مقدمة الطبعة الثانية

يحتفِل العالم في هذا العام (١٩٩٨م) بالذكرى المئوية لميلاد برتولت برشت (وُلد في مدينة أوجسبرج من منطقة شفابن بجنوب ألمانيا في العاشر من شهر فبراير سنة ١٨٩٨م، ومات في مدينة برلين — الشرقية سابقًا — إثْرَ أزمةٍ قلبية مُفاجئة في الرابع عشر من شهر أغسطس سنة ١٩٥٦م) وهو الشاعر، وكاتب المسرحية والأوبرا والفيلم السينمائي، والقصَّاص والروائي والمُخرِج والمُنظِّر للمسرح المَلحَمي، والمُناضل الاشتراكي ضدَّ البربريَّة النازِيَّة وتُجَّار الحروب، وفي سبيل العقل والحُريَّة والسلام والأُخوَّة البشرية، وصُنع عالمٍ جديد يتوقَّف فيه الاستغلال والاضطِهاد والفقر والجوع والظُّلم والاغتراب …

ولقد تصادَف أن كان كاتِب هذه السطور — على مَبلغِ عِلمه على الأقل! هو أول من قدَّمَه إلى العربية بترجمةِ إحدى مَسرحيَّاته التعليمية — وهي الاستِثناء والقاعدة — عن الفَرنسيَّة في سنة ١٩٥٦م (نُشرَت آنذاك في مجلَّةِ الهدَف قبل نشرِها مع تَمثيليَّته الإذاعيَّة التي حوَّلها إلى أوبرا، وهي مُحاكمة لوكولُّوس، في أوائل الستينيَّات)، وتقديم عددٍ من قصائده المَشهورة سنة ١٩٥٨م في مجلَّة المجلَّة (وكان يرأس تحريرها في ذلك الحِين السِّندباد البحريُّ والمصريُّ العظيم المرحوم الدكتور حسين فوزي) وأُضيفَ إليها بعد ذلك عددٌ آخرُ من عُيون قصائده التي بلَغتْ ما يقرُب من ثمانين قصيدة صدَرَت في كتابٍ مُستقِل (قصائد من برخت، دار الكاتب العربي، ١٩٦٧م)، ثم بعض مسرحيَّاته (بَعْل، السيد بونتيلا وتابِعه ماتي، قائل نعم وقائل لا) التي كان آخرُها هي أوبرا صعود وسقوط مدينة مهاجوني في ترجمةٍ شعرية حديثة (تحت الطَّبع في المشروع القومي للتَّرجمة بالمجلِس الأعلى للثقافة) وقد شعر الكاتب أنَّ من واجِبه، بعد هذه الجهود المُتواضِعة وعلى ضوء تلك الواقعة التاريخية التي لا يُعلِّق عليها أيَّةَ أهميَّة؛ لأنها كانت وليدةَ الصُّدفة المَحضة كما ذكَر قبل قليل، ثم على ضوء اهتمامه بمسرح برشت وتأثُّره به بِصُورٍ مُختلفة في عددٍ غير قليلٍ من مسرحيَّاته الطويلة والقصيرة، أقول إنه شَعَر أنَّ من واجبه أن يُشارِك في الاحتفال بذِكرى هذا الرَّجُل الذي كان شِعْره ومسرحُه — كما قال بحقٍّ ناشِرُ أعماله وصديقه بيتر زور كامب — تاريخًا فنيًّا لبلاده وجِراحِها الأليمة منذ عام ١٩١٨م إلى عام وفاته، والذي يَقترِن اسمه باسم أكبر شُعرَاء بلاده (وهو جوته (١٧٤٩–١٨٣٢م)) من ناحِيَةِ شُهْرتِهما، وقوَّة تأثِيرهما وتَوهُّج إشعاعِهما خارجَ حدود بلادِهما أكثرَ من أيِّ شاعرٍ أو كاتب آخر من أبناء وطنهما، والذي تُحتِّم تطوُّرات الأحداث في هذا القرن العشرين الذي أوشَكَت شمسه على الأُفول — لا سيما بعد الانهيار المُدوِّي للتَّطبيق الاشتراكي وبعد تحقيق الوحدة الألمانية التي كان الشاعر نفسه يحلُم بها ويَعمَل لها — ضرورة قراءته من جديد، والتَّعلُّم من واقِعيَّته وعقلانيَّته وحِكمته وكفاحه المُستمرِّ ومُعاناته الطويلة في المَنفى، ودِفاعه الصَّامِد عن الحقيقة والصِّدق في التَّعبير عن الواقع المُتغيِّر، وعن حقوق الرجل العادي أو الرجل الصَّغير الذي طالَما وقَع خلال التاريخِ البشريِّ ضحيَّة الخِداع والكذِب والتَّزييف وتَغييب العقل بالدَّعاوى الضَّخمة والباطلة، بجانب إحساسه المُتزايِد في أواخر عُمره بمرارة الإحباط والعَدَميَّة والخَيبة، دون التَّخلِّي أبدًا حتى آخر نفَسٍ في صدره عن الإيمان بالجديد، والتمسُّك براية الأمل في مُستقبلٍ أفضلَ للإنسان والأرض والعالم «الذي يحتاج للتغيير» حتى يستقرَّ فيه العدل والعقل والمودَّة والسعادة لجميع البشر …

ولقد شعَر كاتب السطور أيضًا بأن مُشاركته في الاحتفال بذكرى الشَّاعر تُعبِّر في نفس الوقت عن الامتِنان والعِرفان الذي يَحمله له، كذلك عدد كبير من إخوانه الشعراء والكُتَّاب العرَب الذين تأثَّروا به بِصُورٍ مُتفاوِتة (ومن أهمِّهم: سعد الله ونوس، ومحمود دياب، ونجيب سرور، وعبد الرحمن الشرقاوي، وصلاح عبد الصبور — رحِمَهم الله — وألفريد فرج، ووليد إخلاصي، وفرحان بلبل، ويوسف العاني — مدَّ الله في عمرهم — بجانِب أسماءٍ كريمة أُخرى لعددٍ كبير من النُّقَّاد والباحِثين والدَّارِسين والمُترجِمين النَّابِهين الذين لا يَتَّسِع هذا المجال المحدود لذِكر أسمائهم وأعمالهم وجهودهم الطيبة، أو الوفاء بواجب الشُّكر والتقدير لهم، مثل الإخوة: نبيل حفَّار، وأحمد الحمو، وفاروق عبد الوهاب، ووجيه سمعان، ومحمد العيتاني، ونسيم مُجلِّي، وكامل يوسف حسين، وأحمد كمال زكي، وجميل نصيف التكريني، وأحمد عتمان، ومنى أبو سنة).

ترَك برشت وراءه تُراثًا ضَخمًا يَستوعِب كلَّ الأشكال الأدبيَّة المُمكِنة: خمسين مسرحية، أكثر من ألفَي قصيدة، كتابات نثريَّة مُتنوِّعة، وشروح نظريَّة مُستفيضة لنظريَّتِه عن المسرح المَلحَمِيِّ وآرائه وتجاربه مع الإخراج والتَّمثيل والإلقاء والدِّيكور والإضاءة والمُوسيقى، وسائر اللوازم المُدعِّمة لذلك المسرح «الجَدَلي» الذي وضعه في مُواجهة المسرح التقليدي أو «الأرُسطي». وقد حقَّق في هذه المجالات المَلحمِيَّة والشِّعرية الغنائية والدِّرامية إنجازاتٍ أثارَت أسئلةً وإشكالاتٍ كثيرةً وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا على ثلاثة أجيالٍ من بعده. والنَّثر الذي كَتَبَه يضمُّ الرواية (كالقروش الثلاثة، وأعمال السيد يوليوس قيصر) والأقصوصة، والقصة القصيرة — التي تُبالِغ أحيانًا في القِصَر حتى تَتَّخِذ شكلَ الطُّرفة أو النُّكتة، والحِكمة المُركَّزة المُكثَّفة — كما نجِد في القصص التي أطلق عليها تَسميةً مأثورة، وهي قصص النَّتيجة السنويَّة، أو في قِصصه الرائعة عن السيد كوينر التي بدأها سنة ١٩٢٦م وكتب آخر قصةٍ فيها سنة ١٩٥٦م ووَصَل عددُها إلى تسعٍ وثمانين قصةً لا يزيد بعضُها عن جُمَلٍ قليلة أو حِكَمٍ تعليمية لاذِعة! وكثيرًا ما تتجلَّى هذه الأعمال النثرية في صورة الحكاية الشعبية الخُرافية، أو قصص الخوَارق وقصص الأبطال، أو ترتدي بعض الأشكال التَّقليديَّة كالقِصَّة الرَّعَوية أو المَلحمة أو الخُرافة على لِسان الحيوان أو الأُمثولة أو المثل، مع الاستفادة والاقتِباس من كلِّ الآداب والأُدَباء على اختلاف البلاد والعصور والثقافات دُون أيِّ تَحرُّجٍ من أخذ مادته من أي مصدر، وصوغها وتفسيرها بأيِّ طريقةٍ تُلائم موضوعاته وأغراضه، أو مُعارضتها والسُّخرِية منها، كما فَعَلَ مع بعض آثار عددٍ من الشُّعراء الكلاسيكيين،١ وأما الشِّعر الذي يُهمُّنا أمره هنا قبل كلِّ شيءٍ فنَجِده يَنسِج أجنِحَتَه من جميع الأشكال الشِّعريَّة المعروفة: من الحكاية أو القصَّة الشِّعرية (البالاد) إلى المَرثيَّة، والقصيد المُوجَز (الأبيجرام)، ونشيد الجَوقة (الكورال) وقصائد المُناسبات، إلى الأُغنية البطولية، والتَّرنِيمة، وأُغنية المَهد، وأغاني الحُب، والأنشودة والمَزمور والسُّوناتة، والثلاثية (التَّرسينة)، والرومانسة، وأُغنِيات (أو مواويل) المُغنِّين الجوَّالين والشَّحاذِين والصَّعاليك. كلُّ ذلك مع السَّيطرَة المُقتدِرة على جميع الأشكال العَروضيَّة والإيقاعية، سواء كانت تقليديَّةً مُتقيِّدةً بالأوزان والبحور والقوافي، أو كانت من الشِّعر الحُرِّ أو المُرسَل،٢ مع احتفاظ هذا الشِّعر على الدَّوام بطابَع التَّشكُّك، والتَّساؤل، وإبراز المُفارقة والتناقُض، واستثارة القارئ للتفكير بنفسه ولنفسه، واتِّخاذ المَواقف العقلانيَّة والعَمليَّة ممَّا يُعرَض عليه في القصيدة أو على خشبة المَسرح، وتحريضه على عدَم التَّسليم أو الاستسلام لما يُصوَّر له على أنه ثابِتٌ أو دائم أو مُقدَّس، وكلُّ هذا مع احتِرام حُريَّته في قَبول ما يَعرِضه الشاعر عليه من مُقترحات لتغيير نفسه وتغيير الواقع.
عندما فرَغتُ في مُنتصف الستينيَّات من اختيار هذه المجموعة وحتى صُدورها بعد ذلك بِسنَتَين، لم يكن تحتَ يدي في ذلك الوقت سوى مجموعةٍ صغيرة مُنتخَبة من قصائد برشت وأغانيه، بجانب بعض مسرحياته — في طَبعَتِها القديمة تحتَ عنوان «المحاولات» — فاختَرتُ منها حوالي ثمانين قصيدةً وأُغنية مما وجدْتُه مُلائمًا لذَوق القارئ العربي ولِما أملاه عليَّ ذَوقي وطَبعي ومَيْلي إلى الحِكايات الشَّعبيَّة والأغاني الجماعيَّة والأشعار المُقتَبسة من الحضارات العَريقة كالصِّين ومصر القديمة، والقصائد التي تَنزِف بدِماء الإنسان العاديِّ ومَواجِعه وتكشف عن بَشاعَة الحروب وفَظاعَة القَتَلَةِ والسَّفَّاحين الذين يُدَبِّرونها ويُتاجِرون بها ويَجرُّون «الرجل الصغير» إلى مذابِحها. لم تكُن الطبعة الكاملة لأشعار برشت قد ظهرتْ بعد، إذ كان على القُرَّاء أن ينتظروا ما يقرُب من الثلاثين عامًا قبل صدُورها عند نفس الناشر — وهو زور كامب — في سنة ١٩٩٠م في حوالي ألفٍ وثلاثمائة صفحة.٣ وقد استُقبِلَت «قصائد من برخت» (بعدَ أن رفَضَتْها بعضُ دُور النشر «التقدُّميَّة» في بيروت والقاهرة)٤ استِقبالًا حَسنًا من القُرَّاء، ولَقِيَتْ صدًى طِيِّبًا لدى عددٍ كبير من الشُّعراء والكُتَّاب والنُّقاد، ثم دارتْ عَجَلة الأيام والأحداث فعكفتُ طوال الشهور الأخيرة على مُراجعة تلك الطبعة القديمة مُراجعةً دقيقة (أدهَشَتْني وأخَجَلَتْني كثرةُ الأخطاء التي وقعتُ فيها!) وأضفتُ إليها عددًا كبيرًا من الأغاني والحِكايات الشِّعرية، والقصائد التي كتَبَها الشاعِرُ خلال الخمسة عشر عامًا التي قضاها في مَنْفاه، أو بالأحرى في مَنافِيه المُتعدِّدة من الدنمرك والسويد وفنلندا إلى لوس أنجيلوس في كاليفورنيا بالولايات المُتحدة الأمريكية حتى رُجوعه إلى مَنفاه النهائي في برلين الشرقية، حيث عاش سَنواته الأخيرة في ظلِّ التَّطبيق الاشتراكي الغَبِيِّ والمُتزمِّت لحكومة ألمانيا الشرقية السابقة وحِزبها الواحد. ويكفي أن تنظُر في الفهرس التفصيلي لهذه المجموعة الجديدة لترى كيف التزَمتُ بالتَّرتيب التاريخي الذي غاب عَنِّي الالتزام به في الطبعة السابقة، وكيف تَتبَّعتُ المراحِلَ والمجموعات الشِّعرية المُختلفة التي نشرَها الشَّاعر خلال حياته القصيرة، وحرصتُ على تمثيل كلِّ الأشكال الشِّعرية والاتجاهات الفنيَّة والفكرية والموضوعات التي استأثرت باهتمامه وحُبِّه، وعرَضَتْ علينا جِراحَه وجِراح بلدِه التي مزَّقَتْها حَرْبان عَالَمِيَّتان شوَّهَتا صُورَتها وقِيَمَها وثقافتها في عيون العالم، وكيف انضمَّت إلى هذه القصائد المُتنوِّعة الأشكال والأغراض قصائدُ وأغانٍ وحكاياتٌ مأخوذة عن مُعظم مسرحياته التي أتمَّها أو التي بَقِيَت شذَرَات ناقصة، مع مُراعاة الترتيب التاريخي في كلِّ الأحوال، بدءًا بقصائده «التعبيرية» في المرحلة الفَوضَويَّة والعدَمِيَّة التي وقع فيها تحت تأثير هذه الحرَكة الفنيَّة والأدبيَّة ذات المَزاعِم المُطلَقة والتَّهويمات الغامِضة والصَّاخِبة التي قاوَمَها وحارَبَها بكلِّ العُنف والقسوة، حتى تلك القصائد التي سبَقَت وفاته المُفاجِئة وعبَّرت عن ضِيقه بحياته وواقِعِه وخَيبة أمله في آماله الاشتراكية والإنسانية التي رأى طُيورَها المُتعَبَة تَتخبَّط بأجنِحَتها في وَحلِ الواقع المُمِلِّ والتطبيق المُتعثِّر في مهاوي الإرهاب الأيدلوجي والبوليسي.

ولمَّا كان الشِّعر والدِّراما مُرتَبِطَين ارتباطًا حَميمًا في إنتاج برشت، وكان كلاهما مغروس الجُذور في حياته وتاريخه الفرديِّ وفي حياة بلاده وتاريخها الاجتماعي، فقد رأيتُ من الضروريِّ أن أعرِضَ عليك مراحِل التطوُّر المُهمَّة التي مرَّت بها «أنا» الشَّاعر التي حرَص دائمًا على مسافة البُعد بينه وبينها، وكانت دائمًا بالنِّسبة إليه هي «نحن» بلاده والعالم والبَشرية بأسْرِها، كما كانت — إذا جاز التَّعبير — أنا مُحايِدة وبارِدة وموضوعية، بل مَلحميَّة، لم تكشِف عن هُويَّتها وهمومها الشخصية والعاطفية إلا في عددٍ جدِّ قليلٍ من قصائد الحُبِّ وأغانيه التي يُمكِن القول أيضًا بأنها تختلِف في كثيرٍ من الأحيان عمَّا ألِفْناه من شِعر الحبِّ الغنائيِّ والذاتي، وأنها تُحاوِل أن تُخفي من عاطفيته الصادقة المُتأملة أكثرَ مِمَّا تُظهِر (راجِع على سبيل المِثال ما يُمكِن أن نُسمِّيه قصائد الاعتراف مثل أشهر قَصيدتَين له وهما برت برشت (ب. ب) المِسكين، وإلى الأجيال القادِمة، وكذلك أغاني الحبِّ القليلة مثل: أُغنِية عن حبيبة، وأبدًا لم أُحبِبْك مثل هذا الحب، وذِكرى ماري).

رُبَّما كان أهمُّ ما تعلَّمَه برشت من الفلسفة الجدَلِيَّة — سواء كانت مِثاليةً هِيجليَّة أو ماديَّةً ماركسية — هي فِكرة التَّجدُّد والتغيُّر التي تحوَّلت عنده إلى دعوةٍ مُستمرة للتَّغيير لا يَفتأ يُوجِّهها إلى قارئ شِعره ويُطالِب بها المُتفرِّج على مسرحياته (راجع على سبيل المِثال قصائده عن: الجدَل، وسُيولة الأشياء، وعجَلَة الماء، والشكَّاك، وكلُّ شيءٍ يتحوَّل، وغَيِّر العالَم فهو يحتاج للتَّغيير، وهكذا يُربِّي الإنسان نفسه حين يُغيِّر نفسه). سُئِل ذاتَ مرَّةٍ عمَّا يُمكِن أن يفعلَه في سبيل إنسانٍ يُحبُّه فقال: «أضَع له مُخطَّطًا نموذجيًّا وأبذُل كلَّ ما في وِسعي لكي يكون مُشابِهًا له.» وعندما عاوَد السائل سؤاله وهو مُندهِش: من تَقصِد؟ النموذج؟ ردَّ عليه بهدوء: بل الإنسان.٥ هذا الردُّ المُفاجئ يُعبِّر عن اقتناع برشت بأنَّ الإنسان يَستطيع دائمًا أن يبدأ من جديدٍ حتى لو تَحتَّم أن يجيء هذا التَّجدُّد مع آخِر أنفاسه (راجِع قصيدته البديعة يا لذَّةَ البَدء الجديد) ولو قَفزْنا إلى اللحظة التي لفظَ فيها أنفاسه الأخيرة لوَجَدناه يُملِي هذه العِبارة على أحدِ الذين حضروا وفاته: «أكتُب أنني كنتُ إنسانًا غيرَ مُريح، وأنَّني أنوي أن أبقى كذلك بعدَ موتي …» ثم يَفتح عينيه قَبل أن يُغمِضَهما إلى الأبد؛ ليقول: «ولكن ستَبقى ثمَّةَ إمكانات مُعيَّنة.» وصدَّق التاريخ حدْسَه، فتقلَّبتْ مواقف الناس منه في بلاده وفي العالم كلِّه بين التحمُّس الجارِف له والإعجاب الشديد به — لدرَجة تقليده تقليدًا أعمى — إلى كراهيَّتِه واحتقاره والعَداء القاتل لشخصِه وإنتاجه الذي تغيَّرَت كذلك المواقف منه ومن نظريَّته الشهيرة عن المسرح المَلحَميِّ وضرورة إحداث «أثر الإغراب» سواء في صياغة النصِّ أو في طريقة عرْضِه وإلقائه أو في تأثيره المُمكِن والمطلوب على المُتفرِّج لتغييره ودعوته لتغيير علاقاته بالواقِع وعلاقات الواقع به، بحيث يُمكِن في النهاية أن نُردِّدَ ما قاله عن نفسه في إحدى قصائده (عن الأسنان السيِّئة):
مُحتَقَر، شرِّير، وازداد برودي بِمرور الأعوام،
فتركتُ كِياني يَستسلِم للآفاق المِيتافيزيقيَّة …

ونعود إلى الحُبِّ الذي بدأنا به لتصوير إيمانه بضرورة التغيُّر والتَّغيير فنجِده (أي الحب!) يُعبِّر عن هذا الاعتقاد الراسخ — الذي غَذَّاه اقتناعُه الجذريُّ بالاشتراكية، وقراءاته المُستَفيضة في شبابه لماركس، ويَقِينه الدائم بأن المُستغَلِّين والمُضطَهَدين والجَوعى والمظلومين والمخدوعين من العُمَّال والفقراء والعامَّة هم الأداة الحقيقية للتَّغيير — فنحن في رأيه لا نُحبُّ إنسانًا «جاهزًا» ولا نُحبُّ «الصورة» التي نَصنَعُها منه ثم نُصابُ بعد ذلك بخَيبة الأمل لأنه لم يُحقِّقها أو لم يَكَدْ يَقترِب منها (كما هو الحال في مآسي العلاقة التي تُوصَف عادةً بصِفة الحُبِّ بين فئات الطبقة الوسطى!) ذلك لأن الحبَّ «فِعل مُنتِج» أو مُبدِع «يُشكِّل» المحبوب ويُساعِده على إظهار قُدراته وتَنمِيَتها، ويجعل منه إنسانًا آخر غير ما كان عليه قبل أن نرتبِط به بعلاقة الحب. ولعلَّ هذا يُفسِّر كثرةَ علاقات الحبِّ في حياة برشت (على الرَّغم من أن المرأة المُحِبَّة والمحبوبة لا تقوم بدَورٍ كبير في شِعره ومسرحه، على العكس من دور «الأم» المُتميِّز المَشحون بالعاطِفة في أشعاره وفي العديد من مسرحياته، كالأم، وبنادق السيدة كارار، والأم شُجاعة وأبناؤها، ودائرة الطباشير القُوقازية، وقائل نعم وقائل لا، وانظر كذلك قصيدته إلى أُمِّي وأُغنِيَة عن أُمِّي) أو لعلَّه يُفسِّر أيضًا كثرة زِيجاته — وآخرها مع زوجته ومُديرة فرقَتِه المسرحيَّة في مسرح الشفباور دام هيلينة فايجل، التي ارتبط اسمُها بدَورِها الخالد في الأُم شُجاعة، كما أهداها هو نفسه عدَدًا من أرقِّ قصائده التي تَجِد بعضها في هذه المجموعة — ولعلَّه يفسر أخيرًا كيف كانت النساء اللائي صادَفَهنَّ واستَعان بِهنَّ في عمله «أدوات إنتاج» (بالمعنى الفنِّي لا الاقتصادي!) تحثُّه على المزيد من الإبداع، وكيف كان «جَرْيه» وراءهنَّ نوعًا من البحث عن «الأم» التي لا ينفكُّ المُبدِعون يُفتِّشون عنها سُدًى في الحبيبة والزَّوجة على أمل العُثور عليها ثم يكتشفون في النهاية أنهم كانوا واهمين.

سيطرَتْ مقولة «التَّغيُّر» و«التَّغيير» على حياة برشت وتفكيره وأعماله منذ صِباه وشبابه الباكِر بحيث يُمكِن أن نجعل هذه العبارة شِعارًا له: حَذارِ أن تَبقى حَيثُما كنتَ وكيفما كُنت. فأصوله تَنحَدِر من الغابات السوداء (حيثُ عاشت عائلةُ أبيه في بلدة آخرن في المنطقة الجنوبية التي تُعرَف باسم الغابة السوداء) وأمُّه قد حمَلَتْه إلى مُدُن الأسفلت (كما يقول في قصيدته عن برتولت برشت المِسكين) وهناك وُلِد ونشأ في مدينة أوجسبرج التي كان أبوه يَعمل فيها مُوظَّفًا بسيطًا في «شركة هايندل» لصناعة الوَرَق قبل أن يَترقَّى بالتَّدريج إلى مَنصب المدير التِّجاري وينقل أسرته من قاع الطبقة الوُسطى الفقيرة إلى حياة «برجوازية» مُريحة في مَسكنٍ واسعٍ يَسَّرَتْه له الشركة وسط البيئة العُمَّالية المُحيطة. ويبدو أن احتِقاره للبُرجوازية وعداءه الاستِفزازيَّ لها قد بدأ يَتملَّك وَعْيه منذ ذلك الحين، ثم وصل إلى حدِّ مُقاطعة أُسرته تمامًا بعد موت أمِّه في اليوم الأول من شهر مايو سنة ١٩٢٠م. وحاوَل بعد ذلك بوقتٍ طويل أن يجِد في أصوله نفسها مُبرِّرًا تاريخيًّا لانتمائه إلى الطبقة الدُّنيا وانشِقاقه المُبكِّر عن طبقته، وذلك في قصيدته البديعة «العَجوزة المَهينة» عن جدَّته لأبيه التي تَفرَّق أبناؤها وبناتها بعد موت الأب ورَفَضتْ أن يعيش أحدهم معها في بيت العائلة الكبير، مُصمِّمةً على أن تعيش السَّنتَين الأخيرتَين من عُمرها حرَّةً طليقةً بين أصدقائها الفُقَراء، مُستمتِعةً بمالِها القليل لتعويض شقاء العُمر الذي قَضتْه في عُبوديَّةِ الخِدمة المُضنِية لأفراد أُسرتها وأبنائها الذين قاطَعَتْهم وضاقت حتى بِسؤالهم عن أحوالها أو الإشفاق عليها والوقوف بجانبها.

ومع ذلك فقد عاش حياة صَبيٍّ بُرجوازيٍّ عادي، وتَزعَّم «شلة» الأصدقاء الفَوضَويِّين الذين دأبوا على إزعاج المُواطنين في الشوارع بصَخَبِهم وغِنائهم وعَزفِهم على القِيثارة، وعلى التجمُّع في أحضان الطبيعة الأمِّ على ضِفاف «نهر الليش» أو في أعماق الغابة السَّوداء. وخَلَّد برشت هذه المرحلة الفَوضويَّة المُعبِّرة عن عدائه للبرجوازية في شخصية الشاعر التَّعبيري المُتهتِّك والمُستهتِر بكلِّ القِيَم والمُواضَعات الاجتماعية إلى حدِّ العَدَمِية في أولى مسرحياته الكُبرى في شخصية «بَعْل» الذي يَحيا حياة وَحشٍ طبيعيٍّ فاجِرٍ على حساب الآخرين. ويصعُب في الحقيقة أن نقول إنه نموذج مُطابِق تمامًا لشخصية برشت في ذلك الحِين مهما اتَّفقَ معه في نزعته العدَمِيَّة المُتمرِّدة. والدَّليل على هذا أنه يَسخَر طول الوقت في هذه المسرحية — وفي المَسرحيَّتَين التَّعبيريَّتَين التالِيَتَين لها وهما: طبولٌ في اللَّيل، وفي أدْغال المُدُن — سُخريةً فظيعة من التَّعبيرية التي عاصَرَها وتأثَّر بأساليبها الفنية، ولكنه رَفَضها من أعماقِه وطَفِقَ يبحث عن بَدِيلٍ إيجابيٍّ يستطيع أن يُغيِّر الواقع الفاسِد ولا يكتفي بالصُّراخ المُطلَق الأجوفِ احتجاجًا عليه (راجِع كورال بعْل العظيم، وأُغنية بعْل والموت في الغابة، وغيرها من قصائد هذه المرحلة التي امتدَّت حتى أواسط العشرينيَّات). والغريب أن كراهِيَّته الشديدة للحَرب قد ظهرَت بالفِعل في القصيدة المشهورة التي كتَبَها سنة ١٩١٨ وهي «خُرافة الجُنديِّ المَيِّت» التي ضَمِنتْ له في العشرينيَّات مكانًا مَرموقًا في القائمة السوداء التي أعدَّها النَّازِيُّون للكُتَّاب والشُّعراء الذين اتَّهموهم بعد ذلك بالخِيانة والانحِلال وأحرَقوا كُتُبَهم في ذلك الحريق الأسود المعروف (راجِع نصَّ القصيدة ضِمن القصائد المُختارة من إنتاجه الشِّعريِّ بين سنَتَي ١٩١٦ و١٩٢٦م). ويُقال إنها كانت وراء تجريد النازِيِّين له من الجِنسيَّة بسبب سُخرِيته الفظيعة فيها من العسكريَّة الألمانية.

وتعثَّرت دِراسة برشت — التي قَطَعَها عمله كمُمرِّض في المُستشفَيات المُتنقِّلة خلال الحرب العالمية الأولى — بين مَدينتَي أوجسبورج وميونيخ، وبين الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم الأدب والمسرح، فلم يَنتظِم فيها ولم يُتِمَّها أبدًا. ولكنَّه عوَّض عن ذلك الفَشَل بِكتابة مسرحية «طبول في الليل» (١٩١٩م) التي حقَّقت له أوَّل نجاحٍ باهِرٍ في حياته المسرحية عندما جلبَتْ له جائزة كلايست الأدبية المَرموقة في سنة ١٩٢٢م (نسبةً إلى الأديب والكاتب المسرحي العظيم هينريش فون كلايست (١٧٧٧–١٨١١م)). والجدير بالذِّكر أن الناقد هربرت إيهيزنج — الذي يُعدُّ بِحقٍّ مُكتشِف برشت — قد كتب يقول في ذلك الحِين بلهجةٍ شديدة التحمُّس للكاتِب المسرحي الناشئ: «إن برتولت برشت قد غيَّر الوجه الأدبيَّ لألمانيا.» وهذه المسرحية — التي تشرَّفتُ بمُراجعة ترجمتها العربية في الستينيَّات — تُوجِّه النقد القاسي للطبقة البُرجوازية التي تكوَّنت في ظلِّ جمهورية فيمار الضعيفة المُتهالِكة وحقَّقت «إنجازاتها» على جُثَث الضحايا من الفقراء والعُمَّال العاطلين والمهزومين العائدين من الحرب. هنا نجِد نموذج الإنسان «المُتكيِّف» في العِشرينيَّات، كما نجِد في مسرحية «رَجُلٌ بِرَجُل» (التي كُتِبتْ بين سنَتَي ١٩٢٤ و١٩٢٦م) نموذج الإنسان «المُتفاهِم» مع الواقع الاجتماعي المُتغيِّر إلى حدِّ المُوافقة على أن يستبدل بشخصِه شخصًا آخر يُمكِنه أن يُعايِش الواقِع الجديد. لقد تغيَّر هذا الواقع وغيَّر معه الإنسان تَغييرًا عميقًا بإخضاعه لسَطْوَة التِّقنِيَة وإغراق فردِيَّته في مُجتمَع «الجماهير» وتكريس عُزلَتِه واغترابه وفُقدان «وجهه» وشخصيته. ولا يعني «التَّفاهُم» الذي تُدافِع عنه المَسرحِيَّتان قَبول المُعطَيات الجديدة قَبولًا أعمى، بل يعني ضرورة وضعِها في الاعتبار كحقائق اجتماعية لا بُدَّ من الاعتراف بها إذا أردْنا ألَّا يقِفَ التَّغيير عند حدود الرَّغبة والتَّمَنِّي، وإذا حاوَلْنا كذلك أن يَستعيد الإنسان فردِيَّته أو تفرُّدَه كجُزءٍ لا يتجزَّأ من الجماعة و«أنا» لا قوام لها إلا ﺑ «النَّحْنُ» ولا عملَ حقيقيًّا إلا من خلاله. ولا تعني هذه المرحلة من حياة برشت وإنتاجه (من حوالي ١٩٢٤م إلى ١٩٣١م) التي وُصِفت أحيانًا بالمرحلة السُّلوكية (نسبةً إلى المدرسة السلوكية الأمريكية المعروفة في علم النفس — أو بالأحرى علم السلوك!) أنه أذْعَنَ لأيديولوجية التكيُّف الرأسمالية أو أغمَض عينَه عن اغتراب الفرد وبُؤسِه في ظلِّ العلاقات الاجتماعية البرجوازية أو تَوقَّف عن التمرُّد عليها، بل معناه أن هذه الحقائق والضرورات الجديدة قد أصبحت وقائع ينبغي أن يُحسَب حسابها؛ لأن الإنسان المُغترِب في هذا المُجتمَع لن يتخلَّص من اغتِرابه إلا بتغيير المُجتمع، ولأن الفرد ليس مُعطًى في فراغ وإنما هو نتاج العملية الاجتماعية نفسها. وتَفهُّم هذه العملية — ولا أقول الموافقة عليها! هو الشرط الضروري لتغييرها وتغيير الإنسان «الاجتماعي» معها — وطبيعيٌّ أن نلمَح هنا البِدايات الاشتراكية التي ظهَر معها إيمان برشت بدَور «الجماهير» في المُجتمع الطَّبَقي، أي بدور الطبقة العاملة كقوَّةٍ تاريخية قادِرة على التغيير.

غيَّر برشت مكان إقامته أيضًا، وأخَذ يُهيئ نفسه للانتقال من ميونيخ — التي عاش وعمل فيها حتى سنة ١٩٢٤م — إلى برلين التي سيعقِد فيها أواصر صداقات عديدة، ويُقدِّم بعض أعماله الدِّرامية للعَرْض على مسارحها (قُدِّمت «طبول في الليل» على خَشَبة المسرح الألماني في شهر ديسمبر سنة ١٩٢٣م. و«في أدْغال المُدن» على المسرح نفسه بعد مرور ما يقلُّ عن العام، كما تعرَّف على هيلينة فايجل التي تزوَّجَها بعد ذلك وجسَّدَتْ أهمَّ وأشهر شخصيَّاته وهي الأمُّ شجاعة، وتولَّت إدارة فِرقته المسرحية بعد رُجوعه معها من مَنفاه في سنة ١٩٤٨). وتجلَّت شخصية برشت «الجماعية» التي لا يَحلو لها العَيش والإنتاج إلا مع الجماعة ومن أجلِها، ولا تؤمن بالخُرافة المَوروثة عن الرومانسية والتَّعبيرية بأن الأديب كائن فرديٌّ مُتوحِّد؛ فهو يَغوص في أدغال المدينة، ويُوثِّق صِلاته بالأصدقاء، ويَستَعِين بالمُساعِدين والمُساعِدات (مثل مرجريته شتيفن وإليزابيت هاوبتمان التي لازَمَتْه حتى وفاته) في إعداد نصوصه وتعدِيلها ومُناقشتها مَعهنَّ ومع المُمثِّلين والفنيِّين والنَّظارة أيضًا في صبرٍ وتَسامُحٍ وقُدرة نادرة على التعلم من الآخرين، وعلى الإنتاج الجماعي للمسرحية٦ والفيلم على السواء، وتَغيير النَّظرةِ السائدة للعَلاقة بين الفنِّ والمُجتمع؛ لأن الأصالة تكمُن في الاعتراف بأن الأبْنِية العظيمة لا يستطيع أن يُشيِّدَها فردٌ واحد (على حدِّ قوله في خِتام إحدى قِصَصِه اللَّاذِعة عن السيد كوينر). ومن هنا أُلصِقتْ به أيضًا تُهمة السَّرِقة الأدبية والتَّسبُّب في نهْبِ التُّراث دون أي حرَج (كما فعل معه الناقد ألفريد كير بعد عرض أوبرا القروش الثلاثة التي اقتَبسها عن الكاتب الإنجليزي جون جاي، فردَّ عليه مُبرِّرًا ذلك «بمُرونته المَبدئيَّة» في المسائل الخاصَّة بالمِلْكية الثقافية، وبحقِّه المُطلَق في مُعالَجةِ أيِّ مادَّةٍ يَراها مُلائمةً لتَحقيق أغراضه الفَنيَّة ورِسالته الأدبيَّة والاجتماعية). وكم أخذ واقتَبَس — كما سبَق القول — على طريقته من الكلاسيكيين القُدَماء — وبخاصَّةٍ سوفوكليس وهوراس — ومن المُحدَثين — وعلى رأسِهم شكسبير — وكم تناوَل من أفكارٍ وقصصٍ وحكاياتٍ شعبية بمجرَّد سماعِها أو قراءتها، مع الحِرص دائمًا على «رفع» هذه المادة — بالمَعنى الذي يُفهَم من عملية الرَّفع في المُثلَّث الجدَلِي المشهور عند هيجل! بحيث يَتمُّ تشكيلها وصياغتها من وِجهة نظرهِ الواقعية والكِفاحيَّة التي تهدف في النهاية إلى التغيير.

وتأتي سنة ١٩٢٦م بأهمِّ «تحوُّل» مُثير في حياة برشت، وإن كان هذا التحوُّل قد جاء نتيجةً طبيعية لتصوُّره للواقع وتَغلغُله في حياة «الطبقة الدنيا» ومتاعِبها ومآسيها اليومية، بحيث أصبح إنتاجه في هذه المرحلة بالذَّات (حتى سنة ١٩٣١م) وفيما بعدَها مرآةً لعصره، وتعبيرًا عن تفاعُله مع القضايا الواقِعيَّة والمُشكِلات المُلِحَّة، بعدَ أن بَقِيَ بصورةٍ أو أخرى مُرتبِطًا بحياته الشخصيَّة (ولا أقول الذاتية!) قِيل عنه إنه لم يكُن يكفُّ في هذه الفترة عن الاختِلاط بالعُمَّال، وأنه كان يتعمَّد أن يظهَر بينهم بملابِسَ عُمَّالية فقيرة مُبقَّعة ومُلطَّخة بالشَّحم والزَّيت، بل يزعُم صديقه الحميم، فيلسوف الأمل والمُستقبل «اليوتوبي» إرنست بلوخ (١٨٨٥–١٩٧٧م) أنه ابتكر آلةً فِضيَّةً مُعقَّدة لتلويث أظافِره حتى يُثبِت انتماءه للعُمَّال وانشقاقه عن طبقته البرجوازية. والمعروف أنه لم يَنضَمَّ أبدًا لأيِّ حزبٍ من الأحزاب «التقدُّمية» الكثيرة في العشرينيَّات، ولم يثبت أنه شارك بأي نشاطٍ عمَليٍّ في التنظيمات العُمَّالية أو في الحياة السياسية والاقتصادية المُضطربة قبل انهيار حكومة فيمار بعد سنة ١٩٣٠م وزَحْف جَحافل القُطعان النَّازيَّة السوداء على السلطة، وكلُّ ما يُمكِن قوله هو أنه حرص على البقاء بالقُرب من «العاديِّين» الذين نَظلِمهم عندما نَصِفُهم بأنهم الدَّهْماء والعامَّة والرِّعاع. ومن أهم مَعالِم هذا التَّحوُّل البارِز أنه أقبَلَ في هذه المرحلة على قراءة ماركس (وهيجل بطبيعة الحال!) وتعلَّم الكثير من الماركسية ومن كِتاب رأس المال، لا سيما نظرية ماركس عن فائض القِيمة والأزمات الدورية للرأسماليَّة والصِّراع الطبَقِي والحتميَّة التاريخية لانتصار الاشتراكية إلى آخر ما يعرفه القارئ، وكان وراء توجُّهه لكُتُب ماركس الأزمة الطاحنة التي عرَّضت بورصة الغِلال للانهيار ولم يجِد لها أيَّ تفسيرٍ معقول (حاول أن يُعالِجها في صِيغة مسرحية بعنوان جو فارم اللحم ولكنه لم يُتِمَّها أبدًا ولم يبقَ من مشروعها سوى بعض الأغنيات).

ولا بُدَّ في هذه العُجالة من القول باختصارٍ شديد بأن اعتناقَه للماركسية لم يرتبط بأيِّ «أدْلَجَة» للأدب والفن، وأن اقتناعه بها لم يبلُغ أبدًا حدَّ التزمُّت الضيِّق أو التحجُّر المذهبيِّ المُغلَق في إطارٍ نظريٍّ فوقيٍّ يُمكِن أن يفرِض على الواقع الذي علمته الماركسية نفسها أنه جدلي مُتغير، كما هدَتْه بَصيرته الشِّعرية وحاسَّتُه الفنيَّة والدِّرامية إلى أن هذا الواقع هو الذي يفرِض الشكلَ الأدبيَّ أو الفنيَّ المُلائم له ولا يصحُّ أبدًا أن يُفرَض عليه الشَّكل أو تُفرَض النظرية، حتى ولو كانت هي الواقعيَّة الاشتراكية التي تَحمَّسَ لها على طريقته.

كانت الماركسية بالنسبة إليه هي «المنهج» الذي يُمكِّنه من فَهم الواقع المُتغيِّر، وتحديد أسلوب المُمارسة العملية والعقلانية الصَّحيحة، وإدراك العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في سِياقها التاريخي والإنساني إدراكًا بعيدًا عن الوَهْم والتَّزييف (الذي كانت ولم تزَلْ تقوم به أجهزة الإعلام للتَّسلِية وتغييب العقل النقدي وخَلْق المُتلقِّي السَّلْبي الذي لا يُشارك فيما يَتلقَّاه ولا يتَّخِذ منه موقفًا ولا يتحدَّاه …) والحقُّ أن برشت قد اتَّجه إلى الماركسية كشاعرٍ وفنانٍ قبل كلِّ شيء، وأنه حوَّل هذه الفلسفة — التي لا يشكُّ أحدٌ في أنه أخذ منها رؤيتها المادِّيَّة للوجود والمعرفة والتفكير، وجوهرها الإنساني كما نَجِده على الأخصِّ في كتابات ماركس الشاب ومخطوطاته الشهيرة التي اعتمد عليها مُجدِّدو الماركسية (الذين لم تغِب محاولاتهم عنه كما كان بعضهم من أعزِّ أصدقائه مثل فالتربنيامين وبلوخ الذي سبق ذكره، إلى جانب اعتباره في نظر الاشتراكيِّين الفاشيِّين والستالِّينيِّين المُتشدِّدين أحد المُنشقِّين عنهم٧ … أقول إنه حوَّلها إلى إطار نظريٍّ ومنهجيٍّ لرؤيته الشِّعرية. والأهم من ذلك كلِّه أنه اعتمدَ عليها اعتمادًا كبيرًا في صِياغة نظريَّتِه المعروفة عن «المسرح المَلحَمي» وعن أثر «الإغراب» المشهور وضرورة إحداثه في وجدان المُتلقِّي وعقله ليزداد وَعيًا بما يدور أمامه على خشبة المسرح من مُتناقِضات ومُفارقات تَستفزُّه للنَّقد والتحدِّي والتغيير (لاحِظ بهذه المُناسبة صِلةَ القرابة — حتى في لُغَتِنا العربية — بين اغتِراب الإنسان أو تَغريبه في ظلِّ العلاقات الاجتماعية الرأسمالية كما تحدَّث عنه ماركس، وبين «الإغراب» البرشتي الذي يهدف إلى تخليص الإنسان — عن طريق الفنِّ وفنِّ المسرح بالذات — من ذلك الاغتراب الأساسي).

ومُجمَل القول إننا نَظلِم برشت إذا تصوَّرنا أنه كان مُجرَّد داعِيةٍ للماركسية أو الشُّيوعيَّة أو مُحرِّض على تبَنِّيها، لا لأنه يؤمنُ أعْمَقَ إيمانٍ بحريَّة القارئ والمُشاهد تِجاه ما يُقدِّمه له في الشعر والمسرح من نماذجَ واقتراحاتٍ كما سبَق القول، ولا لأنه — بِمكرِه الفَنيِّ الشديد! قد استطاع أن «يوظِّف» الماركسية في تفكيره الواقعي والعملي والعقلاني، وفي رؤيته للأحداث والظواهر الاجتماعية والتاريخية والأدبية رؤيةً جمالية وجدلية كما سبقت الإشارة لذلك أيضًا، بل لأن أعماله نفسها — حتى في المرحلة التي تُوصَف بالمرحلة التعليمية في حياته وإنتاجه والتي استمرَّت من حوالي سنة ١٩٢٧م إلى حوالي سنة ١٩٣١م — لم تكن أعمالًا تُدافِع عن قضايا مُعيَّنة أو تدعو إليها، وإنما كانت في حقيقتها «تدريبات» فنيَّة وجمالية في مُواجهة الفنِّ «البرجوازي» المُتهالِك والمُبرِّر لمُجتمع الظلم والاستغلال وتجارة الحروب، وفي مواجهة الإعلام والأدب المُزيَّف والمُغيِّب لعقل المتلقِّي وحريته واستقلاله كما سبق القول، وحتى مسرحياته التعليمية التي تتردَّد فيها لهجة المُهيِّج أو المُحرِّض على الثورة الجماعية للعمال والفقراء والمُستغلِّين والمظلومين والمحرومين وتحثُّهم على التَّضامُن لدَرءِ الخَطَر النازي البادي في الأُفُق كما نرى في الاستثناء والقاعدة ومسرحية الأم — عن رواية مكسيم جوركي الشهيرة — ومسرحية القرار أو «الإجراء» التي سبَق ذِكرها وبقيَ أن أقول إنه في أواخر حياته كان يرفُض عرضَها على المسرح رفضًا باتًّا، إلى جانب فيلمه الكروش الرَّطبة ١٩٣٠م. أقول إن كلَّ هذه المسرحيات التعليمية أو التَّحريضيَّة التي لم يُكتَب لها النجاح لم تكن سوى تَشخيصٍ فنيٍّ على خشبة المسرح لفلسفته الواقعية والعقلانية والعملية — إلى حدِّ النَّفعية البرجماتية! ولم تكن بأي حالٍ من الأحوال مسرحياتٍ دعائيةً تروِّج لنظريةٍ فلسفية مُحدَّدة يعلَم هو نفسه أكثرَ من غيره أنها كسائر النظريات — حتى الجمالية والفنية كما قلت — قابلة للتَّغيُّر على ضَوء الواقع الذي لا يجوز أبدًا أن يُحشَر في قوالبها، وأنها قدَّمت له من مناهِج التفكير والرؤية والفِعل ما كان مُلائمًا لطبيعته وحاجته، وأنه في النهاية قد استطاع أن يحوِّل تلك الفلسفة التي انهار تطبيقُها بعد رحيله إلى تجاربَ فنية وتدريبات مسرحية جماعية، وكان هذا الانهيار نتيجةً طبيعية للتَّزمُّت المذهبي والغباء البيروقراطي والتَّجنِّي الرَّهيب على حقوق الإنسان في حرية التفكير والاعتقاد والعمل، بالإضافة للتَّصفِيات المُستمرَّة وأعمال القَهْر التي ضاق بها وأعلن احتجاجه عليها في أواخر حياته كما يَشهَد على ذلك خِطابه الشهير لأولبرشت حاكِم ألمانيا الشرقية السابقة بعد تمرُّد العُمَّال المشهور في شهر يونيو ١٩٥٣م وقصيدته الشهيرة «الحل» التي تجِدها في هذا الكتاب). ومع اعتقادي بأنه بَقِيَ على اقتناعه وإيمانه بالاشتراكيَّة وبقُدْرتها على التَّجدُّد في المُستقبل طبقًا للإمكانات الإنسانية والمعرفية الكامنة فيها ولإمكانات الواقع المُتجدِّد، فالمُهِمُّ في هذا السياق أنه حوَّل «النظرية» أو المذهب إلى فلسفةٍ حيَّةٍ على المسرح وفي الشِّعر، وأنه وظفها فيما يُمكِن وَصْفه بفلسفة رَجُل الشارع — الفقير والجائع والضَّحيَّة الدائمة لكلِّ الجلادين — وأنه — ككلِّ إنسانٍ وفنانٍ حقيقي — مُطلَق الحرية في أن يَتبنَّى النظرية أو الفلسفة التي يشاؤها، بشرط أن يُجسِّدها في فنٍّ صادِقٍ حيٍّ لا يموت بِمَوت النظرية أو الفلسفة — كما تشهَد على ذلك أعمال الشعراء والأدباء والفنانين الكبار التي لا تزال خالِدةً رغم التَّغيُّر الحَتْمي للنظريات والآراء والفلسفات التي جَرَفَتْها أنهار التَّغيُّر والتحوُّل عبر العصور والحضارات.

وصدَق حدْسُه وبُعد نَظَرِه عندما تنبَّأ بالكارِثة قبلَ وقوعِها؛ فقد أحسَّ مع غيره من المُثقَّفين في العِشرينيَّات بأن جمهورية فيمار (١٨١٨–١٩٣٣م) الهَشَّة آيِلَة للسُّقوط، وأن العصابات النازية التي افتضحت نواياها وجرائمها تُواصِل زَحْفَ الوحوش للاستيلاء على الحُكم تمهيدًا لإشعال نِيران الحرب. ولم يكن «التحوُّل» الماركسي ولا المسرحيات التعليمية والثورية التي سبَقت الإشارة إليها سوى مُحاولات يائِسة لفتح الأعيُن على الخَطَر القادِم لا مَحالة، ودعوة للعُمَّال والفقراء والغافِلين المَخدوعين من أبناء الطبقة الدُّنيا للتَّضامُن والمُواجَهة، ولكن هذه الأعمال لم يكن لها صدًى يُذكَر، ولم تُحدِث التأثير الذي تَوقَّعَه منها. كانت الساحة السياسية والاقتصادية كالبحر العاصِف المُضطرِب الذي لا تَستطيع حتى ربَّات الفنون أن تُعيد إليه السَّكِينة أو تُقِيم في ظُلُماته مَنارة العقل. وبَقِيَ «البرجوازي» العادي غبيًّا لا يَتعلَّم ولا يُحاوِل تَجاوُز الماضي والحَيلُولة دون أن تتكرَّر مآسيه.

استولى النَّازيُّون على السُّلطة، ولم يُخالِج برشت أيُّ شكٍّ في أن «هتلر» هو الحرب، وقَوِيَ يَقِينه باستِحالةِ الحياة والعمَل تحتَ سقفِ القمْعِ والإرهاب المُظلِم بعد الحريق المشهور للبرلَمان الألماني (الرايشستاج) في السابع والعشرين من فبراير سنة ١٩٣٣م، فصمَّمَ على الهرَب من بلاده بأقصى سُرعةٍ مُمكِنة. واتَّجه إلى الدانمرك عن طريق براغ وفِينَّا وباريس حيث استقرَّ مع عائلته ومُساعِدَته الوَفيَّة مَرجريت شتيفين في مَنفاه بالقُرب من ميناء سفندبورج الصغير ما يقرُب من سَبعِ سنواتٍ كانت من أطيَبِ وأخصَبِ سنواتِ حياته وحُبِّه وإبداعه (يكفي القول بأنه استطاع أن يُنجِز ثلاثةً من أهمِّ مسرحيَّاته تُعدُّ من أهمِّ المَعالِم البارِزة في الإنتاج المسرحيِّ في القرن العشرين، وهي الأم شجاعة وأبناؤها، والإنسان الطيِّب من ستشوان، وحياة جاليليو جاليلي في صِيغتِها الأولى، بالإضافة إلى عدَدٍ كبير من القصائد التي تُعرَف بقصائد سفندبورج، وتجِد مُختاراتٍ منها في هذه المجموعة المُنتَخبة وتدُلُّ على اتِّجاه شِعره إلى المَلحمِيَّة واستفادته من التُّراث الشرقي في تَعبئة كلِّ أسلحته الفنية ضد الحرب). تحوَّل إنتاج برشت في غُربة المَنفى التي استمرَّت قُرابة الخمسة عشر عامًا تحوُّلًا تامًّا إلى مكافحة الفاشية، وجنَّد لذلك كلَّ موضوعاته وإمكاناته اللُّغويَّة والشِّعرية على أمل تقوية العناصر المُناهِضة للرُّعب النازيِّ داخِلَ بلاده وخارِجها، ومن الاتِّجاهات اليمينية واليسارية على حدٍّ سواء، لعلَّ الجميع يتعاوَنون — بعد القضاء على النازية التي لم يَشكَّ لحظةً في هزيمتها الحَتميَّة — لخلْق ألمانيا أخرى مُوحَّدة وحُرَّة وأكثر إنسانية. وكان أشدُّ ما غاظَه في تلك الفترة العَصيبة هي تلك التيَّارات السياسية التي لم يرَ أصحابها في النازيَّة سوى البَربريَّة المُعادِية للثقافة أو الحضارة التي ينبغي توجيه النِّضال لإنقاذها من براثِنها، وكأن الانتصار على الوَحْش البربريِّ الأشْقَر كفيلٌ باستقرار قِيَم الحقِّ والعَدْل والعقل والسعادة والسلام! ولكن الأمر في نَظرِه كان أكثرَ تعقيدًا وأعمقَ جذورًا؛ إذ لا مَفرَّ لتحقيق ذلك «الحلم المُمكِن» من تغيير العلاقات الاجتماعية وعلى رأسها علاقات المِلْكيَّة تغييرًا يُلغي أي فُرصةٍ لعودة الظُّلم والاغتراب واستغلال الإنسان للإنسان وتنشيط التجارة القَذِرة المُدمِّرة بإشعال فَتيل الحروب الكبيرة والصغيرة كلما خَبَتْ نِيرانها. يدُلُّ على هذا أنه دُعِيَ سنة ١٩٣٥م لحضور المؤتمر الدولي للكتاب الذي عُقِد في باريس للدِّفاع عن الثقافة — أو الحضارة — وإنقاذها من مَخالِب الفاشيين. كانت الجبهة المُوحَّدة من الرأسماليين الليبراليين والبرجوازيين المَسيحيِّين والاشتراكيين الديمُقراطيين والشيوعيين وراء الدعوة لهذا المؤتمر وتنظيمه، وكان من بين المُشاركين والمُتحدِّثين فيه شخصيات أدبيَّة وفكريَّة مرموقة: مالرو وباربوس وجيد وهينريش مان وﻫ. ج ولز وإرنست بلوخ وروبرت موزيل وبرتولت برشت الذي سارع بالحضور من منفاه الدنمركي «تحت سطحٍ من القش». كان هو الوحيد الذي لم يتكلَّم عن الكلمة (التي نامَت عِندما صحا ذلك العالم الفاشي على حدِّ تعبير صديقه النمسوي كارل كراوس)، ولا عن ضرورة إنقاذ القِيَم الثقافية الرفيعة من الغرَق في الدم والتلوُّث برماد الخراب؛ لأن الذي يُخنَق تَحتبِس الكلمة في رقبته على حدِّ قوله في إحدى قصائده. لذلك كان هو الوحيد الذي أثار سُخط الجميع واستِهجانِهم عندما خاطَبَ المؤتَمِرين قائلًا: «أيها الزُّملاء والرِّفاق، فلنتكلَّم عن تغيير علاقات الملكية.»

عرَف برشت — كما سبق القول — أن وُصول هتلر إلى الحُكم معناه الحرب. ولم تترُكْه الحرب لِيُواصِل حياته السعيدة المُنتِجة تحت سطح القشِّ الدنمركي (الذي كان في الحقيقة فيلَّا جميلة ذات حديقةٍ واسِعة هيَّأت له ولأُسرته سنواتٍ عامرةً بالهدوء والحبِّ والإنتاج الخِصب بفضل صديقاته وأصدقائه الدنمركيين!) واضطُرَّ أمام الزَّحف النازيِّ على الدنمرك والنرويج أن يهرُب مرةً أخرى إلى السويد ثم إلى فنلندا (١٩٤٠م) حيث أقام فترةً قصيرة واستخرج جواز سفر إلى الولايات الأمريكية المُتَّحدة التي سافر إليها عن طريق الاتحاد السوفيتي (لم يخطُر على بالِه أن يلجأ إليه كما فعل غيره بِسبب اعتبارِه ماركِسيًّا مُنشقًّا في نظر الستالِّيين المُتشدِّدين كما سبق القول).

حمَل معه مَخطوطات قَصائدِه ومسرحياته التي كان قد بدأها وأنجَزَ مُعظمها في المَنفى الدنمركي. وكان من أهمِّها مسرحيته التي دَعَمت شُهرته العالمية وهي «الأم شجاعة وأبناؤها» التي تؤكِّد أنَّ الحرب تِجارة، وأنَّ الإنسان العاديَّ لا يتعلَّم منها إلا بقدْرِ ما تتعلَّمه النَّملة من عِلم الحشرات! لم تكُن هذه الأمُّ شخصيةً تراجِيديَّةً يُمكِن أن تؤثِّرَ علينا بسقْطتِها النبيلة أو بالخطأ أو الذَّنب الذي تقَع فيه دُون ذنبٍ كما تَشهَد التراجيدية القديمة والحديثة وكما عرفها أرسطو بالاستِناد إلى شخصية أوديب. لقد جاء تأثيرُها الجارِف على النَّظارة والقُرَّاء من كونها امرأةً عادية غبيَّةً لم تتعلَّم أيَّ شيءٍ من سُقوط أبنائها الثلاثة ضحايا للحرب التي يُدِيرها ويموِّلها عِليَةُ القوم. والدَّليل على هذا أنها تَجرُّ عربتَها في النهاية لتقديم المَزيد من الضَّحايا الذين ستدُوسُهم عَجَلة الحرب! (أُتِيح لي أن أُشاهِد عرضها الرائع وتمثيل هيلينة فيجل (١٩٠٠–١٩٧١م) لِدَور الأمِّ على مسرح فرقة برشت في سنة ١٩٦٠ فأثَّرت عليَّ أنا أيضًا وجَعلتْني أتشكَّكُ منذ ذلك الحِين في إمكان التطبيق العمَلي لنظرية برشت الشهيرة عن أثر الإغراب).

وفي فنلندا تعرَّف على قصةٍ شعبية عن رجُل فاحِش الثراء، كلَّما شَرِبَ وغَرِقَ في السُّكْر امتلأ قلبه بحبِّ البشر وبالكرَم والعطف والإحسان البالِغ على الخدَم والأتباع الفُقراء، حتى إذا أفاق من سُكْره ارتدَّ إلى القَسوة والبُخل والفظاظة والظُّلم المعروف عن الرأسمالي الجَشِع، وأثبتَ استِحالَة التَّصالُح بين طبقَتَي المُلَّاك والمُعدِمين، والمُستَغِلِّين والمُستَغَلِّين، كما أكدَّ إصرار برشت في هذه المسرحية الشعبية المَرِحة أيضًا على أنَّ ألِفَ باء التَّغيير الحقيقي هو تَغيير علاقات المِلكيَّة.٨

ويُؤكِّد بعض النُّقاد أنه استفاد في هذه المسرحية من قراءاته السابقة لديدرو ومن أفكاره التي طرَحَها على لِسان الخادِم جاك «القدري» — في روايته المعروفة بهذا الاسم — عن سيِّدِه الأرستقراطي، كما انتفَع بالفقرة الشَّهيرة في «ظاهريات الرُّوح» لهيجل عن جَدَل السيِّد والعبد، لا سيما بالعِبارة التي تقول إن العبْدَ هو حقيقة السيِّد. ولعلَّه قد ردَّدَ في نفسه أثناء العمَل في هذه المسرحية ذلك السؤال الحاسم: «من … من؟» أي من يَضطَهِد من، ومن المُنتصِر ومن المَهزوم؟

وقد كثَّف هذا كلَّه تكثيفًا شِعريًّا في أُغنيَته عن نهر المولداو، وهي إحدى أُغنيات مسرحيَّتِه «شقايك في الحرب العالمية الثانية» (١٩٤٣م): في قاع المولداو تجري الحصى الحَجرية، وفي براغ دُفِنَ ثلاثة قياصرة، لا الكبير يبقى كبيرًا ولا الصغير صغيرًا، الليل يدوم اثنَتَي عشرةَ ساعة ثم يَطلع النهار. الأوقات تتغيَّر وتتحوَّل. المشروعات الضَّخمة للحُكَّام الأقوياء تتوقَّف في النهاية حتى لو تَبختَروا في مِشيَتهم كالدُّيوك الدَّموية، فالأوقات تَتحوَّل وتتَغيَّر، والقوة لا تُجدي شيئًا. في قاع المولداو تَتجوَّل الحصى الحَجرية، وهناك ثلاثة قَياصِرة مدفونون في براغ. لا الكبير يبقى كبيرًا ولا الصغير صغيرًا. والليل يدوم اثنتي عشرة ساعة ثم يطلع النهار …

ووصل مع عائلته إلى كاليفورنيا حيث تنقَّل بين لوس أنجيلوس وسانتا مونيكا وهوليوود بالولايات المُتَّحدة الأمريكية بعد رحلة بريَّة وبحرية شاقَّة. وفي السُّوق الذي تُشتَرى فيه الأكاذيب وتُباع، تَحتَّم عليه أيضًا أن يقِفَ في الصفِّ ليعرِض أكاذِيبَه على صرَّافي الوَهْم وغَسْل المُخِّ في هوليوود (بعضُ الحوارات وسيناريوهات أفلام صُوِّر منها بإخراج فريتز لانج فيلم الجلَّادون أيضًا يموتون عن مَقتَل الجلَّاد النازي هيدريش في براغ). هنا كتَب مَرثيَّات هوليوود التي تدلُّ على إحساسه بأنه وَجَد نفسه يَعيش في جَحيمٍ أرضي، كما كتَب حكايةً شِعرية عن المُذنِبين في الجحيم — وهي حكاية يؤكِّد فيها بسُخريَّتِه اللاذِعة أن الجحيم لا يُوجَد على الأرض فحسب، ولا في لندن كما قال شيللي شاعِر الرومانسية الإنجليزية، وكما قال هو نفسه قبل ذلك بكثير في أوبرا مهاجوني، وإنما هوليوود هي الجحيم نفسه. صحيح أنه اختلَط بكثيرٍ من المُهاجِرين الألمان الذين سبَقوه إلى العَيش في ضاحية سانتا مونيكا، وكان من بينهم بعض أعلام الأدب والمُوسيقى والفنِّ التَّشكيلي بجانب اثنين من أَقدَمِ أصدقائه وأقرَبِهم إليه (الكاتب ليون فويشتفنجر والمُلَحِّن هانز آيزلر) ولكنه وَجَد كذلك بعضَ المُهاجرين الذين لم يَرتَحْ إليهم أبدًا، مثل تيودور أدورنو وهور كهيمر وبولُّوك من الأعضاء البارزين لمدرسة فرانكفورت النقدية الاجتماعية الذين لاذوا بمعهدِهم الشهير للبحوث الاجتماعية إلى أمريكا، واستطاعوا بكِتاباتِهم أن يُضخِّموا عُقدةَ الذَّنبِ الألماني عن مَحارِق النَّازي لأبناء مِلَّتِهم من اليهود، وهو ما استغلَّته إسرائيل بعد ذلك أبشَعَ استغلالٍ في صورة تعويضات بالمليارات! كما ضاق بوجود تُوماس مان الذي لا أشكُّ في أنه ظَلَمَه عندما تصوَّر أنه أحد «المُتعهِّدين» بتقديم الأدب المُعبِّر عن الرأسمالية للرأسماليين، وأنه هو الذي أوحى إلى الحُلَفاء بِمُعاقَبة الشعب الألماني لمُدَّة عشر سنوات — وهكذا وجَدَ نفسه مُحاصَرًا في الجحيم: مسرحياته شِبْه ممنوعة أو مشبوهة (باستثناء جاليليو) — وسيناريوهاته للسِّينما شِبه مرفوضة، وجِيرانه الذين يَختلِط بهم لا يُشارِكونه آراءه وأحلامَه عن ألمانيا أخرى مُوحَّدة وحُرَّة ومُسالِمة يعيش فيها شعب يضَع يدَه في أيدي جميع الشعوب، بدلًا من مُعاقَبته وتَضخيم عُقدَة ذَنبه التي أُسيء استِغلالُها أسوأ استغلالٍ ومن كلِّ النواحي كما سبق القول.

كانت الحرب قد انتهت وبدأت شُقَّة الخلافات والشكوك في الاتِّساع بين أمريكا والاتحاد السوفيتي الذي لم يُخفِ أطماعه التَّوسُّعيَّة تحت قبضة ستالِّين، مما حَمَل الأمريكيين على الخَوف من كلِّ ما هو «أحمر»، ومُلاحَقة كلِّ نشاطٍ يتوهَّمون أنه مُعادٍ لهم. واستُدعِيَ برشت إلى الإدلاء بِشَهادته أو لتَبرِئة نفسه أمام لجْنة التفتيش الشهيرة (التي سمَّت نفسها لجنة النشاط المُعادي لأمريكا ولم تَستثْنِ بعض الكتاب الأمريكيِّين والفنانيين اللامِعين مثل تشارلي شابلن وآرثر ميللر وليليان هيلمان). وأعدَّ برشت مُرافعةً دقيقة وأمينة لم يُعطَ الفُرصةَ لإلقائها أمام اللجنة في الثَّلاثين من أكتوبر ١٩٤٧م، ولكنه أكَّدَ فيها أنه لم يُشارِك أبدًا في أيِّ نشاطٍ حزبي، وأنه كتَبَ ما كتَبَه من شِعرٍ ومسرحٍ ضدَّ هِتلَر وعِصابة القَتَلَة مِن حَوْله بِدافِعٍ أدَبيٍّ خالِص وانطلاقًا من ضَميره الحرِّ كشاعِرٍ وكاتب حُر. ولم تجِد اللجنة فيما تحت يدِها من تَرجماتٍ إنجليزية لأشعاره ومَسرحيَّاته أيَّ تُهمةٍ مُحدَّدة يُمكِن أن تُدِين قَلمًا نذَرَه صاحِبُه للدِّفاع عن الحُريَّة والعَدْل والسَّلام فأطلَقَتْ سَراحه.

وبدأ برشت في اليوم التالي مُباشرةً في الاستِعداد للرُّجوع إلى بلاده هرَبًا من المَنفى ومن الجحيم.

وصلَ مع أُسرتِه، بِجواز سفرٍ نمسوي، إلى زيوريخ في سويسرا حيث كان في انتِظاره مُدير مسرحها وصديقه (كورت هيرشفيلد) الذي سبَق له تقديم ثلاثٍ من أهمِّ مسرحياته وبدأ معه في العمل لعَرض «السيد بونتيلا وتابِعه ماتي». وجاءته دعوة من الشاعر ووزير الثقافة في حكومة ألمانيا الشرقية السابقة (يوهانيس بيشر) لحضور مؤتمر ثقافي. وحاوَل في الطريق أن يزور أوجسبورج مسقط رأسِه وميونيخ التي دَرَس فيها في شبابه فمَنعتْه من ذلك سُلطات الاحتلال الأمريكية. وفي برلين الشرقية التي احتفلَت به وببعض المُهاجِرين العائدين في بيت الاتحاد الثقافي للتجديد الديمُقراطي بَقِيَ صامتًا لا يفتَح فمَه بكلمةٍ واحدة (كما قال بعد ذلك في مُذكراته)٩ ولكنَّه التقى في برلين بعددٍ كبير من أصدقائه ومُعاونيه القُدامى من الأُدَباء والمُوسيقيِّين ورجال المسرح، كما انهالت عليه العروض لتكوين فِرقته المعروفة بفِرقة برلين وتقديم عُروضها بصُورةٍ مُؤقَّتة على بعض المسارح المُتوفِّرة رَيْثَما ينتهي العمل في إعداد مسرحه الشهير في المكان والمَبنى الذي صُمِّم على اختياره دون غيره (وهو مسرح الشيفباوردام الذي شغله مع فرقته بعد ذلك بِثلاثِ سنواتٍ وتَولَّت الإشراف عليه زَوجته ومُمثِّلته الأولى «الأم شُجاعة» هيلينة فيجل)، وهكذا حسَم تردُّده وبَقِيَ مع «شعبه» وجُمهوره وأصدقائه في بِرلين. وتَوالت صُورُ التَّكريم والاحتفاء: عددٌ خاصٌّ عنه من المجلَّة الأدَبيَّة الشهريَّة في ذلك الحين، وهي مجلَّة المعنى والشكل، مُجلَّدٌ يَضمُّ مائة قصيدةٍ مُختارة مِن شعره، جائزة الدَّولة من الطبقة الأولى (١٩٥١م). وأهمُّ من ذلك كلِّه فُرصة البِداية الجديدة في التَّمرينات والتَّجارب الجماعية لتحقيق مَشروعه المسرحِيِّ وتطبيق نظريته التي طال الجدَل حولَها عن المَسرح المَلحَميِّ أو الجدَلي الذي يَستفزُّ المُشاهد لاتِّخاذ مواقف نقديَّة ويَحُول بينه وبين الاندِماج الوِجداني فيما يدور أمامه على الخشبة، ويُحفِّزه — كما هو معروف وكما سبق القول — على مُراجعة ثوابِت حياته وواقعه والعمَل على تغييرها.١٠ ولا يُمكِنُنا في هذا الحَيِّز المحدود أن نُتابِع عملَه الجماعِيَّ الشاقَّ والعروض التي أعدَّها (ومنها أوبرا مُحاكَمة لوكولُّوس التي حقَّقتْ نجاحًا ساحِقًا جعل بيروقراطيِّي الحِزب الواحد المُوحَّد يتراجَعون عن قرارهم بمُصادَرتها!) والنُّصوص الكلاسيكية ﻟ (موليير وسوفوكليس وشيكسبير وغيرهم) التي اقتَبَسها وصاغَها في لُغةٍ وشكلٍ ومَضمون مُختلفٍ يُلائم نَزعَته الاشتراكية والإنسانية الحُرة، ويُساهِم في التخلُّص من أعباء الماضي ومُراجعة قِيَمه «البرجوازية» الفاسدة. وسطَع إشعاع مسرحه وعاش أزْهى وأمْجَد فَتَرات ازْدِهاره طوال السنوات العَشر التي استمرَّت منذ افتتاحه مع بداية الخمسينيَّات وحتى إقامة سُور برلين الشهير (١٩٥٩–١٩٦٠م) بعدَ وفاته بحوالي ثلاث سنوات، وذلك قَبل أن يتَعرَّض للأزَمات التي تَلاحَقَت عليه حتى هُدِم ذلك السُّور معَ تَحقُّقِ حلم الوحدة الألمانية في أواخر الثمانينيَّات. ويؤسِفُني القول بأنه لم يَبلُغ إلى عِلمي شيءٌ عن المصير الذي انتهى إليه الآن.

ولا بُدَّ قبل أن نَختِم هذا التَّقديم من وقفةٍ قصيرة أمام «أزمة» الوجود المُغترِب التي مرَّ بها ذلك اليوم المُرعِب العَصيب الذي اشتعلَتْ فيه ثَورة العُمَّال في برلين الشرقية في السابع عشر من شهر يونيو سنة ١٩٥٣م وسحَقَتْها القوات الرُّوسية المُحتلَّة بالدَّبَّابات. والمشكلة شائِكَة والآراء حولَها لا تزال مُختلِفة ومُتضارِبة حتى يومِنا الحاضر، وما فَتِئتْ بعضُ الأصوات تُردِّد الاتِّهامات السابقة بالسلبيَّة والضَّعف والخَوف من اتِّخاذ المَوقِف المُنتظَر من كاتبٍ وشاعِرٍ مثله حِيال تلك المِحنة التي كشفتْ عن فشل حكومة «دولة العُمَّال والفلاحين» والأخطاء والإجراءات القَمعِيَّة التي ارتَكبتْها وهدَّدتْ بإلقاء التَّجربة الاشتراكية بِرُمَّتها والعُمَّال والفلاحين أنفسهم في نيران السُّخط العاصِف والغضَب الجَارِف. والثابِت اليومَ أنَّ برشت لم يقِف مَوقف المُتفرِّج ولم يُقصِّر في توجيه اللَّوم إلى الحكومة والحِزب؛ فقد سارَع في اليوم نفسه بإرسال خِطابَين إلى رأس النِّظام الحاكِم (وهو فالتر ألبرشت) ورئيس وزرائه أوتوجرو تيفول لم يُنشَر منهما في الصُّحف الرسمية غير العبارات التي يؤكِّد فيها الشاعر تَضامُنه مع الحِزب الاشتراكي المُوحَّد، مع إسقاط الفقرات التي اتَّهم فيها الحكومة والحِزب بإملاء الاشتراكية من أعلى وإرهاق العُمَّال بِحِصَص الإنتاج المُضاعَفة والتَّضييق عليهم بدَلًا من إشراكهم بالاقتناع الحرِّ في الإصلاح والبناء، ومع السُّكوت التامِّ عن مُطالَبَته الصَّريحة بإجراء حوارٍ عامٍّ حوْلَ الأوضاع المُتردِّية والوسائل الكفيلة بإنقاذ المُنجَزات التي تحقَّقتْ من أيدي العناصر الفاشِيَّة المُخرِّبة التي تَسلَّلتْ إلى صفوف العُمَّال بتحريضٍ مِن الرأسماليِّين والنازيين الذين أعادوا تَنظيم أنفسهم والإعداد لحربٍ ثالثة. وكان هذا أيضًا هو مَضمون الخِطاب الذي أرسلَه إلى ناشر أعماله «زور كامب» ردًّا على الاتهامات التي راحَتْ مُختلِف الدوائر الغربية تُلقيها على رأسه.

وبِغَضِّ النَّظر عن التفصيلات الكثيرة المُعقدَّة عن هذا الموضوع الذي لا يزال الغُموض يُحيط به، ومع التَّسليم بأن جُذوره العَميقة تتوغَّل في أسئلةٍ ومُشكلاتٍ أعمَّ وأشمَل (كعَلاقة الأديب والفنَّان بالسُّلطة، والعلاقة بين الفنِّ والسياسة وطبيعتها وحدودها، ومَوقف الكاتِب من الحقيقة نفسها وطُرُق تصوُّرها والبحث عنها … إلخ) فيبقى علينا أن نُوجِّه سؤاليْن أَخِيرَين ونُحاوِل الإجابة عليهما: هل صحيح أن برشت لم ينظُر إلى أحداث ذلك اليوم المُرعِب المُضطرِب — شأنها في ذلك شأن سائر الأحداث السياسية والوقائع اليوميَّة — إلَّا من حيث هي في صَمِيمها — أو على الأقلِّ بالنِّسبة إليه — مُجرَّد تَجارب فنيَّة وجماليَّة؟ وهل أثَّرَتْ فظائع ذلك اليوم على شخصيَّته وإنتاجه واعتقاده الأساسي بضرورة التَّغيير؟

أما السُّؤال الأول فيأتي الردُّ عليه من جانب الرُّوائي الأشْهَر جنتر جراس. وربما لا يَخلو هذا الردُّ — في تقديري على الأقلِّ — من الإجْحاف أو الاختِلاق الذي لا يَقوم على أساسٍ ثابِتٍ من الواقع الفعلي، أو يقوم على أحسنِ الفُروض على الخَيَال الفنيِّ غَيرِ المُنَزَّه عن الغرَض.

فقد نشَر جراس في أوائل السَّبعينيَّات مسرحيةً بعنوان «العامة يُجرِّبون التمرُّد» (والتجريب هنا بمعنى تَقديم بُروفاتها على خَشبة المَسرح) وعُرضَت المسرحية وأثارَتْ مَوجاتٍ عارِمةٍ من الضَّجيج والأخذ والرَّد، فهي تُصوِّر برشت مع مُعاوِنيه وأعضاء فِرقته أثناء العَمَل المُشترَك في إعداد النصِّ الذي اقتَبَسه عن مسرحية كريولان لشكسبير، ويندَفِع إلى المسرح عددٌ من العُمَّال من مُختلِف الحِرَف كأنهم جُنود مَهزومون يائسون قد لَجئوا إليه وعلى وجوههم ومَلابِسهم وفي أصواتهم الغاضبة آثارُ المعركة الدَّامية التي ما تزال مُشتعلة اللَّهب. لقد جاءوا يَستنجِدون بالكاتِب والشاعر المَرموق في عُيون الدولة والشَّعب للتَّوقيع على بَيانٍ يَستنكرون فيه الأحداث البَشِعة ويُطالبون بإيقاف المَذبحة والبَدء الفَوريِّ في التهدئة والإصلاح. ويُدرِك برشت بحساسيَّته المَسرحيَّة أو بِمَكرِه الفنيِّ أنه أمام حريقٍ يَتطلَّب العمل على إطفائه ولا تُجدِي معه البُطولات الفرديَّة الصارخة. ويَستدرِجُهم شيئًا فشيئًا لعَرض الأحداث والتجارب التي مرُّوا بها وعاناها كلُّ واحدٍ منهم على حِدَةٍ وكيف وصل الأمر إلى ما وصل إليه. ويكتَشِف قادَة العُمَّال بعد كلِّ هذه «البروفات» أنهم قد خُدِعوا ووَقَعوا في فَخِّه فيَخرُجون وهُم يَلعَنُونه بأفظَعِ الشَّتائم ويَتَّهِمونه بالجُبن والانتِهازيَّة وإخفاء رأسه في الرِّمال المسرحية.

وتتواصَل الأحداث وتَمتدُّ ألْسِنة اللَّهب، ويُهدِّدُ الحريق الشَّامل المدينة وأهلَها وإنجازاتها التي تحقَّقت بالكِفاح والعرَق والدُّموع، وتدور العجَلة الجُهنمية دورتها التاريخية المعروفة فتتدخَّل دبَّابات السُّلطة المُحتلة وتُسدَل الأستار على النِّيران المُطفأة والجِراح النازِفة. ويرجِع العُمَّال مرةً أخرى — إذا لم تَخُنِّي الذَّاكِرة — فيتواصَل الحوار ويُوقِّع الشاعر على البيان وينصرفون. هل كان في وِسع برشت أن يفعل أكثر ممَّا فَعَل؟ أيُمكِن أن نُحمِّله أوزار السُّلطة الغَبيَّة الطاغية وهو الذي لا يملِك إلا سُلطة ضَميره الفنيِّ والإنساني؟ وهل نَلومُه أخيرًا على عُكوفِه — حتى في ذلك اليوم الفظيع — على عمَلِه الجادِّ على أمَل تحقيق شيءٍ مِن التَّغيير في الميدان الذي وهبَهُ حياته وكِفاحه وعَذابه في المنفى وفي الوطن؟

أسئلة تَتَّصِل كما ترى بالأسئلة التي طرحناها قبل قليل.

وأما عن السؤال الثاني فقد عرفنا كيف انكَبَّ على عمله المسرحي منذ عَودته إلى برلين وتأسيس فرقته وتخصيص مسرحٍ خاصٍّ به وتَعاوُنه مع أصدقائه وزُملائه وأبنائه من الأجيال الشابَّة على إتقان العُروض المسرحية من تأليفه أو إعداده. لقد دَأبَ هنا أيضًا على إحداث التَّغيُّرات الهامَّة في فنِّ التأليف الدِّرامي المَلحَمي وفنِّ التمثيل والإلقاء بما يُطابِق نظرياته، وتجديد فنِّ الفُرجَة أيضًا لإحداث التَّغيُّر المنشود لدى المُتلقِّي أو المُشاهد. ثُمَّ داهمَتْه أحداث السابع عشر من يونيو فكادت أن تَقتلِعَه من جذوره وتَشُدَّه إلى هاوية العدَميَّة واليأس واللَّامعنى، لولا إصراره على مُواصلة كفاحه في سبيل التَّغيير في كلِّ مجال يُمكِن أن يَتناوَله قَلَمُه ويؤثر به على القُرَّاء والمُستمِعين والمُشاهدين.

تَخيَّل معي رَجُلًا ينحو من أزمةٍ صحية ليقَع ضحيَّة أزمةٍ أخرى،١١ ويعاني في يَقَظَته ونَومه من كآبة الليل ومَللِ النَّهار، وتَحمِلُه أمواج الحِكمة المَمزوجة بالأسى فيكتُب بعد ذلك اليوم الفظيع مجموعةَ قصائده التي سمَّاها «مَرثِيَّات بوكو» (نسبةً إلى بُقعةٍ هادئة في سويسرا أقام بها عدَّة شهورٍ في سنة ١٩٥٢م مُتفرِّغًا تمامَ التَّفرُّغ لكتاباته). إنه يَلتقِط فيها مشاهد صغيرة ودالَّة من حياته اليومية، والمُتَع البسيطة التي يُقبِل عليها راضيًا مسرورًا، والمناظر العاديَّة للناس العاديِّين الذين يُمارِسون حياتهم بلا انقطاع، وحديقة الوَرد المُنسَّق المُزدَهِر التي تقَع على شطِّ البُحيرة ويحوطها السور وأشجار الصنوبر والحور ويَجلِس فيها قبل طلوع النهار وهو يَتمنَّى لنفسه أن يَستطيع في كلِّ الأوقات والأجواء أن يُقدِّم للناس هذا الشيء الذي يَسرُّهم أو ذاك (راجع قصائد الدُّخان، وتغيير العجَلة، والمُتَع، بالإضافة إلى القصيدة الهامَّة وهي الحل، التي يَنصَح فيها المسئولين الفاشِلين باختيار شعبٍ آخر ليحكموه) آملًا من وراء ذلك كلِّه أن يُواصِل ويَتشبَّث بِرايَةِ الأمل في التغيير، إن لم يكن في حياته فبَعد مَوته (تذكَّر الوَصِيَّة التي أملاها وهو يَحتضِر وأكَّد فيها أن المُستقبل حافِل بالإمكانات). والمُرجَّح عندي أنه اقتنع في السنوات الثلاث الأخيرة التي دَاهَمَه فيها المرض وعاوَدَه الحُزن والاكتئاب أنه حاوَل أن يُغيِّر بقدْرِ ما استطاع، وأنَّنا ما دُمنا زائلين وفانِين بِحُكم طبيعتِنا فلا يُمكِنُنا أن نُغيَّر كلَّ شيء؛ إذ لا بُدَّ أن يبقى الكثير ممَّا وجدناه أمامنا على حالِه القديم، وأن تُواجِهه أجيال أخرى من أبناء الغد وتُحاوِل تغييره بما لديها من إمكانات جديدة، وأن كلَّ هذا أدْعى إلى الرِّضا والقناعة اللذين ربما كسَاهُما الحُزن، ولكنَّه الحُزن الأعمَق الذي يتعلَّق «بشروط» بشريَّتِنا المحدودة، ولا يُمكِنه أن يَمنَعنا من الفرَح بكلِّ لحظةٍ نعيشها. تَشهَد على هذه المَشاعر قَصيدتان قصيرتان من «مَرثيَّات بوكو» الرائعة المؤثرة، يقول في إحداهما: لو كُنَّا سنبقى إلى الأبد، لتغيَّر كلُّ شيء، لكن لأنَّنا زائلون، يبقى الكثير على حالِه القديم. ويقول في الأخرى: كنتُ حزينًا حينَ كنتُ شابًّا، وأنا الآن حزين بعدَ أن شِخت. متى سيُمكِنُني إذن أن أفرح؟ الأفضل في أسرَع وقت.

وعلى الرغم من كلِّ الشكوك والتناقُضات التي تُثِيرها حياة برشت وأعماله ولم تزَل تُثيرها إلى اليوم، فلا بُدَّ من القول أيضًا بأن حِكمته العدَمِيَّة التي عاوَدَته في تلك السنوات الأخيرة لم تُفقِده الثِّقة أبدًا في إمكان التَّغيير والتجديد حتى مع آخِرِ نَفَسٍ يخرُج من صدْر الإنسان. والواقِع أنَّ الغرور لم يُخالِجه أبدًا إلى الحدِّ الذي يتصوَّر معه أن أعماله خالدة أو صالحة لكلِّ العصور؛ فقد عبَّر عن شَكِّه في قصيدةٍ أعاد فيها صياغةَ عبارةٍ لشاعِر الرومان الأثير لديه «هوراس» وقال فيها: حتى الطُّوفان لم يدُم إلى الأبد، فذاتَ يومٍ تَسرَّبتِ المياه السوداء. حقًّا، ما أقلَّ المياه التي استمرَّت وقتًا أطول من ذلك.

وقد علَّقَ برشت نفسه على هذه الأبيات القليلة بقوله: «من أراد أن يقفِز قفزةً كبيرة فلا بُدَّ له من أن يَتراجَع عدَّة خطوات. إن اليوم يتغذَّى من الأمس ويُواصِل مَسيرته نحو الغد. ربما يُنظِّف التاريخ المائدة من كلِّ ما عليها، ولكنَّه يتخوَّف دائمًا من المائدة الخالية.»

وأخيرًا فإذا كانت بلاد هذا الشاعر ومعها العالَم المُثقَّف يحتفلان في هذا العام بالذكرى المئوية لميلاده، فالمَغْزى الباقي لهذا الاحتفال هو أن يقرأه الناس قراءةً جديدة على ضَوء الحاضر الذي يَعيشونه والتَّغيُّرات المُدوِّية التي تمت بعد موته (راجع ما سبق قوله). لا شكَّ أن بعضَ إنتاجه لن يَحتفِظ إلا بقيمةٍ تاريخية، لكنَّ الكفاح المُستمرَّ من أجل «التغيير» الذي وضعَه نُصبَ عينيه ووَضعَتْه هذه المُقدِّمة في بؤرة الاهتمام هو الذي يُمكِن أن يَستفزَّهم للمزيد من التفكير النقدي الحرِّ لتحقيق ما يُمكنهم تحقيقه من تغيير (راجِع قصائده عن المَوقف النَّقدي والشكَّاك والجَدَل وسُيولة الأشياء، وسائر القصائد التي تُلِحُّ على ضرورة العمل على التَّغيير والتَّجديد وسبقت الإشارة إليها). ومع أن التطبيق الاشتراكي قد سقَط لأسبابٍ يصعُب حصرُها، فإن الاشتراكية الإنسانية الحُرَّة — بعد أجيالٍ من المُجدِّدين لها والمُحتَجِبين على مُختلِف تطبيقاتها الستالِّينية والفاشية السابقة — لا يُمكِن أن تموت كمنهجٍ ورؤيةٍ للوجود، بل إنها تُحاوِل اليوم أن تُجدِّد نفسها في أماكن كثيرةٍ من العالم لتُواجِه أكاذيب المُهَيمِنين الجُدُد على أقدار البَشر. وأحسَب أن الكفاح الطويل لهذا الكاتب والشاعر في سبيل السلام والوحدة والأمن والسعادة والتقدُّم لشعبه ولكلِّ الشعوب، وتكريس قلَمِه لقضايا واقِعيَّةٍ مُحدَّدة — كالنضال ضِدَّ الحرب والاستبداد، وتَوعِيَة الرجُل العادي وتنويره وتغييره … إلخ مع بقاء شِعره شعرًا وفنه فنًّا — يُمكِن أن تُعلِّمَنا الكثير. لقد كان يسأل نفسه على الدَّوام ويُطالِبنا بأن نسأل أنفسنا: من أنا؟ ولمَن أكتُب؟ بماذا ينتفِع القارئ مما أكتُب؟ هل سَيُساعد ما أكتُبه على إيقاظ الوَعي؟ هل هو مُرتبِط بالواقع الرَّاهِن؟ كيف يكون سلوك الناس عندما يُصدِّقون ما نقوله لهم، ثم كيفَ يُمكِن أن يتصرَّفوا بشكلٍ عمليٍّ وعقلاني حُر؟ (راجِع قصيدة الشَّكَّاك وغيرها من القصائد الجدَلِيَّة والقصائد المُوجَّهة إلى الرَّجُل العادي مثل: امتِداح التعلُّم، وعامِل يَسأل أثناء القراءة، وَوَلَدي الصَّغير يَسألُني) وهي أسئلةٌ ينبغي أن نُذَكِّر أنفسنا بها ونُذَكِّر التائهين في غَيبوبة التَّجريب الجامِح المُلغِز، والثرثرة الخادِعة المُتعالِيَة بما يُردِّده غيرُنا (من المُترَفين البَعيدِين عن قضايانا ومِحَنِنا وأوجاعنا) — عن موت المؤلف وغياب «الرسالة»، عن الأدَب والفنِّ وتقديس النصِّ إلى آخِر ما يتردَّد على بعض الألسنة والأقلام. ولو نجَحتْ هذه القصائد المُختارة في حَفْزِ القارئ على إعادة التفكير في تلك الأسئلة والعمَل على التَّغيير والتطوير والتنوير كلٌّ في مَيدانه وبِقدْر استطاعته، فسوف أكون راضِيًا عن جُهدي القليل الذي لا يَخلو بطبيعة الحال من الخطأ والسَّهوِ والتقصير.١٢

أحمده سُبحانه إن كنتُ قد وُفِّقت، وأسأله العَفو والصَّفحَ إن كنتُ قد أسرَفتُ وتعثَّرت، فإليه ألجأ، وإليه المصير.

عبد الغفار مكاوي
القاهرة في شهر يوليو ١٩٩٨م
١  لم يكُن برشت يَشعُر بأيِّ حرَجٍ من تَضمين مسرحيَّاته أشعارًا أو أغاني يأخذها أو يَقتبِسها أو يترجمها عن شُعراء آخرين، وكانت هذه علامةً واضحةً على تأثره الشديد بهم، ويصعُب في الحقيقة أن نحصُر أسماء الشُّعراء الذين أخذ عنهم صراحةً أو ضِمنًا، ولكن هذه المجموعة المُنتَخَبة من قصائده تسمَح لنا بذكر عددٍ منهم: شكسبير، كيبلنج، فيون، بودلير، الشاعر الصيني بوكي يو، الشاعر الإغريقي كالليماخوس، بعض الشعراء الفنلنديين. ويُمكن أن نُضيف أيضًا أسماء رامبو وفيرلين وهوراس ولوكريس وشيللي، دون أن ننسى الأغاني الشعبية الألمانية. وكان برشت يَعتقِد بأن من حقِّه أن يأخُذ مادته ممَّن يشاء وأن يَصوغها كيفما يشاء، كما كان في العادة يَعتمِد على التَّرجَمات المُتاحة أو يُترجِم بنفسه عن الإنجليزية.
٢  يُروَى في هذا الصَّدَد أنَّ برشت كتبَ قصيدَته الرائعة الحَبيبان في ليلةٍ واحدة؛ وذلك لإنقاذ أُوبراه عن مدينة مهاجوني من مُصادَرة الرقابة. راجِع هذه الأُغنية عن طائري الكركي — اللذين تحوَّلا في التَّرجمة العربية إلى زوجٍ من اليمام — مع القصائد والأغاني المُختارة في هذه المجموعة من تلك الأوبرا.
٣  قصائد برتولت برشت في مُجلَّد واحد. فرانكفورت على الماين، زور كامب، الطبعة السادسة، ١٩٩٠م، ١٣٨٨ ص Die Gedichte von Bertolt Brecht in cinem Band. Frankfurt/M. Suhrkamp, sechste Auflage, 1990, 1388S.
٤  يَطيب لي أن أذكُر — للحقيقة والأمانة التاريخية — أنَّ النَّاقِد الكبير محمود أمين العالِم، الذي رَعى خُطواتي الأولى في الجامعة وعلى دَرْبِ الكِتابة، هو الذي كان له الفَضْل في نشرِ الطبعة الأولى لهذه القصائد مع كِتابَين آخرين من أحبِّ كُتُبي إلى نفسي، وهما مدرسة الحِكمة، والبلد البعيد، وذلك عندما تولَّى إدارة الكاتب العربي وتكرَّم بدَعوة عددٍ كبير من كُتَّاب وشُعَراء مصر لتقديم مخطوطاتهم الحَبيسة إليها وكان ذلك على ما أَذكُر في عام ١٩٦٦.
٥  معجم ميتسلر عن المُؤلِّفين والكُتَّاب الألمان من العصر الوسيط إلى العصر الحاضر — شتوتجارت، دار ميتسلر، ١٩٨٦م، مادة برشت ص٧٣ بِقَلَم يان كنوبف. Metzler Autoren Lexikon. Artikel B. Brecht von Jan Knopf. Stuttgart, J. B. Metzlersche Verlagsbuchhandlung, 1986, s.73.
٦  من أوضَح الأمثلة في هذا الصدَد أنه عالَج مسرحيته الشهيرة عن جاليليو في ثلاثِ صِيَغٍ مُختلِفة، ففي الصِّيغة الأولى التي أتمَّها إبَّان مَنفاه في سفندبورج بالدانمرك (١٩٣٨م) كانت صورة جاليليو هي صورة العالِم الفزيائي الكبير الذي تراجَع أمام الكنيسة خوفًا من تعذيب مَحاكم التَّفتيش (التي سبق أن أحرَقَتْ جوردانو برونو سنة ١٦٠٠م في ميدان الزهور بروما …) ونَجاةً بعلمِه وبُحوثه التي أراد أن يُواصِلها في الخَفاء لتكسب الحقيقة نفسها من تنازُله عن آرائه بدَلًا من خسارتها بشجاعته الوهميَّة وتحدِّيه الخطابي. يدلُّ على هذا نصيحته التي يُقدِّمها قبلَ نهايتها لتلميذه المُخلِص، الذي كان شديدَ السُّخط على جُبْن أستاذه، وهو يَعهَد إليه بمخطوطة كِتابه الأخير مَقالات وبراهين رياضية خاصة بعِلْمَين جديدين، (١٦٣٨م) — بأن يحفَظَها ويُحافِظ عليها، خصوصًا عند عُبوره للأراضي الألمانية وهو يُخفي الحقيقة تحت رِدائه — وقد كان المعنى الواضِح لهذه النَّصيحة عِند عرْضِ المسرحية بعد الحرب على مسرح زيورخ وأمام جَمعٍ كبير من اللاجئين الألمان هو أن الكِفاح ضدَّ البَربريَّة ينبغي أن يستمرَّ وبِكلِّ الوسائل المُمكِنة. أما الصِّيغة الثانية التي أنجزَها بين سنَتَي ١٩٤٤، ١٩٤٥م في هوليوود أثناء فترة نَفْيِه في أمريكا وبالتَّعاوُن مع المُمثِّل الإنجليزي الشهير تشارلز لوتون الذي قام بتَجسيد شخصيَّة جاليليو، فنجِده فيها يَبتعِد عن حماسِه وتَعاطُفه القديم مع العالِم الكبير بعد إلقاء القُنبُلَة الذَّرِّيَّة على هيروشيما ونجازاكي، كما يُغيِّر في الصِّيغة السَّابِقة وفي خاتمتها بِوجهٍ خاصٍّ بحيث يُدين تَراجُع جاليليو مؤكدًا أن جُبْنه وجَهْله هما اللذان حَمَلاه على ذلك، وأنه لم يكُن في حاجة لتقديم التَّنازُل المُهين الذي يدلُّ على أنه كان عالِمًا عظيمًا وإنسانًا ردِيئًا أساء فَهْم العلاقات الاجتماعية كما قلَّلَ من شأن الضُّعفاء واستهان بقوَّتِهم — وهكذا أدان جاليليو وتراجَع عن تأييده السابِق لتَراجُعه عن الوقوف بجانب الحقيقة. أما الصِّيغة الثالثة والأخيرة (١٩٥٣م) فتَضَع في اعتبارِها أن القُنبُلَة الذَّرِّيَّة أصبحَتْ حقيقةً عامة، وأن العُلَماء يُواصِلون إنتاجَها وكأنَّ ذلك شيءٌ بديهيٌّ وطبيعي لا يَشعرون إزاءه بأيِّ وِزرٍ ولا يَتحمَّلون بسببه أيَّةَ مسئولية أخلاقية.
٧  راجِع بالتفصيل عن «فلسفة» برشت التي جسدها في ثِيابٍ مسرحيةٍ وشعرية كِتاب هلموت فارنباخ «مدخل إلى برشت» نشرة سوك، دار نشر يونيوس، هامبورج، ١٩٨٦م، وانظر كذلك مقال الدكتورة مُنى طُلبة: والآن يا سيد بريخت … ماذا نعمل؟ الذي ترجَمَتْ فيه أربع مقالات نشرتها جريدة لوموند الفرنسية في شهر فبراير ١٩٩٨م وتعليقها عليها، مجلة إبداع، مارس ١٩٩٨م، العدد الثالث، القاهرة. Fahrenbach, Helmut: Brecht Zur Einführung, Hamburg, Edtion SoAK, Junius Verlag 1986.
٨  تشرَّفتُ بترجَمَتها إلى العربية الفُصحى والعاميَّة المِصرية في مُنتصَف الستينيَّات.
٩  راجع في هذا مُقدِّمة هانز ماير لكِتاب برشت للمُبتدِئين والمُتقدِّمين، مُختارات من أعماله جمَعها زيجفريد أنسيلد، فرانكفورت، ١٩٩٣م، ص٣١. Brecht Für Anfänger und Fortgeschrittene. Ein Lesebuch, ausgewählt von Siegfrid Unseld mit einem Vorwort Von Hans Mayer. Frankfurt/M., Suhrkamp، 1993, s31.
١٠  راجع عن هذه النظرية مُقدِّمة الترجمة العربية لمَسرحيَّتَي «الاستِثناء والقاعدة» و«مُحاكَمة لوكولُّوس»، القاهرة، دار الكاتب العربي، سِلسلة المَسرح العالمي ١٩٦٦م.
١١  كان مَسكن برشت في برلين الشرقية يَسمَح له بأن يُطلَّ على مسرحه وعلى مَقبرةٍ تاريخية هي مقبرة دوروثيا التي كان يراها كلَّ يومٍ من نافذته. ولمَّا اشتدَّ المرض عليه أوصى بأن يُوارَى التراب بالقُرب من السُّور لكي يكون قبره بجوار قبرَي فَيلسوفَي المِثاليَّة الألمانية فشته وهيجل حيث يرقُد رقدته الأخيرة.
١٢  هدَتْني محاسِن الصُّدَف بعد الفَراغ من هذا الكِتاب إلى بحثٍ رائعٍ وبالِغ القِيمة والدِّقَّة والعُمق للدكتور الرشيد بوشعير عن أثر برتولد بريخت في مسرح المَشرِق العربي. وقد خرَجْتُ منه — فوق المُتْعة والفائدة المُحقَّقة — بأمرين على الأقلِّ لا بُدَّ من استدراكِهما: (١) رُبما كنتُ أوَّل من قدَّم نصًّا مَسرحيًّا لبرشت في سنة وفاته إلى القُرَّاء العرب، ولكن اللقاء بين برشت والقارئ العربي أقدَم من ذلك بكثير؛ إذ ترجَم الأستاذ عارف العَزوني مَقالة برشت المُهِمَّة خمس صعوبات لدى كِتابة الحقيقة سنة ١٩٣٧م في مجلَّة الطَّليعة اللبنانية تحت عنوان واجب الكاتب اليوم، ثم أعاد الأستاذ نبيل حفَّار ترجمتها بشكلٍ أدقَّ في الكِتاب الهامِّ عن مسرح التغيير ص٢١٩ (ولم أعثر للأسف على تاريخ طبعه). (٢) أن أسماء الإخوة الكُتَّاب الذين تأثَّروا بِصُوَرٍ مُتفاوِتة بمسرح برشت المَلحَمِيِّ ونَظريَّاته الجَمالية والفِكرية — مهما أنكرَ بعضهم هذا التأثُّر خوفًا على أصالتهم! فاقَت في كثرتِها كُلَّ تَوقُّعاتي ومعلوماتي السابقة؛ ولذلك يَطِيب لي أن أذكُر أهمَّ هذه الأسماء — التي خلَتْ من اسمي ككاتِبٍ مسرحي، ربما لزُهدي المَبدئيِّ في الدِّعاية والعلاقات العامة: «سعد الله ونوس، فرحان بلبل، ألفريد فرج، يوسف العاني، سالم النحاس، وليد إخلاصي، معين بسيسو، محمود دياب، عبد الرحمن الشرقاوي، صلاح عبد الصبور، نجيب سرور، رشاد رشدي، إميل حبيبي، يوسف إدريس، عصام محفوظ، توفيق فيَّاض، نوَّاف أبو الهَيجاء، غسان ماهر الجزائري». أمَّا عن النُّقاد الذين اهتمُّوا ببرشت أو كَتبوا عنه والمُترجِمين الذين نَقلوا نصوصه أو مقالاته والمُتعاطفين مع مسرحه المَلحمي أو الرافِضين له، فَهُم أكثر من أن يُحصَوا، ويكفي أن أذكر منهم هذه الأسماء الكريمة: محمد مندور، لويس عوض، محمد غُنيمي هلال، علي الراعي، نبيل حفَّار، أحمد الحمُّو، سعد أردش، فاروق عبد الوهاب، جميل نصيف، عبد الرَّحمن بدوي، فاروق عبد القادر، عادل قرشولي، محمد عيتاني، محمود النحاس، لميس العماري، أبو العيد دودو، سعيد حورانية، محمد خليل خليفة، قيس الزبيدي أحمد حيدر، شفيق مقار، سعد الخادم، مصطفى براتية، صياح الجهيم، مجدي يوسف، أميرة الزين، عبد الحليم البشلاوي، إبراهيم العريس، توفيق الأسدي، علي عقلة عرسان، جبرا إبراهيم جبرا، محمد أبو خضور، فريدة النقاش، محمود أمين العالم، نجاة قصاب حسن … وغيرهم (راجع الكِتاب القَيِّم السابق الذِّكر لتجِد فيه قوائم كاملة بالأسماء والأعمال من ص٧٤–٧٨، دمشق، دار الأهالي ١٩٩٦م).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤