الذي كان يرى أنه يتناول السؤال المتعلق بالكيفية التي ينبغي بها إعداد البشر للحياة. ولم يتناول راسل التفاصيل الإدارية المتعلقة بإعداد المدارس والجامعات وتدريب المعلمين — مثلما كان من الممكن أن يفعل سيدني وبياتريس ويب — ولكنه تحدَّث بدلًا من ذلك عما قد نسمِّيه الأهداف الروحية (بمعنًى علماني) للتعليم. وكتب راسل أن ما يهدف إليه التعليم هو بناء الخُلق؛ وأن أفضل خُلق هو الحيوية والشجاعة ورهافة الحس والذكاء، على أن تكون كلها «بأعلى مرتبة». وهكذا يعبر عن الموضوع في كتاب «عن التعليم»، الذي نُشر في عام ١٩٢٦، وذلك قبل أن يؤسس هو ودورا مدرسة بيكون هيل بعام واحد. ويتناول هذا الكتاب أساسًا سنوات الطفولة المبكرة، ويُقِرُّ راسل في سيرته الذاتية أنه كان «مفرطًا في التفاؤل حيال علم النفس»، وأنه كان أيضًا في بعض النواحي «مفرطًا في القسوة» في المناهج التي اقترحها. ومن أمثلة ذلك وجهة النظر — التي اتخذها من مبادئ مونتيسوري — القائلة بأنه إذا كان أحد الأطفال سيئ السلوك فينبغي فصله عن غيره من الأطفال حتى يتعلم أن يصبح صالحًا. وبات راسل يرى لاحقًا أن هذا نمط قاسٍ من قواعد ضبط السلوك.

ومع ذلك يحتوي الكتاب على بعض النصائح الوجيهة. ويبدأ راسل بالأطفال الصغار في سنٍّ مبكرة جدًّا، فيؤكد بأنه ينبغي وضع روتين منتظم للأطفال الرضع وإمدادهم بأكبر عدد ممكن من فرص التعلم، وأنه ينبغي إخفاء أي قلق يبديه الأبوان حتى لا «ينتقل القلق إلى الطفل بالإيحاء». وتعكس هذه العقيدة إيمان راسل بأنه ما دام القلق ليس فطريًّا بين الثدييات العليا الأخرى، فلا بد أن ظهوره على الأطفال يأتي نتيجةً لتأثرهم بالبالغين. وذكَّر قُرَّاءه في الوقت نفسه بأنه لا داعي لتعذيب أنفسهم في سبيل أداء واجبهم كآباء، بل أن يحرصوا على الموازنة بين مصالحهم ومصالح أطفالهم.

كان راسل يرى أن المعرفة في حد ذاتها تعمل كأداةٍ للتحرير ووسيلةٍ للوقاية من الخوف. والاهتمام بالأشياء الظاهرية — وهو من أهم الأفكار الرئيسة كذلك في كتابه «الفوز بالسعادة» — وسيلة قوية لضمان معيشة تقوم على الشجاعة والسعادة. ويتحدث راسل أيضًا عن كيفية تشجيع الصدق والكرم: وذلك ليس بالاعتماد على عقاب أضدادها — ما دام أن ما قد يبدو ظاهريًّا أنه كذب مثلًا ربما يكون في الواقع ممارسة للخيال — بل بتشجيع الخصال الإيجابية عند ظهورها. من هذه الناحية، ربما كان مسرفًا في التفاؤل حيال علم نفس الصغار، كما أقرَّ لاحقًا. وسرعان ما علَّمته تجربته كمعلم أن الأطفال قادرون على الأذى، وأن الأذى قد يزداد فظاعةً في حالة تركه دون عقاب، كما في رواية «أمير الذباب».

ولكن حتى في هذه الآراء المبكرة لم يكن راسل يؤيد مبادئ «سياسة عدم التدخل»، خاصَّة فيما لا يتعلق بالدراسة. وكان يرى أن اكتساب عادات الانضباط الذاتي والتركيز سيثبت أنها تدعم تحرير المرء على المدى الطويل، ومع أنه كان يؤكد أنه ينبغي إشراك الأطفال بجذبهم لأداء المهام المدرسية المطلوبة منهم بدلًا من إجبارهم عليها، فلم يكن معارضًا لدفعهم لبذل الجهد الشاق عند الضرورة. وقد قال إنه ينبغي أن يصبح الأطفال قادرين على القراءة وهم في سن الخامسة، وينبغي أن يبدءوا في تعلم لغتين مبكرًا، وقال إن أساسيات الرياضيات تتطلَّب التدريب، وإنه ينبغي توفير هذا التمرين على أساسيات الرياضيات للأطفال. وقال إنه من الممكن الاستمتاع بالشعر والمسرحيات في سن المدرسة الابتدائية، ولكن التذوق الحقيقي للأدب لا يأتي إلا في مرحلةٍ لاحقة، وإن تذوق الآداب الكلاسيكية والتاريخ والعلوم يأتي في مرحلة لاحقة أيضًا؛ وبحلول هذه المرحلة ينبغي أن يختار التلميذ — بعد تجربة هذه المواد الدراسية — المادة التي تثير اهتمامه أكثر، ويتابع دراستها بنفسه (عن التعليم، ص١٨، ١٦٢).

fig10
شكل ٤-٣: صُدِمَ راسل من مدى حدة التنمر الذي تشهده مدرسة بيكون هيل. وكان يرى ذلك كصورة مصغرة من السلوك الوحشي الذي ينتهجه الكبار، وكدلالة على أن الغلو في الوطنية والحرب من الحقائق المحتومة في الحالة البشرية.3

تتسم هذه الآراء المتعلقة بالمقرر الدراسي بطابع تقليدي بما يكفي. أما ما لم يكن تقليديًّا، وتسبَّب في فضيحةٍ في ذلك الوقت، فهو ما قاله راسل عن تعليم الجنس. وانطلقت شائعات فورية عن مدرسة بيكون هيل؛ وتقول إحدى تلك الشائعات إن أسقفًا وصل عند باب المدرسة فلما رأى طفلًا عاريًا صاح قائلًا: «يا إلهي!» فرد عليه الطفل العاري قائلًا: «لا يوجد إله.» ولكن في الواقع كل ما كان يؤكده راسل هو أنه لا ينبغي أن ندفع الأطفال إلى القلق بشأن أجسادهم؛ ومن ثَمَّ ينبغي إطلاعهم بهدوء على التفاصيل الأساسية للجنس قبل وصولهم إلى سن البلوغ، وأن أحد الأسباب الوجيهة التي تبرر البداية المبكرة هو منعهم من التعرف على الجنس بطرق غير لائقة ومحمومة. وكان راسل مترددًا حول ما إذا كان الاستمناء سلوكًا مفيدًا أم لا، وذلك في موقف تقليدي إلى حدٍّ يدعو إلى الدهشة، وهو موقف يتماشى مع الرأي الطبي السائد في ذلك العصر؛ لذلك لا يمكن اتهامه بالإدلاء بآراء خطيرة في هذا الموضوع على الأقل.

بعد خمس سنوات، ألَّف راسل كتاب «التعليم والنظام الاجتماعي» (١٩٣١)، وذلك بعد تجربته المباشرة في المدرسة التي أنشأها. وقد حافظ في هذا الكتاب على معظم آرائه الواردة في كتاب «عن التعليم»، ولكنه أصبح يصفها في هذه المرحلة ﺑ «النظرية السلبية» وأقرَّ بأنها بحاجة إلى إضافات. وتقول النظرية السلبية إن مهمة التعليم هي توفير الفرص والقضاء على العقبات حتى يتمكَّن الأطفال من التطور على طريقتهم هم. وأصبح راسل يرى في هذه المرحلة أن ما هو مطلوب أكثر هو أن يتلقَّى الأطفال تدريسًا إيجابيًّا من حيث الانسجام مع الآخرين. وقد روَّعته حوادث التنمر التي شهدتها مدرسة بيكون هيل، واعتبر ذلك كصورة مصغرة من السلوك القاسي الذي ينتهجه البالغون، بل الذي تنتهجه دولٌ بأكملها. وقد زادت التجربة من قلقه بشأن حقيقة أن انعدام التعقل والعدوانية من الصفات الفطرية، وجعلته ييأس من العالم؛ لأنها أوحت له بأن الغلو في الوطنية والحرب من الحقائق المحتومة في الحالة البشرية.

لم يبالغ راسل قط في توقعاته للتعليم. ولكن بالرغم من خيبة أمله بسبب تجربته العملية في التدريس، ظل يحتفظ بإيمانه الليبرالي الذي تميز به بأنه يجب أن تنعقد الآمال على التعليم أساسًا من أجل عالم أفضل. كان راسل في كتاباته الموجهة إلى القراء العاديين التي تتناول المسائل الاجتماعية والسياسية يحاول بلا كلل أن يؤديَ مهمة واحدة: وهي التعليم، وكان العالم بأكمله هو الفصل الدراسي. وبصرف النظر عن كل شيء، لم يفقد راسل الأمل قط في إمكانية تنشئة أشخاص مفعمين بالحيوية وشجعان ومرهفي الحس وأذكياء، فقط إذا حصلوا على الإرشاد المناسب في الطفولة.

السياسة

كان راسل يرى أننا إذا أردنا أن نفهم السياسة، فلا بد من أن نفهم السلطة؛ فكل المؤسسات السياسية يعود أصلها منذ زمن طويل إلى السلطة؛ في البداية، سلطة زعيم القبيلة أو الملك الذي كان يخضع له الناس بدافع الخوف؛ وفيما بعد، إلى النظام الملكي الذي دان الناس له بالولاء على سبيل العادة. وكان راسل يختلف مع من يرَوْن أن المجتمع المدني نشأ من «عقد اجتماعي» أصلي تخلى الأفراد بموجبه عن جزء من حريتهم في مقابل فوائد — أهمها الأمن — تمنحها الحياة الاجتماعية. وقال إنه إذا كان يوجد عقد أصلي فهو عقد بين أفراد الصفوة الحاكمة — فهو «عقد بين الفاتحين» قبلوا به بهدف تعزيز وضعهم وامتيازاتهم (السلطة، ص١٩٠).

ومن وجهة نظر راسل، يشير التاريخ إلى أن الملكية تشكل أول نمط من النظام السياسي المتقدم. وأخذت السلطة تتسرب تدريجيًّا خلال النظام التراتبي الاجتماعي من الملك — الذي كان يدَّعي أنه يتلقاها من الله، وذلك في الكثير من الأنظمة السياسية — إلى طبقة النبلاء والطبقة العليا الأرستقراطية، انتهاءً بأقل رجل في كوخه كربٍّ لأسرته. وكانت مزايا النظام — حين فرض ولاء المشاركين فيه — هو الترابط الاجتماعي، وضرره هو أن الحاكم المطلق ليس لديه ما يحفزه للحكم بدافع تحقيق النفع العام؛ ويوجد الكثير من الحالات التي أصبحت فيها تلك الأنظمة أنظمة مستبدة وقاسية (السلطة، ص١٨٩).

ويقول راسل إن النظام الذي يخلف الحكم الملكي هو حكم الأقلية؛ ويضم هذا النظام مجموعة متنوعة من الأنماط: الطبقة العليا الأرستقراطية أو طبقة الأثرياء أو جماعات الكهنة أو الأحزاب السياسية. وكان من وجهة نظر راسل أن حكم الأثرياء — ومن أمثلة ذلك المدن ذات الحكم المستقل في العصور الوسطى ومدينة البندقية (فينيسيا) إلى أن استولى عليها نابليون — قد نجح إلى حدٍّ ما، لكنه لم يعتقد أن رجال الصناعة في العصر الحديث حققوا النجاح نفسه (السلطة، ص١٩٣). وكما هي الحال مع الحكم الملكي حين يفرض الولاء، فإن كلًّا من الكنيسة وجماعات حكم القلة السياسية الحزبية يمكنها أن تؤديَ إلى الترابط الاجتماعي عن طريق تبادل المعتقدات أو الأيدولوجية، ولكن يكمن خطرهما الجسيم في أنهما تهددان الحرية. وجماعات حكم القلة هذه لا يمكنها التسامح مع من يختلفون مع وجهات نظرها، ولا يمكنها السماح بوجود مؤسسات قد تتحدى احتكارها للسلطة (السلطة، ص١٩٥-١٩٦).

ومع ذلك — كما ذكر راسل — فإنه ثَمَّةَ فائدة يمكننا أن نحصل عليها من حكم القلة — بشرط إمكانية ضمان الحصول على الحرية في ظلها — وهي أنه يسمح بوجود طبقة مترفة تنعم بقدرٍ وافر من وقت الفراغ. والسبب في ذلك هو أن التنعم بوقت الفراغ هو حالة تتيح فرصة ازدهار الحياة الذهنية اللازمة للأدب والتعلم والفن. كان هذا في الماضي يتطلَّب تضحية السواد الأعظم من الناس ممن كانوا مضطرين إلى الكدح لساعات طويلة حتى يتسنَّى للقلة الاستمتاع بالحريات الضرورية. ولكن من رأْي راسل أنه إذا استُغلت التكنولوجيا الحديثة، «لأمكننا — في غضون عشرين عامًا — القضاء على كل أشكال الفقر المدقع وعلى نصف الأمراض في العالم والرق الاقتصادي بأكمله الذي يكبل تسعة أعشار سكان بلادنا، ولأمكننا أن نملأ العالم بالجمال والسعادة ونضمن أن يسود السلام العالمي» (المُثل العليا السياسية، ص٢٧). وأدلى راسل بهذه التصريحات المثالية في عام ١٩١٧ — وذلك على سبيل إضاءة شمعة في ظلام الحرب — ولكنها لا تخلو تمامًا من الصواب؛ فعند الأخذ في الحسبان نجاح العلم واستخدامه بذكاء للأغراض السلمية، لا يوجد مبرر يمنع إتاحة المزيد من وقت الفراغ — ومن ثَمَّ المزيد من الظروف اللازمة لحياةٍ من الإبداع والنجاح — للمزيد من البشر. وتؤدي هذه الإمكانية إلى إضعاف الحجة المؤيدة للأبنية الاجتماعية التي تدعم طبقة تتمتع بقدرٍ وافر من وقت الفراغ، ويفسح المجال بدلًا من ذلك لدعم حجة قوية مؤيدة للديمقراطية.

ومع ذلك، لا تختلف الديمقراطية عن حكم القلة إلا من حيث الدرجة — حسبما يلاحظ راسل — لأنه حتى في ظل الديمقراطية لا يستطيع الإمساك بزمام السلطة الحقيقية إلا حفنة من الناس؛ مما جعل راسل متشائمًا حتى بشأن النموذج البرلماني البريطاني العتيد، الذي يكون فيه عضو البرلمان العادي في الواقع ليس إلا أداة للتصويت لحزبه. ولكن الصورة ليست كئيبة تمامًا فيما يتعلق بالديمقراطية، فمع أنها لا تستطيع ضمان الحكم الرشيد، فإنها تستطيع منع بعض أوجه الفساد، وذلك عن طريق ضمان عدم استمرار أي حكومة سيئة في السلطة بصفة دائمة (السلطة، ص٢٨٦).

وأفضل ما يميز الديمقراطية في رأي راسل هو ارتباطها ﺑ «مذهب الحرية الشخصية»، الذي كان يُقدِّره تقديرًا شديدًا. ويتألَّف المذهب من سمتين؛ السمة الأولى هي أن الحرية تحميها متطلبات مراعاة الأصول القانونية، وهي التي تحمي المرء من التوقيف والعقاب التعسفي. والسمة الثانية هي أنه توجد مناطق من التصرفات الفردية لا تكون خاضعة لسيطرة السلطات، بما في ذلك حرية التعبير والاعتقاد الديني. وهذه الحريات ليست بلا قيود؛ ففي زمن الحرب — مثلًا — قد يكون من الضروري تقييد حرية التعبير لصالح الأمن القومي. وأقرَّ راسل بأنه من الجائز فعلًا وجود قدرٍ كبير من التضارب بين مصالح المجتمع ككلٍّ ومصالح الفرد الذي يرغب في الحصول على أقصى قدرٍ من الحرية. وقال: «ليس من الصعب على حكومة معينة أن تقر بحرية الفكر حين تستطيع الاعتماد على ولاء الفعل، ولكن حين لا تستطيع ذلك، يصبح الأمر أصعب» (السلطة، ص١٥٥).

إن مسائل التنظيم السياسي — في رأي راسل — هي مسائل تتعلق بالتنظيم الاقتصادي بدرجةٍ مهمة. كان راسل في البداية قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى يناصر حرية التجارة، وظل مؤيدًا لنظام الاقتصاد الحر لسببٍ وجيه هو أنه كان معارضًا للتراكم المفرط للقوة الاقتصادية تحت سيطرة أي جهة واحدة بعينها، سواءٌ أكانت الرأسماليين أو الحكومات. لم يكن راسل يمانع في أن يصبح الناس أغنياء إذا كانوا قد كسبوا المال بكدهم، ولكنه كان يعارض فكرة الثروة التي تئول إلى المرء بالوراثة. ومع أنه كان مؤيدًا للاشتراكية طوال معظم حياته، فقد كان ذلك على نحوٍ متحفظ للغاية. وقال إن دور الحكومة في الشئون الاقتصادية هو الحماية من المظالم الاقتصادية. ولكن هذا لا يتحقق على أفضل وجه بأن نعهد بملكية وسائل الإنتاج أو التحكم فيها للسيطرة الحكومية، كما في التجربة الشيوعية في البلدان التي طبقت النموذج السوفييتي. بدلًا من ذلك، جذبت راسل ما يُطلق عليه في فرنسا مذهب النقابية وفي إنجلترا الاشتراكية النقابية، وهو الرأي القائل بأنه ينبغي أن يتولى إدارة المصانع العمال العاملون فيها، وينبغي تنظيم الصناعات إلى نقابات. ومن المفترض أن تدفع هذه النقابات ضريبة للدولة في مقابل المواد الخام التي تستخدمها، على أن تتمتع من ناحية أخرى بحرية إعداد الأجور وظروف العمل وبيع منتجاتها. علاوةً على ذلك، من المفترض أن تنتخب النقابات فيما بينها هيئة تشريعية، وأن ينتخب مستهلكو منتجات هذه النقابات مجلسًا نيابيًّا، على أن تصبح الهيئتان معًا هما الهيئة الوطنية التي تتمتع بسلطة عليا، وهي التي تحدد الضرائب وتقوم مقام أعلى محكمة في البلاد مهمتها الفصل في مصالح العمال والمستهلكين على حدٍّ سواء (الطريق إلى الحرية، ص٩١-٩٢). ولضمان ألا يخل وجود النقابات بالحرية، ولا سيما حرية التعبير، اقترح راسل دفع أجر زهيد كحدٍّ أدنى للجميع بصرف النظر عما إذا كان الفرد يعمل أم لا، وذلك حتى يتمكَّن كل فرد من الاعتماد على نفسه إذا اختار ذلك. أما من يريدون الحصول على أجر يزيد عن أجر الحد الأدنى فمن المفترض أن يعملوا، وكلما زاد عملهم ازداد دخْلهم. واستبعد راسل الانتقاد البديهي القائل بأنه سيصعب تنفيذ الخطة إذا اختار الناس ألا يعملوا — ومن ثَمَّ لن ينتجوا أي إيرادات ضريبية ومع ذلك سيطلبون الحصول على أجر الحد الأدنى المقرر لهم — وذلك بقوله إن معظمهم سينجذب إلى العمل بفعل حافز الثراء؛ ومن المفترض على أي حال أن تصبح ظروف العمل والحياة عمومًا أفضل في ظل الاشتراكية النقابية؛ لذلك لن يمانعوا في تقبل ذلك (المرجع السابق، ص١١٩-١٢٠).

إن المبدأ الذي يقع في صلب موضوع الاشتراكية النقابية هو تفويض تلك السلعة السياسية الأساسية، ألا وهي «السلطة»؛ ففي رأي راسل، يؤدِّي تركيز السلطة — وخاصَّةً تحت سيطرة الحكومة — إلى زيادة احتمال الحرب؛ ومن ثَمَّ فمن المستحسن نشرها بين الكثير من الجماعات والأفراد. «يجب أن تكون الجهة التي تتولى تنفيذ الأغراض الإيجابية المتطورة للدولة — بالإضافة إلى الحفاظ على النظام — ليست الدولة نفسها، بل بقدر الإمكان المنظمات المستقلة التي ينبغي تركها حرة تمامًا ما دامت تُرضي الدولة من حيث عدم تقصيرها عن الوفاء بحدٍّ أدنى ضروري معين» (مبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ص٧٥). واستنبط راسل وجهة النظر هذه في وقتٍ مبكر نسبيًّا في فكره السياسي، وظل مؤمنًا بها من ذلك الحين فصاعدًا. وفي كتاب «السلطة» أخذ يؤكِّد أنه ثَمَّةَ ضرورة أكثر من أي وقتٍ مضى تحتِّم اتخاذ إجراءات وقائية للحماية من الاستبداد الرسمي والدعاية السياسية الموجهة والشرطة، وهي العناصر التي قدم بشأنها الاقتراح الأصلي بوضع أمناء على الأمناء فعليًّا؛ ومفاده أن تتولى قوة شرطية تنفيذ المهام الاعتيادية مثل جمع الأدلة اللازمة لتوقيف من يُفترض أنهم مجرمون ومحاكمتهم، فيما تتخصَّص الأخرى في جمع الأدلة التي تُثبِت براءة هؤلاء الأشخاص أنفسهم.

ومن الأفكار الملازمة لفكرة إلغاء المركزية في آراء راسل السياسية عداؤه للغلو في القومية؛ فقد هاجم القومية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية باعتبارها «فكرة سخيفة» و«أخطر نقيصة في عصرنا»، واعتبرها تهدد بالقضاء على أوروبا. وبعد الحرب العالمية الثانية رأى أنها تكرر نفسها في الاتحاد السوفييتي وأمريكا، فيما عدا أنها في هذه المرة — نظرًا لأن كلتا الدولتين تمتلك أسلحة دمار شامل — كانت أخطر بكثير. وكان يؤكد أن العلاج الوحيد الموثوق للغلو في القومية والتهديد الذي تمثله هو الحكومة العالمية.

لا يبدو هذا الرأي في ظاهره متسقًا مع آراء راسل المتعلقة بإلغاء المركزية، وكان يقر بخطر وضع القوة العسكرية تحت سيطرة سلطة عالمية واحدة. ولكنه كان يرى أن ذلك أفضل بكثير من اندلاع المزيد من الحروب العالمية التي من المحتمل أن تُستخدم فيها أسلحة ذات قدرة تدميرية تزداد فتكًا، مع احتمال تدمير الحياة على الأرض. كان هذا التصور يبدو لراسل شرًّا مريعًا إلى حدٍّ جعله يرى أن أي شيء تقريبًا أفضل منه. ولكن ليس من الضروري أن تكون الحكومة العالمية هي فقط أهون الشرور؛ فمن المفترض أن يكون من الوسائل الناجحة للحفاظ على درجةٍ من السيطرة عليها تفويضُ مقدار السلطة نفسه — في كل الشئون فيما عدا الشئون العسكرية — إلى أصغر الوحدات المحلية. ومع ذلك، ففي النهاية، كما قال راسل:

سيكون لزامًا على الدولة العالمية أو اتحاد الدول — إذا أردنا لها أن تنجح — أن تَفْصِل في النزاعات، ليس بالأحكام القانونية التي من المفترض أن تطبقها محكمة جرائم الحرب في لاهاي، بل بقدر الإمكان على النحو نفسه الذي من المفترض أن تحسمه الحرب. وينبغي أن تكون وظيفة السلطة هي جعْل الاحتكام للقوة أمرًا غير ضروري، وعدم إصدار أي أحكام تناقض الأحكام التي من المحتمل التوصل إليها بالقوة.

(مبادئ إعادة البناء الاجتماعي، ص٦٦)

كيف يمكن إنشاء حكومة عالمية؟ من غير المحتمل أن ترغب الحكومات القومية في التخلي عن سيادتها في سبيل تصور مثالي من هذا القبيل. ومن وجهة نظر راسل، فإن الطريقة الأوفر حظًّا هي أن قوةً واحدةً — أو تكتلًا من القوى — ستتمكن من السيطرة على العالم في نهاية المطاف، وستتألَّف منها الحكومة العالمية بحكم الواقع. وفي سياق الحرب الباردة، من الممكن اعتبار منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلف وارسو — أو على نحوٍ أدق، المسئولين الأساسيين على رأس كلٍّ منهما — يتنافسان على تحقيق هذه النتيجة. وشبَّه راسل هذا الأمر بظهور الحكومة المنظمة في العصور الوسطى؛ إذ يستولي ملكٌ ما على السلطة، ثم يبدأ الحكم الملكي — بحكم عملية التطور — في الخضوع تدريجيًّا للسيطرة الديمقراطية. ورأى راسل أن مثل هذه العملية قد تحدث في حالة الحكومة العالمية. وقال: «سيتحقق إحلال النظام محل الفوضى في العلاقات الدولية — في حالة حدوثها — عن طريق دولةٍ ما أو مجموعةٍ من الدول تتمتع بقوةٍ عظمى. ولن يتسنَّى أن تبدأ عملية التطور صوب الشكل الديمقراطي من الحكومة العالمية إلا بعد تأليف هذه الحكومة الموحدة.» كان يرى أن هذه الفكرة قد تستغرق مائة عام، وفي أثناء ذلك ستكون الحكومة العالمية قد بدأت في اكتساب «درجة من الاحترام تمكِّنها من إرساء سلطتها على القانون والرأي بدلًا من القوة» (آمال جديدة لعالم متغير، ص٧٧-٧٨).

من الموضوعات الرئيسة في فكر راسل الذي يتناول السياسةَ والحكمَ مشكلةُ الموازنة بين الحرية الفردية والحاجة إلى تحقيق السلام العالمي. ولكن المنافسة بينهما ظالمة في النهاية. فلا سبيل إلى هذه الحرية، بل إنه حتى إمكانية هذه الحرية تنتفي، في حالة القضاء على البشرية بفعل الحرب. وهكذا كان راسل مستعدًّا لتقبُّل الإخلال بالحرية أو إعاقتها لصالح إنقاذ البشرية. كان بالطبع يرجو إمكانية نيل السلام والحرية معًا؛ ولكن تجربته مع البشر أجبرته على أن يتقبل أن الجشع والقسوة وانعدام التعقل وغيرها من الخصال البشرية الشائعة تجعل ذلك أمرًا غير مرجح. وكتب راسل أن هذه الفكرة كثيرًا ما ألقت به في غياهب اليأس. وهو الإحساس نفسه الذي انتابه إبان الحرب العالمية الأولى، حين سيق مئات الآلاف من الرجال إلى مذبحة مشتركة بلا طائل في أوحال أوروبا. وكم انتابه الإحساس نفسه على نحوٍ أشد بعد الحرب العالمية الثانية، حين لم يعد الضحايا الذين من الممكن أن يلقَوْا مصرعهم بفعل الأسلحة النووية فقط من الجيوش، أو حتى الدول، بل — على أسوأ الفروض الممكنة — سكان العالم بأكمله. ومن ناحيةٍ ما، من المذهل كيف أن قلة قليلة فقط هي التي كانت تملك من الصفاء ما يتيح لها رؤية هذه الحقيقة ومن القدرة على التخيل ما يتيح لها الإحساس بفظاعتها. ويستحق راسل الثناء لأنه كان من بين تلك القلة التي امتلكت الأمرين.

الحرب والسلام

عارض راسل حرب البوير والحرب العالمية الأولى، وأيد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وبذل جهودًا مضنية في مناهضة إمكانية اندلاع حرب عالمية ثالثة وشيكة وفي مناهضة حرب فيتنام القائمة فعلًا. وقد شن حربًا على الحرب حتى وفاته وهو يناهز ٩٧ عامًا. وقوبلت أنشطته المناهضة للحرب في الفترة المبكرة واللاحقة من حياته بالخصومة، وتسببت في دخوله السجن. ومع ذلك لا أحد يستطيع الآن أن يقول إنه كان مخطئًا في اتخاذ المواقف التي اتخذها؛ فحين تتوقف مشاعر الغلو في القومية والشوفينية، ويبدأ إحصاء التكاليف الباهظة ومقارنتها بتقييمٍ أكثر واقعية للأسباب التي أدَّت إلى تكبُّدها أساسًا، يبدأ الناس في إدراك الحرب بأثر رجعي كما أتيح لراسل إدراكها آنذاك بفضل عبقريته.

fig11
شكل ٤-٤: هذا الرسم الكاريكاتوري من صحيفة إيفنينج ستاندرد يشير إلى حكم السجن لمدة أسبوع الذي صدر ضد راسل في سبتمبر من عام ١٩٦١، بعد إدانته بتهم تتعلق بالنظام العام وُجهت إليه بعد خروج مظاهرة كبيرة لمؤيدي السلام في وسط لندن إحياءً لذكرى هيروشيما.1

لم يغير راسل رأيه قط في أن الحرب العالمية الأولى كانت غير ضرورية؛ فلم يكن ثَمَّةَ خلاف فعلًا بين ألمانيا وبريطانيا في عام ١٩١٤ فيما عدا الكرامة الوطنية وبعض مشاعر الغضب القابلة للحل بشأن خلافات استعمارية. ورأى راسل أنه كان يمكن تجنُّب القتال بالتفاوض؛ مما كان سيهدِّئ من انزعاج ألمانيا المبَرَّر بشأن عدم نجاحها في السباق الاستعماري كما كانت ترجو. ولكن كان القائمون على وزارات الخارجية الأوروبية من الأرستقراطيين الذين تحرِّكهم اعتبارات الكرامة الوطنية أكثر من اعتبارات المنطق السليم.

أخذ معارضو رأْي راسل بشأن الحرب العالمية الأولى يؤكدون أن ألمانيا كانت مُذنبة بالعدوان والنزعة التوسعية، وأنها كانت تسعى إلى الهيمنة على أوروبا؛ مما كان يهدد حرية بريطانيا؛ لأن ألمانيا — إذا انتصرت — كانت ستصبغ كل شيء بطابعها الاستبدادي والبيروقراطي؛ ومن ثَمَّ كان لدى بريطانيا دافع شرعي لدخول الحرب. لم يقبل راسل الدافع المتعلق بالتهمة الملصقة بألمانيا ولا النتيجة المرجحة التي كانت ستنشأ عن رفض بريطانيا دخول الحرب؛ وكان يرى أن النتيجة كانت ستصير على الأرجح أشبه بالصراع بين فرنسا وبروسيا الذي نشأ في عام ١٨٧١، والذي كان قصير الأمد وحاسمًا. ولكن حتى لو انتصر القيصر — وهو ما كان سيصير حدثًا سيئًا، ولكن ليس بدرجة السوء التي تتسم بها الحرب نفسها — لكانت النقطة الأساسية في رأيه هي أن دخول الحرب يتطلب وجود مبرر وجيه جدًّا، وأن ذلك المبرر لم يكن موجودًا في عام ١٩١٤.

وفي عام ١٩٣٩، اختلفت الأمور اختلافًا كبيرًا. فإبان ثلاثينيات القرن العشرين، أصبح راسل في الواقع ممن يسترضون العدو اجتنابًا للعدوان، وذلك كما يشهد كتابه «أين الطريق إلى السلام؟» الذي نُشر في عام ١٩٣٦. وقد رفض راسل السماح بإعادة نشر الكتاب لأنه بحلول الوقت الذي انتهى فيه من الكتاب أَصبح يشعر بأنه يتسم بالنفاق، وأن ظروف ثلاثينيات القرن العشرين تختلف اختلافًا كبيرًا عن ظروف عام ١٩١٤:

تقبَّلتُ على مضضٍ إمكانية تفوُّق ألمانيا تحت حكم القيصر. ورأيت أن هذا — مع أنه كان سيصير حدثًا سيئًا — ما كان سيصبح بدرجة السوء نفسها التي يتصف بها اندلاع حرب عالمية والآثار المدمرة المترتبة عليها. ولكن ألمانيا تحت حكم هتلر كانت موضوعًا مختلفًا؛ إذ أدركتُ أن النازيين كريهون للغاية؛ فهم قساة ومتعصِّبون وأغبياء. وشعرت بأنهم يتسمون بالشناعة أخلاقيًّا وفكريًّا من وجهة نظري.

(السيرة الذاتية لبرتراند راسل، ص٤٣٠)

وذكر راسل أن فكرة الهزيمة على أيدي هؤلاء «غير محتملة»، وقال: «قررت أخيرًا عن وعيٍ وبلا ريبٍ أنني يجب أن أؤيد ما هو ضروري لتحقيق الانتصار في الحرب العالمية الثانية، مهما كان تحقيق الانتصار صعبًا، ومهما كانت عواقبه مؤلمة» (المرجع السابق).

وأدَّت النهاية المرعبة للحرب في المحيط الهادي — وذلك بإلقاء قنبلتين ذريتين على مدينتين يابانيتين — إلى تنبيه راسل على الفور أن شيئًا جديدًا تمامًا قد دخل إلى المعادلة. وألقى خطبة وجَّهها إلى مجلس اللوردات في نوفمبر من عام ١٩٤٥ حذَّر فيها أقرانه من الأخطار؛ ففي البداية كان يرى أن أمريكا ينبغي أن تستخدم تفوُّقها في الأسلحة النووية لإجبار الروس على عدم تطويرها. وقد فسَّر الناس ما قاله على أنه طلبٌ من راسل بأن تشن الولايات المتحدة هجومًا وقائيًّا بالقنابل الذرية على روسيا، ولكنه لم يقصد ذلك؛ إذ كان يرى وجود فرصة أمام الولايات المتحدة لتأسيس حكومة عالمية عن طريق تفوُّقها العسكري، وحثها على القيام بذلك. ومع أنه كان يرى أن أمريكا قد أخطأت في الكثير من الأمور، فقد كان يفضل موقفها الليبرالي والديمقراطي عمومًا على استبداد الاتحاد السوفييتي. وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية ازداد عداء راسل للاتحاد السوفييتي، والذي كان كبيرًا من قبل كنتيجة لزيارته إلى هناك في أوائل العشرينيات من القرن العشرين. ومن دلائل استيائه من حرب فيتنام بعد ذلك بخمسة عشر عامًا فحسب أنه أصبح يشجب الأمريكيين بالعبارات العنيفة نفسها التي شجب بها السوفييت. ومع ذلك لم يكن ذلك التغير في موقفه مفاجئًا؛ إذ تسببت المكارثية في الولايات المتحدة، والسياسة الخارجية الأمريكية العدوانية المعادية للشيوعية والمتأثرة بالمكارثية، في إقناعه بأن الأمريكيين يمثلون تهديدًا أكبر على السلام من الاتحاد السوفييتي. وأسهمت أزمة الصواريخ الكوبية في عام ١٩٦١ في تأكيد رأيه. وأصبح منذ ذلك الحين فصاعدًا معاديًا لأمريكا بكل تصميم.

أدَّى حدثان إلى تغيير نظرة راسل حيال موضوع الأسلحة الذرية؛ الأول: اقتناء السوفييت للقنبلة الذرية في عام ١٩٤٩، ثم التفجير الذري التجريبي الذي أجرته بريطانيا في جزيرة بيكيني المرجانية الاستوائية في عام ١٩٥٤. وقدَّم راسل كرد فعل للحدث الثاني برنامجًا إذاعيًّا شهيرًا أُذيع في عيد الميلاد، عنوانه «خطر الإنسان»، حذَّر فيه بريطانيا والعالم من الأخطار الرهيبة التي أصبح الجميع مُعرَّضًا لها في هذه المرحلة. كان هذا البرنامج الإذاعي نقطة تحوُّل؛ إذ أرَّخ للبداية الحقيقية للحملات المناهضة لأسلحة الدمار الشامل. وصل راسل سَيْلٌ من الرسائل. واستخدم راسل قوة الدفع التي نتجت عن برنامجه، فنظَّم عريضة دولية وقَّع عليها علماء مرموقون. ولم يكفَّ قط عن مطالبة بريطانيا بأن تتخلص من أسلحتها النووية، وأكَّد أنَّ من أسباب القيام بذلك تقديمَ مبادرة أخلاقية للدول الأخرى لتحذوَ حذوها.

في خمسينيات القرن العشرين تغيرت آراؤه المتعلقة بكيفية إدارة الخطر الذي أصبح العالم يواجهه في هذه المرحلة، وذلك حين زاد الموقف الدولي سوءًا وباءت مساعيه بالفشل. أخذ راسل يكتب ويقدم برامج إذاعية، فضلًا عن العريضة التي قدَّمها نَظَّمَ مؤتمرًا جمع فيه علماء من كلا جانبَي الستار الحديدي، وشارك في تأسيس «الحملة المؤيدة لنزع السلاح النووي» وأصبح أول رئيس لها. وحين تحطَّمت هذه الوسائل السلمية والمنطقية أكثر من مرة على صخرة التعنُّت الحكومي، اشتدَّ يأسه؛ ومن ثَمَّ استقال من الحملة المؤيدة لنزع السلاح النووي، وانضم إلى «لجنة المائة» التي تتَّسم بقدرٍ أكبر من العنف، التي شنت حملة عصيان مدني. وتسببت الحملة في صدور حكم بالسجن عليه للمرة الثانية، بعد الحكم الأول ﺑ ٤٢ عامًا. وخلال كل ذلك لم يكن هناك مجال كافٍ للتنظير؛ لأن راسل شعر أنه لم يكن لديه وقت لذلك؛ بل ما كان ضروريًّا هو اتخاذ إجراءات فعلية.

في سنوات راسل الأخيرة انصبَّ اهتمامه على حرب فيتنام. وكان في ذلك الوقت يحيط به آخرون استغلوا اسمه ووضعوه على مطبوعات وبيانات صحفية من الواضح — من أسلوبها اللغوي ومن لهجتها — أنها من المستحيل أن تصدر عنه شخصيًّا، وأخذ يهاجم الولايات المتحدة وتحديدًا المنظومة العسكرية الصناعية والمخابرات المركزية الأمريكية، واتهمهما بالعدوان في فيتنام وبارتكاب جرائم حرب. واشترك راسل مع جان بول سارتر وآخرين في إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية، بهدف محاكمة أمريكا على أنشطتها في فيتنام. رأى الناس آنذاك أن التُّهم التي وجَّهتها المحكمة إلى الولايات المتحدة كانت مبالغًا فيها. وعند الكشف عن الملفات الحكومية الأمريكية لاحقًا، اتضح أن الكثير من التُّهم صحيح.

يجمع بين معارضة راسل للحرب العالمية الأولى ومعارضته لحرب فيتنام اتِّساق ملحوظ من ناحية واحدة على الأقل. كان راسل يرى أن أيًّا من الحربين لم تكن تنطوي على خطر يهدد الخير، وأن الحربين كانتا تدفعهما أحطُّ غرائز في البشر؛ وهي غرائز القسوة والحماقة والعدوانية، التي ما إن تتحكم في البشر حتى تبيح أي شيء: قصف النساء والأطفال بالقنابل، واستخدام المواد الكيماوية السامة، وإطلاق الدعاية السياسية والأكاذيب الموجهة للاستهلاك المحلي. ولا بد أن راسل قد اكتشف في نهاية حياته المديدة كم من المروع أنه فيما بين عام ١٩١٤ و١٩٧٠ ازدادت أسلحة الحرب فتكًا وتدميرًا أكثر من أي وقت مضى، بينما لم يتبدل البشر مثقال ذرة.

هوامش

(1) William Ready Division of Archives and Research Collections, McMaster University, Canada.
(2) © Bettmann/Corbis.
(3) © FPG/Telegraph Colour Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤