الذكاء والعبقرية والمرأة

التفاوت في مقدار الذكاء بين شخص وآخر حقيقة نلمسها كل يوم ونسلِّم بها، وهذا التفاوت طبيعي واجتماعي.

فأما التفاوت الطبيعي فهو ما نولد به ونرثه من عائلتنا؛ أي من الأبوين، وأيضًا من أسرتنا؛ أي من الأرومة التي نشأنا منها وتحتوي أعمامنا وأخوالنا وجدودنا. وأدنى دراية بالوراثة تبين لنا تأثير الأسرة في كفاءة الفرد الذي ينتمي إليها.

ولكن الذكاء الذي يبدو في سلوك الناس إنما يعود إلى أسباب اجتماعية أكثر مما يعود إلى الأصول الطبيعية. وهذا هو موضوعنا.

الذكاء اجتماعي ينشأ من الاختلاط بالمجتمع، ومن كلمات اللغة التي يستعملها هذا المجتمع، ومن الاشتباكات في شئونه، والاهتمامات بمصالحه، ومن المصادمات التي نلاقيها حين نحاول أن نلائم بين رغباتنا وبين قواعده وقوانينه وعقائده. وعلى قدر هذه الاشتباكات والاهتمامات والمصادمات يكون ذكاؤنا بل عبقريتنا.

وليس أسهل من أن نبرهن على صحة ما نقول؛ إذ يكفي أن نفرض أن هناك شخصًا موهوبًا بالمواهب الطبيعية في الذكاء قد وُلد وعاش في صحراء، منفردًا بلا مجتمع وبلا لغة. فأين يكون ذكاؤه الطبيعي؟

إنه لا يعرف اللغة وهو لذلك لا يستطيع التفكير إلا بمقدار ضئيل جدًّا؛ ذلك لأن الكلمات أفكار. ونحن نتفاهم (أي نفهم) بالكلمات.

ونستطيع أن نقول، لهذا السبب، إن الفهم اجتماعي، وإنه على قدر اختلاطنا بالمجتمع يكون فهمنا وذكاؤنا، بل تكون عبقريتنا.

إذن من هو العبقري؟

عندما يكون أحدنا عبقريًّا في موضوع معين، يفكر فيه ويفتق في معانيه ويبتكر ويغير، فإنما يفعل كل ذلك لأنه تعمق هذا الموضوع؛ أي اهتم به واشتبك في تفاصيله وتردد بين مشكلاته. وما نسميه موضوعًا علميًّا أو أدبيًّا أو فنيًّا إنما هو في النهاية موضوع اجتماعي؛ إذ ليس لكل هذه الأشياء أية دلالة إلا من حيث ارتباطها بالمجتمع. ونحن لا ننشط إلى بحثها إلا بحوافز اجتماعية.

وإذن الرجل العبقري هو الرجل الذي اهتم بالمجتمع واشتبك في مشكلاته أكثر من غيره، فتفتقت له معانٍ من هذه الاشتباكات أكثر من ذلك الذي لم يشتبك والذي يُعدُّ، بالمقارنة إليه، كأنه في صحراء.

الذكاء والعبقرية هما صفتان اجتماعيتان. ونحن أذكياء ونحن عباقرة بقدر اهتمامنا بالشئون الاجتماعية التي نشتبك فيها ونحاول حلها ونكافح بآرائنا وعواطفنا فيها.

اعتبرْ رجلًا قد وُلد بمواهب طبيعية ممتازة، ولكنه — لسبب ما — منكفئ محجم لا يشتغل بشئون المجتمع، فهو هنا لا يبلغ في الذكاء ما يبلغه رجل لم يوهب مثله تلك المواهب الطبيعية ولكنه اشتبك بشئون المجتمع واهتم بها.

إننا كثيرًا ما نجد شابًّا أو فتاة على ذكاء طبيعي كبير. والفحص عن قيمة هذا الذكاء أو مقداره سهل، ولكننا عندما نترك هذا الفحص الابتدائي للكفاءة الوراثية البيولوجية، نجد مثلًا أن هذا الشاب أو هذه الفتاة لم يبديا أي نشاط يدل على ذكائهما. بل إنهما حين يعالجان موضوعًا من الموضوعات العامة يبدو عليهما القصور الذي يقارب الغفلة. فما هو السبب؟

السبب أن كلًّا منهما قد نشأ في قيود نفسية وذهنية داخلية جعلت الخوف يشل ذهنه. ونحن نسمي هذا الخوف حياءً أو وقارًا. ولكن هذا الحياء أو هذا الوقار هو في صميمه خوف من التفكير والتعبير. أي إنه قيد لحرية التفكير والتعبير.

ذلك أن هناك عادات وقواعد وتقاليد تحول بيننا وبين التفكير الحر؛ أي التفكير السلس الذي يمضي في طريقه بلا عقبات. وأحيانًا يمنعنا الخوف من العقوبة من التفكير الحر.

اعتبر الزنوج مثلًا في أفريقيا الجنوبية، فإن البيض يقولون عنهم إنهم سلالة منحطة من البشر لا يحسنون التفكير؛ أي هم أغبياء.

وهم صادقون في اتهام الزنوج بالغباوة، ولكن ليس مرجع هذه الغباوة أن مواهبهم الطبيعية (التي ولدوا بها) ناقصة؛ إذ هم لا يختلفون في الذكاء «الطبيعي» عن الأوربيين، وإنما هم غير أذكياء لأنهم نشئوا وحولهم أسيجة تحول بينهم وبين الاهتمام بالشئون الاجتماعية والسياسية العامة. فحين تكون الانتخابات، للمجالس البلدية أو للبرلمان، لا يكون لهم رأي. وإذن هم لا يفكرون في هذه الشئون. ثم هم يُمنعون من التعليم الجامعي الذي يرفعهم إلى اهتمامات اجتماعية. وهم أيضًا لا يحصلون على المقدار الكافي من النقود التي تبعث فيهم الاستطلاع بالاستمتاع في شئون مختلفة. وتنتهي حالهم إلى أن يضعوا هم أنفسهم أسيجة داخلية يمتنعون بها عن التفكير؛ أي إنهم يعطلون ذكاءهم.

السياج الخارجي الذي وضعه الأوربيون لمنعهم من الاهتمامات الاجتماعية يؤدي إلى إقامة سياج داخلي يمتنع به الزنوج عن هذه الاهتمامات طلبًا للسلامة.

وهم في كل ذلك يخافون البيض. وليس مثل الخوف عامل يشل التفكير ويحطم الذكاء. كما ليس مثل الحرية والشجاعة عامل يبعث التفكير وينبه الذكاء.

وليس للزنجي، في أفريقيا الجنوبية، شخصية، ولا يمكن أن تكون له عبقرية؛ لأن الشخصية والعبقرية اجتماعيتان. وحين نحرم الزنجي النشاط الاجتماعي نحرمه أيضًا هاتين الميزتين.

ولكن ليس من الضروري أن نكون زنوجًا محرومين كي تتبلد أذهاننا؛ لأن بيننا كثيرين قد استقر الرق في قلوبهم وعينوا لأنفسهم حدودًا لا يتخطونها في التفكير الاجتماعي أو الفلسفي أو العلمي أو الأدبي أو الاقتصادي. وهذه الحدود هي أسيجة داخلية تعوقهم عن الوصول إلى الذكاء فضلًا عن العبقرية.

على قدر اهتماماتنا واشتباكاتنا بالمجتمع في نظمه المختلفة، وفي علومه وآدابه وفنونه، وعاداته وعقائده، وثروته واقتصاده، وممكناته وتاريخه، تكون قدرتنا على التفتيق في كل هذه الأشياء؛ أي يكون ذكاؤنا بل عبقريتنا.

وأيما حدود تُفرض علينا من الخارج، أو نفرضها نحن على أنفسنا من الداخل للخوف أو الوقار أو الحياة، حتى لا نبحث هذا الموضوع أو لا نتساءل ونستطلع، هذه الحدود تعطل ذكاءنا وتلغي عبقريتنا.

وهذا هو حال المرأة في جميع الأمم.

وصحيح أن هذه الحدود قد حُطِّم الكثير منها في الأمم الأوربية والأمريكية وبعض الآسيوية، وأصبحت المرأة تستمتع بقسط غير صغير من الحرية؛ وبذلك بدأ ذكاؤها كما أصبحت لها شخصية.

ولكنها لا تزال بقوة التقاليد والعادات الاجتماعية تقيم هي لنفسها حدودًا داخلية تمتنع بها عن الكثير من النشاط الاجتماعي؛ وبذلك تحد من ذكائها.

وفي نظمنا الاجتماعية تخاف المرأة أكثر من الرجل، وهذا الخوف يشل تفكيرها ويجعلها تحجم وتتراجع، في حين يُقدِم الرجل ويجرؤ.

لقد نالت المرأة حريتها الخارجية في أوربا، ولكنها إلى الآن لم تحقق حريتها الداخلية. وهي هنا مثل المرأة المصرية التي تحررت عمليًّا من الحجاب المنزلي، ولكنها لا تزال، نفسيًّا واجتماعيًّا، في الحجاب.

والمرأة لذلك أقل ذكاءً من الرجل.

هي أقل ذكاء لا لأن مواهبها الطبيعية الوراثية تنقص عن مواهب الرجل؛ وإنما لأنها تخاف أكثر منه بحكم الأوضاع الاجتماعية. وأيضًا هي تحيا في قيود وأسيجة ذهنية نفسية تحد من تفكيرها.

إن الذكاء اجتماعي. وعلى قدر اختلاطنا واهتمامنا بالمجتمع نفتق في معانيه. ولكن المرأة التي حرمت هذا الاختلاط، وهذا الاهتمام، قد حرمت أيضًا هذا التفتيق في المعاني الاجتماعية، وعطل ذكاؤها، ولم تتكون لها شخصية لهذا السبب.

ونحن حين نحدد نشاط المرأة بالبيت نحدد أيضًا ذكاءها؛ إذ ما هي شئون البيت؟ هل هذه الدائرة المنزلية والاهتمامات المتعلقة بمصلحة أربعة أو خمسة أشخاص تكفي لتربية الذكاء؟

إن المقارنة السريعة بين سيدة تؤدي عملًا تجاريًّا أو ماليًّا أو حكوميًّا أو صحفيًّا أو تعليميًّا، بامرأة لا تؤدي غير الواجبات المنزلية توضح لنا الصفة الاجتماعية للذكاء؛ إذ على قدر الاختلاط بالمجتمع يكون الذكاء، وعلى قدر الحرمان يكون التبلد.

وكذلك الشأن فيما نسميه «شخصية»، فإنما تكبر الشخصية بمقدار ما يتناول الشخص من ارتباطات ومسئوليات اجتماعية وبمقدار ما يهتم بالسياسة والاقتصاد والارتقاء العام. وشئون المنزل لا تكفي لإيجاد الشخصية الناضجة لهذا السبب.

وعندما يقول أحد إن المرأة أقل ذكاءً من الرجل أجدني أصدقه. ولكن امتياز الرجل عليها يعود إلى أنه يعمل في مجتمع تتعدد مرافقه ومعارفه على آفاق رحبة تزيد اختباراته، بينما هي تعمل في مجتمع البيت تخدم خمسة أو ستة أشخاص، فاختباراتها ومعارفها محدودة.

ولذلك أيضًا نجد في مصر محاميات وطبيبات ومعلمات وموظفات بالحكومة والبنوك والمتاجر لكلٍّ منهن شخصية تتمتع بذكاء وأحيانًا بعبقرية كالرجال سواء؛ لأنها اختبرت المجتمع وانتفعت باختباراتها منه مثل الرجل.

لأن الذكاء والعبقرية والشخصية صفات اجتماعية أكثر مما هي ميزات طبيعية موروثة، بل لا يكاد يكون للميزات الوراثية غير أقل الأثر فيها.

إن الذين اتصلت حياتهم بحياة المسجونين، وأمضَوا مُددًا طويلة في السجون في بعض وظائفها، يتهمون هؤلاء المسجونين ببلادة الذهن ووحشية الإحساس؛ ولذلك نجد أن السجان يقسو عليهم ويغلظ في معاملتهم اعتقادًا بأنهم من الحيوانات وليسوا من الناس، وأنهم كذلك لفطرتهم التي ولدوا بها. وبعيد أن تجد سجانًا يقول بأن المسجونين يمكن إصلاحهم أو تربيتهم أو يجب أن نعاملهم بالرقة والعطف والإنسانية؛ ذلك أنه مقتنع بأنهم أشرار بطبيعتهم ومحال إصلاحهم. وهو هنا لا يختلف من أولئك الكتاب بل «الأدباء» الذين يصفون المرأة باللؤم ويقولون كما قال مصطفى صادق الرافعي: «قيل لحية سامة: أكان يَسرُّكِ لو خُلقتِ امرأةً؟ قالت: فأنا امرأة غير أن سمي في الناب وسمها في لسانها.»

هذا الاحتقار، هذا البغض للمرأة، إنما يرجع إلى أننا حبسناها في البيت — كما نسجن المجرمين في السجن — وحرمناها الكثير من الحقوق البشرية البدائية، ثم فوق ذلك حرمناها هذا الذكاء الإنساني الذي ينشأ من الاختلاط بالمجتمع. وفي وسط هذا البيت، تحت ضغط الحرمان، نشأت عندها من المكر ألوان احتاجت إليها كي تحيا بها وتحصل على القليل الممكن من حقوقها.

وإنما تبلد المسجونون وفقدوا ذكاءهم وشملتهم وحشية لأنهم حُرموا الحياة في المجتمع، فحرموا الإحساسات الإنسانية والذكاء الاجتماعي، وكذلك المرأة حرمناها المجتمع وحبسناها في البيت لا تعرف ولا تعامل من البشر غير زوجها وأطفالها، فحُرمت الذكاء الاجتماعي وتبلَّدت عواطفها. وعند ذلك، اتهمناها بالنقص في الذكاء وبالمكر، بل وصفناها بأنها «حية سامة».

وأرجو ألا يظن القارئ أني أنتقص من قيمة البيت، فإنه بلا شك مملكة المرأة. وإنما أقصد إلى أن المرأة، كي يبقى ذكاؤها يقظًا ومعارفها في توسع وتجدد، يجب أن تحيا أيضًا في المجتمع كما تحيا في البيت، وأن يكون لها نشاط دستوري ومدني واجتماعي وثقافي حتى تتعدد اهتماماتها، وحتى تبقى عضوًا متطورًا عاملًا في ارتقاء الأمة وتطورها، وحتى تتكون شخصيتها وتنضج مثل الرجل سواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤