مقدمة

من الطبيعي أن تكون الصحة الشغل الشاغل لنا جميعًا، وأن تكون الموضوع المسيطر على وسائل الإعلام طوال الوقت. تتصدر الصفحات الأولى للصحف الأخبار الخاصة بحالات تفشي الأوبئة مثل وباء الأنفلونزا الأخير، الذي يصيب بلدانًا عديدة في آن واحد. وبجانب الأوبئة، تتواتر بصورة دورية أنباء عن الاكتشافات الجديدة للملوثات الخطيرة في البيئة، والمواد الواقية من السرطان التي تحتوي عليها الأطعمة المختلفة، والجينات التي تزيد من استعداد الشخص للإصابة بالأمراض أو العقاقير التي تعد بالقضاء عليها. وتعتمد أهميتها الفعلية لصحة الإنسان بشكل جوهري على تراكم الأدلة الواردة من الدراسات، والموجهة من خلال مبادئ علم الأوبئة، الذي يراقب عن كثب ويقيم ما يقع في الجماعات والمجتمعات السكانية الإنسانية.

وتجمع تلك الدراسات بين سمتين؛ فهي تستكشف أغوار الصحة والمرض مستعينةً بأدوات الأبحاث الطبية، التي تبدأ من سجلات التاريخ المرضي لقياسات الطول والوزن وضغط الدم وحتى الإجراءات والاختبارات التشخيصية بمختلف أنواعها. وهي تتعرض في الوقت ذاته لأشخاص يعيشون في مجتمع مُعرَّض لكمٍّ كبير من المؤثرات، ولا يمكن إجراؤها وفق اشتراطات التجارب المعملية المنعزلة والمضبوطة. بدلًا من ذلك، يتطلب تصميمها وإجراؤها وتحليلها استخدام الطرق الخاصة بعلم الإحصاء والعلوم الاجتماعية مثل الديموغرافيا، وهو المعني بالدراسة الكمية للمجتمعات السكانية الإنسانية. وبدون فهم واضح لتلك الطبيعة المركبة لعلم الأوبئة ومنطقه من زاوية الاحتمالات والإحصائيات، يكون من العسير تقدير نقاط القوة والضعف للأدلة العلمية المتعلقة بالطب والصحة العامة التي يقوم علم الأوبئة على التوصل إليها. ولا يقتصر التقييم الضبابي الذي يصل أحيانًا إلى حد القراءة الخاطئة الصريحة لعلم الأوبئة على العامة وحسب؛ على سبيل المثال، في المناقشات التي تدور حول المخاطر أو المزايا، سواء أكانت واقعية أم خيالية، لإحدى طرق علاج مرض ما. حسب خبرتي، فإن الشيء نفسه ينطبق على الصحفيين، وأعضاء لجان الأخلاقيات، ومسئولي الرعاية الصحية، وواضعي السياسات الصحية، بل وحتى الخبراء في المجالات الأخرى غير الأوبئة والمسئولين عن تقييم المشاريع البحثية وتمويلها.

إن الهدف من هذا الكتاب الذي يأتي ضمن سلسلة «مقدمة قصيرة جدًّا» هو تعريف القارئ بالفارق بين حكاية وبائية — سواء أكانت تحكي عن حبَّة سحرية أم عن فيروس مرعب — وبين الأدلة الوبائية الصحيحة من الناحية العلمية. لا يقوم هذا الفارق على مقدار الأهمية العملية أو الإثارة التي ربما تتمتع بها قصة الحبة أو الفيروس، وإنما يعتمد فحسب على مدى جودة تطبيق الأساليب الوبائية التي اعتمدت عليها. جدير بالذكر أن أساليب علم الأوبئة وأسسه ذات طبيعة جامدة قليلًا، لكنني حاولت هنا أن أعطي لمحة عن طبيعة المجال دون عرض للصيغ والرموز الرياضية، فقط بعض المعادلات البسيطة. وحتى أضع علم الأوبئة في نصابه الصحيح، عرضت الخطوط العريضة لأساليبه وأسسه واستخداماته في الطب والصحة العامة على خلفية اهتماماتنا اليوم بالمسائل الأخلاقية والعدالة الاجتماعية في موضوع الصحة.

أتوجه بالشكر للعديد من زملائي وطلابي — مصادر المعرفة التي لا أفتأ أستقي منها — الذين جعلوا خروج مؤلَّفي هذا للنور أمرًا ممكنًا. لقد كان للتعاون والكفاءة اللذين أبداهما القائمون على مطبعة جامعة أكسفورد دور كبير في تسهيل مهمتي. وإني لمدين بشكر شخصي أوجهه إلى لاثا مينون لمؤازرتها القوية ونصائحها المستنيرة طيلة مراحل إعداد هذا الكتاب، وكذا لشارون ويلان، المُراجِعة اللغوية الصبورة التي راجعت الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤