من قصائد سفيندبورج

من كِتاب الحرب١
عندما يتكلَّم الأعلَون عن السلام،
تَعْلَم عامَّة الشعب
أن الحربَ قادِمة.
وعندما يلعَن الأعلَون الحرب،
تكون الأوامر قد صدَرَت بالتعبئة.
الأعلَون
اجتمَعوا في حُجرة.
يا رَجُل الشارع
ودِّعْ كلَّ أمل!
الحكومات
تُوقِّع على مُعاهدات عدَم اعتداء.
أيها الرجُل الصغير،
اكتُب وصيَّتك.
الأعلَون يقولون:
الطريق يُوصِّل إلى المَجد.
الأسفَلون يقولون:
بل يُوصِّل إلى القبر.
الذين يَنهبُون اللَّحم من المائدة
يُعلِّمون القناعة.
الذين قُسمت لهم الغنيمة
يُطالبون بشجاعة التَّضحية.
المُتخَمون يتحدَّثون إلى الجائعين
عن الأزمان الرَّائعة التي سوف تأتي.
الذين يُسُوقون الدَّولة إلى الهاوية
يقولون إن الحُكم صعب جدًّا
على الرجل العادي.
الحرب القادمة
ليست هي الأولى؛
لقد سبَقتْها حروبٌ أخرى.
عندما انتهتِ الحرب الأخيرة،
كان هناك المُنتصِرون والمهزومون.
عند المَهزومين جاعَت عامَّة الشعب.
عند المُنتصِرين جاعت عامَّة الشعب أيضًا.

عندما يَحين أوان الزَّحف

عندما يحين أوان الزَّحف،
لا يعلم الكثيرون
أن عدُوَّهم يزحَف معهم في المُقدِّمة.
الصوت الذي يُصدِر لهم الأوامر
هو صوت عدُوِّهم،
والذي يتكلَّم عن العدُوِّ
هو نفسه العدو.

على الحائط كِتابة بالطباشير

«هم يريدون الحرب.»
والذي كتَبها
قد سقط صريعًا.

أيها الجنرال، دبَّابتك قويَّة جدًّا!

تسحق غابةً بأكملِها، ومائةً من البَشر،
لكنَّ فيها عيبًا واحدًا؛
أنها تحتاج إلى سائق!
أيها الجنرال، قاذِفة قنابلك قويَّة،
تَطير أسرع من العاصِفة،
وتحمِل فوق ما يحمِل الفيل،
لكنَّ فيها عيبًا واحدًا؛
أنها تحتاج إلى طيَّار!
أيها الجِنرال، للإنسان فوائد كثيرة
فهو يستطيع أن يطير ويستطيع أن يَقتُل
لكن فيه عيبًا واحدًا:
أنه يستطيع أن يُفكِّر!

عامل يسأل أثناء القراءة

من بنى طيبة ذات الأبواب السبعة؟
في الكُتب نقرأ أسماء الملوك،
فهل جرُّوا الأحجار فوق ظهورهم؟
وبابل التي تهدَّمت مرَّاتٍ عديدة،
من الذي أعاد بناءها في كل مرة؟
وفي أيِّ بيوت من الطمي المُذَهَّب بأشعة الشمس
كان يعيش عُمَّال البناء؟
وليلةَ تمَّ بناء سور الصِّين،
أين ذهب البنَّاءون؟
روما العظيمة زاخرة بأقواس النصر.
من الذي أقامها؟
على من انتَصر القياصرة؟
بيزنطة التي طالما تغنَّى بمجدِها المُنشِدون،
هل كان سكَّانُها جميعًا يعيشون في القصور؟
وليلة ابتلعت مياه المُحيط
قارة أطلنطا الخُرافية،
كان الغرقى يصيحون غاضِبين
وهم يُنادون عبيدهم.
الإسكندر الشابُّ فتَح الهِند،
هل كان وحدَه؟
قيصر هزم الغالبين.
ألم يكن معه على الأقلِّ طبَّاخ؟
فيليب ملك إسبانيا بكت عيناه
لمَّا غرِق في البحر أسطوله.
ألم يبكِ أحدٌ سواه؟
فردريك الثاني انتصر في حرب الأعوام السبعة.
من الذي انتصر معه؟
في كلِّ صفحة أرى نصرًا.
من الذي أعدَّ مأدُبة الاحتفال؟
في كل عشر سنواتٍ يظهر رجُل عظيم.
من الذي كان يدفَع له أجرَه؟
أخبار كثيرة،
وأسئلة لا تُحصى ولا تُعَد.

حذاء أنبا ذوقليس

١

لمَّا نال أنبا ذوقليس الأجريجنتي
شرف التكريم من مُواطنيه،
وكانت الشيخوخة في نفس الوقت قد هدَّت قواه،
قرَّر أن يموت.
وإذ كان يُحبُّ فريقًا منهم
وهم يُبادِلونه الحبَّ،
لم يشأ أن يموت أمامهم،
وإنما آثر
أن يَطويه العدَم.
دعاهم لرحلةٍ إلى الجبل.
لم يدَعهُم جميعًا،
بل ترَك بعضَهم جانبًا،
فتم اختياره، كما تمَّ المشروع بأكمله.
كيفما اتَّفق.
تسلَّقوا بركان «إتنا».
مشقة الصعود
ولدَت الصَّمت.
لم يعُد أحد.
كلمات حكيمة.
هناك فوق القمَّة،
تنفَّسوا الصعداء.
عندما استردُّوا النَّبض المُعتاد،
وشغلَهم المَشهد الذي رأوه
والفرحة ببلُوغ الهدَف،
تركهم المُعلِّم
دون أن يلحَظه أحد.
ولمَّا استأنَفُوا الكلام،
لم يَنتبِهوا لشيء.
لكن بعدَ حينٍ
افتقَدوا كلمة هنا
وكلمة هناك،
وتلفَّتوا يبحثون عنه.
غير أن المُعلِّم
كان قد وَصَل إلى قمَّة الجبل
منذ زمنٍ غير قليل.
وما كانت به حاجة
لأن يحثَّ خُطاه.
خطَر له
أن يتوقَّف لحظة،
وهناك تناهى إليه الحديث،
كأنه يأتي من بعيد،
من وراء الجبل.
الكلمات المُفرَدة
عجَز عن التمييز بينها.
كان الموت قد بدأ بالفِعل.
وبينما كان يقِف
بالقُرب من فُوَّهة البُركان،
مُشيحًا بوجهه بعيدًا،
عازفًا بنفسه
عن هذا العالَم
الذي لم يَعُد يَعنيه،
انحنى العجوز على مَهَل،
وخلَع الحِذاء من قدَمِه،
ثُمَّ ألقاه وهو يَبتسِم.
بضعَ خطواتٍ إلى جانبه،
قاصِدًا من وراء ذلك
ألَّا يهتدي إليه أحد بِسُرعة،
بل في الوقت المُناسِب،
قبل أن يحلَّ به الفساد.
وعندئذٍ ألقى بنفسِه
في فُوَّهة البُركان.
لمَّا رَجع أصحابه
بعدما أضناهم البَحث
دون أن يكون الحَكيم معهم،
بدأت حكاية اختفائه
تذيع على مرِّ الأسابيع والشهور التالية،
على نحو ما تمنَّى.
كان من بينهم
من انتظرَ عودَته
دون أن يملَّ الانتظار،
بينما أعلن غيرهم أنه قد مات.
وفي الوقت الذي أقلَع فيه بعضهم
عن التساؤل عنه انتظارًا لعودته،
راح غيرهم يُحاوِلون
أن يَهتدوا إلى الحلِّ بأنفسهم.
ورُويدًا رُويدًا
كما تتباعَد السُّحُب في السماء
دون أن تتغيَّر،
بل تتضاءل شيئًا فشيئًا
ثم تتلاشى
إذا العَين لم تتطلَّع إليها،
وتزداد بُعدًا
إذا حاولتَ أن تُفتِّش عنها،
وقد تفنى في سُحبٍ أخرى،
كذلك تباعَد المُعلِّم
عن مألوف حياتِهم
كما هو المألوف المُعتاد.
عندئذٍ لغط الناس
بأنه لم يمُت؛
لأنه لم يكن ممَّن يجوز عليهم الفناء.
أحاط السرُّ به من كلِّ جانب،
وافترَض الناس
أن يكون هناك وجود آخر
غير هذا الوجود الأرضي،
وأن قانون الفناء
يجوز على نفرٍ من البَشر
دون غيرهم.
بهذا اللَّغو لغط الناس.
غير أن حذاءه
عُثِر عليه في ذلك الوقت بالذات.
ذلك الحذاء الجلديُّ
البالي
المحسوس
الأرضي
ملقًى هناك
أمام الذين يُسارعون فيؤمنون
بما لا تراه عيونهم.
هكذا صارت نهاية أيامه
أمرًا طبيعيًّا،
وصدَّق الناس أنه مات
كما يموت سائر البشر.

٢

على أن هناك قومًا
يصِفون الحادِث بطريقة أخرى،
فيقولون: إن أنبا ذوقليس هذا قد حاوَل في الواقع
أن يضمَن لنفسه كراماتٍ إلهية،
كما أراد، بما عمَد إليه من اختفاءٍ غامض،
وبإلقائه نفسَه في بُركان إتنا
بطريقةٍ ماكِرة تَفتقِر إلى الشهود،
أن يؤكِّد الخُرافة التي تزعُم
أنه ليس من جِنس البشر،
وأن قانون التَّحَلُّلِ والفساد
لا يَسري عليه.
بيد أن حذاءه قد هُزئ به
عندما وقَع في أيدي البشر.
(وهناك من يذهب إلى أن البُركان نفسه
— وقد أخذه الغضَب على هذا السلوك —
لفَظ حِذاء هذا المُنحرِف الذي ادَّعى
أنه ليس من جنس البشر)
غير أنَّنا نَميل إلى الاعتقاد بهذا.
لو أنه لم يخلَع حذاءه بالفعل،
لَلَزِم أن يكون قد غاب عن ذاكِرته
ما عَرف عنَّا من غباء،
ولم يخطُر على باله
أن من طبعنا أن نُسارِع
فنُلقي بأنفسنا من ظلامٍ إلى ظلام،
ونجعل الغامِض أشدَّ غموضًا،
وأننا نميل إلى تصديق رأيٍ مُتهافِتٍ
بدلًا من البحثِ
عن أساسٍ مَتين.
ولو صحَّ ذلك أيضًا
لما ثار الجَبَل
على مِثل هذا الإهمال من جانبه،
ولآمن بأن المُعلِّم
أراد أن يخدَعنا حقًّا
لكي يُضفي على نفسه
كرامةً إلهية.
(ذلك لأن الجبل لا يؤمن بشيءٍ
ولا يشغَل نفسه بأمورنا)
لكن الجبل راح يقذِف الحِمَمَ
كعهده من قديم الزمان،
ولفظ حذاء المُعلِّم
— على حين كان تلاميذه يُضْنُون أنفسهم
ويَتشمَّمُون رائحة السر العظيم،
ويُنشئون مذهبًا ميتافيزيقيًّا عميقًا،
حتى وقع في أيديهم فجأةً
حذاء المُعلِّم؛
الحذاء الجلديُّ
البالي
المحسوس
الأرضي.
١  تُمثِّل قصائد هذا الكِتاب القِسم الأول من (قصائد سفيندبورج) التي كتَبَها الشاعر في منفاه بالدانمرك ونُشرَت سنة ١٩٣٩م، والتَّسمِية نسبةً إلى الميناء الدانمركي الذي عاش برشت بالقُرب منه «تحت سقفٍ من القشِّ» قبل أن تأخُذَه سفُن الهجرة إلى منافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤