أخْفِ الآثار١

١

ابْتعِد عن زملائك في محطَّة السكة الحديد.
اذهبْ في الصباح إلى المدينة بِسُترة مُزرَّرة.
ابحَثْ عن مأوى، وإذا دقَّ زميلك بابك
لا تفتح، آه لا تفتح الباب،
بل أخفِ الآثار!
إذا قابلتَ أبَوَيْك في مدينة هامبورج أو في أيِّ مكانٍ آخر،
فمُرَّ بهما كأنك غريب عنهما. انعطِف عن ناصية الطريق.
لا تتعرَّف عليهما.
اسحَب قُبَّعتَك، التي أهدَياها إليك، على وجهك
لا تَبدُ. آه! لا تُبدِ وجهَك،
بل أخفِ الآثار!
كُلِ اللَّحم الذي تراه هناك، لا تدَّخِر.
ادخُل أيَّ بيتٍ عِندَما تُمطِر السماء،
واجلِس على أيِّ كُرسيٍّ تَجِدهُ أمامك.
لكن لا تَبقَ جالِسًا! ولا تنسَ قُبَّعَتك!
أقول لك:
أخفِ الآثار!
أيًّا كان ما تقول، لا تقُلْه مرَّتَين.
إن وجَدْتَ فِكرتك لدى شخصٍ آخر
فأنكِرها.
من لم يُوقِّع باسمه، من لم يترُك صورة وراءه،
من لم يكن حاضِرًا، من لم يَقُل شيئًا،
كيف يُمكِن الإمساك به؟!
أخفِ الآثار.
احرِص، عندما تنوي أن تموت،
على ألَّا يكونَ لكَ قَبر
عليه كِتابة واضحة
تَشِي بِمَرقدِك
وتفضَح السَّنة التي مِتَّ فيها!
مرة أخرى:
أخفِ الآثار!
(هذا هو الذي علَّموني إياه.)

٢

عن العجلة الخامسة
نحن إلى جانبك في الساعة التي تُدرِك فيها
أنك أنت العجلة الخامسة،
وأنَّ أَمَلك يضيع منك.
أما نحن
فلا نُدرِك ذلك بعد.
نحن نُلاحِظ
أنك تتعجَّل الحديث.
تبحث عن كلمة
تُمكِّنك من الانصراف؛
إذ يَهمُّك كثيرًا
ألا تلفِت الأنظار.
أنت تنهض قبل أن تُكمِل عِبارتك.
تقول غاضِبًا: إنك تريد أن تنصرِف.
ونقول نحن. «ابقَ!»
ونُدرِك أنك أنت العَجَلة الخامسة.
أما أنت فتجلس
وهكذا تظلُّ جالسًا عندنا،
في الساعة التي نُدرِك فيها
أنك أنت العجَلة الخامسة.
أما أنت
فلم تعُد تُدرِك ذلك.
دعنا نقولها لك:
أنت العجَلة الخامسة.
لا تظنَّ أنني أنا الذي أقولها لك،
وَغْد
لا تمُدَّ يدَك إلى بلْطةٍ
بل مدَّها إلى كوب ماء.
أعرف أنك لم تعُد تسمَع،
لكن
لا تقُل بصوتٍ عالٍ أنَّ العالَم سيئ.
قُلها بصوتٍ مُنخفِض؛
لأن الأربعة ليست زائدة عن الحدِّ
بل هي العجَلَة الخامسة،
وليس العالم سيِّئًا
بل هو ملآن.
(وهذا ما سمِعتُهم يقولونه من قبل.)

٣

إلى خرونوس٢
نحن لا نُريد أن نخرُج من بيتك.
نحن لا نُريد أن نحطِّم المَوقِد.
نحن نريد أن نضعَ الوعاء على المَوقد.
البيت، والموقد، والوعاء يُمكِن أن تبقى،
وعليك أنت أن تَختفي كما يختفي الدُّخان في السماء.
الدُّخان الذي لا يستبقيه أحد.
إذا أردتَ أن تُلازِمنا، فسوف ننصرِف.
إذا بكتِ امرأتك، فسوف نسحَب قُبَّعاتنا على وجوهنا،
لكن إذا أمسكوا بك،
فسوف نُشير إليك وسوف نقول:
لا بُدَّ أنه هو.
نحن لا نعرِف ما الذي سيأتي، وليس لدينا شيءٌ أفضل،
لكننا لا نُريدك بعد اليوم
حتى تنصرف وتذهب عنا.
دعنا نُرخي الستائر على النوافذ؛
حتى لا يطلُع صباح الغد.
من حقِّ المُدن أن تتغيَّر،
لكن ليس من حقِّك أن تُغيِّر نفسك.
نريد أن نُكلِّم الأحجار.
أما أنت فنُريد أن نقتُلك.
لا ينبغي أن تَعيش
مهما تكن الأكاذيب التي يتحتَّم علينا أن نصدقها.
لا ينبَغي أن يُقالَ إنك كُنتَ حيًّا (في الماضي).
(هكذا نتحدَّث مع آبائنا.)

٤

أعرِف ماذا أحتاج إليه
أعرف ماذا أحتاج إليه.
يكفي أن أنظُر في المرآة
لأرى أن عليَّ
أن أُكثِر من نومي.
الرجل الذي عندي
يضرُّني ويُؤذيني.
عندما أسمَعُني أُغنِّي
أقول أنا اليوم مَرِحة.
هذا شيء مُفيد
للَون البشرة.
أنا أبذُل جُهدي
لأبقى مُنتعِشة وصُلبة،
لكنِّي لن أُتعِب نفسي؛
لأن هذا يُسبِّب التجاعيد.
ليس عندي ما أُهديه،
لكن مؤنتي تكفيني
أنا آكُل بحَذَر،
أحيا على مَهَل،
أومن بأوساط الأمور.
(هكذا رأيتُ أناسًا يُرهِقون أنفسهم.)

٥

أنا قَذِرة، لا أملِك أن أطلُب من نفسي …
أنا قَذِرة.
لا أملك أن أطلُب من نفسي
إلَّا الضَّعف، والخِيانة والفساد،
لكنِّي أُلاحظ ذات يومٍ
أنَّ الأحوال تتحسَّن،
أن الرِّيح تنفُخ شراعي، أنَّ زَمَني قد حان،
أنني أستطيع أن أكون شيئًا أفضل مِن القذارة.
من ثَمَّ بدأتُ على الفَور؛
لأنني كنتُ قَذِرة
لاحظتُ عندما أسكَر،
أنَّني أُلقِي بنَفْسي على الفِراش،
ولا أدري مَن هو الذي فَوقي.
أنا الآن لا أذوق الخَمر.
لقد أقلَعتُ عنها على الفَور.
للأسَف كان يَتحتَّم عليَّ،
لمُجرَّد أن أُبقي على حياتي
أن أعمل أشياء كثيرةً
آذتْني وأضرَّت بي.
التهمتُ سُمًّا
كان يكفي لإهلاك أربعةِ بِغال،
لكن لم تكن هناك وسيلة أخرى
لأُحافظ على حياتي،
وأدمنت الكوكايين فترةً من الزمن؛
حتى بدا منظري
كملاءة السرير بِغَير عظام.
ثم نظرتُ إلى نفسي في المرأة
فتوقَّفتُ على الفَور.
حاوَلوا بطبيعة الحال
أن يُعْدُوني بالزُّهَري
لكنهم لم يُفلِحوا،
استطاعوا فحسْب
أن يُسمِّمُوني بالزَّرنيخ.
شعرت أنَّ في جَنبي أنابيب
يسيل منها الصَّديد ليلَ نهار.
من كان يَظنُّ
أنَّ امرأةً مِثلي
تستطيع أن تَخبِل (عقول) الرِّجال مرةً أخرى؟
وعُدتُ على الفَور فبدأتُ من جديد
ما زلتُ أُلاحِظ أنَّني أقول لعَدُوَّتي
إنها خنزيرة عجوز، وأنني أعرِف أنها عَدوِّي
كلَّما نظرَ إليها رَجُل.
لكن لن يمُرَّ عام
حتى أكون قد تخلَّصتُ من هذه العادة.
وقد شرَعتُ في هذا بالفعل
أنا قَذِرة.
لكن يجِب أن يُسخَّر كلُّ شيءٍ لصالحي.
أسهمي في صعود،
لا غِنى عَنِّي،
وغدًا لن يكون الجِنسُ
قَذِرًا كما هو الحال الآن،
بل سيكون المُونة الصُّلبة
التي تُبنى بها المُدن.
(هذا ما سمِعته من امرأة.)

٦

تدحرج على الطريق
تدحرَجَ على الطريق، قُبَّعته في قفاه.
ثبَّتَ عينيه في كلِّ رجلٍ قابَلَه وهزَّ رأسه.
توقَّف طويلًا أمام كلِّ واجهةٍ في محل
(والجميع يعلمون، أنه قد ضاع!)
كان عليهم أن يَسمعوه وهو يقول:
إنه سيقول لعدُوِّه كلمةً جادة،
وأن لهجة صاحِب البيت الذي يَسكنه لا تُعجبه،
وأن الشارع قد أُسيئ كنْسُه
(أصدقاؤه قد أسلَموه بالفِعل!)
مع ذلك فهو يُريد أن يبني له بيتًا.
مع ذلك فهو يُريد أن يُضاجِع جميع النساء.
مع ذلك فهو يُريد ألَّا يتسرَّع في الحُكم.
(آه، لقد ضاع بالفِعل، فليس هناك شيء
يُسنِد عليه ظهره!)
(هذا ما سمِعتُه من أفواه بعض الناس.)

٧

تخلَّوا عن أحلامكم …
تَخلَّوا عن أحلامكم (التي تُزيِّن لكم)
أنهم سيُعامِلونكم مُعاملةً استثنائية.
كلُّ ما قالَتْه لكم أُمَّهاتكم
كان شيئًا لا يُؤخَذ على مَحمَل الجد.
اتركوا العَقد في جُيوبكم؛
فلن يلتَزِم به أحد هنا.
تَخلَّوا عن آمالكم
بأنَّ الاختيار سيقَع عليكم لتكونوا رؤساء،
لكن أدُّوا أعمالَكم كما ينبغي.
وعليكم أن تَحتشِموا في سُلوكِكم
حتى يَسمَحوا لكم بدُخول المَطبخ.
ما زال عليكم أن تتعلَّموا الألف باء.
والألف باء تقول:
سوف يتخلَّصون منكم
وَفِّروا على أنفسكم التفكير
فيما ينبغي عليكم أن تقولوه.
لن يسألكم أحد.
الآكِلون مُكتمِلو العدد،
واللَّحم المُستخدَم هنا هو اللَّحم المفروم،
(لكن هذا لا يَصحُّ
أن يُثبِّط هِمَمَكم!)
١  هذه إحدى القصائد التي كتَبَها برشت حوالي سنة ١٩٢٦م ثم نشرَها في الكراسة الثانية من «المُحاولات» سنة ١٩٣٠م تحت عنوان: «عن كتاب مُطالعة لسكان المدن». وتقع القصائد التالية مع قصيدة «أربع طلباتٍ إلى رَجُل من جوانب مُختلِفة في أوقاتٍ مُختلِفة» في نفس المجموعة.
٢  هو إله الزَّمن الشهير الذي «يبتلِع» كلَّ شيءٍ كما صوَّرَته الأساطير اليونانية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤