الفصل الرابع عشر

إبلاغ الرسالة

ولبثتا صامتتين كأن على رأسيهما الطير، حتى سمعتا قرع الباب قرعًا خفيفًا، فأجفلتا وأسرعت ريحانة إلى فتحه، فإذا بالضحاك يدخل مسرعًا وهو في ذلك القباء المقلوب، وعمامته مشوهة، ونعلاه في منطقته، وشعر لحيته منتفش، وهيئته في غاية الغرابة. فلما وجد جلنار هناك أجفل وتأدب، وقام بإصلاح شعره، وتسوية عمامته، وهو يضحك بلا قهقهة، وأخرج النعلين من منطقته فوضعهما بالباب، ووقف متأدبًا كأنه مارد لطوله. فابتسمت جلنار من منظره وحركاته، فقال لها: «اعذريني يا مولاتي على هذا المنظر؛ فإني لم أكن أحسبك هنا. والحقُّ على هذه الملعونة.» وأشار بإحدى يديه إلى ريحانة، وباليد الأخرى إلى عمامته، فلم تتمالك جلنار عن الضحك لأسلوبه في التخلص من غضب ريحانة. وأما ريحانة فغالطته وقالت: «إن الدهقانة مسرورة من همتك ونشاطك.»

فقطع كلامها بصوت منخفض وقال: «وطبعًا أنت زعلانة؛ لأن العريس ليس لك.»

فقالت: «دَعْنا من المجون، وأخبرنا ما الذي فعلته، وأظنك لا تلتزم الجد إلا إذا حلفتك بمولاتنا الدهقانة؛ فبحياتها إلا تكلَّمت الجدَّ.»

فلما سمع قولها وقف بين يدي جلنار متأدبًا، فأشارت إليه أن يجلس، فجلس، فقالت له ريحانة: «قصَّ علينا ما جري.»

فأخذ في سرد ما حدث منذ خروجه من غرفتها إلى أن لقي إبراهيم الخازن، وكيف احتال عليه وأخرجه من حجرته، وما دار بينهما، حتى انتهى إلى ما تم الاتفاق عليه بينهما، ولكنه لم يذكر ما قاله الخازن عن كُره أبي مسلم للنساء؛ لعلمه أن هذا يسيء إلى جلنار ويوقعها في اليأس، وهو يريد أن ترجو الظفر به، على أنه أخبرها أن أبا مسلم لا يستطيع أحد من خاصته أن يخاطبه في أمر الزواج تهيُّبًا، وإنما إذا لقيَتْه وخاطبتْه، فلا ريب أن سيحبُّها ويتمنى الظفر بها، وخصوصًا إذا أظهرت له غيرتها على الدعوة التي يقوم بتأييدها.

وكانت جلنار ترهف السمع لذلك الحديث، فلما بلغت إلى ختامه انقبضت نفسها؛ لأنها كانت ترجو أن تعرف شيئًا عن شعور أبي مسلم نحوها، فسكتت وظهر الانقباض على وجهها، فأدركت ريحانة سبب انقباضها، فأرادت إنعاش أملها فقالت: «بورك فيك يا ضحاك، ما ألطف أسلوبك! فقد فعلت ما لا سبيل إلى سواه.»

فقال: «لا أحب التملُّق يا ريحانة، فإني لم أعمل شيئًا، ولكنني مهدت السبيل للعمل، فإذا رأت مولاتي أن أعرض عليها رأيي فيما ينبغي أن تعمله فعلتُ.»

فقالت جلنار: «قل يا ضحاك.»

قال: «أولًا، ينبغي أن ندبر وسيلة لتجتمعي بأبي مسلم ويدور بينكما الحديث.»

فاحمرَّ وجه جلنار خجلًا إذ تصورت نفسها في خلوة مع أبي مسلم، على حين أنها قد شبت ولم تخاطب من الرجال غير والدها وخدم قصرها، ثم تذكرت أنها لا تستطيع الوصول إلى تلك الجلسة إلا بالتزلف والتذلل والنزول عن عرش أنفتها وعزة نفسها، ثم هي فوق ذلك ستخالف إرادة والدها، فضلًا عن تعرضها لغضبه إذا علم بذلك الاجتماع السري. فلما تصورت ذلك غلبت عليها عزة النفس فتراجعت وهي جالسة، وهزت رأسها ولسان حالها يقول: «لا، لا أفعل ذلك.»

ففهم الضحاك ما يدور ذهنها، فرفع حاجبيه وقلب شفته السفلى، ثم قال: «لا أنكر يا مولاتي أن ذهابك للاجتماع به لا يخلو من التنازل و…»

فخشيت ريحانة أن يذكر لها أصل أبي مسلم ومنْشَئه، فاعترضت حديثه قائلة: «لا أرى في ذلك ضعة ولا تنازلًا؛ لأنها إذا ذهبت إليه أو خاطبته فإنها تخاطب أعظم رجل في خراسان، وهو قائد رجال الشيعة مع أنه شاب، وتحت أمره شيوخ من قواد الخراسانيين وأمرائهم. ويكفي أن الإمام اختاره لهذا المنصب العظيم، وإذا نظرت إلى وجهه وهيبته علمت أن المستقبل له لا محالة.»

فلما سمعت جلنار ذلك المديح تحركت فيها عوامل الحب، فهان عليها كل عسير في سبيله، ولكنها ظلت ساكتة، وفهم الضحاك أن الغرض من ذلك الاعتراض ألا يذكر أصل أبي مسلم في حضرتها، فقال: «لا أُنكر منزلة هذا البطل الشاب، وإنما أردت بالتنازل ذهاب مولاتي الدهقانة إليه وهي فتاة، إلا إذا كانت تحب (وبلع ريقه) فتلك مسألة أخرى هي أعلم بها.» قال ذلك وضحك وهو مطرق برأسه وعيناه شاخصتان نحوها.

أما جلنار فإن الاهتمام ظهر في عينيها وسكتت، وتشاغلت بإرسال ضفائر من شعرها إلى ظهرها كانت قد استرسلت إلى الأمام عند انحنائها، ثم أصلحت القرط في أذنها وهي مطرقة. وأدركت ريحانة ولحظ الضحاك أنها تتردد في أمر ذلك الاجتماع، وظلوا صامتين هنيهة كأنهم يصغون لاستماع قصف الرعد وسقوط المطر، ولو أصاخوا بسمعهم لسمعوا صوت الجمال عن بعد، ولكن تساقط المطر وهبوب الرياح أضاعا صوتها.

وأخيرًا استأنفت ريحانة الحديث قائلة: «تبصَّري يا مولاتي في الأمر على مَهلٍ؛ فإن القوم باقون هنا بضعة أيام بسبب الأمطار.»

فظلت جلنار صامتة مطرقة، فأدرك الضحاك أنها لا تزال تتهيب أمر لقائها أبا مسلم، فقال لها: «إذا أذنت مولاتي لمملوكها أن يصرِّح بما في ضميره فعَل.»

قالت جلنار: «قل.»

قال: «يظهر لي أنك تتهيبين أمر ذلك الاجتماع، ولا لوم عليك، ونحن نعلم أنفتك وعزة نفسك، وعندي رأي. هل أعرضه عليك؟»

فأشارت برأسها أن قُل.

قال: «إن أبا مسلم — كما لا يخفى عليك — قد حصر قواه وعواطفه في أمر الدعوة التي يقوم بها، وما من سبيل يوصلنا إلى قلبه غير هذه الدعوة؛ فالذي أراه أن مولاتي إذا شق عليها لقاؤه وجهًا لوجه أن تبدأ الصلة بينها وبينه بشيء يدل على اشتراكها معه في هذا الأمر، ويكون ذلك فاتحة العلاقات، ثم نرى ماذا يكون.»

فانبسط وجه جلنار. وكان انبساطه جوابًا كافيًا للضحاك. فتناولت ريحانة طرف الحديث عنها وقالت: «لقد رأيت صوابًا يا ضحاك، بورك فيك، فأفصح عن رأيك مفصلًا.»

قال: «هذا رأيي واضح لا يحتمل شرحًا كثيرًا؛ فالمراد أن تبعث مولاتي إلى أبي مسلم بما يدل على تأييدها لدعوته، ورغبتها في رضاه، واشتراكها في أمره، ونرى ما يكون منه.»

قالت ريحانة: «أظنك تعني أن ترسل المال إليه؟»

قال: «المال وغير المال. كما تشاء.»

فقطعت جلنار حديثهما قائلة: «فهمت، ولكن …» ونظرت في وجه ريحانة كأنها تستطلع رأيها في أمر واحد لا تريد التصريح به بين يدي الضحاك، فأدركت ريحانة شيئًا في خاطرها فنهضت وهي تقول: «أظنك يا مولاتي تعبت من السهر.»

ففهم الضحاك مرادها، فنهض وحنى رأسه ويداه على صدره كأنه يستأذن مولاته في الذهاب، وقال: «إني رهين ما تأمرينني به ولو كان طريقي إلى مرضاتك على أسنَّة السيوف.» قال ذلك وخرج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤