مقدمة

يؤخذ من إحصاء نشرته «الأخبار» في القاهرة أن عدد الطالبات في جامعاتنا الثلاث في يناير من ١٩٥٦ بلغ ٥٧٣٦ طالبة يتعلمن، وسوف يتخرج منهن عدد كبير بعد عام أو أكثر وقد درسن الحقوق أو الآداب أو العلوم.

وهذا العدد، مضافًا إليه نحو عشرين ألف طالبة في المدارس الثانوية، سوف يغزو المجتمع المصري بذكاء مدرب، وكرامة مؤيدة، وبعائلات تُبنى على أساس من الأمهات المتعلمات. وعندئذٍ يرقى هذا المجتمع المصري فلا يكون، كما هو الآن، مجتمعًا انفصاليًّا لا يختلط فيه الرجال بالنساء.

لقد كان هذا المجتمع المصري يحيا على الرجال وحدهم. وكانت المرأة، المضروب عليها الحجاب، تعيش بين أربعة جدران في المنزل، تختبئ وراء الأبواب والشبابيك. بل كانت الشبابيك مشربيات مخرمة تتيح لها النظر إلى الشارع حين تلصق وجهها بخروم المشربية حتى ترى شيئًا من حركة الناس والأشياء، وحتى تحس أنها لا تزال حية أو أن لها من الحياة العامة جزءًا مهما صغر.

ولكن هذا التعليم الذي أخذت به فتياتنا في مراحله الثلاث، الابتدائية والثانوية والعليا، قد نقل المرأة المصرية إلى مستوًى رفيع يقسر الرجل على احترامها ويقسرنا جميعًا على تغيير القوانين الجائرة التي أذلتها.

ولست أشك في أن عاداتنا الموروثة في قتل امرأة بدعوى العرض إنما هي في صميمها احتقار للمرأة؛ للمركز المهين الذي أنزلناها إليه بتقاليدنا السوداء، وأن هذا القتل سيزول حين يحس أعضاء العائلة، أو حتى أعضاء الأسرة، أن هذه الفتاة العذراء أو هذه السيدة المتزوجة قد أصبح لها حرمة ومكانة بسبب تعلمها.

ولن يجرؤ أخ أو ابن عم أو أب على قتل فتاة عذراء لأن أحدهم ضبط خطابًا قد أُرسل إليها يحتوي كلمات عن الحب؛ ذلك لأن الفتاة المتعلمة قد اكتسبت بتعلمها شخصية قوية واستقلالًا روحيًّا بحيث تجرؤ على أن تسوس حياتها كما تشاء وتتحمل مسئولياتها كما تقدر. وليس كما يقدر غيرها.

وهذه الشخصية، وهذا الاستقلال، سيكفان كل متنطع، يزعم الدفاع عن العرض، عن أن ينتقدها ويحمل السكين أو المسدس لقتلها؛ إذ هي أعرف منه بحقيقة سلوكها وسياسة حياتها.

وكثير من فتياتنا، خريجات الجامعات، يتزوجن، بل الأغلب أنهنَّ كلهنَّ يَنشدن الزواج ويجدن الأكفاء لهنَّ من الشبان المتعلمين مثلهن. وهذا حسن؛ لأن خير ما يستمتع به إنسان هو أن يحيا في عائلة، وأن يكلف واجبات، لها متاعبها ولذاتها، ولكنها رفيعة في القيمة الإنسانية. وليس في الدنيا أبعث على إحساس السعادة وأجمل من الحب بين شاب وفتاة يؤسسان بيتًا ويعيشان هذه العيشة الزوجية التي تسمو على الأنانية وتهدف إلى التعاون بين اثنين قد ربطهما الحب وتربية الأطفال.

ولكني أنصح لجميع الزوجات، خريجات الجامعات، بل حتى أولئك اللائي لم يحصلن إلا على الشهادة التوجيهية، ألا يقتصرن بعد الزواج، على خدمة البيت؛ إذ ماذا في البيت يستحق أن ترصد له الزوجة نفسها ووقتها وفراغها؟

يجب على المرأة المتعلمة أن تعمل خارج البيت وتؤدي خدمة اجتماعية لوطنها؛ وذلك بأن تستغل جميع الفرص والوسائل الجديدة التي تجعل أداء الواجبات المنزلية سهلًا يستغرق الدقائق بدلًا من الساعات. كما تجعل تربية الأطفال فنية في أيدي المربيات في المحضن أولًا إلى سن الرابعة، ثم في الروضة ثانيًا إلى سن السادسة أو السابعة.

إنه حسن وجميل أن تكون المرأة زوجًا وأمًّا، ولكن واجبات الزواج والأمومة لا يمكن أن تستغرق كل الوقت، النهار والليل، عند المرأة المتعلمة؛ ولذلك يجب عليها أن تستغل معارفها ومهارتها في عمل اجتماعي آخر إلى جانب الزواج والأمومة.

وهذا العمل الاجتماعي الآخر هو الذي يصل بينها وبين المجتمع، ويكسبها العقل الاجتماعي، ويربي شخصيتها ويدرِّب ذكاءها ويؤكِّد استقلالها؛ وأعني هذا الاستقلال بأنواعه الاقتصادي، والروحي، والاجتماعي.

على المرأة أن تحيا حياتها لنفسها أولًا ثم لمجتمعها وزوجها وأبنائها. كما على الرجل أن يحيا حياته، مثل المرأة، لنفسه أولًا ثم لمجتمعه وزوجته وأبنائه.

والرجل لا يتخصص للزواج. وكذلك المرأة يجب ألا تتخصص للزواج؛ ذلك لأن حياتنا، نحن الرجال والنساء، أغلى من هذا وأرحب من أن يحتويها هذا التخصص.

وليس من حق أحد في الدنيا أن يقول للمرأة: عيشي في البيت طيلة عمرك، ثمانين أو تسعين سنة، لا تختلطي بالمجتمع ولا تؤدي عمل المحامي أو الطبيب أو الصانع أو الكيماوي أو الفيلسوف. وإنما اقصري كل قوتك وكل وقتك على الطبخ والكنس وولادة الأطفال.

لا، إن المرأة العصرية أرحب آفاقًا وأكثر اهتمامًا من أن يستغرق المنزل كل حياتها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤