الفصل الخامس

تأثير راسل

إذا كنت ترغب في رؤية أثر راسل، تلفَّت حولك وتأمَّل الفلسفة الموجهة إلى عامة الناس الصادرة باللغة الإنجليزية منذ السنوات التي تفصل الحربين العالميتين. وتأمل كذلك المنطق وفلسفة الرياضيات والمناخ الأخلاقي المختلف في العالم الغربي في القرن العشرين، والمحاولات الرامية إلى إعاقة انتشار الأسلحة النووية. يجب أن يشير التاريخ الكامل لأيٍّ من هذه الموضوعات إلى راسل.

في بعض هذه المجالات يكون راسل مشاركًا من بين مشاركين آخرين؛ فعلى سبيل المثال، لم يكن وحده هو المسئول عن إحداث تغيير جذري في الأخلاق في القرن العشرين. لكنه كان أقرب إلى دائرة الأضواء في حملة نزع السلاح النووي؛ إذ كان من المشاركين في حركة مناهَضة الحرب التي نشأت إبان الحرب العالمية الأولى.

ولكن مكانته في الفلسفة محورية، حتى إنه — كما ذكرتُ في الفصل الأول — أصبح تقريبًا السمة المشتركة في تاريخ الفلسفة. ويواصل خلفاؤه من الفلاسفة عملهم الفلسفي بأسلوبه؛ إذ يتصدَّوْن للمشكلات التي حددها أو التي منحها شكلًا معاصرًا باستخدام الأدوات والأساليب التي ابتكرها، وكلها تنسجم مع الأهداف والافتراضات التي أقرها. ومن دلائل التغلغل غير العادي لتأثيره أن الكثيرين من بين الأجيال الشابَّة من فلاسفة القرن العشرين نادرًا ما يدركون أن الفضل في كل هذا يعود إليه.

قال الفيلسوف جول فييمان إن الفلسفة المعاصرة بدأت بكتاب «مبادئ الرياضيات» من تأليف راسل. والفيلسوف الأمريكي المعروف دبليو في كواين يقتبس هذا القول، ويَصوغه في استعارة: فهذا العمل من وجهة نظره هو «جنين فلسفة القرن العشرين» (دبليو في كواين، «تعليقات لندوة تذكارية»، في كتاب «برتراند راسل»، من تأليف بيرز، ص٥). وكان كواين نفسه قد انجذب إلى الفلسفة حين قرأ أعمال راسل؛ ففي شبابه تعلَّم المنطق والعلم والفلسفة لأول مرة من كُتُب راسل؛ وشعر مثل الكثيرين بقوة الجذب التي تتمتع بها، وأغرته كتبه بدراسة المنطق وفلسفة الرياضيات، ثم بدراسة نظرية المعرفة وفلسفة العلم. كتب كواين: «تردد صدى النبرة العلمية الحقيقية لمنطق راسل في تناوله لنظرية المعرفة فيما يتعلق بالمعرفة الطبيعية. وكان الصدى واضحًا لا سيما في عام ١٩١٤، في كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وأسهم ذلك الكتاب في إشعال حماس بعضنا — وخصوصًا رودولف كارناب — بآمال جديدة صوب مذهب الظواهر» (المرجع السابق ص٢-٣). ويضيف كواين إلى ذلك الكتاب المحاضرات التي تتناول مذهب الذرية المنطقية وكتابَي «تحليل العقل» و«تحليل المادة» باعتبارها من الأعمال المشتملة على بذور التطور؛ إنها وثيقة الصلة بالفلسفة العلمية الغربية للقرن العشرين (المرجع السابق). وفلسفة راسل وثيقة الصلة أيضًا بالمنطق الذي قدَّمه — «فاسم راسل ملازم للمنطق الرياضي، الذي يدين له بالكثير» — لا سيما نظرية الأوصاف ونظرية الأنماط.

ابتكر راسل نظرية الأنماط للتغلب على التناقضات الظاهرية التي اكتشفها وهو يحاول إرساء الرياضيات على أسس منطقية. وأثناء جهوده لحل هذه المشكلة ناقش عددًا من البدائل، بما فيها بديل كان من قبيل المفارقة له الفضل في تأسيس نظرية المجموعات — في رؤيةٍ استنبطها إرنست زيرميلو — التي حلَّت محلَّ النظرية التي ابتكرها راسل في نهاية الأمر. ولكن نظرية الأنماط التي وضعها كان لها تأثير هائل في الفلسفة. وفكرتها المحفزة استعانَ بها أتباع الوضعية المنطقية إبان العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين في شنِّ هجومهم على الميتافيزيقا، وطبَّق جيلبرت رايل رؤية مختلفة منها للتخلص من «أخطاء الفئات»، ومنها الخطأ الذي يمكن أن يقع فيه الشخص بظنه أن جامعة أكسفورد عبارة عن كيان إضافي لكل الكليات والمؤسسات التي تتألف منها الجامعة. وحسب وجهة نظر كواين، أثَّرت نظرية الأنماط أيضًا في إدموند هوسرل، وفي عالِمَي المنطق البولنديَّين العظيمَين ستانيسلاف ليشنييفسكي وكازيمييش آيدوكيفيتش (كتاب «راسل»، من تأليف بيرز، ص٤)، إضافةً إلى جوانب أخرى من منطق راسل.

ولا بد من إضافة أهمية نظرية الأوصاف إلى ذلك. يقول كواين:

كانت نظرية الأوصاف المنطقية التي وضعها راسل مهمة من الناحية الفلسفية بفضل علاقتها المباشرة بالمشكلات الفلسفية المتعلقة بالمعنى والإحالة، وبفضل قيمتها التوضيحية كنموذج للتحليل الفلسفي. أنشأت نظرية راسل عن الأنماط المنطقية اتجاهات جديدة في آنٍ واحد في ميتافيزيقا الفئات الوجودية، وفي الوضعية المنطقية المناهضة للميتافيزيقا علاوةً على اللغويات البنيوية، وذلك في نموذجٍ لتطبيق الفلسفة على مجال بعيد. فهل من عجب أن يرى فييمان أعمال راسل في مجال المنطق باعتبارها تبشِّر بالفلسفة المعاصرة؟

(كتاب «راسل»، من تأليف بيرز، ص٤-٥)

حين تُوفِّي راسل وجَّه جيلبرت رايل خطاب تأبين إلى الجمعية الأرسطية — وهي أهم نادٍ فلسفي بريطاني — التي كثيرًا ما قرأ فيها راسل أوراقه البحثية بدايةً من عام ١٨٩٦. وأشار رايل فيه إلى النواحي التي منحت أعمال راسل — في رأيه — فلسفة القرن العشرين «مسارها بأكمله» (خطبة «برتراند راسل: ١٨٧٢–١٩٧٠»، أُعيدَ طبعها في «مجلد برتراند راسل التذكاري»، من تأليف روبرتس). وكان من تلك النواحي «أسلوب جديد من الأعمال الفلسفية أدخله راسل — أعتقد على نحوٍ فردي — إلى سُبل الفكر الفلسفي» (المرجع السابق ص١٦). كان هذا الأسلوب يقوم على استخدام الحالات الصعبة لاختبار الفرضيات الفلسفية، وهو شكل من التجريب المتعلق بالمفاهيم يهدف إلى إخضاع الادِّعاءات ومفاهيم الفلسفة للفحص الدقيق. فعلى سبيل المثال، يعرض راسل في بحثه المعنون «المنطق الرياضي على أساس نظرية الأنماط» سبعة تناقضات تتطلب حلًّا تقدمه نظرية كفء، ويقدم الحل كاختبار لكفاءة نظرية الأنماط التي وضعها، وينجح ذلك الحل مع المتناقضات كلها. وأصبح هذا الأسلوب الآن منهجًا فلسفيًّا مألوفًا. إن الغرض من ابتكار التجارب الفكرية هو اختبار وجهة نظرٍ ما، كما في الأخلاق، مثلًا، حيث يُطبق مبدأ ما على مجموعة متنوعة من الحالات التي تزداد صعوبتها لمعرفة ما إذا كان المبدأ يلائمها؛ أو في مناقشات المفهوم الجدلي والميتافيزيقي المهم للهوية الشخصية، حيث تُبتكر «اختبارات صمود» لمعرفة ما إذا كان علينا أن نعتبر الأشخاص الذين يدخلونها ويخرجون منها هم «الأشخاص أنفسهم».

fig12
شكل ٥-١: لودفيج فيتجنشتاين (١٨٨٩–١٩٥١)، تلميذ راسل أثناء دراسته في كامبريدج قبل الحرب.1

ولكن — حسب وجهة نظر رايل — الأهم من ذلك هو الطريقة التي أدخل بها راسل فرع المنطق الصوري إلى الفلسفة. «كان الفضل يعود إليه — كما يعود إلى فريجه ووايتهيد بدرجة أقل — في أنه سرعان ما أصبح يعتبر الحصول على قدرٍ من التمرين على المنطق الصوري في فلسفة ما بعد أرسطو من الشروط الضرورية لمن سيصبح فيلسوفًا» (المرجع السابق، ص١٩). وكان وضع رايل يتيح له أن يعرف ذلك؛ إذ كان له دور أساسي في ضمان إتاحة ذلك في المقرر الدراسي في جامعة أكسفورد. ومبرر ضرورة التمرين على المنطق هو أنه يرسي الدقة ويبشر بفرص للفهم من النوع الذي على غرار نظريات راسل عن الأوصاف والأنماط. ومثل كواين، يشيد رايل بالسبب الثاني باعتباره مهمًّا أهمية خاصة في توضيح كيف يمكن التفرقة بين المنطق السليم والهراء، وبهذه الطريقة — حسب وجهة نظره — أثر تأثيرًا منفصلًا في فيتجنشتاين في بداياته وفي أتباع الوضعية المنطقية.

رشَّح فييمان أول محاولة مهمة لراسل تهدف إلى إمداد الرياضيات بأسس منطقية لتكون بوتقة الفلسفة التحليلية. ولا شك أن هذا صحيح، بمعنى أن راسل حدد فيها — في شكل مبدئي وأحيانًا غير مكتمل — المناهج والمشكلات الأساسية. ولكن كواين على حق أيضًا في أن يقول إن الفلسفة التحليلية تعتمد تمامًا على كل أعمال راسل — كتبه وأوراقه البحثية — في الفترة ما بين عام ١٩٠٠ وعام ١٩٣٠ تقريبًا. ومع ذلك، تظهر اللبنات الأولى لأعمالٍ لاحقة في بعض هذه المواضع على نحوٍ أوضح؛ فلدينا مثلًا الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، بعنوان «المنطق باعتباره جوهر الفلسفة». وهذا الفصل بمثابة وثيقة توضيحية بطريقتين؛ أولًا: أنه يوضح أشد توضيح أهداف ودوافع ومناهج أسلوب التحليل عند راسل. وثانيًا: أنه يحتوي على وصف مختصر للمشروع الفلسفي الذي اتخذه فيتجنشتاين في كتابه «رسالة منطقية فلسفية»، ويشرح كيف تنشأ الأفكار وتتطور.

يبدأ راسل الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» بالتأكيد على أن مشكلات الفلسفة كلها تُختزل — ما دامت فلسفية بحق — في مشكلات المنطق (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص٤٢). ويقصد بهذا أنه يمكن توضيح المشكلات الفلسفية وحلها بتطبيق أساليب المنطق الرياضي الأوَّلي؛ مما «يساعدنا على التعامل بسهولة مع المزيد من المفاهيم المجردة بما يفوق قدرة الاستدلال اللفظي على إحصائها؛ وهي تقترح افتراضات مثمرة ما كان لها أن تخطر على بالنا في ظروف أخرى؛ وهي تساعدنا على أن ندرك بسرعةٍ أصغرَ مقدارٍ من المواد يمكن به بناء صرح منطقي أو علمي» (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص٥١). وبصفةٍ خاصة، فإن نظريات الإدراك والمعرفة التي يواصل تقديمها في الفصول التالية من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» «ألهمها المنطق الرياضي ولم يكن من الممكن تصوُّرها من دونه قط» (المرجع السابق). والعامل المهم هو الفكرة القائلة بأن المنطق يساعدنا على تحديد «صور» الوقائع والقضايا التي تعبر عنها. إن نموذج التحليل الذي يحلُّ مشكلة كبيرة عن طريق الكشف عن صورة القضية هو — بطبيعته — نظرية الأوصاف. وحتى قبل ذلك استخدم راسل التحليل الصوري لإثبات أن ليس كل القضايا تتخذ صورة الموضوع والمحمول، بل إنها تكون ارتباطية؛ وتمكَّن هذا التحليل وحده — من وجهة نظره — من دحض مذهب المثالية وتبرير الافتراض المتعلق بالتعددية.

وفي سياق مناقشة العلاقات في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، يقول راسل إنه لا يمكن فهم العلاقات جيدًا إلا في وجود تصنيف للصور المنطقية للوقائع. وفي هذا الموضع يأتي الوصف المختصر للموضوع الذي تناوله كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية». وهذا ليس إيحاءً بأن راسل استقى الفكرة من فيتجنشتاين، وكان تلميذًا لراسل في جامعة كامبريدج لمدة سنتين قبل أن يكتب راسل هذا الفصل؛ بل هو إيحاء بالعكس؛ إذ استقى فيتجنشتاين هذه الأفكار من راسل. ويأتي مبرر هذا الادِّعاء بعد برهة. أولًا: من الضروري أن نذكِّر أنفسنا بالحجة التي يقوم عليها كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية». باستخدام كلمات فيتجنشتاين نفسه ونظام الترقيم بعد إعادة ترتيبه هنا (لتوضيح بنية الحجة)، فإن الفرضيات الأساسية الواردة في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» هي:
(١) العالم هو كل الحقيقة الواقعة.
(١-١) العالم هو مجموع الوقائع، وليس الأشياء.
(٢) الحقيقة الواقعة — بمعنى الوقائع — هي وجود حالات.
(٢-١) أي حالة هي عبارة عن مجموعة من العناصر (الأشياء).
(٢–٢) العناصر بسيطة.

ويوازي هذا الوصفَ المتقشفَ لبنية العالم وصفٌ للبنية الفكرية المقابلة كما ترمز إليها القضايا، وهي علاقة يصفها فيتجنشتاين بمصطلح التصور.

(٤) أي صورة منطقية للوقائع هي عبارة عن فكرة.
(٣-١) في أي قضية تجد الفكرة رمزًا يمكن أن تدركه الحواس.
(٣–٢٠١) في أي قضية يمكن التعبير عن فكرةٍ ما بطريقةٍ تماثل فيها عناصر رمز القضية عناصر الفكرة.
(٥) أي قضية هي دالة صدق للقضايا الأولية.
(٤-٢١) أبسط نوع من القضايا — وهي القضية الأولية — تؤكد وجود حالةٍ ما.
وتسير الحجة على هذا النحو، بمزيد من التفصيل. ومن نافلة القول أن الأفكار المنطقية التي تكمن وراء هذه الفرضيات هي بالطبع مألوفة من الأعمال السابقة لراسل؛ ولكنها تتصل أساسًا بفكرة البنية ووسيلة تحليلها، ومثال ذلك نظرية الأوصاف. والمدهش أكثر هو المضمون الفعلي لوجهات النظر التي يعبِّر عنها بالترتيب كلٌّ من فيتجنشتاين في كتاب «رسالة منطقية فلسفية» وراسل في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي». وفي هذا الفصل يكتب راسل:

يتألف العالم الحالي من الكثير من الأشياء والكثير من الصفات والعلاقات. ومن المفترض ألا يتطلب وصف كامل للعالم الحالي قائمةً بالأشياء فحسب، بل أيضًا ذكرًا لكل صفاتها وعلاقاتها … فحين أتحدث عن «واقعة» ما، فإني لا أقصد واقعة من الأشياء البسيطة في العالم، بل أقصد أن شيئًا معينًا يحمل صفة معينة، أو أن أشياء معينة تحمل علاقة معينة … وأي واقعة بهذا المعنى ليست بسيطة مطلقًا، ولكنها دائمًا تتألف من مكونَين أو أكثر … وعند وجود أي واقعة، توجد قضية تعبر عن الواقعة، (وهذه القضية) سُيطلَق عليها قضية ذرية؛ لأنه كما سنلاحظ حالًا يوجد قضايا أخرى تدخل فيها القضايا الذرية في قضايا ذرية أخرى بطريقةٍ مشابهة للطريقة التي تدخل بها الذرات في الجزيئات … ولكي نحافظ على التوازي في اللغة فيما يتعلق بالوقائع والقضايا، سنطلق اسم «الوقائع الذرية» على الوقائع التي ندرسها حتى الآن.

(معرفتنا بالعالم الخارجي، ص٦٠–٦٢)

وتستمر الحجة على هذا النحو.

يأتي وصف راسل هنا كوصف مختصر، ويحضر على نحوٍ غير رسمي؛ ففي كتاب «رسالة منطقية فلسفية» يعرض فيتجنشتاين فرضياته بمزيد من التفصيل، في شكلها المرقم ترقيمًا منظمًا؛ مما يمنحها مظهر الدقة، مع أنها في الواقع عبارة عن حجة جزئية فقط. ويحرص فيتجنشتاين على فصل وصفه لأبنية اللغة العالمية الموازية عن أي اعتبارات إبستمولوجية، فيما يقدم راسل أمثلة واقعية للوقائع والصفات والعلاقات: مثال على الحقيقة الذرية عبارة «هذا أحمر»، ومثال على الحقيقة الجزيئية عبارة «اليوم هو الاثنين وهي تمطر الآن».

من الممكن إثبات أن الأساس الذي يستند إليه كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية» مستمد من أفكار راسل هذه؛ وذلك لأن الوصف المختصر الوارد في فصل كتاب راسل يلخص وصفًا أطول كان يسعى إلى تقديمه في مخطوطة أصبحت تُعرف الآن باسم «نظرية المعرفة». (أصبحت المخطوطة تحمل هذا العنوان عند إعادة بنائها ونشرها بعد وفاة راسل.) كان راسل مشغولًا في العمل في هذه المخطوطة في عام ١٩١٣ حين كان فيتجنشتاين تلميذه. وعرضها على فيتجنشتاين، فانتقد ما بها من مناقشات تتناول الاطلاع والحكم. ﻓ «الاطِّلاع» — كما سبق وصفه — هو الاسم الذي أطلقه راسل على العلاقات المعرفية الأساسية بين موضوعٍ ما وعناصر من أنواع مختلفة؛ و«الحكم» هو علاقة معقدة يمكن وصفها تقريبيًّا بأنها تقبُّل قضيةٍ ما باعتبارها صادقة بسبب الاطِّلاع على مكوناتها. نحن لا نعلم تفاصيل انتقادات فيتجنشتاين؛ وحين تحدث راسل عنها في رسالة قال: «كان كلٌّ منا يشعر بضيق الخلق بسبب ارتفاع حرارة الطقس، وعرضت عليه جزءًا مهمًّا مما كنت أعكف على كتابته؛ فقال دون أن يدرك الصعوبات إنه كله كان خاطئًا، وإنه كان قد جرب وجهة نظري وتأكد من أنها لن تنجح. لم أستطع أن أفهم وجه اعتراضه — في الواقع كان عاجزًا عن التعبير تمامًا — ولكني ينتابني شعور غامض ينبئني أنه كان مُحقًّا بالتأكيد.» ولهذا السبب في المقام الأول لم ينشر راسل إلا جزءًا من المخطوطة، وبعد عدة سنوات تخلَّى عن مفهوم الاطِّلاع الذي كان في صلب موضوعها. ولكن الخطة الأساسية — التي تتناول القضايا الجزيئية القابلة للتحليل إلى مكونات ذرية، والتي ترمز إلى وقائع توازيها في البنية، على أن تكون العلاقات التي بين الوقائع والقضايا هي أساس فهمنا للقضايا — تظل موجودة في الوصف المختصر الوارد في الفصل الثاني من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»؛ وهو الهيكل الذي يكسوه فيتجنشتاين بلحم مختلف بعض الشيء في كتابه «رسالة منطقية فلسفية».

وليس من قبيل المفاجأة أن تكون وجهات نظر فيتجنشتاين مستمَّدة من راسل على هذا النحو؛ إذ كان راسل فعليًّا هو معلم الفلسفة الوحيد الذي تعلَّم منه فيتجنشتاين، كما كانت أعمال راسل — باستثناءات مميزة قليلة — هي قراءاته الفلسفية الأساسية. وقد كتب صديقه ديفيد بينسنت في مذكراته: «من الواضح أن فيتجنشتاين من مريدي راسل ويدين له بالكثير.» إذنْ من الواضح أن كتاب فيتجنشتاين «رسالة منطقية فلسفية» كان من بين النتائج الفلسفية الأولى التي نشأت من أعمال راسل. ومن الممكن أن يقال إن راسل من بين المؤثرات الأساسية التي أثرت في فلسفة فيتجنشتاين في فترةٍ لاحقة أيضًا، لكن على نحوٍ معقد، وسلبي هذه المرة.

إذا لم يَزِدْ عددُ من تأثروا براسل عن الأسماء التي ذكرتها فعلًا — كواين وكارناب وأتباع الوضعية المنطقية وفيتجنشتاين ورايل؛ ومن الممكن أن يضاف إلى القائمة إيه جيه آير، وذلك بإقراره هو شأنه في ذلك شأن كواين — فمن المفترض أن يكون ذلك دليلًا يؤكد صحة ادِّعاء فييمان بأن راسل هو مؤسس الفلسفة التحليلية في القرن العشرين وزعيمها. ولكن لدينا المزيد مما لا بد أن يقال في ذلك الصدد، ولدينا كذلك فكرة أنه يوجد من ينسبون هذه المكانة إلى غيره. وتستحق النقطتان المناقشة.

للأسف لا يوجد فهرس لمجموعة أوراق راسل البحثية التي حررها آر سي مارش بعنوان «المنطق والمعرفة». والمجموعة تجمع بين بعضٍ من أهم مقالات راسل وأكثرها ترابطًا، ومعظمها — بدورها — من المواد المطلوب أن يقرأها الفلاسفة المتخصصون في الفلسفة التحليلية. وتشمل «منطق العلاقات»، و«عن التدليل»، و«المنطق الرياضي بِناءً على نظرية الأنماط»، و«عن طبيعة الاطِّلاع»، و«فلسفة مذهب الذرية المنطقية»، و«عن القضايا: ماهيتها ومعناها»، وغيرها. وفي ظل غياب فهرس من المرجح أن يخُط الدارس المتأني لهذه الأوراق البحثية فهرسه الخاص بالقلم الرصاص على الصفحات الخالية في مقدمة أو نهاية نسخته من الكتاب. وحين أتصفح نسخي من هذه الكتب أجد إحالات ليس فقط إلى الموضوعات التي من المفترض أن يتوقع المرء وجودها في مجموعة من أعمال راسل — الأوصاف، والتدليل، والأنماط، والأوهام المنطقية، والتحليل، والاطلاع، والبيانات الحسية، والعلاقات، والكليات، والجزئيات، والوقائع، والقضايا، وما إلى ذلك — بل أيضًا قائمة بما يبدو أنه بعض الأفكار الملحة في الفلسفة التحليلية: مواقف القضايا والجهة، والعوالم الممكنة، والإبهام، ومذهب الطبيعية، ودالة الصدق، وطبيعة العقل، والتحقق والصدق، والوجود والمعنى، وغير ذلك الكثير. وينشأ قدر كبير من هذا من راسل نفسه؛ ومن ثَمَّ تشكل أعماله من حيث الموضوعات محل الاهتمام والمجال تغييرًا ملحوظًا في مسار تاريخ الفلسفة. وحتى الفلاسفة الخمسة المعاصرون الذين كثيرًا ما يشيد بهم راسل في صفحات الشكر في كتبه — وكان كريمًا إلى حدٍّ فريد، بل مفرطًا في الكرم، في نسب مصدر إلهامه إلى الآخرين — وهم بالتحديد بيانو وفريجه ووايتهيد ومور وويليام جيمس، يوجد واحد فقط من بينهم يضارعه في مناقشة هذا النوع والمجال (بدرجة أقل) من الموضوعات، وهو فريجه.

ولكن مع أن فريجه أثَّر في راسل، وأنجز أعمالًا بارعة في فلسفة الرياضيات واللغة، فإن تأثيره على راسل كان أقلَّ مما قد يفترض المرء؛ لأن راسل لم يفهم فريجه حين قرأ أعماله في بادئ الأمر، واضطُرَّ إلى إعادة اكتشاف بعض آراء فريجه بنفسه إلى أن فهم معناها؛ وحتى حينئذٍ — في بعض النقاط المهمة مثل الفارق الذي وضعه فريجه بين الحس والإحالة — لم يتخذ موقف فريجه ووضع فارقًا مختلفًا وأقل توفيقًا. وعلاوةً على ذلك كانت الموضوعات محل الاهتمام — مع أنها أشد عمقًا — حدودها أضيق من حدود موضوعات راسل؛ لذلك كان تطبيق راسل للأفكار الجديدة في المنطق الرياضي على شئون فلسفية أوسعَ أمرًا غير مسبوق فعليًّا؛ ولذلك فإن أصالة إسهامات راسل عظيمة.

كان لتأثير راسل صور أخرى أيضًا؛ ففي الفصل الثالث من كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» تناول راسل مشكلة تفسير الإدراك المكاني عن طريق بناء «افتراض نموذجي» كتفسير جائز يعلل كيف أن الأمكنة الخاصة القائمة على المنظور، التي يتعرض لها الأفراد بالرؤية واللمس، يتضح أنها متناسبة مع الأمكنة الخاصة للآخرين في المكان العام. وقد تمكَّن من تنفيذ ذلك من خلال إنشاء نموذج ثم «التخلص من كل ما هو زائد في الافتراض الذي وضعناه ونترك بقية قد نعتبرها الجواب المجرد على مشكلتنا» (معرفتنا بالعالم الخارجي، ص٩٤). ويأخذنا راسل خطوة بخطوة صَوْبَ بنية تثبت كيف يمكن التغلب على تناقض ظاهري مهم بين عالم الحس وعالم الفيزياء. واستخدم بي إف ستروسون لاحقًا أسلوبًا مشابهًا في كتابه «الأفراد»؛ حيث استخدمه في بناء عالم يعتمد على حاسة السمع فحسب لاستكشاف مفاهيم الجزئيات الأساسية ومفاهيم إعادة التعرف. واستخدمه إيه جيه آير في كتابه «أسئلة فلسفية مهمة» لتحديد قدر الإمكانيات الإدراكية والمفاهيمية التي يجب أن نسلم بوجودها لدى مدرِكٍ ما كأساس يقوم عليه تعرُّضه لتجربة إدراكية. وتوجد أمثلة أخرى بالإضافة إلى ذلك.

من السمات اللافتة في إرث راسل أنه فلسفي بالكامل تقريبًا بدلًا من كونه منطقيًّا أو رياضيًّا. وتتطلب هذه الفكرة تفسيرًا. وقد قال جي تي نيبون: «بفضل الإلهام الذي منحه كتاب «أصول الرياضيات» لعلماء المنطق والفلاسفة في القرن العشرين، وبفضل ما يتسم به من ثراء كمصدر للمفاهيم والوسائل الرمزية، يظل هذا العمل العظيم في أدبيات أصول الرياضيات أثرًا متفردًا من الطراز الأول بلا نظير.» هذا التقييم ليس صحيحًا في المطلق؛ إذ أدَّت مجموعة الرموز المنطقية التي أدخلها كتاب «أصول الرياضيات» إلى تشكيل أساس ما أصبح اليوم هو المتعارف عليه، وقد ظهرت رؤًى مختلفةٌ لبعض التفاصيل الفنية الواردة في كتاب «أصول الرياضيات»، مثلًا رؤية كواين لنظرية الأنماط؛ ولكنه صحيح في العموم، وهذا هو ما يستدعي التعليق. باختصار، شهدت فترة تأليف كتاب «أصول الرياضيات» والفترة التي أعقبت تأليف الكتاب حدوث زيادة مفاجئة في البحث الرياضي والمنطقي. من العدل أن يقال إنه سرعان ما جعل كتاب «أصول الرياضيات» قديمًا. صِيغت مجموعة متنوعة من أنواع المنطق واكتُشفت أنظمة صورية للحساب لا تقوم على المنطق، واتضح أن كلًّا من المنطق ونظرية المجموعات نسبيان (بمعنى أن التطورات التي حدثت في المناهج المختلفة أثبتت عدم وجود منطق فريد «مطلق» أو نظرية للمجموعات مطلقة)، وحلت نظرية المجموعات التي وضعها زيرميلو فرانكل محلَّ نظرية المجموعات القائمة على نظرية الأنماط، وعرقلت النظرية الرياضية التي تتناول عدم الكمال — التي وضعها كيرت جوديل، وتقول في جوهرها إنه لا يمكن اختزال الرياضيات أو المنطق إلى نظام من المسلَّمات — الأمل القائم على النزعة المنطقية الذي كان يراود راسل لتفسير مصدر ومبررات المعرفة الرياضية بالحدود المنطقية.

ومن ثَمَّ، تعود قيمة كلٍّ من مشروع كتاب «أصول الرياضيات» ومساعي راسل للتغلب على الصعوبات الفنية وهو ينفذ ذلك المشروع أساسًا إلى النتائج التي ترتبت عنه في مجال الفلسفة بدلًا من مكانتها في تاريخ الرياضيات. والشيء نفسه ينطبق على أعمال فريجه، فيما عدا أن بعض ابتكاراته الفنية في شكليات المنطق كانت ذات أهمية بالغة لتطوُّره فيما بعد.

فريجه هو المفكر العظيم الآخر في بداية القرن العشرين الذي يعود إليه الفضل في تأسيس الفلسفة التحليلية. والباحث الذي يضع فريجه في صدارة الخريطة الفلسفية للقرن العشرين — وهو مايكل داميت — يؤكد أن جوهر الفلسفة التحليلية هو الادِّعاء بأنه لكي نفهم كيف نرى العالم، لا بد أن نفحص اللغة؛ لأن اللغة هي سبيلنا الوحيد نحو الفكر. ويؤدي هذا إلى جعْل فلسفة اللغة محورية، لتحلَّ محلَّ نظرية المعرفة التي — منذ عصر ديكارت على أقل تقدير — كانت تتخذ هذا الموقف. ويقول داميت إن الفضل في إحلال فلسفة اللغة محلَّ نظرية المعرفة يعود إلى فريجه. وكان فريجه قد شَرَعَ في المشروع نفسه الذي شرع فيه راسل — وبدأ قبله بعَقدين — وهو مشروع بناء الرياضيات على أسس من المنطق. واكتشف أن الأدوات المنطقية المتاحة لديه غير كافية على الإطلاق لتنفيذ المهمة؛ ولذلك بدأ في ابتكار أدوات جديدة ونجح في ذلك. وساعدت ابتكاراته على تبسيط المنطق، وفي الوقت نفسه على توسيع تأثيره إلى حدٍّ كبير. ولكنه اكتشف أيضًا أنه سيكون مضطرًّا إلى ضرب أمثلة على مفاهيم الإحالة والصدق والمعنى لتنفيذ مشروعه، وهذه هي المرحلة — كما يقول داميت — التي شهدت بدء الاتجاه إلى فلسفة اللغة.

مما لا شك فيه أن أعمال فريجه ذات أهمية بالغة في الفلسفة. ومما لا شك فيه أيضًا أن فريجه قد أثَّر في راسل، مع أن ذلك كان على النحو المبهم الذي ورد وصفٌ مختصر له فيما سبق قبل بضع فقرات. ولكن من الصعب أن نتفق مع ادِّعاء داميت الذي ينسب الأولوية التاريخية إلى فريجه، وليس سبب هذا فقط أن مفهوم داميت عن الفلسفة التحليلية مقيِّد على نحوٍ غير واقعي؛ فالواقع أن أعمال فريجه كانت غير معروفة إلا فيما ندر في حياته (تُوفِّي في عام ١٩٢٥)، وكاد راسل يكون الوحيد الذي حاول جذب الانتباه إليها. وحتى آنذاك، لم يدرك الناس المضمون الكامل لأعمال فريجه إلا في خمسينيات القرن العشرين، وفي الواقع لم يحدث ذلك إلا بعد ظهور الدراسات المهمة الأولى التي أصدرها داميت عن فريجه في ستينيات القرن العشرين. وبخصوص الجانب التاريخي البحت، من المفترض أن يكون من الأصح أن نقول إن القيمة البارزة لأفكار فريجه هي عبارة عن نتيجة متوقفة على أهميتها النظرية وليس التاريخية. أما بخصوص قدرٍ كبير من أعمال راسل — نظريات الإدراك والمعرفة التي وضعها وفلسفات العقل والعلم التي ابتكرها — فمن الإنصاف أن نقول إن العكس صحيح؛ فالأهمية ذات طابع تاريخي أكثر منه نظريًّا. ولكن بعض أعمال راسل كما رأينا تجمع بين القيمة النظرية والتاريخية، وهذا يفسر كيف أنها أسهمت في تطور الفلسفة التحليلية.

أحيانًا ما تُقترح آراء ترى أحقية جي إي مور بلقب مؤسس الفلسفة التحليلية، وذلك ليس من فراغ. نسب راسل — بأسلوبه الكريم — خروجه من مذهب المثالية إلى تأثير مور، ومما لا شك فيه أن مزاج مور الفلسفي ومناهجه الفلسفية كان لها تأثير عليه. وادَّعى مور أنه فيما أن معظم الفلاسفة بدءوا يعبرون عن آرائهم الفلسفية بدافع الدهشة، كان مبرره في ذلك هو أنه اكتشف أن ما قاله الفلاسفة الآخرون مدهش. وكان الأسلوب الذي اتبعه يقوم على البحث عن تعريفات للمصطلحات أو المفاهيم الأساسية محل النقاش في حقلٍ ما من حقول الاستقصاء الفلسفي. وكان يشترط في أي تعريف أن تكون الجملة أو الكلمات التي يتألَّف منها التعريف مرادفة للتعبير أو المفهوم المطلوب تعريفه على ألا تحتوي على مصطلحات مشتركة معه. ويكمن خلل هذا المطلب في أنه حتى إذا كانت مثل هذه التعريفات ممكنة — من المشكوك فيه وجود مثل هذه التعريفات، حتى في حالة التعريفات المعجمية مثل التعريفات المألوفة الواردة في القواميس — فهي لا تشكل إلا نوعًا واحدًا من التعريفات، أما الأنواع الأخرى — مثل التعريفات التحليلية (التي تعرِّف شيئًا بوصف بنيته أو وظيفته) والتعريفات العملية (التي تسمح بأن يشرح شيء ما نفسه عن طريق عرضه وهو قيد الاستعمال) — فغالبًا لا تكون فقط عملية أكثر، بل وكاشفة أكثر؛ ومن ثَمَّ تكون ذات قيمة فلسفية أكبر. وكان مور يقر بالطبع بوجود ونفع أنواع أخرى من التعريفات، ولكنه اعتبر النوع المفضل إليه هو النوع المثالي؛ وكان يرى أيضًا أنه توجد مفاهيم فلسفية أساسية معينة — مثل مفهوم «الصلاح» في علم الأخلاق — ليس من الممكن توفير تعريف لها؛ وهذه الأشياء غير قابلة للتعريف وبدائية، ويجب أن تبدأ النظرية بها بدلًا من أن تحاول تفسيرها.

مما لا شك فيه أيضًا أن أسلوب مور وشخصيته كانا من العوامل المهمة في السنوات الأولى من الفلسفة التحليلية. وفي مقدمة كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي»، كتب راسل أن التحليل أدخل إلى الفلسفة ما أدخله جاليليو إلى الفيزياء: «إحلال نتائج تدريجية ومستفيضة وممكن إثباتها محل مبادئ عامة غير مجرَّبة لا يزكيها إلا مخاطبة القدرة على التخيل.» وقد يصلح هذا المقطع أيضًا ليكون وصفًا لأسلوب مور الدقيق في الفلسفة؛ ففيه يأخذ ادِّعاءً أو فكرةً ما ويظل يفكر فيها طويلًا بلا كلل حتى يحللها إلى مكوناتها في صياغة منظمة. وهو ليس أسلوبًا خلابًا، لكنه فعَّال بطريقته المحدودة. كان لمور عدد كبير من المقلدين، ولكن أهدافه ومناهجه كانت تنزع إلى الانتقاد في المقام الأول؛ فلم يقدم أي اكتشافات فلسفية. ويكمن إرثه الأساسي في أنه منح انتشارًا لمفهوم «المغالطة الطبيعية» في علم الأخلاق، وهي تعريف صفة أخلاقية مثل الصلاح من حيث صفةٍ ما طبيعية مثل المتعة. إن مقياس تأثير أي فيلسوف هو مدى الاستفادة من مناهجه وأفكاره بعد أن يقدمها؛ وبهذا المقياس فإن مكانة مور في فلسفة أوائل القرن العشرين لا تضاهي مكانة راسل. ومع ذلك ساعد مور فعلًا في تشكيل الجو التحليلي، وقد ساعدت حركته المميزة الشهيرة — شهقة الارتياع التي كان يرد بها على الأقوال الفلسفية التي كانت تبدو له شاذة — في دفع أجيال من التلاميذ والزملاء للتفكير بمزيد من الحرص قبل أن يتكلموا أو يكتبوا.

قد توحي المناقشة السابقة بأن الفلسفة التحليلية ظاهرة حديثة العهد. وهذا صحيح، على صعيد أن الكثير من مصادر إلهام الفلسفة التحليلية وأساليبها مستمدٌّ من أسس المنطق الجديد. ولكن على صعيد آخر وعلى القدر نفسه من الأهمية، فإنها تمثل تطورًا مباشرًا لتراث هيوم وبيركلي ولوك وأرسطو. وقد أسهم أول مفكرَين من هؤلاء المفكرِين — ولا سيما الثاني — فضلًا عن لايبنتس، في تشكيل قدر كبير من توجُّه راسل الفلسفي. وليس من الصعب أن نلاحظ التشابه بين راسل وأرسطو؛ إذ إن أرسطو أقام تصوره للميتافيزيقا على تصوره للمنطق، وطور تصوره للمنطق لهذا الغرض، تمامًا مثلما فعل راسل.

لا يمكن أن يغفل أي تقييم لراسل كفيلسوف فكرة أن أعماله كثيرًا ما تكون أقل دقة وحرصًا مما كان من الممكن أن تكون عليه إذا كان قد اتبع نصائحه المنهجية. وتتخلل أعمالَه فعلًا مساحاتٌ معروفة من الإهمال والسطحية، ومن العجائب الباقية في مجال الفلسفة أن أكثر كتبه نجاحًا وانتشارًا، وهو كتاب «تاريخ الفلسفة الغربية»، والذي يعدُّ مصدرًا لمعظم الناس لمعرفة الفلسفة — مع كل مزاياه الجمة الأخرى — يتسم بنقصٍ فادح كمناقشةٍ فلسفية في عدة مواضع. كانت له أخطاء أصبح الطلاب حاليًّا يحترسون منها في محاولاتهم الأولى؛ ومن أمثلة ذلك استخدام الفارق بين «الاستخدام والذِّكر»، والذي يتناول الاختلاف الشاسع بين استعمال تعبيرٍ ما فعلًا وبين التحدُّث عنه؛ ففي الجملة السابقة استخدمت كلمة «تعبير»؛ وأنا الآن أذكرها، وأميز هذه الحقيقة من خلال وضع الكلمة بين علامتَي تنصيص. وتحفل المناقشات الفلسفية بالمناسبات التي تتضح فيها أهمية الفارق، وهو أمر من الممكن إثباته بأن نذكر أن لكلٍّ من جملتَي «شيشرون لديه ستة رسائل» و«كلمة «شيشرون» تتألف من ستة أحرف» معانيَ مختلفة تمامًا.

غضب البعض من لامبالاة راسل أحيانًا بخصوص ضرورة الحرص على الدقة (وهو واجب محتوم في الفلسفة، إذا كان المرء يسعى إلى الدقة والوضوح. وتتطلب الفلسفة أيضًا القدرة على التخيل والإبداع، ولكن إذا لم تتحد القدرة على التخيل مع الدقة، فإنها لا تفيد المرء كثيرًا). وقد وصف نورمان مالكوم — في سياق العرض النقدي الذي قدمه عن كتاب «معرفتنا بالعالم الخارجي» — هذا بأنه «ثرثرة حواة». ومن المفارقات أن راسل تسبب في رفع معايير المناقشات الفلسفية إلى حدٍّ بعيد، ولكن قياسًا بالمستويات المتطلبة التي بلغتها تلك المعايير، بات هو نفسه حاليًّا لا يبلغ المستوى المطلوب أحيانًا.

ومع ذلك، فإن هذه الشكاوى غير ذات بال؛ ففي معظم الحالات التي يتجاوز فيها راسل التحفظات والتفاصيل القليلة الأهمية باستخدام نثره البديع، ويسحرنا بخفة ظله وظرفه، تصبح مثل هذه المشكلات التي يتسبب فيها غير فادحة إذا كان القارئ متنبِّهًا. وعلى أي حال كان راسل يدرك أنه أحيانًا كان يستخدم أسلوبًا مفرطًا في سرعته. كان يضيق ذرعًا بالميل إلى استعراض المعلومات الذي لا يرضى صاحبه إلا إذا أثقل الكتاب بسيلٍ من الحواشي. كان يتلهَّف على النتائج العملية وعلى وجهة نظر ثابتة وفعالة تعبر عن أفضل معلومات أساسية عن التجربة يستطيع أن يوفرها العلم. وفي بعض أعماله اللاحقة خصوصًا، كان موقفه هو أنه إذا أمكن إيجاز المخطط التمهيدي لنظريةٍ ما، أصبح من الممكن إضافة التفاصيل فيما بعد. وحتى في هذه الحالة نجد أن أفكاره محفزة وأحيانًا غير مألوفة.

ولكن يلحظ المرء أن هذه الأقوال لا تنطبق على راسل إلا وهو في عجلة من أمره، وكأنه يرسم بأقلام الفحم بدلًا من الألوان الزيتية؛ ففي أفضل حالاته تكون أعماله الفلسفية غنية ومستفيضة وبارعة وعميقة. ويصحُّ هذا بالتحديد على ما كتبه في الفترة ما بين عامَي ١٩٠٠ و١٩١٤. والأوراق البحثية المجموعة بين دفتَي كتاب «المنطق والمعرفة» واضحة بذاتها في هذا الصدد. إن ما يقوله آر إل جودشتاين عن بعض مضمون كتاب «أصول الرياضيات» — «يمثل كتاب «أصول الرياضيات» من بعض النواحي قمة في الإنجاز الفكري؛ إن مفهوم نظرية الأنماط المتشعبة القائمة على بديهية القابلية للاختزال خصوصًا من أدق وأذكى المفاهيم على مستوى كل المؤلفات في مجال المنطق والرياضيات» («ما بعد كتاب أصول الرياضيات»، في كتاب «مجلد راسل التذكاري»، من تأليف روبرتس، ص١٢٨) — يمكن أن ينطبق على بعض كتابات راسل الفلسفية الأهم. وهذه إشادة بالغة فعلًا.

إن الرسم البياني للشهرة له شكل يكاد يكون ثابتًا؛ فهو يرتفع أثناء حياة المرء، وحتى إذا انخفض في سنوات الضعف فإنه يرتفع ارتفاعًا شديدًا عند نشر إعلانات النعي والكتب التذكارية. ثم ينخفض انخفاضًا شديدًا ويظل راكدًا لمدة جيل واحد. ولكن يعود إلى الارتفاع بعد مدة طويلة ويجد مكانته المناسبة في تقدير أجيال المستقبل. تُوفِّي راسل عام ١٩٧٠؛ وعلى مدى العقود التي أعقبت وفاته لوحظ أن اسمه — وليس تأثيره الحقيقي، كما تعرض الصفحات السابقة — لم يكن حاضرًا إلا بما يتصل بالموضوعات الفلسفية التي كانت أساسية في عمله، خصوصًا في مناقشة الإحالة والأوصاف، ومساعي تحليل الوجود، وفي التاريخ الحديث لنظرية الإدراك. ومن أسباب هذا التراجع إلى هامش التاريخ هو أن الفلسفة اللاحقة لفيتجنشتاين (ويستعصي هذا الفيلسوف على قاعدة الرسم البياني التي أشرت إليها؛ فعقب وفاته مباشرةً ظهر مريدون متحمسون له على مدى ثلاثة عقود، ولكن مواهبه كفيلسوف — رغم عظمتها — أصبحت الآن تحظى بتقدير أكثر رصانةً واعتدالًا) كانت تقدم أسلوبًا مناقضًا تمامًا لأسلوب راسل في التحليل؛ ففي الواقع ظلَّ معظم المشتغلين في الفلسفة يواصلون عملهم بأسلوب راسل، ولكن شهرة أفكار فيتجنشتاين وحماس مريديه منح الانطباع المعاكس. ويكمن السر في ذلك فيما قاله رايل عن أن راسل لم يكن يسعى أو يرغب في تأسيس مذهب من المريدين: «علَّمنا راسل ألا نعتنق أفكاره، بل أن يكون لكلٍّ منَّا تفكيره الفلسفي المستقل؛ فمن ناحيةٍ لا يوجد أحد الآن يتبع أسلوب راسل ولن يتبع أحد أبدًا أسلوب راسل مرة أخرى؛ ولكن من ناحية أخرى كلٌّ منَّا الآن يتصف بشيء من أسلوب راسل.»

fig13
شكل ٥-٢: صورة شخصية لراسل.2
بوجه عام يحظى المفكرون بمريدين حين يقدمون أجوبة جذابة للأسئلة الكبرى للفلسفة (وهي الأسئلة الكبرى للحياة، وذلك في مظهرٍ أكثر تبسيطًا). كان راسل متشككًا في الأجوبة، مع أنه كان يسعى إليها بكل قوة. وفي خاتمة كتاب «مشكلات الفلسفة»، كتب راسل متحدثًا عن قيمة الفلسفة:

لا بد من دراسة الفلسفة، ليس من أجل الحصول على أجوبة محددة على الأسئلة التي تطرحها، ما دام من غير الممكن التيقنُ عمومًا من صحة أي أجوبة محددة، بل لا بد من دراستها من أجل الأسئلة نفسها؛ لأن هذه الأسئلة توسِّع مداركنا لكل ما هو ممكن، وتثري قدرتنا على التخيل الفكري، وتقلل من اليقين الجازم الذي يغلق العقل أمام التفكُّر؛ بل والأهم من ذلك، لأن العقل يصير عظيمًا نظرًا لعظمة الكون الذي تتفكر فيه الفلسفة، ويصبح قادرًا على ذلك الاتحاد مع الكون الذي يؤلف الخير الأسمى.

بأي مقياس يختاره المرء نجد أن راسل من العقول العظيمة؛ إذ كان يتفكر في مجالات كثيرة. لقد أسهم في تغيير مسار الفلسفة ومنحها طابعًا جديدًا. قلة نادرة من شخصيات التاريخ هي التي يمكن — كلٌّ في مجال نشاطه — أن تُوصف بهذا الوصف. وحتى في هذه الحالة، حقَّق بعض هؤلاء مكانتهم بالصدفة أو حقَّق بعضهم إنجازًا وقتيًّا واحدًا، كما هي الحال مع ألكسندر فليمنج وجافريلو برينسيب، وذلك للخير والشر على التوالي. لكن في المقابل، أنجز راسل هذه المكانة بوسيلةٍ بارزة؛ بعددٍ كبير من الكتب والمقالات والمحاضرات على مدى سنوات طويلة، وفي عدة قارات؛ ومن ثَمَّ فهو شخصية ملحمية بحقٍّ، شأنه شأن أرسطو ونيوتن وداروين وأينشتاين.

هوامش

(1) Wittgenstein Archives, University of Bergen.
(2) © Bettmann/Corbis.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤